كتاب البيع المجلد 1

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1373 - 1273

عنوان و نام پديدآور : ... البیع / تالیف محمدعلی الاراکی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق(ع)، 1415ق. = 1373.

مشخصات ظاهری : ج 2

شابک : بها:5000ریال(بهای هرجلد) ؛ بها:5000ریال(بهای هرجلد)

يادداشت : همراه با "رساله فی الاجتهاد و التقلید" که در جلد دوم کتاب آمده است

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : رساله فی الاجتهاد و التقلید

موضوع : خرید و فروش (فقه)

موضوع : اجتهاد و تقلید

رده بندی کنگره : BP190/1/الف 4ب 9 1373

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 73-3797

[تعريف البيع و ما يرد عليها من النقض]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف البريّة أجمعين أبي القاسم محمّد، و آله الطاهرين، أئمّة الخلق إلى يوم الدين، و لعنة اللّٰه على أدائهم أبد الآبدين، و بعد.

البيع:- و هو في الأصل كما عن المصباح-: مبادلة مال بمال، و الظاهر اختصاص المعوّض بالعين، فلا يعمّ إبدال المنافع بغيرها.

أقول: يمكن المناقشة في هذا التعريف، بأنّ من مقوّمات هذا المفهوم- الذي يعبّر عنه في العربيّة بالبيع و الشراء، و في الفارسيّة ب (فروختن و خريدن)-:

أن لا يكون الإعطاء مجّانا، يعني يكون بإزائه عوض مالي، بخلاف مفهوم الهبة، فإنّ المعتبر فيه أن يكون مجّانا، و بلا عوض ماليّ، و لا يكفي في عدم المجّانية الوصول إلى غرض أخرويّ، كالأجر الأخروي، و القرب إلى اللّٰه، أو دنيوي، كصيرورة محبوب له ذا مال، و إلّا لما كانت الهبة مجّانا، ضرورة أنّ العاقل لا يفعل فعلا إلّا لأجل النيل إلى غرض، إمّا أخروي، كما في الهبة بقصد القربة، و إمّا دنيويّ، كما في هبة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 4

ماله رحمه أو صديقه، إذا كان لأجل صيرورتهما ذا مال، و لو فرض خلوّه

عن الغرض رأسا، كان سفهيّا باطلا.

فعلى هذا، لو اشترى شيئا لولده، أو صديقه بمال نفسه، على أن يكون المبيع ملكا لهما بنفس هذا العقد، لا بتمليكه لهما بعد العقد، كان هذا خارجا عن مفهوم البيع، فإنّه و إن كان لغرض صيرورة محبوبه مالكا للمبيع، لكنّه خال عن العوض الماليّ، فيكون مجّانا. و مقتضى التعريف المذكور كونه بيعا، إذ ليس فيه تصريح بأن يكون العوض داخلا في ملك من خرج عن ملكه المعوض.

و يمكن الجواب: بأنّ مقتضى المبادلة هو دخول كلّ منهما في كيس من خرج عن كيسه الآخر.

و أيضا: المراد بالعين الذي استظهر اختصاص المعوّض به، لئلّا يشمل الإجارة، ما يقابل المنفعة، لا الشخص الخارجي، فتشمل الشخص الخارجي و الكلّي في ذمّة البائع، كما في بيع السلف، و الكلّي في ذمّة الغير، أعني الدين إذا باعه صاحبه، إمّا على من هو عليه، و إمّا على غيره، و الكلّي في الخارج، كبيع صاع من الصبرة، و الكسر المشاع، كبيع نصف الدار، و ظاهرهم عدم الخلاف في صحّة البيع في جميع هذه الأقسام. فهنا إشكال سار في جميع هذه الأقسام، و إشكال خاص ببعضها. أمّا الإشكال الساري في جميعها، فهو أنّه لا شكّ في أنّ الملكيّة تكون من الأعراض، و كلّ عرض محتاج إلى المحل، و قسموا الأعراض باعتبار المحلّ إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يكون ظرف العروض و الاتصاف فيه هو الخارج، كالحرارة، و البرودة العارضتين على النار و الماء في الخارج.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 5

الثاني: ما يكون ظرف العروض و الاتّصاف فيه هو الذهن، كالكلّية العارضة على الطبيعة في الذهن.

الثالث: ما يكون ظرف عروضه الذهن، و ظرف اتّصافه الخارج، كالأمور الاعتباريّة، فإنّ الفوقيّة و

التحتية مثلا ليستا بموجودتين في الخارج، و إنّما يتعقّلهما الذهن، و ينتزعهما من الجسمين الخارجين المستعلي أحدهما على الآخر، و لكنّ المتّصف بهذا الشي ء الذي يعقله الذهن، هو الشي ء الخارجيّ. فلو كانت الملكيّة من قبيل الأوّل، أو الثالث، لزم أن لا يتعلّق إلّا بالشخص الخارجيّ، ضرورة أنّ غيره لا يكون موجودا في الخارج حتّى الكسر المشاع، فإن لازم الوجود الخارجي هو التعيّن، و الكسر غير معيّن، و إن كان من القسم الوسط، بأن يكون محلّه و المتّصف به أمرا ذهنيا لا خارجيّا، لزم أن لا يتعلّق بالشخص الخارجي، فما وجه هذا التعميم في البيع مع انحصار الأعراض في هذه الثلاثة؟

و أمّا الإشكال الخاص ببعضها: فهو أنّ مقتضى مبادلة مال بمال أن يكون البائع مالكا للمبيع، حتّى يبدّله بمال غيره، فكيف يصحّ بيع الكلّي في الذمّة في بيع السلف مع فرض أن لا يكون البائع حين البيع مالكا، و ذا مال أصلا؟ نعم يحتمل أن يصير بعد ذلك مالكا و ذا مال، لكن ظاهر التعريف أن يكون وقت البيع مالكا فعليّا.

فإن قلت: كما يمكن اعتبار الملكيّة في الشي ء الخارجي، كذلك يمكن فيما في الذمّة، فكما أنّ الأوّل مملوك فكذلك الثاني.

قلت: فيلزم أن يكون الشخص الفقير العديم المال ذا مال كثير لا يعدّ و لا يحصى فيكون مستطيعا، و من المعلوم أنّ العرف لا يعدّ مالكا و ذا مال إلّا من كان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 6

بيده شي ء خارجيّ من الأجناس التي تعدّ مالا. و أمّا الدين: فهو بمنزلة المتاع، أو الورق الموضوع في الصندوق متى شاء أخرجه. و أمّا من تصوّر جنسا كلّيّا منها في ذهنه فلا يعدّونه بمجرّد ذلك مالكا له، ما لم

يكن في يده شي ء منها، نعم يتصف جنس الحنطة مثلا بالمالية و يقولون: إنّه مال و لكن لا يضيفونه إلى أحد، فلا يقال: إنّه مال لزيد و ملك له مثلا. و حاصل هذا الإشكال، عدم كون الكلّي مالا مضافا إلى شخص و ملكا فيختصّ ببيع السلف.

و أيضا مقتضى مبادلة مال بمال أن يصير كلّ من الطرفين ذا مال جديد، و سلّمنا أنّ الكلّي يكون ملكا، لكنّه مسلّم فيما إذا اختلف المالك للكلّي و من يملك عليه، كما في بيع الدين على غير من هو عليه، لا فيما إذا اتّحدا كما في بيع الدين على من هو عليه، فإنّه لا معنى لملكية الشخص على نفسه شيئا.

و يمكن أن يقال: إنّه لا يتصوّر معنى لقولهم: «الملك أمر اعتباري»، فإنّ معناه، أن تكون هنا نسبة بين الملك و المملوك، بحسب الواقع و نفس الأمر، و لا تكون هذه النسبة بين هذا المملوك، و بين غير المالك متحقّقة، و تكون وراء السلطنة فإنّهم جعلوها من أحكام الملكيّة. و لا يخفى أنّه ليس هنا أمر بهذه الصفة غير السلطنة.

فإن قلت: يمكن أن يكون هو الربط الذي يفترضه العقلاء بين المال و مالكه فتكون الملكيّة من الافتراضيّات الصرفة كأنياب الأغوال.

قلت: لا شكّ أنّ من نسب المال إلى مالكه يعدّ في العرف صادقا، و من نسبه إلى غير مالكه يعدّ كاذبا، و هذا يدلّ على أنّ الملكيّة ليست بمجرّد الفرض، و إلّا لكان اللازم أن يعدّ من نسب المال إلى غير صاحبه مخالفا لفرض العقلاء لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 7

كاذبا، فعدّه كاذبا يدلّ على أنّ للملكيّة واقعيّة و حقيقة، فيكون من قبيل الفوقيّة و التحتيّة و التقابل من الإضافات

التي لها نفس أمرية مندكّة في طرفيها فيعدّ من أخبر بخلاف واقعها بالكذب.

و يمكن أن يقال: إنّ الملكيّة هي نفس السلطنة لا أنّها ملزوم لها.

و أمّا وجه تسمية السلطنة بالملكيّة فلعلّه لتشبيهها بالجدة العقليّة، أعني:

هيأه المحيط بالمحاط، كالتقمّص و التعمّم و التنعّل لأجل أنّها منه، و وجه الشّبه هو أنّه كما أنّ القميص، و العمامة، و النعل، يتحرّك بحركة لابسها و يكون تحت اختياره، فكذا المال أيضا يكون تحت اقتدار صاحبه، يفعل فيه ما شاء، فشبّه هذه السلطنة التي بين المالك و المال، بذاك التهيّؤ الخاصّ الذي بين المتقمّص و القميص، فأطلق على المشبّه اسم المشبّه به، أعني: الملكيّة من باب الاستعارة، فعلى هذا يرتفع جميع الإشكالات السابقة.

أمّا الأوّل: فلوضوح أنّ الملكيّة بهذا المعنى و إن كانت من الأعراض لكنّها متعلّقة بالخارج في المبيع الشخصي و الكلّي في المعيّن و المشاع، و بالذهن في الذمّي و الدّين بقسميه.

و أمّا الثاني: فوجه اندفاعه، أنّ الشخص كما يقتدر على المال الموجود تحت يده، كذلك يقتدر على ما ليس تحت يده بالفعل يعني مهما أراد أن يحصّله بثمن من ماله يمكنه تحصيله، و يمكنه أن يترك تحصيله فيصدق أنّه قادر و مسلّط على عشرين منّا من الحنطة مثلا، و لو لم يكن تحت يده منها شي ء، لكن بشرط أن يكون عنده من المال ما يقتدر به على شراء ذلك المقدار من الحنطة، فلو كان عادما لهذا، لم يكن له اقتدار و سلطنة، فإذا أراد من له هذا الاقتدار أن يبيع هذا المقدار

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 8

من الحنطة في ذمّته، ينتقل هذا الاقتدار منه إلى المشتري، بمعنى: انّ للمشتري أن يحصل هذا المقدار من الحنطة بواسطة

ثمن من مال البائع عند الأجل إن شاء، و له تركه إن شاء، بخلاف البائع، فيجب عليه تحصيله بماله متى طالبه المشتري، فيكون بمنزلة الآلة، و ينقص من قدرته بمقدار المبيع، فمن كان قادرا على مائة منّ من الحنطة فقط، يصير بعد بيع عشرة أمنان منها قادرا على التسعين فقط، و هكذا ينقص من قدرته بنسبة المبيع، هذا في بيع السلف و نحوه.

و هكذا يقال في بيع الدين على من هو عليه، فإنّ المدين يملك و يتسلّط على تحصيل دينه من مال المديون، بحيث إن شاء أخذه، و إن شاء تركه، و بعد أن باعه على نفس المديون يصير هذا الاقتدار منه منتقلا إلى المديون، بمعنى أنّ له أن يحصل مقدار الدين من مال نفسه، و له تركه و هو ليس كما قبل مجبورا على التحصيل، فهذا عكس سابقه، فاندفع الإشكال الثالث أيضا.

فإن قلت: يدفع هذا الذي ذكرت- من كون الملكيّة هي نفس السلطنة- القاعدة المجمع عليها، أعني قولهم: «الناس مسلّطون على أموالهم» «1»، حيث إنّ مقتضاها بواسطة جعل السلطنة محمولا، و حكما للملكيّة، مغايرتهما مفهوما.

قلت: لا شكّ أنّ السلطنة تختلف باختلاف اللحاظات فربّ مال تثبت السلطنة عليه لشخص في نظر العرف دون الشرع، كالأموال المغصوبة، فإنّ أهل العرف يعدّون الغاصب ذا يد و متسلّطا عليها، و يحسبون صاحبها الحقيقي عادما

______________________________

(1) عوالي اللئالي: 3/ 208.

عوالي اللئالي: 1/ 223.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 9

لها و غير مالك لها. و ربّ سلطنة تكون عند الشرع دون العرف، كالمثال المذكور، فإنّ الشرع يجعل التسلّط و الملكيّة للمغصوب منه دون الغاصب.

فنقول: إنّ معنى القاعدة، هو إمضاء الشرع لطريقة العرف في لحاظهم السلطنة المالية، يعني أنّ ما يكون

سلطنة و ملكيّة في نظركم، فهو سلطنة و ملكيّة عندي أيضا. غاية الأمر أنّه خرج ما خرج، فالموضوع هو السلطنة بلحاظ العرف، و المحمول هو السلطنة بلحاظ الشرع، هذا.

و ربّما تفصّى بعضهم عن الإشكال الثالث، بأنّا لا نسلّم أنّ المعتبر في بيع السلم، أن يكون البائع مالكا فعلا حتّى يستشكل بأنّ الكلّي كيف يكون ملكا بل نقول: إنّه نقل حاليّ لما يملكه بعد مدّة.

و فيه: ما لا يخفى فإنّ لازمه التعليق المبطل للبيع إجماعا، فإنّه في معنى أنّي بعتك كذا من الحنطة، إن ملكته بعد المدّة، و أيضا يلزمه أنّه لو فقده بعد المدّة كان البيع باطلا من أوّل الأمر، مع أنّ من المعلوم أنّه يكون للمشتري حينئذ خيار تعذّر التسليم لا أنّه باطل.

[الحق و الحكم]

قال المصنف- قدّس سرّه الشريف-:

«و أمّا الحقوق القابلة للانتقال كحقّ التحجير و نحوه، فهي و إن قبلت النقل، و قوبلت بالمال في الصلح، إلّا أنّ في جواز وقوعها عوضا للبيع إشكالا من أخذ المال في عوضي المبايعة لغة و عرفا، مع ظهور كلمات الفقهاء عند التعرّض لشروط العوضين، و لما يصحّ أن تكون أجرة في الإجارة في حصر الثمن في المال».

أقول: لا يخفى أنّ المفاهيم التي يمكن تحصيل معرفة حدّها بطريق القطع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 10

من الرجوع إلى العرف، لا مسرح للتعبّد في تعيين الحال فيما شكّ فيه من أفرادها بقول لغوي، و نحوه، و لا شكّ أنّ في العرف مفهوما يعبّر عنه في العربية بالبيع و الشراء، و في الفارسية ب (خريد و فروش) كما لا شكّ في أنّ فيه مفهوما يعبّر عنه في الفارسية ب (نان) و في العربية ب (خبز) فحينئذ لو شكّ في بعض

الأفراد أنّه داخل في مفهوم البيع، أم لا كما فيما نحن فيه، أعني ما إذا جعل الثمن في البيع حقّ التحجير، فلا محيص إلّا عن الرجوع إلى العرف، و عرضهما على الذهن كرارا.

فإن وجد منهما أنّه يصدق هذا المفهوم على ذلك الفرد بلا تأمّل، و تكلّف، علم أنّه من أفراده، و إن وجد أنّهما لا يطلقان عليه اسم البيع بدون التسامح علم أنّه خارج عنه.

و تنقيح المقام، يقتضي بيان الفرق بين الحقّ و المال، و بينه و بين الملك، و بينه و بين الحكم. فنقول: أمّا الفرق بينه و بين المال، فهو أنّ الحقّ عبارة عن السلطنة المتعلّقة بالمال، و ليس بمال كحقّ التحجير، فإنّ متعلّقه هو الأرض الموات، و هي مال الإمام- عليه السّلام- و الشخص المحجّر مسلّط عليها فإن شاء أحياها، و إن شاء تركها، و إن شاء، سلّط الغير عليها. و مثله حقّ الرهانة، فإنّ الرهن متعلّق بسلطنة المرتهن فلا يجوز للراهن التصرّف فيه بدون إذن المرتهن، و للمرتهن إجباره على بيعه و أخذ الدين من ثمنه لو تعذّر عليه أداؤه عند حلول الأجل.

و بالجملة: الحقّ كالملك، في أنّه سلطنة متعلّقها المال، و ليس نفسه المال، بل يصحّ تعلّقه بما يتعلّق بالمال، كحقّ الخيار، فإنّه سلطنة على العقد المتعلّق بالمال، بل يصحّ تعلّقه بنفس الغير، كتعلّق حقّ الولاية لولي الصغير بنفس الصغير و يصح تعلّقه بذمّة الغير كحقّ الأبوة المتعلّق بذمّة الولد، و حقّ الزوجيّة المتعلّق

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 11

لكلّ واحد من الزوجين بذمّة الآخر، فإنّ الأب مثلا له أن يحصّل بواسطة جوارح ولده الأعمال الخاصّة، كالإطاعة و التواضع و الخدمة، و له ترك تحصيلها، لكن هذه الأعمال لا

تعد في العرف مالا كما في أعمال الأجير.

أمّا الفرق بينه و بين الملك: فهو أنّهما بعد اشتراكهما في كونهما سلطنة، ينفرد الأوّل بأنّ متعلّقه إمّا أن يكون من سنخ المال، و لكن من مال غير من هو له، و إمّا أن يكون من غير سنخ المال كما مرّ.

و ينفرد الثاني، بأنّ متعلّقه لا يكون إلّا من سنخ المال، لكن من مال من هو له، و لو كان لحقارته و قلّة مقداره غير معدود في العرف مالا، كالحبّة من الحنطة، فإنّها أيضا من سنخ المال.

و أمّا الفرق بينه و بين الحكم- أعني: الحكم الترخيصيّ، فإنّه المحتاج إلى بيان الفرق بينه و بين الحقّ، لدوران الأمر بينهما في كثير من الموارد، لا الإيجابي و التحريمي، لعدم دوران الأمر بينهما و بين الحقّ في شي ء من الموارد- فهو أنّ المجعول ابتداء في الحقّ هو السلطنة، و في الحكم هو الإباحة.

و إن شئت توضيح ذلك في ضمن المثال، فانظر إلى أنّ السلطان تارة يعطي منصب حكومة البلد الفلاني شخصا، و تارة يجوّز له التصرف فيه كيفما شاء، فالمجعول الابتدائي في الأوّل هو منصب الولاية و الحكومة، و إن كان لازمه مجعولية إباحة جميع التصرفات، و في الثاني هو الإباحة و إن كان لازمه أن يصير مسلّطا و قادرا. فكذا الشارع قد شرع في مسألة جواز شرب الماء مثلا حكم الإباحة أوّلا، إن كان لازمه أن يكون المكلّف قادرا عليه، و في مسألة الخيار مثلا، قد جعل المكلّف ابتداء ذا يد و اقتدار على العقد، و إن كان لازمه جواز الفسخ و إباحته.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 12

و أسدّ من هذا أن يقال: إنّ الحقّ هو سلطنة شرّعت رعاية

لحال المكلّف، و إرفاقا به، أو لكونه أهلا لذلك، و بالجملة: فالداعي إلى تشريعه هو الرعاية من الشارع لحال المكلّف، و لياقته للسلطنة كالمحجر، فإنّه لتحمّله مشقّة التحجير صار لائقا لأنّ يرفق به الشارع، و يجعل له سلطنة الإحياء، و كذا الأب، فإنّه لتحمّله مشقّات كثيرة في تربية الولد صار موردا لموهبة الشارع، و جعل له الحقوق المقرّرة على الولد، ترفيها لحاله، و كذا الفقيه الجامع للشرائط، فإنّه لأجل تفقّهه و علوّ رتبته صار لائقا لمنصب الولاية فأعطيه، و لأجل هذا الذي ذكرنا من أنّه روعي في تشريع الحقّ رفاهية حال المكلّف، يجوز له إسقاطه، و يكون إسقاطه مؤثرا عند الشارع، و إن كان يمكن أن لا يمضي إسقاطه أيضا، كما في حقّ الولاية.

و أمّا الحكم: فهو ترخيص من الشارع للفعل، لأجل خلوّه بحسب نوعه عن المصلحة و المفسدة الملزمتين في نظره، من دون رعاية لرفاهيّة حال أحد من المكلّفين أصلا، و لذا لا يكون إسقاطه مؤثّرا، لأنّ ما جعله الشارع لأجل خلوّ الفعل عمّا يوجب وجوبه، أو حرمته، لا يعقل أن يكون للمكلّف يد التصرّف فيه أصلا، نعم لو أدرجه في موضوع آخر لحقه حكمه من وجوب أو حرمة، كما لو نذر شرب الماء، أو عدم شربه، لكن ذلك يكون لأجل تبدّل العنوان لا لإسقاط المكلّف.

ثمّ إنّ من الحقوق ما يكون متيقّن الحقّيّة، و ذلك كحقّ التحجير، و حق الخيار و حقّ الأبوة، و نحوها. و منها ما يكون مردّدا بين الحقّية، و الحكميّة، و ذلك كثير في الغاية، منها جواز الرجوع إلى المطلّقة الرجعية قبل انقضاء العدّة الثابت للزوج، فإنّه يمكن أن يكون من الأحكام، بأن يكون الوجه في تشريعه خلوّ ذلك.

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 1، ص: 13

الفعل عمّا يوجب الوجوب و الحرمة، و يمكن أن يكون من الحقوق، بأن كان الوجه رعاية حال الزوج، و منها الجواز في العقود الجائزة بالأصل، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى كثرة، فإنّ تعيين الحال في تلك الموارد في غاية الإشكال.

ثمّ: الأفراد المتيقّنة للحقّ على أقسام:

أوّلها: ما كان قابلًا للنقل مجّانا و مع العوض و للإسقاط، و ذلك كحقّ التحجير فإنّ للمحجّر أن يسقطه و أن ينقله إلى غيره مجّانا و مع العوض.

ثانيها: ما لم يقبل شيئا من النقل و الإسقاط، و ذلك كحقّي الولاية و الأبوة، فإنّ المجتهد ليس له إسقاط هذا المنصب عن نفسه، و لا نقله إلى الغير، و أمّا نصب القيّم، فليس نقلا بل تنزيلا له منزلة نفسه، في مباشرة بعض التصرّفات.

ثالثها: ما كان قابلًا للإسقاط، و غير قابل للنقل، كحقّ الشفعة على القول باختصاص ثبوته بصورة وحدة الشريك فإنّه إن أريد نقله، فإمّا أن ينقل إلى الأجنبي، أو إلى الشريك البائع، و شي ء منهما لا يستقيم. أمّا الأوّل: فلأنّ معنى حقّ الشفعة أن يكون المالك مقتدرا على ردّ حصّة شريكه و ضمّه إلى حصّة نفسه، و هذا المعنى مفقود في الأجنبي.

و أمّا الثاني: فلأنّ معنى الشفعة أن يكون أحد الشريكين مالكا لردّ حصّة الشريك الآخر، و ضمّه إلى حصّة نفسه، و هذا المعنى منتف في الشريك البائع.

و أمّا على القول بثبوته في صورة تعدّد الشركاء أيضا، فيمكن فرض النقل فيه، بأن ينقل أحد الشريكين من الثلاثة الشركاء اللذين بينهما حق الشفعة على التنصيف حصّة شفعته إلى الآخر بالعوض أو مجانا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 14

و حاول بعضهم أن يجعل لهذه الأقسام رابعا، و

هو ما كان قابلًا للنقل مجّانا، و الإسقاط، و غير قابل للنقل بالعوض، و هو حقّ القسم على ما نقله عن العلّامة- قدّس سرّه-، من المنع عن معاوضة إحدى الضرّتين أو الضرّات حقّ قسمها «1» مع الأخرى، مع وضوح جواز الإسقاط، و النقل المجاني فيه.

و كيف كان، فما يمكن أن يقال به من الوجوه في هذا المقام ثلاثة:

الأوّل: أن تكون كلتا صورتي جعل إسقاط الحقّ و جعل نقله ثمنا خارجيتين عن مفهوم البيع.

الثاني: أن تكون كلتا الصورتين داخلتين فيه.

الثالث: أن تكون الأولى خارجة و الثانية داخلة.

مبني الوجه الأوّل عدم (كذا) اعتبار ماليّة الثمن في مفهوم البيع، و مبني الأخير عدم اعتبار ذلك مع اعتبار وصول العوض إلى يد البائع التي خرج عنها المعوّض، و لا شكّ أنّه لا يصدق أنّه وصل شي ء إلى يد البائع بإزاء ماله في صورة جعل الإسقاط ثمنا، و لكن يصدق في الصورة الأخرى و مبني الثاني عدم اعتبار ذلك أيضا، و إنّما المعتبر فيه هو المعاوضة و عدم المجّانيّة، و لا شكّ في تحقّقه حتى في صورة جعل الثمن هو الإسقاط.

و يمكن أن يقال: بانصراف البيع عند العرف عن صورة جعل الثمن هو الحقّ إسقاطا أو نقلا، و أمّا كون هذا الانصراف وضعيا ناشئا عن خروج هذا الفرد من الموضوع له أو إطلاقيا ناشئا عن غلبة الاستعمال في غير هذا الفرد فغير معلوم، و لا أقلّ من الشكّ في كونها بيعا، فيجري الأصل في نفي الآثار المختصّة بالبيع

______________________________

(1) القواعد: كتاب النكاح: 47.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 15

كخيار المجلس، و اعتبار القبض في المجلس في الصرف و نحوهما من أحكامه الخاصّة، و أمّا إنّه عقد صحيح يفيد انتقال المبيع

إلى المشتري و إسقاط الحقّ أو انتقاله إلى البائع فيمكن التمسّك له بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1»، فإنّه عقد و عهد بالبديهة، و اختصاص العقود في الآية بالصحيحة يوجب إلغاءها، و خلوّها عن الفائدة، فإنّ العقود التي أحرز صحتها لا يحتاج فيها إلى الرجوع بهذه الآية، و المشكوك منها لم يحرز دخولها تحت العقود حتّى يشمله وجوب الوفاء، فلا محيص عن كون العقود مطلقة غير مقيّدة بالصحّة، فهذا نظير استكشاف المصلحة و المفسدة من تعلّق الأمر و النهي بفعل، فهما يتعلّقان بنفس الفعل، لا بالمقيّد باشتماله على مصلحة، أو مفسدة، حتّى لا يندرج تحت الأمر و النهي إلّا بعد إحراز وجود المصلحة أو المفسدة فيه.

و دعوى أنّ المتبادر من العقود هو العقود التي تكون تحت أحد من العناوين الخاصّة كالصلح، و البيع، و الإجارة، و نحوها، فلا تشمل ما كان خارجا عنها، مدفوعة بأنّ هذا التبادر على فرض تسليمه، ناش عن أنس الذهن بهذه العقود و عدم أنسه بغيرها، فهذا نظير ما إذا كان بعض أصناف جنس معدوما أو قليل الوجود في بلد فأنس ذهن أهل هذا البلد بما سوى هذا الصنف يوجب انفهامهم من لفظ الجنس غيره.

و الحاصل أنّ التّبادر ليس من حاق اللّفظ فليس مانعا عن التمسّك بل يمكن التمسّك لصحّة هذا العقد، بأنّه تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «2» لصدق التجارة

______________________________

(1) المائدة: 1.

(2) النساء: 29.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 16

و المعاملة عليه، و كذا بقاعدة التسليط على احتمال كونها مشرّعا، فإنّ هذا أيضا أحد من التصرفات، و أمّا كون الإيجاب في هذا العقد بلفظ البيع، فلا يقتضي فساده فإنّ الطرفين معلوم قصدهما و عملهما، و هو نقل المال بإزاء إسقاط الحقّ، أو انتقاله،

إنّما الكلام في أنّ لفظ البيع أطلق على هذا العمل من باب التجوّز مع القرينة القطعيّة، أو من باب الحقيقة، فلا فرق بين وقوع إيجابه بلفظ البيع، أو بلفظ الصلح، أو بالفارسية، إلّا في مجرّد الشكّ في التصرّف اللفظي، مع معلوميّة المراد في الأوّل، و القطع بعدمه في الآخرين.

فإن قلت: لازم ما ذكرت- من أنّ آثار العقدية و هو وجوب الوفاء يترتّب على هذا العقد، و آثار البيعيّة لا يترتب- أن يكون البيع الفاسد كالبيع الربويّ صحيحا، من جهة أنّه عقد، و تشمله العقود و باطلا من حيث البيعيّة.

قلت: الفرق بين ما نحن فيه، و البيع الربويّ مثلا، هو أنّ البائع الربويّ معلوم أنّه عمل عملا يسمّى في العرف بيعا، و بعبارة أخرى معلوم أنّه أقدم على صنف خاص من البيع، و قد نهى الشارع عن هذا العمل المعلوم صدوره، و غيره لم يصدر من البائع.

و في ما نحن فيه لم يعلم أنّه أقدم على البيع أم لا، و إنّما المعلوم أنّه أقدم على عقد و لم يثبت نهي الشارع عنه، فيصحّ التمسّك على صحّته بعموم أَوْفُوا فلو فرض أنّه وقع بلفظ الصلح، كان بلا شبهة صحيحا.

بقي الكلام في الأفراد المشكوكة للحقّ و الحكم، المردّدة بينهما و في الأفراد المتيقّنة للحقّ، المردّدة بين ما يقبل النقل، و بين ما لا يقبله.

أمّا الكلام في الأوّل: فنقول: لازم الحكم أن لا يجوز إسقاطه، و لازم الحقّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 17

بطبعه أن يجوز إسقاطه، ما لم يمنع عنه مانع، فمرجع الشكّ إلى نفوذ الإسقاط و عدم نفوذه و الأصل عدم النفوذ و عدم السقوط، كحقّ الرجوع في طلاق الرجعيّة قبل انقضاء العدّة فيشك أنّه حكم

حتّى لا يؤثر إسقاطه، أو حقّ حتّى يؤثّر، فيحكم ببقائه بعد الإسقاط للاستصحاب.

إن قلت: لو فرضنا وقوع الإسقاط في أوّل زمان من الأزمنة بعد الطلاق، فلا مجرى للاستصحاب حينئذ.

قلت: هذا إسقاط لما لم يجب.

فإن قلت: فكيف يصحّ وقوعه و اشتراطه في ضمن الطلاق.

قلت: فرق بين المقامين ليس هنا موضع تحقيقه و محلّه باب الشرط.

فإن قلت: هذا الأصل مثبت، لأنّك أثبتت الحكميّة بواسطة استصحاب بقاء جواز الرجوع.

قلت: لسنا بصدد إحراز موضوع الحكميّة، و الحقّيّة بهذا الأصل، بل المقصود مجرّد إحراز حكمهما، و كذا الكلام فيما علم حقّيته، و شكّ في قابليته للإسقاط و عدمها.

و أمّا الكلام في الثاني: و هو ما علم الحقّية، و شكّ في قبوله النقل و عدمه، فنقول: إنّ مقتضى الأصل فيه أيضا عدم نفوذ النقل و عدم الانتقال، لكن يمكن استفادة الأصل و القاعدة على القبول من قوله- عليه السّلام-: «ما ترك الميت من حقّ فلوارثه» «1» و في رواية: زيادة «أو مال» بعد قوله «من حقّ» و على الأوّل: فالمراد به

______________________________

(1) لم نعثر عليها في كتب الأخبار، نقلها في الرياض: 1/ 527، و في الجواهر: 23/ 75، و في مفتاح الكرامة: 4/ 590.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 18

معناه الأعم الشامل للمال. و كيف كان، فمضمونه تأسيس القاعدة على أنّ كلّ حقّ ينتقل بالموت إلى الوارث، فيستكشف منه القابلية للنقل في جميع الحقوق، ضرورة أنّ الانتقال الفعلي الذي هو مضمون الرواية فرع القابلية، فيكون هذا أصلا ثانويا حاكما على الأصل الأوّلي، غاية الأمر أنّه خرج منه ما خرج، فعلى هذا لو انتقلت تلك الحقوق بصيغة الصلح لا مانع من شمول دليل الصلح لها فيؤثر النقل.

قال- قدّس سرّه-: و أمّا الحقوق

الأخر. إلى قوله: فافهم.

أقول: يعني و أمّا جعل الحقوق الأخر غير عمل الحرّ عوضا في البيع و عدّ عمل الحرّ من الحقوق لشباهته بها، و إلّا فهو ليس منها كحق الشفعة و حق الخيار، فإن لم تقبل المعاوضة بالمال، بأن كانت من الحقوق التي لا تقبل الإسقاط و لا النقل كحقي الولاية و الأبوة، فإنّه لو كان قابلًا لأحدهما، لكان قابلًا للمعاوضة بالمال، غاية الأمر ليست معاوضة بيعيّة

فلا اشكال و كذا لو لم تقبل الانتقال

و إن كان قابلًا للمعاوضة في الجملة، بأن كان من الحقوق التي لا تقبل النقل و لكن تقبل الإسقاط كحق الشفعة على القول باختصاصه بشريك واحد، ضرورة أنّ الأجنبي ليس بشريك و أمّا الشريك البائع و المشتري، فلا يعقل أن يضمّا مالهما إلى نفسه

لأنّ البيع تمليك الغير

هذا تعليل لعدم جواز جعل مالا يقبل الانتقال ثمنا، يعني أنّ البيع تمليك البائع المبيع للمشتري، و تمليك المشتري الثمن للبائع، و إسقاط الحق ليس بتمليك شي ء للبائع.

و لا ينتقض ببيع الدين على من هو عليه

هذا الانتقاض مختص بصورة نقل الحق إلى من عليه الحق و لا يجري في صورة نقله إلى غيره، و كأنّه سقط من العبارة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 19

في هذا المقام شي ء، و المناسب أن تكون هكذا: «كحق الشفعة، فإنّه لا يصحّ نقله إلى من هو عليه و لا ينتقض إلخ». فيصير حاصل النقض: أنّه كيف يمكن أن يقال بعدم صحّة نقل حق الشفعة إلى من هو عليه مع صحّة بيع الدين على من هو عليه؟ فأجاب بقوله:

لأنّه لا مانع من كونه

أي: بيع الدين على من هو عليه،

تمليكا فيسقط

، يعني لا مانع من أن تنتقل السلطنة على

تحصيل الحنطة مثلا من مال المديون الثابتة للمدين، إلى نفس المديون، فيسقط الدين عن ذمّته و يكون في خلاص منه بواسطة رجوع السلطنة و الاختيار إليه.

و لذا

أي، لأجل عدم المانع من تمليك الدين ممّن هو عليه.

جعل الشهيد في «قواعده» الإبراء

إبراء المدين المديون عن الدين

مرددا بين الإسقاط و التمليك «1».

و الحاصل: أنّه يعقل أن يكون المديون مالكا لما في ذمّته فيؤثر تمليكه السقوط

و الاستخلاص من حمل الدين،

و لكن لا يعقل أن يتسلّط

المحقوق

على نفسه و السرّ

في الفرق بين الحق و ملك الكلّي في الذمّة، حيث إنّه لا يعقل في الأوّل النقل إلى من هو عليه و في الثاني يعقل

أنّ الحق سلطنة فعليّة لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد

مثلا حقّ الشفعة نسبة و إضافة بين الشفيع و المشتري، و هو كونه أولى بالمال منه، فله مزاحمته، و كذا حقّ التحجير فإنّه عبارة عن كون المحجّر أولى من غير بالإحياء و أنّ له مزاحمة غيره.

و بالجملة: فطرفا الحق، هو الشخصان الأولى و الأولى منه، فلذا لا يعقل قيامهما بشخص واحد، ضرورة عدم معقوليّة أولوية الشخص بشي ء من نفسه،

بخلاف الملك فإنّها نسبة بين المالك و المملوك

، و هو فيما لو كان المملوك شخصا

______________________________

(1) القواعد للشهيد: 1/ 291.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 20

خارجيا، عبارة عن السلطنة على التصرّف فيه كيفما شاء، و فيما لو كان كلّيا في ذمّة الغير، عبارة عن السلطنة على تحصيله من مال من هو عليه، و على أيّ حال فطرفاه، هو الشخص المالك و المال. و لا يحتاج- في الفرض الأخير- إلى من يملك عليه، يعني: ليس طرفاه الشخصين، المالك و المملوك عليه حتى يستحيل اتحاد المالك و المملوك عليه، فافهم.

[الإشكال على تعريف المصباح]

بقي

على تعريف المصباح إشكال- بعد تصحيحه عن ورود الإشكال عليه بشموله للإجارة، بجعل المال الأوّل عبارة عن العين- فإنّه مع ذلك يشمل القرض، فإنّه أيضا مبادلة عين بمال، أعني: المثل في ما كان العين مثلثا و القيمة فيما كانت قيميّة.

فإن قلت: إنّه ليس من باب المبادلة، بل بذل مال للمقترض ليصرفه في حاجته، و أداء العوض بعد الأجل من باب الغرامة، و لهذا ليس أمر العوض باختيارهما و جعلهما، بل هو العوض الواقعي، أعني: القيمة في القيميات و المثل في المثليات كما هو الشأن في باب الضمانات.

قلت: فرق بين الغرامة الشرعيّة و هذا، فإنّ الأخذ في مورد الغرامة أخذ مال الغير ظلما و عدوانا من دون رضي صاحبه، و لا أداء عوضه، فيحكم عليه الشارع بأداء العوض النفس الأمري. و ههنا قد وقع التراضي من الطرفين على أخذ المقترض مال المقرض و القصد من المقترض إلى أداء العوض، و من المقرض إلى أخذه منه، و كون الداعي إلى ذلك التعاوض، قضاء حاجة المقترض، لا ينافي ذلك فإنّ البيع أيضا لدفع الحاجة، فلا بدّ لدفع هذا الإشكال، من تقييد المال الثاني، بقولنا: «مقدّر أو مجعول»، بأن يكون أمره جعلا و تقديرا إلى الطرفين لا أن يكون هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 21

العوض الواقعي ليس إلّا. هذا هو الكلام في تعريف «المصباح».

[الإشكال على تعريف الأنصاري]

و أمّا الكلام في تعريف المصنّف- قدّس سرّه- فنقول فيه:

إنّ لفظ الإنشاء مضرّ بهذا التعريف، إذ يلزم أن يكون إنشاء البيع، إنشاء الإنشاء، و هو غير معقول، لكونه تحصيل الحاصل، إلّا أن يكون المراد: أنّ البيع هو نفس التمليك الذي هو متعلّق الإنشاء. و فيه: على هذا أنّه لا يناسب [إلّا أن يكون

المراد: الحصة من التمليك الذي حصل من الإنشاء، بنحو يكون الإنشاء خارجا، أخذ في التعريف لتعيين الفرد من التمليك] ذكر الإنشاء الذي هو من أسباب وجود البيع في تعريفه. و مع الإغماض عن هذا الإشكال، يستشكل فيه بالإشكال السابق و هو: الانتقاض بالقرض، و لو قال إنّه تمليك عين بعوض مقدّر، سلم من الإشكالين.

و أمّا تعريف «المبسوط» «1» و «التذكرة» «2» الذي جعل المصنّف- قدّس سرّه- وجه عدول بعض عنه، هو المسامحة فيه، فالمسامحة فيه من وجهين:

الأوّل: ذكر لفظ الانتقال، و المناسب أن يذكر النقل، فإنّ البيع هو النقل، و الانتقال من آثاره.

و الثاني: التقييد بقوله: «على وجه التراضي» فإنّ التراضي من شرائط صحّة البيع، لا من مقوّمات مفهومه، فلا يناسب ذكره في تعريفه.

و أمّا عدم معقوليّة إنشاء البيع باللفظ- على تقدير تعريفه بالإيجاب و القبول

______________________________

(1) المبسوط: 2/ 76.

(2) التذكرة: 1/ 462.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 22

الدالّين على الانتقال الذي جعله المصنّف- قدّس سرّه- وجها لعدول صاحب «جامع المقاصد» «1» عنه، فوجهه:

أنّه لا بدّ و أن يكون متعلّق الإنشاء مستقلا باللّحاظ، فإن لوحظ لفظ الإيجاب و القبول مستقلّا، لم يكن مستعملا، ضرورة أنّ اللفظ إنّما يكون مستعملا إذا جعل مرآة و حكاية للمعنى و لم يلحظ مستقلا، و إن لوحظ مستقلا مع جعله مرآة، لزم الجمع بين اللحاظين المتباينين فيه في آن واحد، و هو محال.

و يمكن دفع ذلك، و دفع نظيره الوارد على تعريف المصنّف- قدّس سرّه- ب: أنّهم قصدوا شرح البيع بمعناه الذي جرى عليه اصطلاح الفقهاء- رضي اللّٰه عنهم-، و ما استعمل فيه مادة بعت الإنشائي إنّما هو المعنى اللغويّ العرفي فهم يتسلّمون أنّ للبيع عند العرف، معنى قابلًا للإنشاء

كالتمليك أو المبادلة، و لكن يقولون، للفقهاء فيه اصطلاح جديد و هو الإيجاب و القبول الدالّان على الانتقال أو إنشاء تمليك عين بعوض، و هذا يتحقّق موضوعه بإنشاء المعنى العرفي بلفظه الدال عليه، و قبول هذا الإنشاء.

نعم لو قصدوا بذلك، شرح المعنى العرفي كان الإشكال حقا، إذ من المعلوم، أنّ المنشئ بقوله «بعت» قد أوجد اللفظ و أنشأ المعنى، لا أنّه أنشأ الإيجاب و القبول أو الإنشاء.

فإن قلت: هذا قول بثبوت الحقيقة المتشرعية للبيع و قد نفاها المصنّف- قدّس سرّه- سابقا.

______________________________

(1) جامع المقاصد: 4/ 55.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 23

قلت: الحقيقة المتشرعية هي التي عرفها المسلمون جميعا، و ما نحن فيه، ليس كذلك بل الفقهاء- من حيث هم فقهاء و أهل هذه الصناعة- قد اصطلحوا عليه.

[في بيان الفرق بين الإنشاء و الإخبار]

ثمّ إنّ هنا إشكالا و هو: أنّ التمليك لا يمكن حصوله بدون حصول الملكية، كما أنّ الكسر لا يمكن حصوله بدون حصول الانكسار، و من جملة مقدمات حصول الملكية القبول، فقبله لا ملكية فلا يتعقّل تمليك، فالموجب- مع أنّه قاطع بذلك ضرورة أنّ ناقلية القبول من الأمور الواضحة عند العرف و الشرع- كيف يقصد إنشاء التمليك بقوله: بعت، فإنّه إن قصده منجّزا خالف قطعه، و إن علّقه على مضيّ القبول، لزم التعليق المبطل إجماعا و إن علم بمضيّه.

و الجواب: يتوقف على تحقيق الفرق بين الإنشاء و الإخبار بقول مطلق، فنقول: قد عرّفوا المعنى الإنشائي بأنّه معنى يوجده اللافظ و يكون اللفظ آلة لإيجاده كالطلب و التمنّي و الترجّي و الاستفهام، فإنّه موضوع لها للألفاظ الخاصّة، لا باعتبار أنّها صفات واقعيّة قائمة بالنفس. بل باعتبار أنّها توجد بتلك الألفاظ بوجود اعتباري، فصيغة الأمر مثلا، لا تكشف عن وجود الطلب

الحقيقي في النفس، بل توجد الطلب الإنشائي، و هو ممكن الانفكاك عن الطلب الحقيقي، بمعنى: أنّه يمكن خلوّ الأمر عن حبّ الفعل، كما في الأوامر الامتحانيّة. نعم غالبا لا ينفك عنه، و كذا الكلام في لفظ «ليت» و نحوه. و لهذا قالوا: إنّ الإنشاء لا يحتمل الصدق و الكذب. و هذا بخلاف الجملة الخبرية، فإنّها حكاية عن ثبوت معناها في موطنه، و هو إمّا الخارج كما في «زيد قائم» و أمثاله، و إمّا النفس كما في «أطلب» الإخباري و «أعلم» و أمثالهما، فهي موضوعة للكشف و الحكاية لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 24

للإيجاد. فإن طابق نسبتها للواقع، كانت صدقا و إن خالفته كانت كذبا، فالإنشاء موجد للمعنى و الإخبار كاشف عمّا في الواقع.

أقول: لا معنى لكون اللفظ علّة و موجدا لشي ء من المعاني بحسب ذاته، و من حيث إنّه صوت معتمد على المخارج، فإنّه لا سنخيّة بينه و بين شي ء منها، و لا بحسب جعل الجاعل، فإنّ العلّية أمر واقعي، لا تقبل الجعل. نعم يمكن جعل بحسب تعهد الواضع أمارة على معنى، بأن يتعهّد أنّه متى أراد المعنى الفلاني، تكلّم باللفظ الفلاني، من دون فرق بين الإنشاء و الإخبار في ذلك أصلا، فكما أنّ كلمة «زيد» أمارة على الجثّة الخاصة، كذلك صيغة «افعل» أمارة على الطلب، و «زيد قائم» أمارة و حكاية لنسبة خاصة. نعم العنوان الثانوي للحكاية، و هو إلقاء المعنى في ذهن السامع، يوجده اللفظ لكنّه أمر منتزع من الحكاية.

و أمّا ما ذكروه في تعريف الجملة الخبرية، من «أنّها حكاية عن ثبوت نسبتها في موطنها» فلعمري أنّه بمجرّده لا يكون محقّقا للجملة الخبرية لتحقّق هذا المعنى في زيد القائم، ضرورة أنّه

لا زيادة بحسب المعنى لزيد قائم، على زيد القائم حتّى تكون تلك الزيادة موجبة لكونه جملة خبرية. نعم في الأوّل يحسن سكوت المخاطب عليه و يستريح، و في الثاني ينتظر و لا يستريح.

لكن الشأن في بيان الشي ء الذي وجوده في الأوّل يكون سببا للاستراحة و عدم الانتظار، و عدمه في الثاني يكون سببا للانتظار و عدم الاستراحة، و يعبّر عنه بالتمام. فنقول: نسبة شي ء إلى شي ء تارة تكون مجرّد تصوّرها، ليس إلّا، و إن توالي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 25

نسب متكثّرة و لكن ما ازدادت بكثرتها إلّا صرف التصوّر، و لم تفد السامع اطّلاعا، فحينئذ لا جرم لا يستريح المخاطب، بل ينتظر لأخذ المطلب، و ذلك كقولنا:

«زيد القائم العالم الشاعر التاجر» و هكذا. و تارة زيادة على التصوّر يظهر جزمه بوقوع تلك النسبة للمخاطب، أو يتجزّم لو كان شاكّا أو قاطعاً بالخلاف، فحينئذ يستريح المخاطب من جانب المتكلّم إذ أخذ منه ما عنده من الاعتقاد، ثمّ يتتبّع بنفسه الخارج، فإن وجده مطابقا له، يحكم بصدقه و إلّا يكذّبه، فالشي ء الذي يوجد في الجملة الخبرية و لا يوجد في غيرها من النسب الناقصة، هو ذلك الجزم، فعلم أنّه لو زيد في التعريف قيد «التمام» سلم من هذا الإشكال.

[الفرق بين النسب الخبرية و الإنشائية]

بقي الكلام: في أنّه- على ما ذكرنا من عدم تعقّل كون اللفظ موجدا للمعنى، و عدم الفرق في الأماريّة، بين الخبر و الإنشاء- فما الفرق أوّلا بين مفردات الجمل و نسبها، و ثانيا بين النسب الخبريّة و الإنشائية:

فنقول: أمّا الفرق بين المفردات و النسب فهو: أنّ المفردات موضوعة أمارة على معانيها معراة عن الوجود و العدم، و لهذا قولنا: «زيد موجود» مثلا ليس بتأكيد، و قولنا:

«زيد معدوم» ليس بتناقض، بخلاف النسب، فإنّها موضوعة أمارة على الحالات و الصفات الموجودة فعلا في النفس، حين التكلّم، بحيث لو لم تكن موجودة، و تكلّم بألفاظها أعني: الرابطة، لكان لفظها مهملا و بلا معنى لا غلطا أو مجازا، كأن يكون القائل: «زيد قائم» بلا تجزّم، و القائل: «اضرب» بلا إرادة.

و أمّا الفرق بين النسب الخبرية و الإنشائية بعد اشتراكهما في كون كل منهما أمارة على الصفة الموجودة فعلا و واقعا و خارجا، فهو:

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 26

انّ هذه الصفة المحكيّة بالنسبة في النسب الخبرية، حاكية عن وقوع نسبة القضية المذكورة في الخارج، و لهذا تتصف بالصدق و الكذب، و في النسب الإنشائية ليست بحاكية عن ذلك، و لهذا لا تتّصف بهما، فالتجزّم المدلول عليه بالنسبة في قولك: «زيد قائم» حاك عن وقوع القيام لزيد في الخارج، و الطلب المحكي بها في قولك «اضرب» لا يحكي عن وقوع الضرب للمخاطب، بل يقتضي إيجاده منه فيما بعد.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ قول المنشئ «بعت» كسائر الإنشاءات حاك عن الصفة القائمة بالنفس الموجودة فعلا، و هو هنا الرضا بكون هذا مالا للمخاطب، و ذاك مالا لنفسه، و الانتقال من اللوازم القهرية المتأخّرة عن القبول، كما أنّ قوله:

«زوّجت» حكاية عن رضاه الفعلي بالزوجيّة، و كذا الكلام في إيجاب سائر العقود، و ليست موجدة لمعانيها حتى يلزم الإشكال، و إن أجابوا بأنّ المنشأ هو التمليك بنظر المنشئ، و لا مانع من حصوله بنفس الإيجاب، و المتوقف على القبول هو التمليك بنظر العرف و الشرع، و هو من آثار المنشأ لا نفسه. و قد عرفت أنّه لا معنى لذلك.

فإن قلت: على ما ذكرت من أنّه لو كان المنشئ

خاليا عن الصفة المحكيّة بالنسبة، كان الإنشاء مهملا، يلزم أن تكون الأوامر الامتحانية- حيث إنّ الآمر بها خال من الإرادة- مهملة.

قلت: الإرادة، كما تنشأ ملاحظة عن المصلحة في المتعلّق، أعني: الفعل المراد كما هو الغالب، كذلك، قد يخلقها الشخص في نفسه لأجل المصلحة في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 27

نفسها لا في متعلّقها. و الشاهد على ذلك، أنّ المسافر في بلد الإقامة قد يريد الإقامة لا لمصلحة فيها، بل لأجل إتمام الصلاة الذي هو من أحكام نفس الإرادة، و لذا يدور مدارها وجودا و عدما، سواء حصلت الإقامة عشرا أم لا، فكذلك الآمر في الأوامر الامتحانية، خالق للإرادة في نفسه لأجل مصلحة نفس الإرادة، لا في متعلّقها و هي امتحان العبد.

[البرهان على اختيارية الإرادة]

و لا بأس بصرف عنان الكلام، إلى إقامة البرهان على اختيارية الإرادة و إبطال حجّة الخصم على اضطراريتها. فقد احتجّ على مذهبه بأنّه لو كانت اختيارية فلا بدّ أن تكون مسبوقة بالإرادة لأنّ الفعل الاختياري ما كان كذلك، ثمّ ننقل الكلام في الإرادة الثانية فهي أيضا لا بدّ أن تكون مسبوقة بإرادة أخرى، و تلك الإرادة الثالثة بإرادة رابعة و هكذا إلى غير النهاية، و هذا تسلسل و بطلانه يقتضي بطلان ملزومه.

و الجواب: أنّ الإرادة المنبعثة عن المصلحة في المتعلّق، تكون علّة وجودها هي تلك المصلحة، فإنّها تحدث في العالم بها حبّا و شوقا إلى الفعل، ثمّ لا يزال يكون هذا الحبّ و الشوق شديدا و أكيدا، حتّى ينتهي إلى الإرادة، فهي لا تحتاج إلى إرادة أخرى. حتّى توجدها.

و أمّا الإرادة المخلوقة لأجل المصلحة في نفسها، فهي تحتاج إلى إرادة أخرى كسائر الأفعال الاختيارية غير الإرادة و لكن تلك الإرادة الأخرى تنبعث عن

المصلحة في المتعلّق، أعني: الإرادة الأولى، فاندفع التسلسل.

و البرهان على اختيارية الإرادة أنّه لا شك في أنّه كما أنّ من كان منشئا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 28

و فاعلا لفعل يعد مقتدرا عليه، كذلك من كان قادرا على إيجاد المانع من فعل كان منشئه غيره أيضا، يعدّ مقتدرا عليه، فمن كان قادرا على إيجاد المانع عن «إحراق النار لزيد» مثلا، يعدّ قادرا على ذلك الفعل، أعني: «إحراق النار» فإنّ له أن يترك النار بحالها، فتحرق زيدا، و له أن يأتي بالمانع، فلا يحصل الإحراق. و لهذا يصحّ ذمّه على الترك. فكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ الشخص قادر على إيجاد الإرادة المانعة المضادة للإرادة الأولى في نفسه.

فإن قلت: لا يوجد أحد الإرادة على خلاف المصلحة بل يوجدها على طبقها أبدا.

قلت: نعم لا يوجدها، و لكن لأجل عدم المصلحة لا لأجل عدم القدرة، بحيث لو كان فيها مصلحة، لأوجدها. و بالجملة فها هنا أمران: الأوّل: أن يكون عدم الإيجاد لأجل عدم القدرة، فلهذا لا يصدر من الشخص و لو كان فيه ألف مصلحة. و ذلك «كالطيران إلى السماء».

الثاني: أن يكون عدم الإيجاد لعدم المصلحة، بحيث لو كانت لأوجد. فيدور الإيجاد مدار المصلحة وجودا و عدما، و هل ذلك إلّا للقدرة.

فعلم أنّ الإرادة و إن كانت معلولة للمصلحة- إمّا بلا واسطة، إذا كانت المصلحة في متعلّقها، أو مع واسطة إرادة أخرى، إذا كانت المصلحة في نفسها- لكنّ ذلك لا ينافي مقدوريتها، لإمكان إيجاد المانع عنها كما في «إحراق النار» فوجودها و عدمها تحت اقتدار الشخص. فتكون الأفعال المعلولة للإرادة مقدورة أيضا لمقدوريّة علّتها.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 29

الكلام في المعاطاة

[في تحرير محل النزاع في المعاطاة في أنها تفيد الإباحة أو الملك أم لا]

قال- قدّس سرّه-: اعلم أنّ المعاطاة على

ما فسّره جماعة، أن يعطي كلّ من اثنين ماله عوضا عمّا يأخذه من الآخر «1».

أقول: هذا تفسير للمعاطاة المتعارفة، أعني: ما كانت المقابلة فيه بين العينين، و يمكن فرض تحقق الإيجاب و القبول فيه بالفعل بوجهين:

الأوّل: أن يكون الإعطاء من صاحب المعوّض إيجابا و الأخذ من صاحب العوض قبولا، فيكون الإعطاء من صاحب العوض إيفاء لما ملّكه الآخر سابقا بالأخذ.

الثاني: أن يكون الإعطاء من صاحب العوض مملّكا و قبولا، لا وفاء لما ملكه سابقا.

و أمّا غير المتعارف من المعاطاة فيتصوّر على وجوه:

الأوّل: أن يكون الإعطاء من أحدهما بإزاء التمليك من الآخر، فيكون مقصودهما أن يستحقّ المعطي بسبب إعطاء هذا المال على الأخذ إنشاء تمليك ماله إيّاه.

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 41، الغنية: 524.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 30

و بعبارة أخرى: إيجاد مال له في الخارج كما يستحق فيما لو أعطي بإزاء الخياطة أو نحوها من الأعمال أن يوجد الأخذ له في الخارج المال الخاص.

الثاني: أن يكون مقصودهما إيقاع المقابلة بين المال من أحدهما و إنشاء الإباحة من الآخر.

الثالث: أن يكون قصدهما إيقاع المعاوضة بين المال من أحدهما و إنشاء الهبة من الآخر.

و هذه الأقسام مشتركة في أنّ المقابلة فيها بين المال و الفعل. و يمكن فرض هذه الأقسام في البيع العقدي أيضا.

قال- قدّس سرّه-: و هو يتصوّر على وجهين:

أحدهما: أن يبيح كلّ منهما للآخر التصرّف فيما يعطيه من دون نظر إلى تمليكه.

الثاني: أن يتعاطيا على وجه التمليك.

أقول: يعني أنّ الصورة التي تكون المقابلة بين المالين تنقسم باعتبار لحاظ العوضيّة على قسمين، و ذلك لأنّ العوضيّة بين الشيئين تارة يلاحظ في الوجود، بأن يوجد أحدهما بدلا عن الآخر، و تارة تكون في المكان بأن ينتقل كلّ منهما

إلى مكان الآخر، و شي ء من هذين لا يمكن في أبواب المعاملات، و إنّما الممكن فيها إمّا لحاظ العوضيّة في الملكيّة و إمّا لحاظها في الإباحة.

قال- قدّس سرّه-: (و ربّما يذكر وجهان آخران)

مضافين إلى الوجهين المتقدّمين.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 31

(أحدهما: أن يقع النقل من غير قصد البيع و لا تصريح بالإباحة المزبورة، بل يعطي شيئا ليتناول شيئا فدفعه الآخر إليه)

مثل أن يكون غرضه أكل الدبس مثلا، و لكن لما علم أنّه لم يمكن له التوصّل إلى هذا الغرض إلّا بدفع الورق، دفعه ليتوصّل إليه من دون التفات إلى أنّ الدبس يصير ملكا له أو لا، و لكن يصير مباح الأكل له. و بعبارة أخرى: يقصد القدر المشترك بين العوضيّة في الملك و العوضيّة في الإباحة و هو مطلق العوضيّة المردّدة بينهما.

(و الثاني: أن يقصد الملك المطلق دون خصوص البيع)

فها هنا معلوم أنّ العوضيّة في الملكيّة، و لكنّ الملكيّة مردّدة بين الحاصلة بالبيع أو بالصلح أو بالهبة المعوّضة، لعدم الالتفات إليها.

(و يردّ الأوّل)

و هو ما كان المقصود فيه مطلق العوضيّة

(بامتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوان من عناوين البيع أو الإباحة أو العارية أو الوديعة أو القرض، أو غير ذلك من العنوانات الخاصّة).

حاصله: أنّه لا بدّ إمّا من قصد العوضيّة في الملكيّة و إمّا من قصد العوضيّة في الإباحة، و لا يمكن قصد العوضيّة المطلقة، و لكنّ الإنصاف أنّه يمكن.

فإن قلت: إنّه واقعا راجع إلى أحد القسمين:

قلت: لا واقعية له سوى القصد، و من المعلوم أنّه كما يمكن قصد العوضيّة في الملكيّة و قصد العوضيّة في الإباحة كذلك يمكن قصد مطلق العوضيّة، بأن يقصد إعطاء هذا مقدمة لأخذ ذاك، لعلمه بأنّه لا يمكن تناوله

إلّا بإعطاء المال من دون التفات إلى أنّ هذه المعاطاة مفيدة للملكيّة أو الإباحة، و لا أقل من إمكان صدوره عن بعض العوامّ، و نظير ذلك في إمكان قصد القدر المشترك من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 32

دون قصد خصوصيّة أحد الفردين أو الأفراد، إنشاء مطلق الطلب المردّد بين الإيجاب و الندب، فإنّه ممكن بأن يقول المولى: هذا الفعل مطلوب لي في الجملة، يعني أنّه ليس مساويا للترك من دون نظر إلى أنّ هذا الطلب مانع من النقيض أم لا. كما لو تيقّن بأنّ فيه مصلحة و لكن لم يعلم أنّ المصلحة فيه شديدة ملزمة أم ليس كذلك.

(و الثاني)

: و هو ما كان المقصود فيه مطلق الملك

(بما تقدّم في تعريف البيع من أنّ التمليك بالعوض على وجه المبادلة)

بأن يكون هذا هو الفعل الأوّلي و المقصود الأصلي لا الضمني

(هو مفهوم البيع لا غير)

و ما يتراءى كونه من التمليك بالعوض على وجه المبادلة فيما سوى البيع- و هو الصلح و الهبة المعوّضة- يعلم عند التأمّل أنّه ليس من هذا القبيل، فإنّ الفعل الأوّلي في المصالحة هو قرار التسالم بين المتصالحين، غاية الأمر أنّه تارة يبتني على أن يكون هذا ملكا للمتصالح مجّانا، و تارة على أن يكون له مع العوض، و تارة على غير التمليك، فيكون التمليك فيه ضمنيّا و على وجه الابتناء لا أصليّا أوّليا.

و كذا الهبة المعوّضة، فإنّ الفعل الأوّلي فيها هو ما يعبّر عنه في الفارسيّة ب «بخشش»، و يعتبر في مفهومه «المجّانية» فيكون مقابلا للتمليك بالعوض على وجه المبادلة، غاية الأمر إنّه يشترط في ضمن الهبة الأولى أن يهب المتّهب أيضا ماله للواهب، و لذا يكون للواهب خيار تخلّف الشرط

على فرض عدم أداء المتّهب، و لا يملكه بمجرّد تملّك المتّهب الهبة. و لو كان مبادلة لم يعقل ذلك. فعلم أنّه لا يمكن قصد القدر المشترك بين البيع و الصلح و الهبة المعوّضة، مع كون التمليك بالعوض على جهة المقابلة هو الفعل الأوّلي، بل يتعيّن أن يكون بيعا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 33

فالمتصوّر فيما كان المقابلة بين العينين ثلاثة أوجه: الأوّل: أن يقصد التمليك، الثاني: أن يقصد الإباحة، الثالث: أن يقصد مطلق العوضيّة.

ثمّ إنّ ظاهر كلمات المشهور بل صريحها: أنّ القسم الأوّل من المعاطاة الذي هو المتعارف- أعني: ما كان المقابلة فيه بين المالين مع كون قصد المتعاطيين التمليك و التملّك- مفيد لإباحة التصرّف لكلّ من المتعاطيين فيما صار إليه إلى أن يتلف أحد العوضين أو كلاهما، فيحصل الملك حينئذ، فإنّهم ذكروا في خلال شرائط البيع، أنّه يفتقر إلى الإيجاب و القبول اللفظيين. ثمّ ذكروا أنّه لو كان خاليا منهما يفيد الإباحة. و هذا صريح في أنّ محل الكلام إنّما يفترق البيع العقدي في مجرّد عدم الاشتمال على الصيغة اللفظيّة.

لكن لما كان الحكم بإفادة المعاطاة الإباحة مع كون مقصود المتعاطيين التمليك و التملّك مستبعدا، أراد صاحب الجواهر توجيه كلماتهم بالتصرّف في الموضوع، فذكر: أنّ موضوع كلامهم هو ما كان مقصود المتعاطيين فيه الإباحة.

و أراد جامع المقاصد توجيهها بالتصرّف في الحكم مع إبقاء ظاهر كلماتهم في الموضوع بحاله، فذكر: أنّ الموضوع و إن كان المعاطاة المقصود بها التمليك و التملّك، لكنّ المراد بالإباحة في كلامهم هو الملك المتزلزل.

و لكنّك عرفت أنّ كلماتهم صريحة غير قابلة للتوجيه، لا من جانب الموضوع و لا من جانب الحكم، فالمتعيّن حينئذ مطالبة الدليل على ما ذكروه من الحكمين، أعني:

عدم إفادة المعاطاة المزبورة الملكيّة، مع أنّها بالطبع مقتضية لها، و إفادتها الإباحة، فلا بدّ من الكلام في أنّ حكم كلّ من الأقسام المذكورة للمعاطاة على حسب القواعد ماذا؟

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 34

فنقول: أمّا القسم الأوّل و هو المعاطاة المقابل فيها المال بالمال المقصود بها التمليك، فحكمه قبل وجدان الدليل عدم النفوذ، فإنّ مقتضى الأصل في جميع ذوات الأسباب- أعني: الأشياء التي تحتاج في وجودها و تحقّقها إلى السبب كالملكيّة و الزوجيّة و نحوهما- هو عدم التحقّق ما لم يتيقّن وجود السبب، ففي أبواب المعاملات لو شكّ في اعتبار قيد في التأثير- كالعربية- و تقدّم الإيجاب على القبول، لا بدّ من الاحتياط بمراعاة هذا القيد، و إلّا فالأصل بقاء مال كلّ أحد على ملكه، و كذا كلّ سبب لو لم يحتط فيه بمراعاة جميع ما احتمل دخله في تأثيره، كان مقتضى الأصل عدم ترتّب الأمر المقصود عليه، فيعمل بهذا الأصل في كلّ مقام إلى أن يوجد دليل حاكم أو وارد عليه، فلا شكّ أنّ مقتضى الأصل الأوّلي فيما لو شككنا في أنّ هذا القسم من المعاطاة مفيد لملكيّة كلّ من المتعاطيين مال الآخر أم لا، هو عدم ذلك.

[الاستدلال بآية أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ]

و لكن نقول: إنّ الدليل الحاكم على هذا الأصل موجود في المقام، و هو إطلاق قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1»، فإنّه لا شكّ في كونه واردا في مقام الامتنان، و المناسب لمقام الامتنان أن يكون المراد بيان حلّية جميع البيوع، و بالجملة:

فهذا الإطلاق وارد في مقام البيان، فيصحّ التمسّك به للمقام.

فإن قلت: لا يمكن التمسّك بهذا الإطلاق، إذ المشهور أنّ البيع و نحوه من ألفاظ المعاملات أسماء للصحيح منها، و من المقرّر في محلّه

أنّ التمسّك بإطلاق الدليل إنّما هو بعد إحراز كون المقام مصداقا لموضوعه، فلو قال المولى: أعتق رقبة، فموضوع التكليف- و هو عتق الرقبة- مفهوم مبيّن لا إجمال فيه، فلو تيقّن وجود

______________________________

(1) البقرة: 275.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 35

هذا الموضوع و لكن شكّ في اعتبار قيد خارج عنه كوصف الايمان في المكلّف به، نفيناه بالإطلاق، و هذا بخلاف ما نحن فيه، فإنّه مشكوك كونه مصداقا للبيع الصحيح، فلا يصحّ التمسّك في حلّيته بإطلاق الحلّية المعلّقة على البيع الصحيح.

و بالجملة فالآية على قول المشهور لا يسمن و لا يغني من جوع في شي ء من الأحوال، فإنّه ما دام وصف الصحّة محرزا لا حاجة إلى التمسّك، و ما دام مشكوكا لا يجوز التمسّك.

قلت: لا شكّ في أنّ لفظ البيع عند العرف و الشرع و العقلاء اسم لمفهوم وجداني، و هو المبادلة الواقعية، الدائرة بين الوجود و العدم، و ليس موضوعا للمركب من الإيجاب و القبول حتّى يكون دائرا بين الجامع لجميع الشرائط فيتّصف بالصحّة، و فاقدها فيتّصف بالفساد، فمفهوم البيع عند الجميع متّحد، و الاختلاف بين العرف و الشرع في بعض المقامات لا يرجع إلى الاختلاف في أصل المفهوم، بل راجع إلى اختلاف أنظارهما في مقام تشخيص المصداق، بمعنى أنّ العرف لخسّة مرتبته و ضعة رتبته ربّما يشتبه عليه الأمر فيرى غير ما هو الفرد للمبادلة فردا لها، و لكنّ الشارع لعلوّ رتبته و حدّة نظره لا يرى إلّا الأفراد الحقيقيّة لهذا المفهوم، فهذا نظير مفهوم الاثنين، فإنّه متّحد عند الأحوال و الصحيح العين، و هو ما يقابل الواحد و الثلاثة و ما فوقها، و مع ذلك فالأحول يحكم على الشي ء الواحد بأنّه اثنين، و الصحيح

العين يحكم بأنّه ليس كذلك، إلّا أنّ هذا ليس لأجل اختلاف المفهوم عندهما، بل لأجل اختلاف حاسّتهما في الصحّة و السقم.

و إذا ثبت ذلك فنقول: من المقرّر في مقامه الذي أقيم عليه البرهان، أنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 36

موضوعات الأحكام الشرعيّة الواقعة في الأدلّة اللفظيّة محمولة على حسب الأنظار العرفيّة، لا على حسب الأنظار العقليّة و التدقيقات الحكمية.

و بعبارة أخرى لا بدّ أن يتنزّل الشارع، و ينزّل نفسه منزلة واحد من أهل العرف، و يتكلّم على قدر فهمهم الناقص، فلو قال: «الدم نجس» فلا بدّ أن يحمل على ما هو دم عند العرف، لا ما هو كذلك عند التدقيق العقلي، و لازم ذلك الحكم بطهارة اللون المتخلّف لعدم كونه عند العرف دما، و إن كان التدقيق العقلي يقتضي كونه أجزاء صغارا من الدم، لاستحالة انتقال العرض.

و الدليل على ذلك: أنّ غرض الشارع من تلك الخطابات تفهيم المخاطبين، فلو تكلّم على حسب نظره الشريف الدقيق العالي مع علمه بقلّة شعور المخاطب و قصور عقله، كان ذلك منه نقضا لغرضه، فثبت أنّ حكم الحلّية في الآية قد تعلّق بتوسّط العنوان على الأفراد العرفية، لا لأنّ البيع مقيّد بالعرفي، بل لأنّ الشارع نزل نفسه منزلة واحد من أهل العرف فتكلّم بلفظ البيع، فوقع نظره على المصاديق العرفية، سواء كانت حقيقيّة أم لا، فحكم عليها بالحلّية، فيكون معنى كلامه أنّ كلّ ما كان عند العرف و في نظرهم بيعا فهو بيع و نافذ عندي، فيستفاد من الآية قاعدة ثانوية معمول بها في كلّ مورد علم كونه بيعا عند العرف و شكّ في اعتبار أمر زائد في تأثيره عند الشرع، و منه ما نحن فيه.

ثمّ لا بدّ لتوضيح

الاستدلال بالآية من بيان المراد بالحليّة.

فنقول: يمكن حمله على أحد المعنيين:

الأوّل: الإباحة و الجواز الذي هو من الأحكام التكليفية.

فإن قلت: لا يناسب هذا المعنى لمقام الامتنان، إذ لا امتنان في إباحة مجرّد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 37

إنشاء البيع، و إنّما الامتنان في تجويز ماله دخل في نظام المعيشة و قضاء الحاجة، لا ما كان من قبيل الإنشاء المجرّد.

قلت: يمكن جعل هذا الذي ذكرت قرينة على إضمار لفظ الآثار في الآية، فيكون التقدير: أحلّ اللّٰه آثار البيع، فيرتفع الإشكال.

أو نقول: لفظ البيع يدلّ بالالتزام العرفي على الآثار، ألا ترى أنّه لو قال المولى لعبده: خذ هذا المال و اجعله بضاعة لكسبك و اكتسب به، فالمفهوم منه عند العرف ليس تجويز نفس إنشاء الكسب، بل تجويز التصرّفات المالكيّة فيما يكتسب به و صيرورته ملكا له.

الثاني: جعله نافذا و بلا مزاحم في التأثير، و لا يبعد أن يكون إضافة الحلّية إلى البيع قرينة على هذا المعنى، فإنّ حلّية كلّ شي ء على حسبه، فمعنى الحلّية و الحرمة في الأعمال التي يكون المقصود من الإقدام عليها الوصول إلى غرض هو كونها بحيث صار الفاعل بسببها نائلا إلى غرضه، و كونها بحيث صار فاعلها محروما عن غرضه، مثلا حلّية البيع كونه بحيث يترتّب عليه الملكيّة، و حلّية الصلاة في اللباس المتّخذ من شعر المأكول اللحم كونها بحيث تبرأ الذمّة، و هذا بخلاف الأعمال التي يكون مقصود الفاعل نفسها كالأكل و الشرب و نحوهما، فإنّ عدم الحلّية و الحلّية فيها بمعنى ترتّب العقاب الأخروي عليها و عدم ترتّبه.

فنقول في توضيح الاستدلال بالآية الشريفة: أمّا على تقدير حمل الحلّية فيها على المعنى الثاني، فالاستدلال بها واضح، فإنّها بمدلولها المطابقي تدلّ على

نفوذ مطلق ما هو بيع عند العرف، و لا شكّ أنّ البيع المعاطاتي بيع عندهم.

و أمّا على التقدير الآخر- بكلا شقّيه- فلا إشكال في أنّ الآية بإطلاقها تدلّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 38

على حلّية جميع التصرّفات لكلّ من المتبايعين فيما صار إليه، و من جملتها التصرّفات المتوقّفة على الملك كالوطي و البيع و العتق، فلا بدّ في تلك التصرّفات من الالتزام بواحد من ثلاثة أمور:

الأوّل: الحرمة و عدم الجواز.

الثاني: الحلّية مع عدم الملكية.

و الثالث: الحلّية مع ثبوت الملكية.

ففي الأوّل تقييد لإطلاق الآية، و في الثاني تخصيص لعموم قاعدة «لا وطي و لا بيع و لا عتق إلّا في ملك»، و في الثالث جمع بين الدليلين، فيصير متعيّنا و إن كان لازمه طرح استصحاب بقاء المال على ملك مالكه الأصلي، لكن لا ضير فيه بعد وجود الدليل الحاكم عليه.

فإن قلت: حكومة الدليلين على الاستصحاب ممنوعة، إذ لا منافاة بينهما بمعنى أنّه ليس مفاد الدليلين مخالفا للأصل، أمّا دليل حلّية التصرّفات فواضح، و أمّا قاعدة «لا عتق و لا بيع و لا وطي إلّا في ملك» فمقتضاها عدم وقوع تلك التصرّفات في غير الملك، و هو يحصل بثبوت الملك قبل هذه التصرّفات آنا ما، و لا يقتضي حصول الملك من حين البيع، فتعيّن القول بثبوت الملكيّة آنا ما قبل هذه التصرّفات، إذ فيه جمع بين الدليلين و الاستصحاب.

قلت: لا شكّ أنّ أهل العرف يفهمون من قولهم: «لا وطي إلّا في ملك»، الملازمة بين حلّية الوطي و الملكية، و أمّا بين فعليته و الملكيّة على التقرير الذي ذكرت، فتدقيق عقلي خارج عن فهم العرف، فثبت دلالة الآية على جميع التقادير على صحّة البيع المعاطاتي و نفوذه.

كتاب

البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 39

و هكذا الكلام في قوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ فإنّه و إن كان استثناء منقطعا، لكنّه في نفسه قضيّة مستقلّة دالّة على جواز الأكل بسبب التجارة، و لا شكّ أنّ البيع المعاطاتي تجارة، و المراد بالأكل ليس هو المضغ، بل مطلق التصرّفات و من جملتها ما يتوقّف على الملك، كالوطي و نحوه، إلى آخر ما ذكر في الآية المتقدّمة.

[الاستدلال بقاعدة التسليط]

و قد يستدلّ للمقام أيضا بقاعدة التسليط: «الناس مسلّطون على أموالهم» و تقريبه: أنّ مقتضى هذه القاعدة ثبوت السلطنة لكلّ أحد على أمواله. بمعنى أنّه يجوز له التصرّف فيها كيفما شاء و لو كان تصرّفه نقلا إلى الغير بالبيع المعاطاتي. و لا شكّ أنّ عدم جواز النقل على هذا الوجه ينافي السلطنة المطلقة.

فإن قلت: المستفاد من القاعدة إنّما هو جواز أنواع التسلّطات التي من جملتها التسلّط على النقل، و أمّا إنّ سبب النقل ماذا؟ فهي ساكتة عنه، فالقاعدة واردة في مقام تشريع نوع التصرّف لا في مقام تشريع الأسباب.

قلت: إذا أنت تسلّمت دلالة هذه القاعدة على مشروعية النوع فلم امتنعت عن دلالتها على مشروعية الصنف، فلو كان مشروعيّة نوع النقل مستفادة من القاعدة كان مشروعيّة النقل على وجه البيع المعاطاتي أيضا كذلك.

لكنّ الذي يمكن أن يقال: هو أنّ القاعدة واردة في مقام تشريع السلطنة على المال لمالكه من حيث إنّه مالكه بعد الفراغ عن مشروعيّة نفس التصرّف و العمل، فيستفاد منها أنّ المالك أحقّ بإعمال التصرّفات المشروعة في ماله من غيره، و ليس لأحد مزاحمته فيها، و له مزاحمة غيره.

فإن قلت: إذا كان مشروعيّة نفس العمل مستفادة من الخارج كانت السلطنة أيضا كذلك، فلا حاجة في إحرازها إلى

القاعدة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 40

قلت: نعم مشروعية نفس العمل مستفادة من الخارج، و لكن لم يعلم أنّها ثابتة للمالك أو لغيره، مثلا مشروعيّة وطي الجارية و عتق الرقبة و نقل المال إلى الغير مستفادة من الخارج، و لكن لم يعلم أنّها ثابتة لمالك المال أم لغيره، فهذه القاعدة مفيدة أنّها للمالك فقط.

فإن قلت: كون السلطنة في هذه الأمور مفوّضة إلى المالك من الواضحات، فلا يصلح تأسيس القاعدة لأجله.

قلت: هذا على تقدير تسليمه ثابت في معدود من التصرّفات، و أمّا كثير منها فلو لا القاعدة كان الأمر فيها مختفيا، و لم يعلم أنّ المختار فيها من هو.

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا- من أنّ القاعدة ليست في مقام تشريع نوع التصرّف و لا صنفه- أنّه لو كانت كذلك للزم أن تكون شاملة لإيذاء المسلم بالسوط و نحوه و وطي العبد و نحوهما من التصرّفات المالية الغير الجائزة، غاية الأمر أن تكون مخصّصة بدليل حرمة تلك التصرّفات و التزامه بعيد في الغاية فثبت عدم تمامية الاستدلال بالقاعدة للمقام.

و بالجملة: فهذه القاعدة قضيّة حيثيّة تتعرّض لحيثيّة المالك، و معناه أنّ المالك مسلّط لا غيره، و لا منافاة بينها و بين أدلّة حرمة التصرّفات الغير الجائزة في المال أصلا، فهي نظير قاعدة «لحم الغنم حلال» فإنّها أيضا تتعرّض لحكم الغنم من حيث إنّه غنم في مقابل الخنزير، يعني أنّه ليس كالخنزير بل لحمه حلال، و لا منافاة بينها و بين أدلّة حرمة بعض لحوم الغنم، كالمغصوب و نحوه.

[الاستدلال بآية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و غيرها من الأدلة]

و يمكن الاستدلال للمقام أيضا بقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» فإنّه

______________________________

(1) المائدة: 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 41

بعمومه يشمل البيع المعاطاتي، فإنّه تعهّد، فإنّ التعهّد فعل القلب، غاية

الأمر إنّه يحتاج إلى المظهر و المظهر في المقام هو الفعل، فيدلّ على وجوب الوفاء بهذا التعهّد المتعلّق بالتمليك، فيدلّ على إمضائه بطريق أولى.

و يمكن الاستدلال أيضا بالسيرة، فإنّا نقطع بجريان سيرة المتشرعة و طريقة المتدينين بهذا الدين في جميع الأعصار و الأمصار، على عدم إجراء الصيغة في معاملاتهم اليومية، و يعاملون مع ما يصير بأيديهم بسببها معاملة الملكيّة، و هذا يكشف كشفا قطعيّا عن اطّلاعهم على رضا الشارع الذي هو رئيسهم بهذا العمل.

و يمكن الاستدلال ببناء العقلاء أيضا، فإنّ قاطبتهم مقدمون على هذا العمل على حسب طبيعتهم و مقتضى جبلّتهم، و يمكن دعوى القطع بأنّ الأمر في زمان النبيّ و الوصيّ أيضا كان كذلك، و هذا بضميمة عدم ردع الشارع يدلّ على رضاه.

و الفرق بين السيرة و بناء العقلاء: أنّ الأوّل طريقة المتديّنين من حيث هم متديّنون كالصلاة و الصوم و نحوهما، و الثاني استقرار طريقة تمام العقلاء من المتديّن و غيره على أمر بمقتضى طبيعتهم و كونهم مجبولين فيه.

و وجه حجّية الأوّل، كشفه القطعي عن رضا المعصوم، ضرورة كشف فعل الرعية عن رضا رئيسهم. و وجه حجّية الثاني، كشفه القطعي بضميمة عدم ردع الشارع عن رضاه، فإنّه لو لم يرض لردع عنه كما ردع عن بيع الربا بالردع الشديد و المنع الأكيد الذي انتشر صيته في تمام العالم، فعدم ردعه دليل على رضاه بفعلهم.

و لا يخفى أنّ الموجود في المقام هو بناء العقلاء، و السيرة المدعاة لا تكون أمرا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 42

آخر ورائه، فلا يصلح عدّهما اثنين.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ ما ذكره المشهور من إفادة البيع المعاطاتي الإباحة إلى أن يتلف أحد العوضين فيصير الثاني مملوكا للآخر، لا

ينطبق على القواعد، لأنّهم إمّا أن يقولوا بدلالة هذه الأدلّة على صحّة هذا البيع، و إمّا أن لا يقولوا بذلك، فعلى الأوّل يلزم القول بالملك، و على الثاني يلزم القول بعدم الإباحة و ضمان التالف بالمثل أو القيمة.

أما عدم الإباحة، فلعدم الإباحة المالكيّة، فإنّ الصادر من المالك إنّما هو التمليك، و هو لم يقع، و عدم الدليل على الإباحة الشرعية.

و أمّا الضمان بالمثل أو القيمة، فلأنّ العوض مقبوض بالقبض الفاسد، نعم لو كان إجماع على ما ادّعوه من الأمور الثلاثة: أعني: عدم حصول الملكيّة من أوّل الأمر، و حصول الإباحة، و حصول الملكية بتلف أحد العوضين أو التصرّف فيه، كان هو الحجّة، و لكن من المعلوم عدمه.

[ما أورده كاشف الغطاء في استلزام قواعد جديدة على القول بالإباحة و إجابة الأنصاري عليها]

اشارة

قال- قدّس سرّه- «و لذا ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد، في مقام الاستبعاد: أنّ القول بالإباحة المجرّدة مع فرض قصد المتعاطيين التمليك و البيع مستلزم لتأسيس قواعد جديدة، منها: أنّ العقود و ما قام مقامها لا تتبع القصود، و منها: أن تكون إرادة التصرّف من المملّكات» إلى قوله: «و المقصود من ذلك كلّه استبعاد هذا القول».

أقول: هنا وجهان يحتمل أن يكون كلّ منهما مراد المشهور:

الأوّل: أن لا يفيد البيع المعاطاتي سوى الإباحة إلى أن يحصل التلف أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 43

التصرف، فيكون كلّ منهما سببا مستقلّا لحصول الملكيّة.

الثاني: أن تكون الملكية الحاصلة من حين التلف أو التصرّف مستندة إلى نفس البيع، فيكون حال التلف و التصرّف حال القبض في المجلس في بيع الصرف في كونه شرطا لتأثير البيع لا مملّكا.

فإن أرادوا الوجه الثاني، لم يخالفوا قاعدة «العقود تابعة للقصود» فإن مقصود المتبايعين ملكيّة كلّ منهما مال الآخر بسبب هذه المعاملة، و هو حاصل.

فإن

قلت: كيف حصل مقصودهما و الحال أنّ من قصدهما حصول الملكيّة من حين البيع، و هو غير حاصل؟

قلت: لا يمكن أن يكون التقيّد بالزمان مأخوذا في الملكيّة، فالسبب- أعني: البيع- يؤثّر عند تمامه، من دون دخل للزمان في شي ء من المؤثّر و الأثر. نعم يبقى ثبوت الإباحة بين البيع و الشرط بلا دليل، فالإشكال وارد عليهم من حيث إنّ ما وقع لم يقصد، لا من حيث إنّ ما قصد لم يقع.

و أمّا سائر الاستبعادات فستّة منها مبتنية على كون التلف أو التصرّف مملّكا، و قد عرفت عدم كونهما مملّكين على هذا الوجه.

نعم الاستبعاد الثالث بعضه وارد، و هو لزوم تعلّق الزكاة و الخمس بغير المال، إلّا أن يلتزم هذا القائل بعدم تعلّقهما ما لم يتلف أحد العوضين أو يتصرّف فيه، و بعضه ليس باستبعاد، و هو لزوم تعلّق الاستطاعة و الدين و النفقات و الميراث بغير المال.

وجه عدم الاستبعاد، أمّا في الثلاثة الأوّل: فهو أنّ المكلّف بالحجّ و أداء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 44

الدين و النفقات هو المتمكّن و لو بإعطاء الغير ماله إيّاه، و ليس المعتبر أن يكون ما به التمكّن مالا لنفس المتمكّن، بل مباح التصرّف له.

و أمّا في الأخير، فهو أنّ الإرث غير مختصّ بالأموال، بل يجري في الحقوق أيضا، فأيّ استبعاد في أن يكون حال الوارث بالنسبة إلى المأخوذ بالمعاطاة حال مورّثه، بأن يباح له التصرّف فيه و يصير ملكا له بالتصرّف فيه أو في عوضه أو تلف العوض؟

و بعضه غير وارد، و هو لزوم تعلّق الوصايا بغير المال، فإنّ الموصى به يصير ملكا للموصي بواسطة التصرّف فيه بالوصيّة، فتكون الوصيّة متعلّقة بالمال.

[في إشارة الأنصاري إلى أمور كثيرة تخلف فيها العقد عن القصد]

قال- قدّس سرّه-: «و ثانيا إنّ

تخلّف العقد عن مقصود المتبايعين كثير، فإنّهم أطبقوا على أنّ عقد المعاوضة إذا كان فاسدا يؤثّر في ضمان كلّ من العوضين بالقيمة» إلى قوله- قدّس سرّه-: «نعم الفرق بين العقود و ما نحن فيه».

أقول: هذه النقوض كلّها مخدوشة: أمّا الأوّل. «1».

و أمّا الثاني: فلأنّ القائل بعدم إفساد الشرط الفاسد للعقد لا يقول:

بتخصيص قاعدة- العقود تابعة للقصود- بهذا المورد، بل يقول: إنّ العقد المتضمّن للشرط ينحل إلى عقدين منفصلين، وقع أحدهما و هو المشروط موافقا لقصد المتعاقدين و فسد الآخر، و هو الشرط و لم يقع أصلا، فلم يتخلّف العقد عن القصد في شي ء منهما فإنّ موضوع القاعدة العقود الصحيحة.

______________________________

(1) كذا في الأصل بياض.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 45

فإن قلت: إنّ مقصود المتعاقدين حصول المبادلة مقرونة بالشرط، و ما وقع ليس كذلك، فحصل التخلّف.

قلت: هذا راجع إلى منع مبني القول بعدم الإفساد، و هو انحلال العقد إلى عقدين، فلازم من منعه القول بالإفساد، و إلّا لزم مخالفة القاعدة المذكورة. و لازم من صحّحه- كالمشهور- هو القول بعدم الإفساد من دون مخالفة للقاعدة أصلا.

و كذا الكلام في النقض الثالث، فإنّ القائل ببطلان العقد بالنسبة إلى ما لا يملك، و صحّته بالنسبة إلى ما يملك، يقول بانحلال البيع إلى بيعين وقع أحدهما على الخنزير مثلا فبطل، و الآخر على الغنم مثلا، فصحّ، و على هذا لا يلزم مخالفة القاعدة أصلا، و يجري هنا أيضا، نظير الإشكال المتقدّم مع جوابه.

و أمّا الرابع، فلأنّ المصنّف- قدّس سرّه- قد استند في صحّة بيع الغاصب لنفسه، و عدم وقوعه باطلا من الأصل: إلى أنّ الغاصب أراد إنشاء البيع جدّا، و معنى البيع مبادلة مال بمال، و مقتضى المبادلة أن ينقل كلّ

من المالين من مالكه الواقعي إلى المالك الواقعي للآخر، فالغاصب قاصد إجمالا أن ينقل الثمن إلى المالك الواقعي للمثمن، غاية الأمر ادّعائه أنّه هو المالك الواقعي للمثمن، و هذا الادّعاء خارج عن العقد، فهو كالفضولي، إلّا أنّ الفضولي يعيّن المالك الواقعي و هذا يبقيه على إجماله. و لا يخفى أنّه بناء على هذا المبنى لا يقع بإجازة المالك هذا البيع إلّا ما قصده المتعاقدان، فعدّه- قدّس سرّه- هذا المورد من موارد النقض لا يستقيم على مختاره.

و أمّا الخامس: فلأنّه إن قلنا: بأنّ الدوام في الدائم وصف وجودي مضاد للأجل في المنقطع، و أنّهما متضادان، غاية الأمر اشتراكهما في مطلق التزويج،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 46

فحينئذ لزم التخلّف، إذ ما قصد و هو المنقطع لم يقع و ما وقع و هو الدائم لم يقصد.

و أمّا إن قلنا: بأنّ الدائم و المنقطع من باب الأقلّ و الأكثر، بمعنى أنّ الدوام ليس أمرا وجوديّا بل هو عبارة عن عدم الأجل و أنّ قصد التزويج المطلق، يصيّر العقد دائما، و لا يحتاج إلى قصد عدم الأجل، إذ العدمي لا يحتاج إلى القصد و الجعل، فلا يلزم التخلّف، إذ المفروض أنّ العاقد قصد التزويج و تلفّظ بلفظه الدال عليه و لم يذكر الأجل، فحصل الدائم لا محالة، لحصول علّته و هو القصد و اللفظ، و أمّا الأجل المقوّم للمنقطع، فهو و إن حصل قصده لكن لم يحصل التلفّظ بلفظه، و عدم حصول المنقطع لأجل عدم التلفّظ بلفظه لا يعد تخلّفا.

[في مختار الأنصاري في المعاطاة و ذكر الوجوه في لزوم المعاطاة ابتداء و عدم لزومها]

اشارة

قال- قدّس سرّه-: «فالقول الثاني: لا يخلو عن قوّة. و عليه فهل هي لازمة ابتداء مطلقا» إلى قوله: «وجوه».

أقول: جواز رجوع كلّ في عوضه يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يكون

ذلك حقّا ثابتا له متعلّقا بنفس العقد، بأن جعل الشارع زمام العقد بيده إن شاء حلّه و إن شاء تركه بحاله، و هذا المعنى هو المقصود في باب الخيارات.

الثاني: أن يكون ذلك حقّا ثابتا له متعلّقا بالعين، فإن شاء يأخذها من الآخر و يدفع عوضها إليه و إن شاء يتركها في يده، أو حكما متعلّقا بها، بأن تكون جائز الاسترجاع، و إن كان على الأوّل مسلّطا على المال أيضا و على الثاني مسلّطا على العقد أيضا، لكن ذلك إنّما يكون بالملازمة و ثانيا و بالعرض.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 47

و يظهر ثمرة الوجهين فيما لو تلفت العين أو انتقلت بنقل لازم. فعلى الأوّل يجوز الرجوع و أخذ البدل- أعني: المثل في المثلي و القيمة في القيمي- لأنّ متعلّق الحقّ هو العقد و هو باق. و على الثاني لا يجوز ذلك، لأنّ موضوع السلطنة أو الجواز و هو العين قد انتفى، فانتفيا بانتفائه، و لا دليل على تعلّقهما بالبدل.

قال- قدّس سرّه-: «أوفقها بالقواعد هو الأوّل، بناء على أصالة اللزوم في الملك، للشكّ في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي».

أقول: فإن قلت: إنّ الشكّ في بقاء الملكيّة بعد فسخ المعاطاة أو ترادّ العين المأخوذة بها مسبّب عن الشكّ في تأثيرهما في زوالها، فالأصل الجاري في الثاني و هو أصالة عدم التأثير، مقدّم على الأصل الجاري في الأوّل، و هو أصالة بقاء الملكيّة، لما تقرّر في محلّه من حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي و إن كان الأصل المحكوم موافقا للأصل الحاكم، مثلا: يقدم الأصل في الملاقي «بالفتح»، سواء كان استصحاب الطهارة أو النجاسة على استصحاب الطهارة في الملاقي «بالكسر». و السرّ في ذلك أنّ الشكّ الذي هو

موضوع للأصل المسببي يزول بواسطة إجراء الأصل السببي.

قلت: إنّ عدم التأثير ليس متيقّنا في زمان من أزمنة وجود الفسخ و التراد، أي مجعوليّتهما، بل الشكّ فيه سار إلى أوّل زمان مجعوليّتهما، فلا يجري الاستصحاب فيه و إن أريد استصحاب العدم الأزلي للتأثير، أعني: عدمه السابق على تحقّق الفسخ أو التراد المذكورين، فهذا أصل مثبت، لأنّه لا بدّ بعد استصحاب هذا العدم من حمله على الموضوع الموجود حتّى يفيد المقصود.

و بالجملة: فاستصحاب المحمول في القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع ليصير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 48

محمولا في القضيّة السالبة بانتفاء المحمول، لا يتمّ إلّا على القول بالأصل المثبت، كما في استصحاب عدم القيام في قولنا: «زيد ليس بقائم»، المقول قبل وجود زيد ليصير محمولا في قولنا «زيد ليس بقائم» المقول بعد وجوده، فعلم أنّ الاستصحاب السببي غير جار في هذا المقام، لأنّ استصحاب عدم التأثير على نحو السالبة بانتفاء المحمول ليس له حالة سابقة، و على نحو السالبة بانتفاء الموضوع أصل مثبت، و قد تقرّر في محلّه أنّه إذا لم يكن الأصل السببي جاريا بنفسه أو لمانع، فلا مانع من إجراء الأصل المسببي.

[في استصحاب الكلي و كون الجواز و الرجوع من الأحكام الشرعية]

قال- قدّس سرّه-: «و دعوى أنّ الثابت هو الملك المشترك بين المتزلزل و المستقر و المفروض انتفاء الفرد الأوّل بعد الرجوع و الفرد الثاني كان مشكوك الحدوث من أوّل الأمر».

أقول: و بالجملة فالمستصحب فيما نحن فيه مردّد بين المقطوع الزوال و المشكوك الحدوث، فهذا نظير استصحاب وجود الحيوان المعلوم وجوده في الدار قبل ذلك بخمسة أيّام، المردّد بين البق و الفيل، فإنّ الأوّل مقطوع الزوال في هذه المدّة و الثاني مشكوك الحدوث من أوّل الأمر.

قال- قدّس سرّه-: «مدفوعة، مضافا إلى آخره».

أقول: حاصل الدفع

يرجع إلى جوابين:

الأوّل: منع كون المقام من قبيل مثال البق و الفيل، فإنّ الملك أمر واحد في جميع الموارد، غاية الأمر إنّه يحكم عليه تارة بجواز الرجوع و أخرى بعدم جوازه.

فإن قلت: اختلاف الحكم يشهد باختلاف الموضوع.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 49

قلت: كما يمكن أن يكون اختلاف الحكم بسبب الاختلاف التبايني في الموضوع بحسب النوع أو الصنف، كذلك يمكن أن يكون بسبب اختلاف أحوال الموضوع الواحد أو أسبابه، كما في قول المولى لعبده: إن جاءك زيد بمصاحبة عمرو فأكرمه، و إن جاءك بمصاحبة بشر فلا تكرمه، فها هنا أيضا إذا كان سبب الملك هو الصيغة فلا يجوز الرجوع، و إذا كان السبب هو التعاطي و الفعل فيجوز.

الثاني: انّه على فرض تسليم كون المقام من ذلك القبيل نقول: لا مانع من الاستصحاب فيما كان من هذا القبيل، إذ الاشكال إنّما يتوجّه لو كان المستصحب هو الفرد، و أمّا لو كان هو الكلّي الجامع، أعني: مطلق الحيوان في المثال و مطلق الملكيّة في المقام، فلا يتوجّه، و لا يخفى أنّ المقصود بالاستصحاب في المقام على هذا التقدير إنّما هو إثبات محفوظيّة الملك الحاصل بالمعاطاة بعد الرجوع، لا إثبات لزومه حتّى يرد بأنّه لا يتمّ إلّا على القول بالأصل المثبت. نعم حيث إنّ الشكّ في بقاء الكلّي راجع إلى الشكّ في اقتضائه للبقاء إلى هذه المدّة، للشكّ في تحقّقه في ضمن الفرد القصير البقاء أو طويلة، فلا مجرى للاستصحاب فيه على رأي المصنّف- قدّس سرّه- من عدم حجّية الاستصحاب مع الشكّ في المقتضي. و أمّا على التحقيق من دلالة أخبار «لا تنقض» على الحجّية في الموارد المزبور، فلا مانع من جريانه.

ثمّ إنّ للسيّد المحشّي- دام ظلّه- هنا

كلاما في تصحيح الاشكال الوارد على القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي الذي من موارده هذا المقام. و ردّ جواب المصنّف- قدّس سرّه- عنه ينبغي التعرّض له ببيانه و بيان ما فيه. فنقول:

أمّا القسم الثاني، فهو عبارة عمّا إذا كان الشكّ في تعيين الفرد الحادث أوّلا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 50

لكونه مردّدا بين القصير و الطويل، و بعبارة أخرى بين المقطوع الزوال و المشكوك الحدوث كما نحن فيه، و كما لو شكّ بعد الغسل مرّة في أنّ النجاسة الحادثة قبله هل هي الدم أو البول.

و أمّا الإشكال: فهو أنّ بقاء القدر المشترك مسبّب عن حدوث الفرد الطويل، و ارتفاعه عن عدم حدوثه، فعند الشكّ يرجع إلى أصالة عدم حدوثه لا إلى أصالة بقاء القدر المشترك.

و أمّا جواب المصنّف- قدّس سرّه-: فهو أنّ ارتفاع القدر المشترك من آثار حدوث القصير لا من آثار عدم حدوث الطويل، و إنّما اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني، و هذا غير ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين، فالشكّ مسبّب عن أنّ الحادث هو الطويل أو القصير، لا عن أنّ الطويل حدث أم لا، و حيث لا أصل في السبب يعيّن أحد الأمرين، فيكون الأصل في المسبب سليما عن الحاكم.

و أمّا ردّ المحشّي- دام ظلّه-: فهو أنّ الأمر في البقاء و الارتفاع كذلك، لكن هذان العنوانان ليسا موضوعين للأحكام، بل الموضوع وجود الكلّي و عدمه، مثلا: وجود الحدث و عدمه موضوعان للأحكام، لا بقاؤه و ارتفاعه من حيث هما هذان العنوانان، فالتعبير بالبقاء يراد به الوجود في الزمان الثاني، و الارتفاع يراد به العدم في الزمان الثاني، و لا

شكّ أنّ وجود الكلّي بوجود الفرد، و انعدامه بعدمه، فإذا حدث ما يزيل أحد الفردين، فالشّك في الوجود ناش عن الشكّ في وجود الفرد الآخر و الأصل عدمه، فيترتّب عليه عدم الكلّي، فثبت أنّ استصحاب الكلّي في القسم الثاني غير جار، لحكومة الأصل السببي عليه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 51

ثمّ استشكل على نفسه: بأنّ أصالة عدم الطويل معارضة بأصالة عدم القصير، فيتساقطان، فيبقى الأصل المسبّبي سالما عن الحاكم.

فأجاب بأنّ أصالة عدم القصير لا يترتّب عليها أثر شرعيّ حتّى يجري و يعارض الأصالة الأخرى.

أقول: لا يتعقّل معنى لقوله: لا يترتّب على هذا الأصل أثر شرعيّ، إذ لا شكّ أنّ عدم القصير إذا انضمّ مع عدم الطويل فيفيدان مجموعا عدم الكلّي، و لهذا لو شكّ في وجود الكلّي يتمسّك بعدمهما مجموعا على عدمه و بوجود أحدهما على وجوده.

فإن قلت: إنّ العلم الإجمالي بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين، ينحلّ إلى علم تفصيلي بعدم القصير، و شكّ بدوي في وجود الطويل، و معه يتمّ ما ذكره المحشّي- مد ظلّه- إلّا أن يدّعي اتّحاد عنواني البقاء و الارتفاع مع عنواني الوجود و العدم.

قلت: نعم هما متغايران مفهوما، و موضوع الآثار هو الثاني، فالمراد بالحدوث هو الوجود في أوّل الأمر و بالبقاء هو الوجود في ثاني الحال، و بالارتفاع هو العدم فيه. لكنّ الانحلال ممنوع إذ العلم الإجمالي الثابت قبل المزيل باق بحاله، و العلم التفصيلي و الشكّ البدوي متعلّقان بما بعد المزيل، فهو نظير ما إذا وقع في واحد معيّن من الإنائين اللذين علم بنجاسة أحدهما لا بعينه نجاسة، أو وقع التطهير على واحد معيّن منهما، أو أتلف، و هذا لا يوجب رفع حكم العلم الإجمالي بالنسبة إلى

الطرف الآخر، و الانحلال الرافع لحكمه ما كان من أوّل الأمر.

و بالجملة: فحال ما بعد المزيل حال ما قبله في احتياج نفي الكلّي حدوثا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 52

إلى نفي فرديه جميعا.

نعم فرق بينهما في مرحلة البقاء، فوجود الكلّي في كلّ آن من آنات من قبل المزيل مسبّب عن وجود أحد فرديه، و عدمه عن عدمهما جميعا، و وجوده في كلّ آن من آنات ما بعده مسبّب عن كون الحادث هو الطويل، و عدمه عن كونه هو القصير، فالأصلان بالنسبة إلى هذا الأثر، أعني: نفي الكلّي حدوثا، متساوية الإقدام، فلا جرم إذا علم بوجود الكلّي في ضمن أحد الفردين لا بعينه- كما هو المفروض في محل البحث- وقع التعارض بين الأصلين، فيتساقطان، فيرجع إلى أصالة بقاء الكلّي. نعم لو فرض عدم التعارض بينهما في مورد، فالمرجع عند حدوث مزيل أحد الفردين إلى أصالة عدم حدوث الطويل، لا أصالة بقاء الكلّي، كما لو شكّ المحدث بالأصغر في تبدّل حدثه بالأكبر- كأن نام و شكّ في الاحتلام- فتوضّأ، فإنّ الأصل الجاري في القصير، أعني: الأصغر، أصالة الوجود، لأنّ الحالة السابقة فيه وجوديّة، و في الطويل، أعني: الأكبر، أصالة العدم، لأنّ الحالة السابقة فيه عدميّة، فلا تعارض بينهما، فيحكم بمقتضى الأصلين (كذا) بكونه محدثا بالأصغر قبل الوضوء، و بمقتضى الأصل الآخر بكونه خاليا عن مطلق الحدث بعده، و لا يجري استصحاب بقاء مطلق الحدث الثابت قبل الوضوء بعده. هذا كلّه بالنسبة إلى هذا الأثر الذي هو محلّ الكلام، أعني: نفي الكلّي.

نعم بالنسبة إلى الآثار الأخر التي ليست محلّا للكلام في هذا المقام يتعقّل معنى لما ذكره، لكن لا مطلقا، بل فيما إذا كان أثر القصير مع

أثر الطويل من قبيل الأقلّ و الأكثر، كما لو تردّد النجاسة الحادثة بين ما يكفي في تطهيره الغسلة الواحدة- كالدم- و ما لا بدّ في تطهيره من غسلتين- كالبول- فغسل الموضع مرّة،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 53

فإنّ وجوب الغسلة الأولى مقطوع تفصيلي، فلا يقصد بالأصل نفيه، و إنّما يقصد به نفي وجوب الغسلة الثانية، و هذا يترتّب على أصالة عدم الطويل، أعني:

البول، لا على أصالة عدم القصير، أعني: الدم. فلا تعارض بين هذين الأصلين في هذا الأثر و إن تعارضا في نفي الكلّي.

ثمّ إنّ حديث الحكومة مسلّم فيما إذا كان الكلّي الجامع من الأمور التي وضعها و رفعها من وظيفة الشارع من حيث إنّه شارع، كالملكيّة و الطهارة و الحدث، فإنّها كما تكون موضوعات لأحكام كذلك تكون أحكاما لموضوعات، فهي و إن كانت أمورا واقعية لا مجعولة للشارع من حيث إنّه كذلك، لكنّ الكشف عنها و بيانها بيده و من وظيفته، و مجرّد ذلك كاف في شمول أخبار لا تنقض لها، فكما تستصحب الطهارة المتيقّنة عند الشكّ في زوالها ليترتّب عليها أحكامها، كذلك تستصحب الخلية المتيقّنة عند الشك في انقلابها بالخمرية لتترتّب عليها الطهارة، فإنّ لهذا الكلّي مرحلتين: مرحلة الحدوث، و مرحلة البقاء.

أمّا الأولى: فهي مسبّبة عن وجود أحد الفردين و عدمهما جميعا، فلو تعارض أصلا عدم القصير و عدم الطويل، بلحاظ العلم الإجمالي- كما فيما نحن فيه- فيكون استصحاب الكلّي بلا حاكم، و لو لم يتعارضا، كان المرجع أصالة عدم الطويل كالمثال المتقدّم. و أمّا مرحلة البقاء فهي مسبّبة عن كون الحادث هو القصير أو الطويل، و حيث لا أصل في السبب يعيّن أحد الأمرين، فيكون استصحاب بقاء الكلّي بلا حاكم.

و أمّا لو

كان الكلّي الجامع من الأمور التي ليس وضعها و رفعها بيد الشارع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 54

و لو بطريق الكشف كالحيوان، فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي في مرحلة الحدوث من دون حكومة لأصالة عدم الطويل عليه، حتّى مع فرض عدم التعارض، فإنّ هذا الأصل حينئذ أصل مثبت، لأنّ ترتّب عدم الكلّي على عدم الفرد ترتّب عقلي. و كذا في مرحلة البقاء، فإنّه لا أصل في السبب يعيّن أحد الأمرين، مع أنّه لو كان لكان أصلا مثبتا، فثبت أنّ القسم الثاني من استصحاب الكلّي جار بلا إشكال. و لعلّ مرجع جواب المصنّف- قدّس سرّه- هو الجواب الذي ذكرنا.

ثمّ إنّ المحشّي- دام ظلّه- بعد هذا الاستشكال ذكر أنّه يمكن استصحاب الفرد، و لا حاجة إلى استصحاب الكلّي، لا بأن يستصحب خصوص الفيل أو خصوص البق، بل بأن يستصحب الفرد الواقعيّ المعلوم عند اللّٰه، المردّد عندنا بين الفيل و البق المشكوك البقاء لاحتمال الفيليّة، ثمّ لا تترتّب الآثار الخاصّة لكلّ من الخصوصيّتين، للجهل بتحقّق موضوعها، بل تترتّب آثار القدر المشترك، لتيقّنها على كل تقدير.

فإن قلت: إذا استصحب الفرد الواقعي بعد حدوث المزيل، ثبت أنّه الفيل، فلا بدّ من ترتيب آثاره.

قلت: نعم، الفيليّة ملازمة لتحقّق الفرد في عالم الكون، لكنّ الاستصحاب لا يفيد أزيد من التعبّد بالأثر الشرعيّ للمستصحب، فإثبات الفيليّة به لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت.

أقول: استصحاب الفرد في المقام معيوب، إذ معنى استصحاب الفرد المردّد أن يكون المستصحب هو الجزئي الخارجي الواقعي بجميع خصوصياته الخارجيّة، بحيث كانت الإشارة في قولنا: هذا مشكوك البقاء، منتهية عند اللّٰه إمّا إلى البق

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 55

و إمّا إلى الفيل، غاية الأمر عدم علمنا

به، و لا شكّ أنّه لا بدّ أن يكون هذا المشار إليه- سواء هذا الفرد أم ذاك- مشكوك البقاء حتى يستصحب، كما لو علم بوجود شخص في الدار و لم يعلم أنّه زيد أم عمرو، فشكّ في الزمان الثاني في بقائه- سواء كان زيدا أم عمرا- و ما نحن فيه ليس كذلك، لأنّ البق مقطوع العدم، و الفيل مشكوك الحدوث، و مشكوكيّة البقاء بعد الفراغ عن الحدوث، فشي ء منهما ليس مشكوك البقاء، فالمشكوك البقاء في المقام منحصر في الجامع المجرّد في نظر العقل عن جميع الخصوصيّات، فثبت صحّة استصحاب الجامع و عدم صحّة استصحاب الفرد.

و أيضا حديث ترتيب أثر الجامع على الفرد المستصحب ليس على إطلاقه، و توضيحه: أنّ ترتيب الأثر على الجامع يتصوّر على نحوين: الأوّل: أن يرتّب عليه بلحاظ وجوده الاستغراقي بحيث يتسرّى الحكم من الكلّي إلى الأفراد على سبيل الاستغراق، و يصير كلّ فرد فرد ذا حكم مستقل، نظير العام الاستغراقي، و ذلك كقول المولى: أكرم العالم، فإنّ معناه أكرم كلّ عالم، نظير قوله أكرم العلماء.

الثاني: أن يرتّب عليه بلحاظ صرف الوجود في مقابل العدم الأزليّ، بحيث لا يتسرّى الحكم إلى الأفراد، بل يعدّ أجنبيّا عنها، فلا يتفاوت الحال بين قلّتها و كثرتها، و ذلك كقول المولى: إن كان الإنسان موجودا في الدار فأعط فقيرا درهما، فوجوب الإعطاء يدور مدار وجوب الإنسان و عدمه، و على تقدير وجوده لا يتفاوت الحال بين وحدة الفرد المتحقّق في ضمنه و تعدّده، فاستصحاب الفرد يوجب التعبّد بالآثار المترتّبة عليه، و الآثار المترتّبة على الجامع بالنحو الأوّل، فإنّها كما عرفت يتسرّى منه إلى الفرد. مثلا لو شكّ في عالمية زيد بعد العلم بها في السابق فيستصحب

و يرتّب عليه وجوب الإكرام المعلّق على عنوان العالم، فيقال: هذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 56

عالم بمقتضى الاستصحاب، و كلّ عالم يجب إكرامه، فهذا يجب إكرامه، بالإشارة إلى الشخص.

و كذا لو قال المولى: يجب على الزوج نفقة زوجته، فشكّ في حياة زيد، يستصحب و يرتّب عليه وجوب النفقة المترتب عليه بتوسّط عنوان الزوج.

لكن استصحاب الفرد لا يوجب التعبّد بالأثر المترتّب على الجامع بالنحو الثاني، فإنّ الجامع و إن كان عين الفرد في الخارج و في عالم التكوين، لكنّ الاستصحاب لا يثمر إلّا التعبّد بأثر المستصحب لا شي ء آخر أجنبيّ عنه في نظر العقل، و إن كان ملازما له في الوجود الخارجي أو عينه فيه.

و أمّا إثبات الجامع بهذا الاستصحاب ثمّ ترتيب أثره عليه، فلا يتمّ إلّا على الأصل المثبت.

فعلم أن ترتيب أثر الجامع باستصحاب الفرد ليس على إطلاقه.

ثمّ إنّا قلنا- تبعا للمصنّف قدّس سرّه- بحسب النظر العرفي: إنّ الملك أمر واحد، و الجواز و اللزوم من أحكامه، لا من خصوصياته المنوّعة أو المقسمة أو المفرّدة.

و قلنا أيضا: إنّ الجواز يتصوّر على نحوين: الأوّل: أن يكون بمعنى جواز فسخ العقد، فيكون حقا متعلّقا به، كما في العقد الخياري. الثاني: أن يكون بمعنى جواز ترادّ العينين لا فسخ العقد، فيكون متعلّقا بالملك، كما في الهبة الجائزة.

لكن للمحشّي الطوسي- قدّس سرّه- هنا كلام ينبغي التعرّض له ببيانه و بيان ما فيه، و هو: انّه لو كان الجواز و اللزوم بمعنى جواز فسخ العقد و عدمه،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 57

فهما في الحقيقة يكونان حكمين متعلّقين بالعقد لا الملك، و لا يلزم إشكال، إذ لا يلزم اختلاف الحكم بدون اختلاف الموضوع، فإنّ الصيغة مثلا موضوع و

حكمه اللزوم، و التعاطي موضوع آخر و حكمه الجواز. و أمّا لو كانا بمعنى جواز ترادّ العينين و عدمه، فيكونان حكمين متعلّقين بالملك، فلا بدّ من القول باختلاف الملك في الخصوصيّات المختلفة في اقتضاء اللزوم و الجواز، فإنّ جعل الموضوع الواحد موردا لحكمين مختلفين، جزاف يمتنع صدوره عن الحكيم تعالى شأنه، و لا يكفي مجرّد اختلاف السبب بدون اختلاف في المسبّب. و أراد بذلك: الإشكال على ما ذكره المصنف- قدّس سرّه- من وحدانية الملك، و كفاية اختلاف السبب في اختلاف حكم المسبب، فصحّحه على الوجه الأوّل، و استشكله على الوجه الثاني بما ذكر.

و محصّل ما أفاده- قدّس سرّه-: لزوم اختلاف الملك على الوجه الثاني باختلاف التبايني الراجع إلى تعدّد وجوده، و عدم كفاية اختلافه في الخصوصيّة الاعتبارية، كالتسبّب عن السبب الخاص في رفع الجزاف.

و أنت خبير بكفايته في ذلك، فيمكن أن يكون الشي ء الواحد موضوعا لحكمين باعتبار عروض صفتين اعتباريتين عليه على التبادل، كما في قول المولى:

إن جاءك زيد بمصاحبة عمرو فأكرمه و إن جاءك بمصاحبة بكر فلا تكرمه، فعلم أنّ وحدة الملك مع اختلاف حكمه لا تلازم الجزاف.

و هذا الاختلاف في الصفة الاعتبارية لا يمنع عن استصحاب الفرد، بأن يقال: إنّ الملك المتسبّب عن المعاطاة لم يعلم أنّه متسبّب عن سبب مقتضاه الجواز، أو عن سبب مقتضاه اللزوم، فهو نظير الحيوان المردّد بين البقّ و الفيل في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 58

أنّ أحد احتماليه مقطوع الزوال و الآخر مشكوك الحدوث، إذ هذا المقدار من الاختلاف مغتفر في باب الاستصحاب، كيف و لو لم يكن مغتفرا لانسدّ باب الاستصحاب رأسا، إذ لا يمكن أن يصير الشي ء مشكوك البقاء مع عدم تغيّر في ذاته

و صفاته أصلا من جهة من الجهات، فالمستصحب لا يمكن انفكاكه عن مثل هذا التفاوت.

[في ذكر الأنصاري الدليل على نفي كون اللزوم و الجواز من الخصوصيات المأخوذة في الملك]

ثمّ إنّ المصنّف- قدّس سرّه- أقام الدليل على نفي كون اللزوم و الجواز من الخصوصيات المأخوذة في الملك، و قال:

(و يدلّ عليه مع أنّ المحسوس بالوجدان)

و بالرجوع إلى العرف،

(أنّ إنشاء الملك في الهبة اللازمة و غيرها)

أي الجائزة

(على نهج واحد)

. و بالجملة: فاللزوم و الجواز ليسا عند العرف قسمين للملك،

(أنّ اللزوم و الجواز لو كانا من خصوصيات الملك، فإمّا أن يكون تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيّتين بجعل المالك، أو بحكم الشارع، فإن كان الأوّل كان اللازم التفصيل بين أقسام التمليك المختلفة بحسب قصد الرجوع و قصد عدمه، أو عدم قصده)

بحيث كان كلّ من اللزوم و الجواز دائرا مدار قصده. و لم يتخلّف عنه،

(و هو بديهي البطلان، إذ لا تأثير لقصد المالك في الرجوع و عدمه)

و إلّا لزم تخلّف العقد عن القصد في كثير من الموارد، فإنّا نقطع بأنّ إنشاء الملك في البيع بالصيغة و المعاطاة على نهج واحد، فكان اللازم على هذا كونهما لازمين، و الحال أنّ الثاني جائز، فيلزم التخلّف فيه، و كذا الهبة اللازمة و الجائزة.

[مدرك قاعدة العقود تابعة للقصود]

(و إن كان الثاني لزم إمضاء الشارع العقد على غير ما قصده المنشئ)

إذ المفروض أنّ ما قصده العاقد هو الملك المطلق، فحصل بعقده قهرا عليه الملك المقيّد بإحدى الخصوصيّتين بجعل الشارع،

(و هو باطل في العقود، لما تقدم أنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 59

العقود المصححة عند الشارع تتبع القصود).

أقول: في هذا الدليل نظر، و توضيح النظر يحتاج إلى بيان مدرك قاعدة «العقود تابعة للقصود».

فاعلم أنّه قد استفيدت هذه القاعدة من قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و قوله- عليه السلام-: «الصلح جائز بين المسلمين» و غيرهما من أدلّة إمضاء العقود، فإنّ معنى إمضاء البيع مثلا و ترويجه «1»:

ترتيب أثره المقصود للمتبايعين عليه، لوضوح أنّ عدم ترتيب الأثر المقصود و ترتيب أثر غير مقصود كعدم الترتيب أصلا، في كونه جعلا لفعل المتبايعين فاسدا، أفترى أن يكون عدم ترتيب ضمان كلّ من العوضين بالآخر- المقصود بالبيع- عليه، و ترتيب الضمان بالمثل أو القيمة عليه إمضاء له؟

و الحاصل: أنّه يستفاد منها أنّ القاعدة في تمام العقود متابعتها للقصود، إلّا ما خرج بالدليل، و حينئذ فلو كان جعل كلّ من اللزوم و الجواز من فعل المتبايعين، و لم يرتّبه الشارع و رتب الآخر، كان ذلك منافيا لتلك الأدلّة. و أمّا لو كان جعلهما بيد الشارع، و كان فعل المتبايعين جعل الملك المطلق فقط، فذلك ترتيب الأثر المقصود و شي ء آخر غير مقصود، و هذا غير مناف للأدلّة، إذ يصدق أنّ الشارع قد أمضى فعل المتبايعين، فترتّب الزيادة غير مضرّ بإمضاء فعلهما.

و قد اختار السيّد المحشّي- دام ظلّه- التفصيل بين النوعين من المعاملة و الصنفين من نوع واحد، ففي الأوّل، جعل اللزوم و الجواز بيد المالك، كالهبة و البيع، إذ من الواضح أنّ العرف يجوّزون الرجوع في الأوّل دون الثاني، و في الثاني

______________________________

(1) و تجويزه: ظ.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 60

بيد الشارع، كالصنفين من البيع المختلفين في الجواز و اللزوم، و هذا المقدار من الاختلاف غير مضرّ بتبعيّة العقود للقصود، و على فرضه فهو خارج من القاعدة بالدليل.

قلت: أمّا كون الاختلاف في النوعين من المعاملة بيد العرف، فمسلّم، لكن ليس منوّعا للملك، إذ ربّما يكون ذلك من باب معرفتهم حكم الملك و أنّه يجوز الرجوع فيه في الهبة و لا يجوز في البيع، لا من باب معرفة قسمه و أنّه ينقسم إلى قسمين: جائز و

هو ما يحصل بالهبة و نحوها، و لازم و هو ما يحصل بالبيع و نحوه، فيكون هذا نظير معرفتهم حكم المبيع المعيب و أنّه يجوز ردّه إلى بائعه.

و أمّا كون الاختلاف في الصنفين من النوع الواحد، كالجواز في المعاطاة بيد الشارع، فيرد عليه أنّه إذا سلّمتم خروج هذا القسم من المعاملة عن تحت عموم أدلّة الإمضاء- و المفروض أنّ إثبات أصل الملك بواسطتها- فمن أين تثبتون أصل الملك بالمعاطاة مثلا؟

فإن قلت: إنّما قلنا بتخصيص هذه الأدلّة بالنسبة إلى خصوصيّة الملك، و أمّا بالنسبة إلى أصله، فلا مانع عن عمومها، فهذا نظير الفرض الثاني من الفرضين اللذين ذكرهما المصنّف- رحمه اللّٰه-، و هو ما إذا كان جعل اللزوم و الجواز بيد الشارع، حيث تسلّمت التفكيك فيه بين أصل الملك، و خصوصيّته، بجعل الأوّل من العاقد و إثباته بهذه الأدلّة، و جعل الثاني من الشارع و إثباته بدليل خارجي.

قلت: من المعلوم أنّ الصادر من العاقد في المقام إنشاء واحد، و هو إنشاء القدر المشترك الخاص، لا إنشاءان، إنشاء القدر المشترك و إنشاء الخصوصيّة، حتّى يقال بعد إلغاء الثاني ببقاء الأوّل تحت العموم، ألا ترى أنّه لو أخبر مخبر

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 61

بوجود الإنسان في الدار، فظهر أنّ الموجود هو البقر، فلا يقال: إنّه صادق بالنسبة إلى القدر المشترك و كاذب بالنسبة إلى الخصوصية، بل يقال: إنّه كاذب في هذا الخبر. نعم لو أخبر بقضيّتين كان مضمون الأولى وجود الحيوان و الثانية كونه هو الإنسان، صحّ التفكيك، و هذا بخلاف الفرض الثاني، فإنّ الصادر من العاقد هناك هو إنشاء القدر المشترك المطلق، و كان إنشاء الخصوصيّة من جانب الشارع ابتداء، هذا.

و الحق ما ذكره المصنّف-

قدّس سرّه- من كون اللزوم و الجواز من أحكام الملك، لا من خصوصياته المأخوذة فيه، و يشهد به الرجوع إلى العرف، و على هذا فالاستصحاب جار هنا بلا إشكال و إن قلنا بعدم جريانه في نحو مثال البقّ و الفيل.

[أدلة لزوم المعاطاة]

[الاستدلال بقاعدة التسليط على لزوم المعاطاة]

اشارة

و قد استدل على لزوم المعاطاة أيضا بقاعدة: «الناس مسلّطون على أموالهم و أنفسهم» حيث إنّ إخراج أحد المتعاطيين المأخوذ بالمعاطاة عن ملك الآخر بالاسترداد أو الفسخ، من دون رضاه و اطّلاعه، مناف لسلطنة الآخر عليه، الثابتة بالقاعدة، و هذا أولى بشمول القاعدة من التصرّفات التي تكون المالية معها محفوظة.

و استشكل عليه: بأنّ القاعدة تقتضي أنّ مال كلّ أحد ما دام مالا له يكون تحت سلطنته، و المفروض فيما نحن فيه أنّ المأخوذ بالمعاطاة يصير بالاسترداد أو الفسخ مالا لغيره. و بعبارة أخرى: اللازم في المقام على تقدير التأثير تخصيص القاعدة بانتفاء الموضوع لا تخصيصها بانتفاء الحكم مع بقاء الموضوع، فارتفاع الحكم لأجل ارتفاع موضوعه، لا لأجل وجود المخصّص.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 62

و أجيب: بأنّ صيرورته مالا للغير مترتّبة على الفسخ أو الاسترداد، حاصلة بعدهما، فحينهما يكون مالا للمالك، فصدق أنّ الغير جعل مال المالك مالا لنفسه، بالاسترداد أو الفسخ قهرا عليه، و عرفت أنّ منافاة هذا لسلطنة المالك أشدّ من غيره.

و الحقّ أن الاستدلال بالقاعدة للمقام غير وجيه، و ذلك، لأنّ الحكم فيها- أعني: الحكم على المال بكونه تحت سلطنة مالكه- حكم حيثيّ، لا حكم فعلي في جميع حالات الموضوع.

و توضيحه: أنّ الحكم في القضيّة الإنشائيّة أو الإخباريّة تارة يكون ناظرا إلى جميع حالات الموضوع و الطوارئ اللاحقة له، و يفهم ذلك إمّا بالقرينة اللفظيّة، كقولك في جميع الحالات، أو الحاليّة، فحينئذ

لو شكّ في ثبوت الحكم للموضوع عند طروّ حالة عليه، يمكن التمسّك في إثباته بتلك القضيّة، لأنّ المفروض أنّ مفادها ثبوت الحكم للموضوع على جميع التقادير و الحالات. و تارة يكون مع قطع النظر عن جميع الطوارئ بحيث يكون مفاد القضيّة: أنّ الموضوع الفلاني لو خلّي و طبعه و من حيث هو حكمه كذا، فلا ينافي هذا اتّصاف الموضوع بضدّ الحكم المذكور لأجل القاسر الخارجي، لأنّ فعليّة هذا الحكم مقصورة على صورة خلوّ الموضوع عمّا يمنعه عن الجريان على مقتضى طبعه، فحينئذ لا يصحّ التمسّك بالقضيّة عند الشك في عروض المانع أو منع العارض، و تسمّى تلك القضيّة قضية حيثيّة، و مثاله في الإنشاءات قوله- عليه السلام-: «لحم الغنم حلال»، فإنّ مفاده أنّه لو خلّي و طبعه و من حيث هو يكون حلالا، بحيث لا ينافيه دليل حرمة الغنم المغصوبة أو الموطوءة للإنسان.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 63

و من هذا القبيل القاعدة المذكورة، فإنّ مفادها أنّ المال من حيث إنّه مال حكمه عدم جواز إدخال الغير إيّاه في ملكه من دون رضا صاحبه، فلا ينافيه كون المعاطاة سببا لجوازه و مانعا عن هذا الاقتضاء حتّى يتمسّك في نفيه بالقاعدة.

و مثاله في الإخبارات قولك: الرجل خير من المرأة، فإنّ مفاده أنّ الرجل من حيث إنّه رجل خير من المرأة من حيث إنّها مرأة، فلو اتّفق كون جميع النسوة في زمان أشرف و أفضل من جميع الرجال لأجل الحيثيات الخارجة، لم يكن منافيا لذلك.

فرع: لو اجتمع عنوانان كان لكلّ منهما حكم حيثيّ و كان الحكمان متضادّين

فلا يخلو: إمّا أن يكون أحد الحكمين اقتضائيا و الآخر لا اقتضائيا، بأن يكون أحدهما الإباحة و الآخر الوجوب أو الحرمة، أو يكون كلاهما اقتضائيا، بأن يكون أحدهما الوجوب و الآخر الحرمة.

فإن كان الأوّل، يقدّم الاقتضائي على اللااقتضائي بحكم العقل، لأنّ المفروض أنّ أحد العنوانين قد حكم عليه بالإباحة لأجل خلوّه عمّا يقتضي وجوبه و حرمته، فهو لا اقتضاء صرف، و الآخر قد حكم عليه بالوجوب أو الحرمة لأجل وجود المصلحة المقتضية للوجوب أو المفسدة المقتضية للحرمة فيه، و لا تعارض بين اللااقتضاء و الاقتضاء بالضرورة.

و كذا يكون الفارق هو العقل لو كانا اقتضائيّين و لكن كان أحدهما بالنسبة إلى الخصوصيات الفردية لا اقتضاء، بأن لا يعيّن دليله خصوص أحد الأفراد، و الآخر اقتضاء كما في مورد اجتماع الأمر و النهي مع ثبوت المندوحة، كالصلاة في الدار الغصبيّة مع التمكن من المكان المباح، فإنّ وجوب الصلاة و حرمة الغصب و إن كانا اقتضائيّين لكنّ الأوّل بالنسبة إلى خصوصيّة هذا الفرد لا اقتضاء، لإمكان الكفاية عنه بغيره، و الثاني اقتضائي، و لا تعارض بين الاقتضاء، لإمكان الكفاية عنه بغيره، و الثاني اقتضائي، و لا تعارض بين الاقتضاء و اللااقتضاء الثابتين في الخصوصيّة الفرديّة أيضا بالضرورة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 64

و من هنا ظهر ضعف ما ذكره بعضهم: من موازنة مصلحة الواجب مع مفسدة الحرام، و ترجيح الأقوى و الأهمّ منهما الشامل بإطلاقه لصورة المندوحة، فإنّ المصلحة و إن كانت أضعاف المفسدة بكثير، لكنّها بالنسبة إلى الخصوصيّة الفرديّة لا اقتضاء، بمعنى إمكان إدراكها و التجنّب عن المفسدة الضعيفة في الفرد الآخر.

و أمّا لو كان كلاهما اقتضائيّا بالنسبة إلى الخصوصيّة الفرديّة، بأن كان الوجوب متعلّقا بجميع الأفراد كالحرمة، أو لم يتمكّن المكلّف إلّا من الفرد الحرام، فحينئذ لا سبيل للعقل إلى ترجيح أحدهما، بل لا بدّ من استفسار الحال من الشرع، فإن دلّ على أقوائيّة مصلحة الواجب أو

مفسدة الحرام في نظر الشارع، و إلّا فالعمل على ما يقتضيه الأصول.

فإن قلت: حيث إنّ المفروض فيما نحن فيه هو الشك في مانعيّة العارض- أعني: حيثية كون المال مأخوذا بالمعاطاة- فيمكن التمسّك بأصالة عدم المانع في إثبات اللزوم.

قلت: فيكون الحاصل أنّ المال في حدّ ذاته بمقتضى القاعدة مقتض لثبوت السلطنة، و المانع مفقود بالأصل، فتكون السلطنة ثابتة بالفعل، فالأثر المقصود ترتّبه على الأصل المذكور فعليّة الحكم الاقتضائي التي هي أثر عقلي لا يتمّ إثباته به إلّا على الأصل المثبت.

[الاستدلال بآية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ على لزوم المعاطاة]

و يمكن أن يستدلّ على اللزوم في المقام بقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» بناء على أنّ العقد بمعنى العهد، فيشمل المعاطاة، حيث يدلّ على لزوم الوفاء

______________________________

(1) المائدة: 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 65

بجميع العقود التي منها المعاطاة، و عدم جواز تصرّف أحد المتعاقدين فيما صار إلى الآخر حتى بعد الفسخ أو الترادّ، فيدلّ على عدم تأثيرهما و نفوذهما.

و يمكن الاشكال فيه، و لا بدّ من تقديم مقال لتوضيح هذا الإشكال.

فاعلم أنّ لتخصيص العمومات عند العرف حدّا فلا يعدّون من ارتكب التخصيص فيها- غير متجاوز عن هذا الحد- لاغيا، فلو قال صاحب البستان المشتمل على أنواع الفواكه لغيره: أدخل بستاني و أذنت لك في أكل كلّ ما شئت من الفواكه إلّا التفاح و الرمان، لا يكون كلامه هزوا و هجنا بخلاف ما لو كان المقصود الإذن في خصوص التفاح، أو فيه و في الرمان، فإنّ اللازم حينئذ التصريح باسمهما، فالتكلّم بالعام ثم إخراج الأفراد منه واحدا بعد واحد حتى لا يبقى غيرهما قبيح مستهجن. فلو رأينا في كلمات الشارع عامّا يوجب حمله على ظاهره، هذا القسم من التخصيص، كان ذلك كاشفا قطعيّا عن أنّه كان

في الكلام قيد متّصل، فسقط و لم يصل إلينا، أو لم يكن و لكن كان الظاهر غير مراد، بل استعمل في غيره ممّا لا يلزم من إرادته هذا التخصيص المستبشع مجازا بالقرينة الحالية المختفية علينا، فيصير ذلك سببا لإجماله و موهونيته من حيث الدلالة و إن كان في غاية الاعتبار من حيث السند، كما في قوله- عليه السلام-: القرعة لكلّ أمر مشكل.

فنقول: إنّ الآية الشريفة من هذا القبيل، فلو حملت على ظاهرها لزم ذلك التخصيص، بل يلزم أن لا يبقى لها مورد أصلا، أو بقي و لكن كان فرضا نادرا بحكم العدم، إذ العقود الفاسدة كثيرة، و أمّا الصحيحة فما منها إلّا يجوز ترك العمل بمقتضاه، إمّا بالفسخ كما في البيوع الخياريّة، أو بالاسترداد كما في الهبة و غيرها من العقود الجائزة و المعاطاة على قول كثير، أو بالإقالة كما في جميعها، أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 66

بالطلاق كما في النكاح، فيمكن أن يكون المراد بها العهود الإلهيّة.

و يمكن أن يقال في دفعه: بأنّ معنى الوفاء بالعقد هو الجري على مقتضاه، فكلّ من المتعاقدين يلتزم بشي ء في ذمّته للآخر، فيصير الآخر ذا حقّ عليه، و لا يبرأ منه حتى يوفّيه و يؤدّيه، فزمام العقد بيدهما، إن شاءا يبقيانه و إن شاءا يفسخانه بإقالة، فبالتقايل ينحلّ العقد و ينعدم، فلا يبقى موضوع للوفاء، فلا يكون عدم وجوب الوفاء بعد التقايل من باب التخصيص و قصر الحكم، بل من باب التخصّص و قصر الموضوع.

و كذا عدم الوجوب في العقود الفاسدة، فإنّها أيضا منحلة، لكن لا بحلّ المتعاقدين بل بحلّ الشارع الذي بيده اختيارهما و اختيار عقدهما، فإنّ حلّ الشارع لم يقصر عن حلّ المتعاقدين لو

لم يكن أعظم منه، ألا ترى أنّه لو عقد مرؤوسان لرئيس واحد و عهدا على أمر فأبطله الرئيس و حلّه، يكون العقد منحلّا عند العرف، فخروج هذه العقود عن الآية أيضا من باب التخصّص لا التخصيص.

و كذا الكلام في العقود المفسوخة بفسخ ذي الخيار، فإنّ الشارع جعل زمام العقد بيده، فيكون حلّه مستندا إلى إذن الشارع، فيكون بمنزلة حلّ الشارع، فينحل به العقد كما ينحلّ بحلّ الشارع.

و بالجملة: ففي هذه الثلاثة (أعني: العقود المفسوخة بالتقايل، و العقود الفاسدة، و العقود المفسوخة بفسخ ذي الخيار) ليس في البين عقد حتى يكون واجب الوفاء، بل انهدم و انعدم بعد ما كان في السابق، و صار كأن لم يكن شيئا موجودا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 67

و أمّا العقود الجائزة كالهبة و نحوها، فلا يبعد أن يقال: بأنّ استرداد العين فيها سبب مستقل للتملّك، نظير حيازة المباحات، فيكون حالها عند الاسترداد كحالها عند انتقال العين إلى مالكها الأصلي بصلح و نحوه، فكما أنّ الصلح لا ينافي الوفاء بالعقد الأوّل بل ربّما يؤكّده، فكذلك الاسترداد، فإذا انتقل المال إلى مالكه الأصلي بالاسترداد حصل الانحلال القهري للعقد لا محالة، فخروج هذه العقود بعد الاسترداد أيضا من باب التخصّص لا التخصيص، فجميع ما زعم كونه تخصيصا ظهر كونه تخصّصا.

لكن يرد على هذا البيان إشكال، و هو: انّه يلزم أن يكون التمسّك بالآية في موارد الشكّ في الصحّة و الفساد، و كذا في موارد الشك في اللزوم و الجواز تمسّكا بالعام في الشبهة المصداقية، للشكّ في أنّ هذا العقد هل صار منحلا بحلّ اللّٰه تعالى أو بحلّ ذي الخيار أو بالاسترداد؟ حتّى لا يكون من مصاديق العام، أم لا حتى يكون منها؟

فإنّ الشك في صدور الحلّ من اللّٰه تعالى أو ممّن هو مختار من قبله، أو كون الاسترداد سببا للتملّك، موجب للشكّ في صدق عنوان العقد على هذا العقد الخاص و عدمه، فيلزم أن تكون الآية غير نافعة في شي ء من المواضع، فإنّ لكلّ عقد مقامين يحتاج إثبات كلّ منهما إلى دليل. الأوّل: الصحّة و الفساد، و الثاني: اللزوم و الجواز، و عرفت أنّ الآية لا تفيد لشي ء منهما.

و يمكن أن يقال: إنّ الأحكام الشرعيّة تتعلّق بما هي مصاديق لموضوعاتها في نظر العرف، فطريق العرف في تشخيص الموضوعات حجّة ما لم يظهر من الشرع تخطئته، فبه نثبت الحكم لكلّ ما أدّى إلى مصداقيّته للموضوع، فإذا نبّه الشارع على خطأ نظر العرف في الحكم بمصداقيّة شي ء، فيصير هذا الشي ء بعد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 68

ذلك عند العرف أجنبيّا عن الموضوع و خارجا عنه من باب التخصّص، و إن كان قبل ذلك معدودا عندهم من أفراده، بحيث كان إخراجه من دون دليل تخصيصا بلا مخصّص، و غير جائز عند الشرع بمقتضى تحكيمه لطريقهم، مثلا أكل المارّة يكون بمقتضى النظر العرفي من الأكل بالباطل، فإذا نبّه الشرع على أنّه ليس باطلا بل يكون حقّا، فيرجع عن اعتقاد دخوله و يبني على خروجه، فيكون إخراجه قبل هذا التنبيه من باب التخصيص و بعده من باب التخصّص.

و كذا البيع الربوي، حيث إنّه محكوم شرعا بالدخول تحت عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و يكون خروجه من باب التخصيص، بمقتضى النظر العرفي الحاكم بكونه بيعا ما لم يثبت تخطئته من الشرع، و أمّا بعده، فيكون خارجا من باب التخصّص.

و كذا الكلام فيما نحن فيه، فكلّ عقد ما دام مشكوك الصحّة أو اللزوم

يصحّ التمسّك بالآية على صحّته أو لزومه، بمقتضى النظر العرفي الحاكم بكونه عقدا، فإذا ورد دليل من الشرع على فساده أو جوازه، يكون خارجا من باب التخصّص لظهور عدم كونه عقدا بالبيان المتقدّم.

ثمّ إنّه قد اشتهر الاستدلال بهذه الآية على اللزوم و عدم تأثير الفسخ و فساده.

و يمكن تقريبه بناء على كون الأمر بالوفاء إرشاديّا، بأن يقال: إنّ مفاد الآية أنّ ما اقتضاه العقود لمّا صار كائنا و واقعا، بحيث لا يزول بفسخ أو استرداد، بل يكونان لغوين بلا فائدة و أثر، فلهذا أوفوا بها كأن تعاملوا مع أعيانكم التي نقلتموها بها إلى غيركم معاملة سائر أمواله، و اتركوا مخالفة الوفاء، كأن تفسخوها أو تنتزعوا الأعيان من يد هذا الغير بقصد رجوع الملك إليكم، لأنّه لغو.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 69

و أمّا بناء على كونه تكليفيا- كما هو الظاهر بل يمكن أن يقال إنّه المتعيّن- لظهور أنّ وجوب الوفاء بمثل نذر الفعل كالتصدّق وجوب تكليفيّ. و دعوى:

إمكان كون الأمر بالنسبة إلى مورد تكليفيا و إلى آخر إرشاديّا، مدفوعة: بأنّ المولويّة في الأمر التكليفي ملحوظة و محفوظة، و لهذا يترتب عليه الثواب و العقاب، و في الإرشادي غير ملحوظة، بل إنّما لاحظ المولى نفسه كأنّها عقل العبد، و لهذا لا يترتبان عليه، و من الواضح عدم إمكان الجمع بين هذين اللحاظين في أمر واحد و لو بالنسبة إلى موردين.

فيمكن أن يخدش فيه: بأنّ غاية ما تدلّ عليه الآية هو وجوب الوفاء و حرمة الفسخ، و قد تقرّر في محلّه أنّ النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد، فيمكن أن يكون الفسخ حراما مؤثّرا، نظير ما لو نهى الوالد عن الفسخ في مورد ثبوته، حيث إنّ الولد

عاص به و لكنّه صحيح مؤثّر. و كذا لو نذر أن لا يفسخ أو حلف عليه.

و يمكن الجواب أوّلا: بدعوى الإجماع القطعي على أنّه كلّما ثبت حقّ الفسخ في مورد لم يكن الفسخ فيه حراما، فحرمته في هذا المقام تدلّ على فساده.

و أمّا التحريم في الصور المذكورة، فهو عارضي من جهة تلك العناوين الثانوية، لا أصلي من جهة نفس الفسخ.

و ثانيا: بأنّ معنى الوفاء بالعقد هو المشي، و العمل الخارجيّ الأركاني على طبق القول، و معنى ترك الوفاء هو العمل و الحركة في الخارج على خلافه، فالوفاء بالوعد و عقد الاخوة هو الإتيان بالموعودية و ترتيب آثار الأخوّة و إتيان لوازمها في الخارج، و عدم الوفاء بهما هو ترك هذا العمل الخارجي، و الوفاء بعقد البيع هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 70

ترتيب البائع آثار سلطنة المشتري للمبيع في الخارج، (أعني: تسليمه إيّاه إلى المشتري بعنوان أنّه ملكه)، و عدم الوفاء هو امتناعه من ذلك أو انتزاعه إيّاه من يد المشتري بعنوان انّه ملك نفسه، و ليس مجرّد البقاء على العقد القلبي و الالتزام الباطني في عقد وفاء به، و لا مجرّد هدمه بل عقد خلافه تركا للوفاء به، فمن رجع عن عقده القلبي في عقد و عقد خلافه، ثمّ رجع إلى الأوّل قبل صدور عمل منه على طبق العقد القلبي الثانوي، فأهل العرف لا يسمّونه بمجرّد ذلك مخالفا للعقد.

فعلم من ذلك أنّ الآية تفيد حرمة العمل الخارجي على خلاف العقد و القول، لا حرمة الفسخ و رفع اليد عن العقد القلبي حتى يرد ما ذكر.

ثمّ إنّ الآية تفيد بإطلاقها حرمة انتزاع كلّ من المتبايعين ما دفعه إلى الآخر من يد الآخر بعنوان أنّه

ملك نفسه دائما حتّى بعد الفسخ، فيستكشف من ذلك حكم وضعي و هو فساد الفسخ، فإنّه لو كان الفسخ مملّكا لما كان الانتزاع محرّما، إذ لا معنى لحرمة انتزاع الملك من يد الغير، فحرمة الانتزاع و عدم مملكيّة الفسخ إمّا متلازمان، فينتقل من الأوّل إلى الثاني كما هو مقتضى القول بمجعوليّة الحكم الوضعي مستقلّا، أو الثاني عين الأوّل كما هو مقتضى القول بتبعيّته للتكليفي.

هذا هو الكلام في الفسخ، و مثله الكلام في الترادّ، فإنّ الآية تدلّ بإطلاقها على وجوب ردّ العين المستردّة إلى الآخر بعنوان أنّه صاحبه، و حرمة إمساكه بعنوان أنّ نفسه مالكه، و هذا معنى فساد التراد، أو ملازم له.

و قد يستشكل على التمسّك بالآية في إثبات اللزوم: بأنّ الأحكام الشرعيّة تدور مدار موضوعاتها حدوثا و بقاء، فيتحقّق الحكم كلّما تحقّق الموضوع و ينتفي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 71

كلّما انتفى، و لا شكّ أنّ الفسخ لو كان مؤثّرا كان العقد منحلّا، فكيف يصحّ التمسّك بالطلاق «أَوْفُوا» مع الشك في تأثير الفسخ؟ و هل هذا إلّا تمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة؟ و التمسّك بإطلاق الحكم فرع إحراز موضوعه، و بالجملة:

فحال العقد حال الأمر، فكما أنّ الأمر يستمر إلى أن ينسخه الآمر، فينقطع حينئذ استمراره و لا يتمسّك بإطلاقه مع اشتباه الحال، فكذا حال العقد بالنسبة إلى الفسخ.

بل يمكن أن يقال: إنّ مفهوم البيع كما يحتاج في حدوثه إلى العقد القلبي و الالتزام من الطرفين، فكذا في بقائه أيضا يحتاج إلى بقاء العقد القلبي من الطرفين و ثباتهما على الالتزام، فمع نكول أحدهما لا بيع حقيقة، لا أنّه لا يعلم أنّه بيع أم لا.

و الجواب: أنّا لا نسلّم كون العقد ممّا يقبل البقاء إن

بنينا على أنّ المعاني الإنشائية توجد باللفظ و القصد، فإنّها على هذا توجد بوجود اللفظ و القصد و تنعدم بانعدامهما، و إنّما الباقي هو آثارها فالآية تفيد أنّ هذا المفهوم الآني الحصول إذا تحقّق يجب الوفاء به دائما- و المفروض في المقام أنّ تحقّقه مقطوع و الشك إنّما هو في ارتفاع حكمه بعد الفسخ- فيتمسّك في بقائه بإطلاق «أَوْفُوا».

و أمّا إن بنينا على ما اخترناه سابقا: من أنّها حالات قائمة بالنفس يكشف منها اللفظ أو الفعل كالبناء و الالتزام القلبي، فهي و إن كانت ممّا تقبل البقاء إلّا أنّ تعليق الحكم على الموضوع القابل للبقاء يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يجعل لبقاء الموضوع مدخل في بقاء الحكم، فكما يكون حدوثه منوطا بحدوثه فكذا يكون بقاؤه أيضا منوطا ببقائه بحيث يكون مرتفعا بارتفاعه،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 72

و ذلك كما في قولك: كلّ كاتب متحرّك الأصابع، فإنّ هذا المحمول يدور مدار الوصف العنواني وجودا و عدما، ففي هذا القسم لا بدّ أوّلا من إحراز بقاء الموضوع بعد حدوثه ثمّ التمسّك في ثبوت الحكم بإطلاق الدليل.

الثاني: أن يجعل بقاء الموضوع ملقى في الحكم بحيث يدور الحكم وجودا مدار حدوث الموضوع و عدما مدار عدم حدوثه من دون مدخليّة للبقاء فيه أصلا، فلا يتفاوت الحال بعد حدوثه بين أن يبقى أو يفنى، و ذلك كما في قولك: الماء المتغيّر نجس، فإنّ النجاسة لا ترتفع بمجرّد زوال التغيّر على المشهور و إن كان حدوثها منوطا بحدوثه، ففي هذا القسم لا حاجة إلى إحراز البقاء، لصحّة التمسّك بإطلاق الدليل لإثبات الحكم عند الشكّ فيه، بل يكفي العلم بأصل الحدوث و إن كان البقاء مقطوع العدم.

فإن قلت: إنّ الظاهر من تعليق

الحكم على الموضوع القابل للبقاء هو أن يكون من قبيل الأوّل، و لو تنزّلنا فلا أقلّ من الاحتمال، و هو كاف في سقوط الاستدلال، فعليك بإثبات أنّ التعليق في الآية من قبيل الثاني.

قلت: القرينة على كونه من هذا القبيل هو أنّ العاقد ما دام عزمه باقيا و بناءه ثابتا لا يصدر منه خلاف الوفاء في الخارج حتّى يؤمر بالوفاء، و إنّما يصدر منه ذلك إذا رفع اليد عن عزمه و رجع عن التزامه و بنائه، فحينئذ يصحّ أمره بالوفاء، و ليس المراد: أنّ خلاف الوفاء لا يعقل انفكاكه عن انحلال العزم القلبي، بل المراد أنّه و إن كان ممكنا مع بقاء العزم لكنّه لا يصدر في الغالب إلّا مع انحلاله، فدلّ هذا على أن ليس المراد بالآية: الأمر بالوفاء و النهي عن خلافه ما دام العزم باقيا و البناء ثابتا، إذ قد عرفت أنّ التخلّف في هذه الصورة قليل جدا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 73

بحيث لا تصلح لورود النهي عنه، بل المراد بها: النهي عن خلاف الوفاء الناشئ عن انهدام العقد و انحلال البناء، فلا تتعرض الآية إلّا لصورة انعدام العقد بعد حدوثه فكيف يكون لبقائه مدخل في الحكم المدلول عليه بالآية، فيصير المحصّل: أنّ العاقد كلّما أراد أن لا يعمل في الخارج على طبق عقده بواسطة ارتفاع بنائه القلبي، فهو مأمور بالمشي على طبقه و منهيّ عن ضده.

ثمّ على الاستدلال بالآية إشكال آخر، و هو: انّها لا تدلّ على وجوب الوفاء بكل عقد دائما بل على حسبه، إن دائما فدائما و إن موقّتا فموقّتا، و المنشئ للملك قد ينشئ الملك الموقّت كما في الإجارة، و قد ينشئ الملك آنا ما على سبيل

الإهمال كما في البيع، فإنّ ملكيّة البائع للثمن و المشتري للمثمن غير مقيّدة بالدوام و لا بزمان معيّن بالضرورة، فيكون الوفاء بالبيع هو ترتيب آثار الملكيّة آنا ما، فكيف يستفاد من الآية وجوب الوفاء بالبيع دائما، حتى يستكشف من شموله لما بعد الفسخ فساد الفسخ و عدم تأثيره.

و توضيح الجواب عن هذا يتوقّف على بيان مقدّمة و هي: أنّ تعلّق الطلب بالطبيعة بحسب مقام الثبوت يكون على أنحاء:

الأوّل: أن يكون بلحاظ صرف الوجود في مقابل العدم الأزلي، بأن يكون المطلوب مجرد إخراجها عن العدم و إدخالها في الوجود، و ذلك كما في قولك:

أعطني الماء، حيث إنّ من المعلوم أنّ المطلوب ليس جميع مياه العالم، بل ما يصدق عليه صرف الوجود، و لازم هذا سقوط الطلب بالمرّة الأولى، لصدق الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف عليها، فلا يكون الإتيان بعدها امتثالا.

الثاني: أن يكون بلحاظ الوجود الساري، بأن تكون الطبيعة مع كونها

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 74

بلحاظ صرف الوجود مطلوبة بلحاظ كلّ وجود أيضا مطلوبة، فهي مع كلّ وجود اعتبرت، اعتبرت بصفة المطلوبيّة لا بدونها، كما أنّ النار بلحاظ كلّ وجود حارّة، و لا تعتبر مع وجود بدون هذه الصفة، و ذلك كما في قولك: تواضع للعالم، فإنّ من المعلوم أن ليس المراد: أوجد هذه الطبيعة فقط، بل المراد: أوجد كلّ فرد فرد منها، فهي بلحاظ كلّ وجود مطلوبة بالاستقلال، و لازم هذا ملاحظة الامتثال و عدمه بالنسبة إلى كلّ فرد فرد.

الثالث: أن يكون بلحاظ عدّة وجودات من حيث المجموع، بأن يكون مورد الطلب و مناط الحكم هو الطبيعة بلحاظ هذا المجموع من حيث المجموع، لا هي بلحاظ صرف الوجود فقط، كقولك: تواضع للعالم، إذا

كان بلحاظ خمسة معيّنين من العلماء مثلا من حيث المجموع، بحيث كان الغرض دائرا مدار تواضع الجميع وجودا و عدما. و الفرق بين هذا و الوجه الأوسط: أنّ الامتثال و عدمه ملحوظان هناك بالنسبة إلى كلّ فرد فرد و هنا بالنسبة إلى المجموع.

و أمّا إنّ أيّ هذه الوجوه هو المستفاد من القضيّة اللفظية التي علّق الحكم فيها على الطبيعة، فالكلام فيه يحتاج إلى بيان أنّ ألفاظ الطبائع و الكلّيات موضوعة لماذا؟

فنقول: المحكي عن السلطان- قدّس سرّه- و قبله المشهور، أنّها موضوعة للطبيعة المهملة، أعني: المعنى المعرّى عن الإطلاق و التقييد، و الوجود ذهنا و خارجا، و العدم، بحيث يصلح لكلّ واحد منها، و لهذا لا يكون قولك: الإنسان موجود بديهيّا، و لا قولك: الإنسان معدوم، تناقضا.

و من الواضح أنّ هذا المعنى الذي لا يقتضي في ذاته وجودا و لا عدما لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 75

يكون منشأ للأحكام و الآثار بالبديهة، فالعقل قاطع بأنّ هذه المعاني بما هي ليست مرادة في تلك القضايا، بل لا بدّ من كون قيد الوجود في البين حتّى تقع الطبيعة مقيّدة به موضوعا للمحمولات، و قد عرفت أنّ تقيّد الماهيّة بالوجود يتصوّر على ثلاثة أنحاء، و لكنّ العقل ساكت في هذه المرحلة عن خصوص واحد معيّن منها، بل حاكم بلا بدّية الوجود في الجملة، فلا بدّ في إثبات واحد معيّن منها من دليل آخر.

فنقول: ما دام لم يكن في اللفظ قيد، و لم يقم في البين قرينة، و بعبارة أخرى:

إذا أحرز مقدّمات الحكمة، فأصالة الإطلاق حاكمة بتعيّن الأقلّ مئونة من هذه الوجوه، و هو كون الطبيعة بلحاظ صرف الوجود موضوعا، فإنّ أصل الوجود اعتباره مفروغ عنه، و اعتبار

كلّ من الوجهين الأخيرين لكثرة مئونتهما يحتاج إلى دلالة زائدة، و أصالة الإطلاق تنفيها، فتعيّن الوجه الأوّل، و لهذا يتبادر عند العرف من إطلاق القضيّة هذا الوجه أيضا.

و ربّما يتبادر الوجه الثاني بمساعدة قرينة المقام، كما في قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ حيث إنّ المتبادر حلّية جميع البيوع لا بيع ما، لكون المقام مقام اللطف و المنّة. و لا يخفى أنّ المناسب له أن تكون الحلّية متعلّقة بجميع البيوع لا ببيع ما أو بيع واحد غير معيّن.

أو بشهادة المناسبة بين الحكم و الموضوع، بأن يكون الحكم بحيث ناسب التصاقه بالموضوع مع أي فرد أعتبر، بلا تفاوت في ذلك بين الأفراد أصلا، كما في قولك: تواضع للعالم، فإنّ المناسبة بين صفة الوجوب و تواضع العالم تقتضي أن يكون اتّصافه بها بلحاظ وجوده الاستغراقي، لا بلحاظ صرف الوجود في مقابل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 76

العدم الأزلي، و لهذا يحكم العرف بحصول الامتثال لكلّ فرد، و لهذا أيضا يفهم العرف من قول المولى: أهن الفاسق، وجوب إهانة كلّ فاسق، لا الاكتفاء بإهانة ما لفاسق ما.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ من باع شيئا و إن كان لم ينشئ إلّا الملكيّة المطلقة لا المقيّدة بزمان خاصّ و لا بالدوام، إلّا أنّه لا شبهة في أنّ تسليمه العين إلى المشتري يعدّ وفاء، و عدم استردادها منه في الزمان الثاني أيضا كذلك، و في الثالث أيضا كذلك و هكذا، و بالجملة: ما دام لم يسترجعها يعدّ موفيا بالبيع، فإذا استرجعها في زمان يعدّ من هذا الحين، مخالفا له، فوجوب الوفاء بالعقد يقتضي أن يكون الوفاء بجميع أفراده و مراتبه- بالغة ما بلغت- واجبا، لا أن يكون وفاء ما به كافيا.

و بالجملة: فالآية الشريفة مساوقة لقول القائل بالفارسية (نامردى نكن و بر طبق گفته خود رفتار كن) و لا شكّ أنّ العرف لا يفهم منه الاكتفاء بفرد ما لهذه الطبيعة، بل يفهم أنّه ما دام يكون لها فرد يكون الإتيان بها واجبا.

نعم لو لم يكن للوفاء بالعقد في مورد أكثر من فرد واحد، كما لو نذر أن يصوم غدا، فانقطاع الوجوب بعد هذا الحين إنّما هو من باب أن لا يكون للطبيعة فرد آخر، فهو من باب قصر الموضوع لا قصر الحكم.

و الحاصل: أنّ المستفاد من الآية هو وجوب أن يسلّم البائع المال إلى المشتري، ثمّ لا يسترجعه منه بعد ذلك بعنوان أنّه ملك نفسه أبدا، فهي نظير «تواضع للعالم» في استفادة أنّ الوجوب ثابت للطبيعة بلحاظ وجوده الاستغراقي، لا بلحاظ صرف الوجود من جهة المناسبة الكائنة بينهما المقتضية لذلك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 77

[الاستدلال بآية لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ على لزوم المعاطاة]

و ممّا يستدلّ به على اللزوم في كلّ مقام شكّ فيه، قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «1» و لا بأس بصرف عنان الكلام إلى تركيب الآية الشريفة قبل الخوض في تقريب الاستدلال و ما فيه من النقض و الإبرام.

فاعلم أنّ اسم «تكون» مستتر فيه راجع: إمّا إلى الأموال، و المعنى إلّا أن تكون أموالا متجورة بها عن تراض، أو أموالا مأخوذة عن تراض، و إمّا إلى المقدّر قبله، و التقدير و المعنى: بجهة من الجهات، إلّا أن تكون جهة التجارة عن تراض، أو جهة كائنة عن تراض. و الظاهر أنّ قوله عَنْ تَرٰاضٍ قيد لقوله تِجٰارَةً خرج به ما ليس كذلك، كبيع المكره.

فإن قلت: كيف و المكره راض بالبيع، باعتبار أنّه

يتوسّل به إلى دفع ما توجّه إليه من الضرر النفسي، أو العرضي أو المالي، نعم لا يكون راضيا بالبيع لو خلّي و طبعه و بعنوانه الأوّلي.

قلت: نعم و لكنّ المراد بالتراضي في الآية رضا خاصّ، يعبّر عنه في العرف بطيب النفس، جمعا بينها و بين قوله- عليه السلام-: لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه، و الدليل على أخصّية طيب النفس من مطلق الرضا: أنّ من أكره على شي ء لا يقال في العرف: إنّه طيّب النفس بالنسبة إلى هذا الشي ء، و لكن يقال: إنّه راض به بعنوانه الثانوي.

و لا يتوهم أنّ طيب النفس عبارة: عن الرضا بالشي ء بعنوانه الأوّلي، لأنّه

______________________________

(1) النساء: 29.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 78

يصدق على الملجإ أنّه أقدم على العمل عن طيب نفس، مع عدم رضاه به بعنوانه الأوّلي.

فإن قلت: على ما ذكرت من كون قوله عَنْ تَرٰاضٍ صفة لقوله تِجٰارَةً يلزم أن يكون مفاد الآية، حصر سبب حلّ أكل مال الغير في التجارة، و من الواضح عدم الانحصار، لأنّ إذن المالك أيضا سبب لحلّ الأكل، فتعيّن أن يكون قوله عَنْ تَرٰاضٍ خبرا بعد خبر، ليكون مفاد الآية أنّ سبب الحلّ منحصر في سببين: التجارة و طيب نفس المالك، و دخول بيع المكره في عموم التجارة غير مضرّ، لأنّه فرد نادر، و الغالب المتداول في البيوع صدورها عن طيب النفس، فيمكن تنزيل قوله تِجٰارَةً على الغالب.

قلت: أكل الشخص مال الغير يكون على نحوين: الأوّل: أن يكون بعنوان أنّه مال مالكه، و الثاني: أن يكون بعنوان أنّه مال نفسه، و الآية متعرّضة للثاني بقرينة المستثنى، و هذا أيضا كان المتداول بين الأعراب في زمان الجاهليّة، حيث ينهبون أموال الناس، و

يتخيّلونها مال أنفسهم، فمفاد الآية أنّ كلّ أكل مال الغير بعنوان المالية لنفس الآكل باطل حرام، إلّا ما كان سببه التجارة عن تراض، فجميع أقسام أكل مال الناس بعنوان ماليّتهم ليس داخلا تحت الجملة المستثنى منها أصلا.

و تقريب الاستدلال: أنّ الآية تدلّ على أنّ جميع أقسام أكل مال الناس بعنوان مالية الآكل- بأيّ سبب كان- ليس جائزا عند الشرع، إلّا قسما من هذا الأكل يكون بسبب التجارة عن تراض، فيكون المحصّل أنّ أسباب جواز تملّك مال الغير، و التصرّف فيه بعنوان المالكيّة منحصرة في التجارة عن تراض، فيفيد أنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 79

ما سوى التجارة من الفسخ و التراد و القمار، و غير ذلك، لا يكون سببا لجواز التملّك، نعم خرج من هذا العموم الفسخ و التراد في موارد ثبوتهما، فهما في غير هذه الموارد داخلان فيه.

ثمّ إنّ المصنّف- قدّس سرّه- عند الاستدلال على اللزوم بقاعدة التسلّط، و خبر «لا يحلّ مال امرئ.» ذكر إشكالا ثمّ نبّه في هذا المقام على عدم جريانه هنا.

أمّا الإشكال: فهو انّ الحكم يبقى ما دام الموضوع باقيا، و القاعدة تفيد أنّ مال الناس ما دام مالا لهم يكون تحت سلطنتهم، و أمّا حين الفسخ و التراد، فيحتمل أن يكون خارجا عن ماليّتهم، و مع هذا الاحتمال لا مجال للتمسّك بالقاعدة، و نظيره الكلام في الخبر، فإنّه يفيد أنّ مال كلّ امرئ ما دام مالا له، لا يكون لغيره السلطنة عليه، و مع الشكّ في تأثير الفسخ و التراد في رفع المالية عنه يقع الشك في بقاء الموضوع، و معه لا مجال للأخذ بعموم الحكم. و الجواب عن هذا الإشكال قد تقدّم سابقا.

و أمّا وجه عدم جريانه

هنا: فهو أنّ الآية تدلّ على أنّ مال الناس ما دام مالا لهم، لا يكون لغيرهم تملّكه بسبب من الأسباب، إلّا بسبب التجارة عن تراض، و هذا صريح في نفي السببيّة للتملّك عن الفسخ و التراد. و لازم هذا أنّ ماليّة الغير محفوظة و لا ترتفع بسببهما.

نعم لو قلنا: بأنّ الفسخ إبطال العقد من الأصل، فيكشف عن عدم صيرورة المال مالا للغير من أوّل الأمر، فمع الشك في تأثيره في إبطال العقد يقع الشك في أصل تحقّق الموضوع، و هو مالية المال للغير، لكن هذا القول ضعيف،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 80

و المختار أنّه إبطال العقد من حينه.

و عبارة المصنّف- قدّس سرّه- في هذا المقام في جميع النسخ هكذا:

(و التوهم المتقدم في السابق جار هنا)

و يقيني أنّ لفظة «غير» سقطت من قلمه الشريف، و ينادى بذلك التعليل الذي ذكره بعد هذه العبارة بلا فصل، بقوله:

(لأنّ حصر مجوّز أكل المال في التجارة إنّما يراد به أكله على أن يكون ملكا للآكل، لا لغيره)

يعني: أنّ حصر مجوز أكل المال في التجارة قرينة على أنّ الآية لا تتعرض إلّا لأكل مال الغير بعنوان المالكيّة له، فمفادها حصر مجوّز هذا القسم من الأكل في التجارة، و هذا يناسب أن يعلّل به عدم الجريان، لا الجريان، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم، هنا إشكال آخر ذكره المصنّف- قدّس سرّه- في مسألة بيع المكره، و هو أنّ دلالة الآية على الحصر ممنوعة، و معه لا مجال للاستدلال بها في المقام.

وجه المنع: أنّ الاستثناء في الآية منقطع، و هو لا يفيد الحصر.

أمّا الأوّل: فلأنّ المستثنى فيها هو التجارة عن تراض، و هو حقّ، فليس من جنس المستثنى منه الذي هو أكل

المال بالباطل.

و أمّا الثاني: فلأنّ أداة الاستثناء في قولك: ما جاءني القوم إلّا حمارا مثلا، لم يخرج من المستثنى منه شيئا، فإنّ الحمار ليس من القوم، بل إنّما استعملت في مقام «لكن» فأتى بها لدفع توهم نشأ من سابقه، فإنّ عدم مجي ء القوم يوهم عدم مجي ء حمارهم، فالكلام مركّب من جملتين مستقلتين خاليتين عن أداة الحصر، كما في قولك: ما جاءني القوم لكن جاءني حمارهم، و عبارة المصنّف- قدّس سرّه- في تلك المسألة في وجه المنع هكذا:

(لأنّ الاستثناء منقطع غير مفرغ)

و الظاهر أنّ قوله

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 81

(غير مفرغ) قيد تقييديّ، و لازمه إمكان كون المستثنى المنقطع مفرغا، و هو غير صحيح، لأنّ المستثنى المفرغ هو الذي لم يذكر المستثنى منه قبله، بل يقدّر قبله عامّ يعمّه، كما في قولك: ما جاءني إلّا حمار، فالتقدير: ما جاءني شي ء إلّا حمار، و لازم هذا أن يكون متّصلا دائما.

و يمكن أن يقال: إنّ الاستثناء في الآية متّصل، فإنّ المنساق من هذه العبارة و نظائرها في العرف هو أن يكون القيد تعليلا للجملة المستثنى منها، لا تقييدا لها، فيكون المستثنى منه في الحقيقة بلا قيد، فيكون معنى قوله لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً أنّ شيئا من أموال الناس لا تأكلوه بوجه أنّه ملككم، فإنّ كلّها أكله بهذا الوجه باطل، إلّا أموالا اشتريتموها منهم، إذ لو كان المراد بالجملة المستثنى منها: أنّ أكل مال الغير بهذا الوجه بالباطل غير جائز، لخرجت عن الإفادة، و كانت من باب توضيح الواضح.

و يظهر الحال بملاحظة نظائر هذه العبارة في العرف، فمنها قول القائل: لا تسمع من الناس أقوالهم المزخرفة إلّا ما تنتفع به، حيث إنّ

المستفاد منها أنّ جميع أقوال الناس مزخرفة، و لهذا لا بدّ أن لا تسمع إلّا أقوالا ينتفع السامع بها، و إلّا فعدم جواز سماع المزخرفات بكليّته غير محتاج إلى البيان.

هذا، مع إمكان منع المقدّمة الثانية، و هو عدم إفادة المستثنى المنقطع الحصر، فإنّا نقطع بأنّ قول القائل: ما جاءني القوم إلّا حمارا، يفيد حصر الجائي في الحمار، و أنّه ليس كجملتين مستقلتين، بل لعلّ الحصر فيه أبلغ من المتصل، حيث إنّ المتكلّم بصدد إفهام أنّه لم يبق شي ء من أفراد جنس المستثنى منه إلّا و تلبّس بالحكم المذكور، حتّى إنّه احتاج في مقام الاستثناء إلى التعدّي من الجنس إلى غير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 82

الجنس.

و بعبارة أخرى: إنّ عدم مجي ء القوم مثلا، لازمه غالبا عدم مجي ء متعلّقاتهم و مربوطاتهم من الكلب و الفرس و الحمار و غير ذلك، فإلقاء كلام مذكور فيه عدم مجيئهم، بمنزلة إلقاء كلام مذكور فيه عدم مجيئهم مع تمام المربوطات بهم صريحا، فكما أنّ استثناء واحد من المربوطات يفيد الحصر في الثاني، فكذا في الأوّل.

و من هنا يشترط في صحّة الاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى مربوطا بالمستثنى منه، و لا يكون أجنبيا صرفا عنه، فيصح قول القائل: ما جاءني القطيع إلّا الكلب، و يستهجن قوله: ما جاءني البختياريون إلّا حمار رجل من الأعراب، و على هذا يكون مرجع المستثنى المنقطع إلى المتصل في اللب.

[الأدلة على عدم لزوم المعاطاة]

اشارة

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 1، ص: 82

[توضيح حال الإجماع على عدم لزوم المعاطاة]

فهذه الأدلّة التي ذكرناها، مقتضية لكون الملك الحاصل بالمعاطاة لازما.

لكن ادّعي الإجماع على عدم لزوم المعاطاة، و جواز رجوع كلّ من المتعاطيين إلى عينه مع بقاء العينين.

و لا بدّ لتوضيح حال هذا الإجماع من بيان طرق حجيّة الإجماع، و وجوه اعتباره على حسب اختلاف الآراء، فقد اختلفت آراء المتقدمين و المتأخّرين في ذلك حتى افترقوا إلى ثلاث فرق:

فمنهم من ذهب إلى أنّ وجه اعتباره اشتماله على قول المعصوم، و هو الحجّة، و ذلك بأن يكون وجوده- عليه السلام- في عداد المجمعين معلوما، و إن لم يعلم شخصه بعينه، بحيث حصل الاطلاع القطعي على رأيه الشريف من الاتفاق، للعلم بكونه من جملة الآراء، كما لو علم اتفاق جميع الأمّة أو جميع علماء الإسلام أو جميع أهل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 83

الحلّ و العقد من أمّة محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم على رأي في زمان، حيث إنّ من المعلوم أنّ المعصوم- عليه السلام- واحد من هؤلاء في ذلك الزمان، لامتناع خلوّ زمان عن وجوده الشريف، فيحصل الاطّلاع القطعي من هذا الاتّفاق على رأيه. و على هذا، فالميزان و المناط هو الاشتمال على قول المعصوم، فالمشتمل عليه حجّة و إن بلغ في القلّة ما بلغ، و الخالي عنه ليس بحجّة و إن بلغ في الكثرة ما بلغ، و لهذا قال المحقّق- قدّس سرّه- في المعتبر: لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجّة، و لو حصل في اثنين كان قولهما حجّة، انتهى. و إن لم

يطلق اسم الإجماع المصطلح إلّا على ما إذا حصل الاتّفاق.

و هذا القسم من الإجماع كما يمكن فرضه بسيطا- كما لو فرض انحصار علماء بلد المدينة في زمان الصادق- عليه السلام- في المائة، فاستفتي رجل لا يعرف الإمام بعينه من تمام المائة، فاتّفقوا على فتوى- كذلك يمكن فرضه مركّبا، كما لو فرض إفتاء خمسين من المائة في المثال بفتوى، و خمسين آخرين بفتوى آخر، غاية الأمر أنّ الثاني يفيد العلم الإجمالي برأي الإمام و التفصيلي بنفي الثالث، و تحصيل هذا القسم من الإجماع و إن كان ممكنا في زمان الحضور كالمثال المذكور، و لكنّه في حال الغيبة قريب من الممتنعات.

و ليعلم أنّ العامّة هم أوّل من أسّس هذا الأصل، و قالوا باعتبار الإجماع و أخذه موضوعا، و داخلا في عداد الأدلّة الشرعيّة، و اعتمدوا في ذلك على ما رووه عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: لا تجتمع أمّتي على خطأ.

و أمّا الخاصّة، فلم يكونوا قائلين بحجّيّته بهذا الوجه، لوضوح عدم وجه لذلك، و لكن لمّا لم يقدروا على مخالفة العامّة، و لم يكن بدّ لهم من متابعتهم،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 84

تابعوهم في ذلك، و لكن لم يجعلوه حجّة من حيث نفسه، و من حيث الموضوعيّة، بل من حيث اشتماله على قول المعصوم- عليه السلام.

و منهم من ذهب إلى اعتباره من باب قاعدة اللطف، و توضيحه: أنّه متى حصل الاتّفاق من جميع أهل عصر واحد على رأي، فإنّا نعلم علما قطعيّا بمطابقة هذا الرأي لحكم اللّٰه الواقعي، و إلّا لزم اجتماع تمام الأمّة على الخطأ، و ارتفاع الحقّ عمّا بينهم، و مقتضى اللطف أن لا يتركهم الإمام بهذا الحال، بل يتوسّل إلى

إلقاء الحق فيما بينهم بأيّ وسيلة كانت، لتمكّنه من ذلك و لو بأن يظهر نفسه لذلك بحيث لا يعرفه أحد.

و هذا الوجه أيضا حسن لو كان مبناه- و هو قاعدة اللطف- صحيحا، فإنّه يحصل العلم عند الاتّفاق البسيط في زمان على حكم- مع عدم ظهور الخلاف بعده بفاصلة قليلة بين المجمعين- بكون هذا الحكم حقّا مطابقا للواقع، كما لو فرض اتفاق تمام أهل العصر على وجوب الدعاء عند الرؤية. و عند الإجماع المركّب من قولين مع عدم حدوث القول الثالث بين المجمعين، بكون الحق دائرا بينهما، غير خارج عنهما، كما لو فرض افتراق تمام أهل العصر إلى طائفتين: قائل بوجوب الدعاء عند الرؤية، و قائل باستحبابه، فيحصل العلم بعدم الحرمة.

لكنّ القاعدة مخدوشة، لأنّ مقتضى اللطف هو نصب الإمام بين الرعيّة، و قد منّ اللّٰه تعالى به على عباده في جميع الأزمنة، لكن إذا ساء حال الرعيّة، و بلغوا في الشقاوة إلى حيث غاب عنهم الإمام خوفا من أذاهم، فارتفعت بذلك عنهم البركات، و انقطعت عنهم الفيوضات، فليس هذا خلاف اللطف من اللّٰه تعالى، بل هو شي ء صنعه الرعيّة بأنفسهم بسوء حالهم، و لا يستند إلّا إليهم، و لا يكون إلّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 85

من جهتهم. فظهر أنّ اختفاء الحقّ بعد ذلك عن تمامهم في مسألة فرعيّة أيضا لا يكون خلاف اللطف، إذ هو ليس بأعظم من سائر الفيوضات المنقطعة عنهم بسوء اختيارهم، فالطريقة المذكورة المنسوبة إلى شيخ الطائفة و من تبعه، فاسدة بفساد مبناها.

و منهم من ذهب إلى اعتباره من باب الحدس و الكشف عن رضا المعصوم.

و توضيحه: أنّه إذا اتّفق جمع كثير و جمّ غفير من العلماء المدقّقين و الفضلاء المتبحّرين-

مع تشتّت آرائهم و كثرة اختلافهم في المواضع الأخر- في مسألة على رأي واحد، فهذا يكشف كشفا قطعيا: إمّا عن وصول شي ء من الإمام- عليه السلام- في ذلك إليهم و لو بطريق الانتقال من صدر إلى صدر، ضرورة كشف فعل الرعيّة عن رضا الرئيس. و إمّا عن وجود حجّة قطعيّة و أصل معتبر على ذلك في أيديهم، بحيث لا يقبل الخدشة أصلا، و إلّا فمقتضى تشتّت آرائهم و تباين مذاقهم هو حدوث الخلاف فيما بينهم في هذه المسألة أيضا لولا أحد الأمرين.

و بالجملة: فالعلم حاصل من طريق الحدس بمعذورية العامل على طبق هذا الحكم، و سلامته عن الهلكة و إن احتمل كونه مخطئا بحسب الواقع، و هذا الإجماع يختلف تحصيلا حسب اختلاف الأشخاص في سرعة التصديق و بطئه، و حسن الظن بالمجمعين و عدمه، فربّما يحصّله شخص من اتفاق و لا يحصّله آخر من هذا الاتفاق بعينه.

و لا إشكال في حصول العلم من هذا الإجماع إذا كان بسيطا، ضرورة أنّه إذا اتّفق جميع كثير من أهل التدقيق و الشعور من العلماء المتبحّرين- المتشتّت مذاهبهم في مسائل كثيرة- على وجوب شي ء مثلا، فيعلم بطريق الحدس أنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 86

وجوب هذا الشي ء إمّا رأي الإمام أو مؤدّى طريق معتبر واجب الاتباع.

و أمّا إذا كان مركّبا، فإن كان معلوما من حال كلّ من الطائفتين أنّه لو ظهر خطأ قوله يذهب إلى قول الأخرى، و لا يختار الثالث، فهذا كالإجماع البسيط على نفي الثالث، فيورث العلم بعدمه، و إن لم يعلم ذلك من حالهم، بل كان اتفاقهم على نفي الثالث تقييديّا و من باب الإفتاء بضدّه بحيث لو سئل عن كلّ من الطائفتين: هل تحتمل

حقيّة الثالث على فرض بطلان مذهبك؟ لقال: نعم، فلا يورث العلم بعدم الثالث، فلهذا لا تعارض مع الأدلّة الدالّة على ثبوته.

إذا عرفت ذلك، فالإجماع فيما نحن فيه من هذا القبيل، إذ كلّ من القائل بالإباحة و القائل بالملك الجائز- لو فرض تصديقه بخطائه و بطلان مذهبه- فلعلّه يذهب إلى الملك اللازم، فنفيه اللزوم إنّما هو من باب الإفتاء بضدّه، بحيث يدوم بدوامه و يزول بزواله. «1».

و قد يتوهّم صحّة الاستدلال على عدم صحّة المعاطاة- فضلا عن أن تكون لازما- بالأخبار الدالّة على نهي النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن بيع المنابزة و الملامسة، و بيع الحصاة، بناء على أحد تفسيريها، و هو أن يكون المراد ما إذا وقع إيجاب البيع بأحد من هذه الأفعال، أعني: إلقاء المبيع، أو ملامسته، أو رميه بالحصاة، فإنّها على هذا مشعرة بأنّ وجه الفساد كون إنشاء البيع بالفعل دون القول.

و فيه مع إمكان أن يكون لهذه الأفعال بخصوصها دخل في الفساد: أنّ هذه الأخبار مجملة، فلا يصحّ الاستدلال بها، إذ كما يحتمل أن يراد بها ما ذكر، يحتمل أيضا أن يراد بها ما إذا قصد تعيين المبيع بهذه الأفعال بعد إنشاء البيع بغيرها،

______________________________

(1) هنا بياض في الأصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 87

فوجه الفساد على هذا هو لزوم الغرر، و لا ربط لها بما نحن فيه.

[الاستدلال بالحديث إنما يحلل الكلام و يحرم الكلام على عدم لزوم المعاطاة أو عدم إباحة التصرف]

و ممّا يستدلّ به على عدم لزوم المعاطاة بل عدم صحّتها و عدم فائدة لها أصلا، قوله- عليه السلام-: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» الوارد في ذيل صنفين من الروايات في مقام التعليل.

الأوّل: ما أورده المصنّف- قدّس سرّه- من رواية خالد بن نجيح أو بخيج أو حجّاج، الواردة في باب

بيع ما ليس عندك قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام-:

الرجل يجيئني فيقول: اشتر لي هذا الثوب و أربحك كذا و كذا. قال- عليه السلام-:

«أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ» قلت: بلى، قال: «لا بأس به، إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» «1».

الثاني: روايات المزارعة، منها ما في التهذيب عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: أنّه سئل عن الرجل يزرع- أرض رجل آخر- فيشترط عليه: ثلثا للبذر، و ثلثا للبقر، فقال: «لا ينبغي أن يسمّي بذرا و لا بقرا، و لكن يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك، و لك منها كذا و كذا، نصف أو ثلث، أو ما كان من شرط، و لا يسمّي بذرا و لا بقرا فإنّما يحرّم الكلام» «2».

حيث يفيد حصر المحلّل و المحرّم في الكلام، ففي كلّ مورد كان المقصود بالعقد أو بالإيقاع، التحليل- كما في عقد النكاح- إنّما يفيده الكلام لا غير، و في كلّ مورد كان المقصود به التحريم- كما في إيقاع الطلاق- إنّما يفيده الكلام لا

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، باب 8، من أبواب أحكام العقود، ص 376، ح 4.

(2) المصدر نفسه: ج 13، باب 8 في أحكام المزارعة و المساقاة، ص 201، ح 10.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 88

غير، و في كلّ مورد يقصد به التحليل و التحريم- كما في عقد البيع- حيث إنّ المقصود تحريم المبيع على البائع، و تحليله على المشتري، إنّما يحصلان بالكلام لا غير، فيفيد أنّ المعاطاة خالية عن الأثر و الفائدة.

ثمّ إنّ المصنّف- قدّس سرّه- ذكر: أنّ هذه الفقرة- مع قطع النظر عن صدر الرواية- تحتمل وجوها

أربعة، بعضها تناسب الصدر، و بعضها لا تناسبه.

الأوّل: أن يكون المراد من الكلام اللفظ مع قطع النظر عن معناه، كما هو المتبادر من هذا اللفظ عند الإطلاق، فيكون المقصود عدم كفاية القصد المجرّد في التحليل و التحريم بدون أمارة عليه أصلا، و لا هو مع أمارة غير لفظية، و هذا الوجه و إن استظهره السيّد المحشّي، لكنّه لا يناسب لصدر إحدى الروايتين، لأنّ هذه الفقرة إنّما وردت تعليلا للجواب.

و على هذا الوجه إنّما يناسب التعليل بها لو كان هنا إيجاب بيع، و كان السؤال عن صحّته من حيث وقوعه بغير اللفظ، حتى يقال في الجواب، إيجاب البيع بغير اللفظ باطل، أو إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام، لا فيما إذا لم يكن في البين إيجاب بيع أصلا، بل كان الواقع هو المقاولة كما هو مفروض السائل في الرواية الأولى، أو كان في البين إيجاب بيع و لكن لم يكن السؤال عن صحّته من الحيث المذكور، بل من حيث وقوعه بلفظ خاصّ، كما هو المفروض في الرواية الثانية.

الثاني: أن يكون المراد من الكلام هو اللفظ بملاحظة مدلوله و معناه، كما يقال: هذا الكلام صحيح أو فاسد، و يكون المعنى: أنّ أنحاء الكلام التي يقصد بسببها النيل إلى غرض واحد تختلف حالها في التحليل و التحريم، يعني إيصال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 89

المتكلّم إلى غرضه و عدم إيصاله إليه، فإنّ المراد التحليل و التحريم الوضعيّان، لا التكليفيان، فبعضها محلّل و بعضها محرّم، ألا ترى أنّ المرأة تقصد بقولها: متعتك نفسي، و بقولها: آجرتك نفسي أو آجرتك بضعي، شيئا واحدا، و هو التزويج، و مع ذلك فالقول الأوّل محلّل موصل لها إلى هذا الشي ء، و القول

الثاني محرّم غير موصل لها إليه، و لا يخفى مناسبة هذا الوجه لروايات المزارعة، لأنّ الإنشاء الخالي عن تسمية البذر و البقر محلّل، و الإنشاء المشتمل عليها محرّم، مع أنّ المقصود فيهما واحد لبّا.

أمّا الرواية الأولى: فقد ذكر المصنّف- قدّس سرّه- أنّه لا يناسبها هذا الوجه، إذ ليس هنا مقصود واحد حتّى يكون تأديته بكلام محلّلا و بآخر محرّما، بل كلام واحد، إن قصد به المقاولة يكون محلّلا و إن قصد به مواجبة البيع يكون محرّما.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الغرض هنا أيضا واحد، و هو ملكية الثوب، فكلام يوصل المتكلّم إلى هذا الغرض و لو بطريق المقدّمية، و هو ما كان بعنوان المقاولة، و كلام آخر لا يوصله إليه، و هو ما كان بعنوان مواجبة البيع. بل يمكن دعوى: أنّ هذا المعنى هو المتبادر من أمثال هذه العبارة في العرف، كما يقال: الكلام يعزّ و يرفع و يجلّل، و الكلام يذلّ و يخفض و يحقّر، فإنّه يفهم منه أنّ من تكلّم في حضور السلطان مثلا لأجل أن يحصل له بذلك عزّة و رفعة و جلالة عنده، فربّ كلام يوصله إلى هذا الغرض و ربّ كلام لا يوصله إليه بل يوصله إلى ضدّه.

الثالث: أن يكون المراد أنّ الكلام باعتبار وجوده محلّل، و باعتبار عدمه محرّم، أو بالعكس، فالأوّل كصيغة النكاح. و الثاني كصيغة الطلاق، و هذا الوجه في غاية البعد، إذ لا شكّ أنّه إذا قيل: الكلام محلّل أو محرّم، أو كلامك مضرّ لي أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 90

مورث للصداع لي، أو الطهارة شرط للصلاة، أو الحدث مانع عنها، أو نحوها ممّا علّق الحكم فيه على الطبيعة، فمفاهيم ألفاظ الكلام و الطهارة

و الحدث و نحوها و إن كانت معاني نسبتها إلى الوجود و العدم على السويّة، لكن المتبادر من تلك القضايا: أنّ هذه الأشياء بلحاظ الوجود كذلك.

الرابع: أن تكون اللام في قوله: «الكلام» في الموضعين للعهد، فالأوّل إشارة إلى المقاولة و الثاني إلى مواجبة البيع.

و يمكن أن يستظهر هنا وجه خامس، مبنيّا على الوجه الثاني، و هو: أن يكون المراد بالكلام هو اللفظ مع مدلوله، بأن يقال: الظاهر من حال السائل أنّه سأل عن بطلان عمله لشبهة نشأت في ذهنه من كون العمل مندرجا تحت عنوان «بيع ما ليس عندك» فأراد الإمام- عليه السلام-: أن يشرح له عمله بحيث يظهر أنّه لا يكون من مصاديق البيع المذكور، فقال: «أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك» يعني أ ليس كلامه غير دالّ على الالتزام بشي ء من التحليل و التحريم، أعني: البناء و التعهد البيعي، يعني كلّما كان الأمر كذلك فلا بأس بالعمل المذكور، و قوله: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» في مقام تعليل هذا الحكم، و معناه أن المحلّلية و المحرّمية وصفان خاصّان بالكلام الدال على التحليل و التحريم، فبعد تحقق هذا الموضوع يبحث عن تحقّقهما و عدمه لا قبله، فالبيع هو الكلام الدالّ على التحليل و التحريم، و النكاح هو الكلام الدالّ على التحليل، و الطلاق هو الكلام الدال على التحريم، و هكذا سائر العقود، و المفروض في المقام عدم دلالة الكلام على التحليل و التحريم، و كونه من باب المقاولة، فلا يكون بيعا فضلا عن أن يكون بيع ما ليس عنده، فلا مجال للشبهة المذكورة، هذا كلّه مع ملاحظة هذه الفقرة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 91

بانفرادها «1».

و أمّا بملاحظتها مع

سائر أجزاء الرواية: فالوجه الأوّل لا يناسبها، لأنّه كما عرفت إنّما يناسب جوابا عن السؤال عن البيع المنشأ بالقصد المجرد أو بالقصد المدلول عليه بغير اللفظ، لا عن المقاولة المذكورة لتوهّم كونها من أفراد بيع ما ليس عنده.

و أمّا الوجه الثاني: فلا يستقيم المعنى معه إذ عليه يكون المحصّل أنّ المقاولة محلّلة و البيع محرّم، و كلاهما فاسد لأنّ المقاولة لا أثر لها شرعا، لا وضعيّا و لا تكليفيا، و أمّا البيع، فهو و إن كان محرّما في نفسه بالتحريم الوضعي، لكنّه ليس محرّما لشي ء، و حرمة التصرّف في المبيع ليس من هذه الجهة، بل من جهة كونه تصرّفا في مال الغير، لبقائه على ملك مالكه، لفساد البيع.

و أمّا الوجه الثالث: فأحد وجهيه- و هو كون الكلام باعتبار الوجود محلّلا و باعتبار العدم محرّما أو بالعكس- يكون من البعد بمكان لا يحتمله أحد.

و أمّا وجهه الآخر، فلا يستقيم المعنى معه، إذ عليه يكون المحصل: أنّ البيع بعد الملك محلّل و قبله محرّم، و قد عرفت أنّ البيع قبل الملك ليس محرّما لشي ء.

و أمّا الوجه الرابع: فالكلام فيه كالكلام في الوجه الثاني، فلا حاجة إلى الإعادة.

______________________________

(1) في الهامش:

تحصيل دوام خواهد و جدّ و طلب پيوسته به روز بحث و تكرار به شب

تقوى و رياضات و عبادات و أدب بي أين همه تحصيل خيالي است عجب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 92

فتعيّن الوجه الخامس الذي ذكرنا، و هو أن يكون المعنى: أنّ المحلّل و المحرّم و إن كانا غير ثابتين فيما نحن فيه، لكنّهما في موارد ثبوتهما إنّما يحصلان بالكلام الدال على التحليل و التحريم، فكلّ مورد كان خاليا عن الكلام بهذا الوصف فلا مجال

لتوهّم كونه مصداقا للمحلّل و المحرّم، و المفروض أنّ ما نحن فيه كذلك، فلا يكون مصداقا لبيع ما ليس عنده، و لهذا لا بأس به، فيكون وصف الموضوع الذي هو الكلام محذوفا، بقرينة دلالة المحمول عليه، لوضوح أنّ الكلام الدال على التحريم لا يصلح للمحلّليّة، و الدال على التحليل لا يصلح للمحرّميّة، و الخالي عن كلتا الدلالتين لا يصلح لشي ء من المحلّلية و المحرّمية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ هذه الفقرة لاشتمالها على كلمة «إنّما» المفيدة للحصر في الجزء الأخير، تفيد: أنّ المحلّل و المحرّم منحصران في الكلام الدال على التحليل و التحريم، فيكون غيره من المعاطاة و نحوها بلا أثر.

لكن يمكن أن يقال: إنّ هذا المعنى لمّا كان بظاهره فاسدا قطعا، لوضوح أنّ رضا المالك المستكشف بغير اللفظ محلّل للتصرّف في ماله، و كذا إرسال التحف و الهدايا محلّل للتصرّف فيها، فلا جرم يلزم ارتكاب خلاف ظاهر، إمّا بأن يحمل الكلام على معناه الظاهري، مع التزام التخصيص بالنسبة إلى الموارد المذكورة، و هذا الوجه يلائم مطلب الخصم من عدم صحّة المعاطاة، إذ له أن يقول: إنّه يقتصر في تخصيص هذا العام بالقدر المتيقن، فيكون عمومها بالنسبة إلى الموارد المشكوكة التي منها المعاطاة بلا معارض.

و إمّا بأن نلتزم بأنّ هذا الكلام مورده أبواب العقود، فعدم شموله لغيرها- كالموارد المذكورة- يكون من باب التخصّص، و هذا أيضا لا يضرّ بمطلب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 93

الخصم كما هو واضح.

و إمّا بأن نلتزم بأن ذكر لفظ الكلام من باب المثال، و الغرض حصر المحلّل و المحرّم في الدال و لو لم يكن أمرا لفظيّا، و تخصيص الكلام من بين الدوالي بالذكر، لكونه أظهرها و أشيعها. و هذا

الوجه مشترك مع الوجه الثاني في كونه تصرّفا في معنى الكلام و صرفا له عن المعنى الظاهري، لكن على هذا لا دلالة في الخبر على أنّ المعاطاة ليس محلّلا و محرّما، لوضوح كونها على هذا داخلا في المحصور فيه، لا خارجا عنه.

و لهذا يصير الخبر مجملا، فلا يعارض العمومات الدالّة على صحّة المعاطاة و لزومها، و وجه إجماله كونه ذا محتملات ثلاثة لا ترجيح لبعضها على بعض. و هذا هو المتعين في ردّ الاستدلال بالخبر، و لا سبيل فيه إلى التمسّك في إخراج المعاطاة عن عموم الخبر بالإجماع القائم على إفادتها الإباحة، إمّا مجرّدة و إمّا في ضمن الملك، و ذلك لإمكان الخدشة في هذا الإجماع، بأن يقال: إنّ الإجماع- بناء على طريقة المتأخّرين من حجيته من باب الحدس و الكشف عن رضا المعصوم- إنّما ينفع لو لم يحتمل الفقيه خطأ المجمعين من جهة الاستناد إلى قواعد مخدوشة في نظره، إذ مع هذا الاحتمال ينتفي الوثوق الذي هو المناط في الحجّية، و الإجماع فيما نحن فيه من هذا القبيل، إذ لعلّ القائل بالإباحة المجرّدة استند فيها إلى أنّ التمليك متضمّن للإباحة، فإذا فسد بقيت الإباحة، و أمّا القائل بالملك، فلعلّه استند إلى العمومات الدالّة عليه. و توهّم كون الخبر مجملا، غير صالح لتخصيصها. و كلاهما مقطوع الفساد.

أمّا الأوّل، فلوضوح أنّ الرضا في ضمن التمليك مقيّد بالملكيّة، فينتفي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 94

بانتفائها.

و بعبارة أخرى: إنّ المالك لما توهم أنّ المال صار مالا للمملّك له بسبب التمليك، فلا محالة رضي بتصرّفه، لا أنّه راض بالتصرّف في ماله.

و أمّا الثاني، فلأنّه بعد ما كان الخبر واضح الدلالة غير مجمل- كما هو مفروض المجيب- فلا مجال

للتمسك بالعمومات، فإذا سقط الإجماع عن الحجّية لذلك، كان مخالفته و تخطئة المجمعين سهلا.

و الإنصاف: أنّ الفقرة المذكورة من حيث المعنى أيضا مجملة، إذ الظاهر منها هو الوجه الأوّل- كما لا يخفى- و هو لا يناسب الصدر كما عرفت.

و باقي الوجوه- حتّى الوجه الأخير- لا يفهمه العرف منها- كما لا يخفى- فتسقط عن الاستدلال بها رأسا.

قال- قدّس سرّه-: (الظاهر أنّ المراد من مواجبة البيع ليس مجرد إعطاء العين للمشتري).

أقول: الإنصاف أنّ إيجاب البيع يشمل الإيجاب الفعلي، الحاصل في المعاطاة، بأن تكون العين حاضرة عنده حين المقاولة، فيقصد بإعطائها إيجاب البيع، نعم لو كان حقيقة في خصوص القولي فقط، أمكن أن يقال: بأنّه لو كان المعاطاة صحيحا لما كان وجه للاقتصار على ذكر البيع بالصيغة، بل كان اللازم أن يقول مثلا: و لا تبعها منه باللفظ أو بالإعطاء.

قوله- قدّس سرّه-: (في نسبة الربح إلى أصل المال).

أقول: تعيين مقدار الربح في بيع المرابحة يكون على نحوين:

الأوّل: أن يكون بتعيين نسبته إلى رأس المال كسرا، كأن يقول مشتري الدار

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 95

بالمائة مثلا: بعتك الدار «بده يازده» يعني: بالمائة مع عشرها.

الثاني: أن يكون بالتصريح بمقداره من دون تعيين نسبته الكسريّة إلى رأس المال، كأن يقول المشتري المذكور: بعتك الدار برأس المال مع ربح العشرة.

و تصوير هذين النحوين في البيع بالصيغة، بالذكر في الصيغة، و في المعاطاة، بالذكر في المقاولة السابقة ثمّ إيقاع المعاطاة مبنيّة عليها.

و لازم الأوّل زيادة الربح و نقيصته بظهور زيادة رأس المال، أو نقيصته بسبب انكشاف خطأ البائع في الإخبار بمقداره. و لازم الثاني عدم ذلك.

ثمّ إنّهم قد اختلفوا في البيع على النحو الأوّل، فقيل: بكراهته، و قيل:

بحرمته، و مستندهم في

ذلك أخبار.

منها: مصحّحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: «قدم لأبي متاع من مصر، فصنع طعاما، و دعا له التجار، فقالوا: نأخذه منك «بده دوازده» قال لهم أبي: و كم يكون ذلك؟ قالوا: في عشرة آلاف ألفين، فقال لهم أبي: فإنّي أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألفا، فباعهم مساومة» «1».

و منها: الرواية التي أوردها المصنّف، قال- قدّس سرّه-: فإنّ ظاهره على ما فهمه بعض الشراح.

أقول: هذا بيان لوجه الإشعار، و توضيحه: أنّ المراد بالمراوضة، هو المواصفة و المقاولة، و الظاهر من قوله- عليه السلام-: «جعله جملة واحدة»، جعله كذلك في نفس البيع، و هذا لا يستقيم في المعاطاة، لأنّه إذا وقعت المراوضة و المقاولة على البيع «بده دوازده» مثلا، ثمّ وقعت المعاطاة بعدها متّصلة بها، فالظاهر ابتناء هذه

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، باب 14 من أبواب أحكام العقود، ص 385، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 96

المعاطاة على هذه المراوضة، و هذا بخلاف البيع بالصيغة، إذ فيه يمكن تبديل ما في المراوضة من نسبة الربح إلى أصل المال بجعل الثمن هو المجموع، فلو كان المعاطاة صحيحا لكان حقّ الكلام أن يقول مثلا: فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة، إمّا في نفس البيع إذا كان باللفظ، و إمّا في المقاولة التي هو مبتن عليها إذا كان بالإعطاء.

و الإنصاف عدم الإشعار، لعدم تعارف هذه التدقيقات في هذه الموارد.

و أمّا الرواية الأخيرة، فالكلام فيه هو الكلام في الرواية الأولى فلا حاجة إلى الإعادة.

و ينبغي التنبيه على أمور:

الأوّل [هل يشترط في المعاطاة بقية شروط البيع]

الكلام في هذا المقام إمّا فيما إذا كان مقصود المتعاطيين التمليك و التملّك، كما اخترناه سابقا، و إمّا فيما إذا كان مقصودهما الإباحة كما اختاره في الجواهر، و على الأوّل، فإمّا أن

يقال بتأثير المعاطاة للملك شرعا، كما هو الموافق للقواعد، و إمّا أن يقال بتأثيرها للإباحة إلى أن يتلف أحد العينين، أو يتصرّف فيه تصرّفا مغيّرا للعين، فحينئذ تؤثر الملك، فيكون حالها في اشتراط تأثيرها للملك بالتلف، أو التصرّف، حال الصرف بالنسبة إلى القبض في المجلس كما هو أحد احتمالي القول بالإباحة. و إمّا أن يقال بعدم تأثيرها للملك، و تأثيرها للإباحة كما هو احتماله الآخر، فها هنا أربعة أقوال:

الأوّل: القول بالملك مع جعل محلّ الكلام ما إذا قصد بالمعاطاة التمليك.

الثاني: القول بالإباحة منجّزا، و بالملك معلّقا على حصول واحد من التلف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 97

و التصرّف مع جعل محل الكلام هو الصورة المذكورة.

الثالث: القول بالإباحة و عدم الملك مع جعل محل الكلام هو الصورة المفروضة أيضا.

الرابع: القول بالإباحة و عدم الملك مع جعل محلّ الكلام هو ما إذا قصد بالمعاطاة الإباحة.

و كيف كان، فهل يعتبر في المعاطاة جميع ما يعتبر في البيع ممّا سوى الصيغة- على جميع تلك الأقوال- أو لا يعتبر كذلك؟ أو هنا تفصيل بين الأقوال؟ توضيح ذلك يحتاج إلى الكلام فيه على كلّ واحد من الأقوال على حدة.

فنقول: أمّا على القول الأوّل، فالظاهر بل المقطوع جريان جميع ما علّق على مفهوم البيع في الكتاب أو السنّة من الأحكام في المعاطاة، ضرورة أنّها على هذا القول بيع عرفي، بل هذا هو المستند لهذا القول، حيث تمسّك له بآية أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، فالقول باندراجها تحت عموم هذه الآية و عدم اندراجها تحت قوله: نهى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن البيع الغرري، أو قوله: البيّعان بالخيار، مجازفة صرفة، بداهة عدم الفرق بين المقامين أصلا، فلو كان هنا أظهرية

في البيع بالصيغة، موجبة لانصراف المطلق إليه عرفا، لكان في كلا المقامين. هذا هو الكلام فيما ثبت للبيع من الأحكام بالدليل اللفظي.

و أمّا ما ثبت له بالإجماع، فيمكن أن يقال بعدم جريانه في المعاطاة، إذ المتيقّن من هذا المفهوم في كلمات المجمعين هو البيع بالصيغة، لعدم كون المعاطاة بيعا عند بعضهم.

و أمّا على القول الثاني: فالكلام فيه كالسابق، إذ هذا القول أيضا مستلزم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 98

لكون المعاطاة بيعا عرفيّا، غاية الأمر اشتراط تأثيرها للملك بحصول أحد الملزمات، كاشتراط تأثير الصرف له بحصول القبض في المجلس، فحالها بالنسبة إلى المطلقات الدالّة على صحّة البيع و المطلقات الدالّة على اشتراطه بشي ء على السواء.

و بالجملة: فحال هذا القول حال القول الأوّل، إلّا أنّ هنا سؤالين: الأوّل:

أنّه ما الدليل على هذا الاشتراط؟ و الثاني: أنّه- على فرض تسليمه- ما الدليل على تأثير هذا البيع للإباحة فيما بينه و بين حصول شرطه؟

و أمّا على القول الثالث: فلا شكّ أنّ المعاطاة بيع فاسد، ضرورة أنّه ليس معنى الفساد كون الشي ء عادم الأثر و بلا فائدة، بل كونه عادما لأثره المقصود منه، و إن كان موضوعا لألف أثر آخر. فالبيع إذا لم يترتّب عليه ما هو المقصود منه من المبادلة يصدق عليه أنّه فاسد، و إن جعله الشارع موضوعا لأثر آخر كالإباحة فيما نحن فيه- لو قلنا بها- و الضمان في البيع الفاسد، و حيث إنّ من المقرّر في محلّه:

أنّ لفظ البيع اسم للمبادلة الواقعية باتفاق العرف و الشرع، و افتراقهما في البيوع الفاسدة- حيث يسمّيها الأوّل بيعا دون الثاني- إنّما هو لأجل رؤية الأوّل إيّاها مبادلة دون الثاني، فمخالفة العرف في ذلك للشرع كمخالفة الأحول لصحيح العين-

حيث يرى الواحد اثنين- في أنّها ليس من جهة أنّ مفهوم اللفظ عنده غير مفهومه عند غيره، بل من جهة تطبيقه الكلّي على ما ليس فردا له، لتوهّم كونه فردا بواسطة الأحوليّة، فلهذا لو أعلمه الشارع الذي هو مقرّ بمولويّته و صحّة نظره:

بأنّ ما توهمه بيعا لا بيع، يصير معترفا بذلك، و يعدّ البيع الفاسد بعد ذلك أجنبيّا عن البيع.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 99

و بالجملة: فالبيع الفاسد لا يكون بيعا عرفيا، فكما لا تفيد الأدلّة اللفظيّة الدالّة على إمضاء البيع و صحّته صحته، بل يكون خارجا عنها من باب التخصّص، فكذا لا تفيد الأدلّة اللفظيّة الدالّة على اشتراط البيع بشي ء، توقف تأثير لأثره الذي يكون له بجعل الشارع على استجماعه لشرائط البيع، بل يكون خارجا عنها أيضا كذلك، ضرورة عدم الفرق في ذلك بين المقامين أصلا.

و لو تنزّلنا عن ذلك، و قلنا: بأنّ البيع الفاسد بيع عرفي، فنقول: إنّ أدلّة اشتراط البيع بل كلّ عقد بشرط، إنّما يفيد اشتراط صحّته بهذا الشرط، و أنّه لا يقع بدونه بوصف الصحّة، و أين هذا من اشتراط أثر جعله الشارع لذات العقد، مجرّدة عن وصفي الصحّة و الفساد بهذا الشرط، فهذا الأثر يترتب عليه و إن وقع فاسدا كما هو واضح.

و لو كان استناد هذا القائل في تأثير المعاطاة الإباحة فيما بينها و بين حصول أحد الملزمات إلى أنّ التمليك مشتمل على الإذن، و أنّه إذا فسد التمليك بقي الإذن، فعدم الاشتراط أوضح، إذ المناط على هذا يكون هو التمليك كيفما حصل و لو خاليا عن جميع شرائط صحّة البيع.

نعم، لو كان استناده في ذلك إلى الدليل اللبّي، كالإجماع و السيرة، فحيث لا لسان للدليل اللّبّي

حتّى يتمسّك بإطلاقه، فمقتضى كون هذا الحكم- أعني:

حصول الإباحة بالمعاطاة مع كون قصد المتعاطيين التمليك- خلاف الأصل، و أنّه يقتصر فيه على المتيقن، الاكتفاء في حصول الإباحة على صورة استجماع المعاطاة لجميع شرائط صحّة البيع ممّا عدا الصيغة.

فإن قلت: يمكن التمسّك بإطلاق لفظ المعاطاة، الواقع في كلمات

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 100

المجمعين، الشامل لصورة الخلو عن الشرائط.

قلت: بل ظاهر كلماتهم هو ما إذا أخلّ بالصيغة مع كون سائر الشرائط محفوظة.

و أمّا على القول الرابع: فلا شكّ في عدم شمول أدلّة اشتراط البيع للمعاطاة، لأنّها على هذا ليس بيعا و إنّما هي معاملة مستقلّة، مفادها الإباحة العوضيّة، فلا بدّ من مراجعة دليل هذه المعاملة، فإن كان دليلها قاعدة التسليط، فيمكن التمسّك بإطلاق هذه القاعدة لعدم اشتراطها بشي ء من شرائط البيع.

و لا يذهب عليك أنّه لا مجرى هنا للإشكال الذي أوردناه سابقا على التمسّك بهذه القاعدة لإفادة المعاطاة المقصود بها التمليك للملك، من أنّ القاعدة إنّما تتعرض لحكم اقتضائي- بعد الفراغ عن كون نفس العمل مشروعا- فمفادها: أنّ العمل لو لم يكن ممنوعا من قبل نفسه فهو من قبل المالك مجوّز و بلا مانع شرعا، لا أنّ للمالك أن يعمل في ملكه ما شاء، فموردها صورة عدم المانع، فمع الشكّ فيه لا مجال للأخذ بإطلاقها.

وجه عدم الجريان: أنّه لا شكّ في أنّ الإباحة الغير المشروطة بإباحة أخرى- سواء وقعت باللفظ أو بالإعطاء أو بالإشارة أو بالكناية أو غير ذلك- مشروعة و مجوّزة.

و أمّا في صورة الاشتراط: فكلّ من المالكين قد أباح ماله للآخر، غاية الأمر أنّه اشترطها بالإباحة من الآخر و جعلها بإزائها، فالشرط و المشروط كلاهما مشروع، و ليس في البين عمل غير مشروع،

فلهذا تنهض القاعدة بإثبات جواز الإباحة المشروطة بإباحة أخرى للمالك، و هذا بخلاف التمليك، فإنّ جوازه بغير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 101

اللفظ و لو في صورة عدم الاشتراط بتمليك آخر غير معلوم من الشرع، فلا تنهض القاعدة بإثبات جواز التمليك بغير اللفظ للمالك، لا منفردا و لا مع اشتراطه بتمليك آخر.

و أمّا إن لم يكن دليلها هذه القاعدة، بأن فرض عدم صحّة التمسّك بها، و كان دليلها الإجماع أو السيرة، فمقتضى القاعدة اشتراطها بجميع شروط البيع، إذ الأصل في كلّ معاملة هو الفساد و عدم التأثير إلى أن يثبت المخرج عن هذا الأصل، و المتيقن خروجه عنه في المقام بواسطة الإجماع أو السيرة، هو صورة استكمال جميع شروط البيع، فيبقى الأصل في غيرها سليما عن المعارض.

ثمّ هذا كلّه إنّما هو فيما لو كان مقصود المتعاطيين إباحة التصرّفات الغير المتوقفة على الملك.

و أمّا لو كان مقصودهما إباحة التصرّفات المتوقّفة على الملك خصوصا أو عموما، فلا شكّ أنّ هذا عمل غير مشروع مخالف لما ثبت في الشرع من عدم تجويز هذه التصرّفات قبل الملك، فلهذا لا تنهض بإثبات جوازه القاعدة المذكورة، بعد ما عرفت من أنّها متعرّضة لحيث تصرف المالك، بعد الفراغ عن مشروعية نفس العمل. نعم يمكن إثباته بالإجماع أو بالسيرة لو ثبت، فيلتزم بحصول الملك القهري آنا ما قبل هذه التصرّفات، جمعا بين الأدلّة، و يكون مقتضى القاعدة حينئذ هو الاشتراط، لأنّ هذا الحكم خلاف الأصل- كما هو واضح- فلا يمكن إثباته في أزيد من صورة اجتماع شروط البيع ممّا عدا الصيغة بالدليل اللّبي.

الأمر الثاني: المعاطاة قد تحصل بالإعطاء من الطرفين

كما هو مقتضى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 102

معناها اللغوي، و حينئذ فقد يقصد إنشاء التمليك، أو الإباحة

بالعوض بإعطاء المعوّض و إنشاء قبولهما بإعطاء العوض، فيكون الأخذ من الطرفين خارجا عن العقد، و قد يقصد إنشاء التمليك أو الإباحة بالعوض بإعطاء المعوض و إنشاء القبول بأخذه، فيكون إعطاء العوض على وجه الإيفاء بالعقد و أخذه على وجه استيفاء الحق، و قد يحصل بالإعطاء من طرف واحد كما فيما وقع منها على وجه النسية، و حينئذ، فيكون الإيجاب بإعطاء المعوّض و القبول بأخذه، فهذه ثلاثة أقسام.

لا إشكال في جوازها على القول الأوّل، ضرورة أنّ صدق البيع عليها عرفا على هذا على السواء، فيكون حالها بالنسبة إلى عمومات صحّة البيع أيضا على السواء. و ليس لفظ المعاطاة في آية أو رواية حتى يكون مفادها لغة هو صورة حصول الإعطاء من الطرفين، فتكون غير هذه الصورة باطلة.

و كذا على القول الثاني، إذ على هذا أيضا يكون صدق البيع عليها عرفا على السواء، غاية الأمر إنّ حالها حال بيع الصرف في اشتراط حصول الملكيّة بها بأمر متأخّر الحصول، فتشملها عمومات صحّة البيع أيضا على السواء.

و أمّا على القول الثالث: فلا شكّ أنّ جميع هذه الأقسام على هذا بيع فاسد، و مقتضى الأصل أن لا يكون لها أثر آخر غير ما قصده المتبايعان عند الشرع أيضا، إلّا أنّه خرج عن هذا الأصل- بالإجماع أو السيرة- صورة حصول الإعطاء من الطرفين قطعا، و أمّا الصورة الأخرى فلم يعلم خروجها، فيحكم فيها بمقتضى الأصل.

لكن الإنصاف: أنّ السيرة لو سلّمت من مدعيها، كما تكون في الصورة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 103

الأولى فكذا تكون في الصورة الثانية بلا فرق.

و أمّا على القول الرابع: فإن قصد المتعاطيان إباحة التصرّفات الغير المتوقّفة على الملك، فحيث إنّه لا فرق في مشروعية الإباحة

بين هذه الأقسام، فيكون شمول قاعدة السلطنة لها أيضا على السواء.

و إن قصدا إباحة التصرّف المتوقّف على الملك، فحيث لا فرق في عدم مشروعية ذلك أيضا بين هذه الأقسام، فهي مشتركة في عدم نهوض القاعدة المذكورة بإثبات جواز أحدها، و لو فرض ثبوت إجماع أو سيرة على إجمال هذه الأقسام، فالمتيقن منهما هو صورة حصول الإعطاء من الطرفين، فيرجع في غيرها إلى الأصل و هو عدم الجواز.

ثمّ يشكل الأمر في موارد لا تشتمل على إعطاء من أحد الطرفين أصلا كما تعارف من شرب الماء من موضع السقي و وضع الفلس في الموضع المعدّ له، و دخول الحمام و وضع الأجرة في الموضع المعدّ لها، بل ما تعارف بينهم من الاكتفاء في معاملاتهم بصرف المقاولة المشتملة على تعيين سعر المتاع و الأمر بإرسال مقدار معيّن منه، من دون صدور لفظ دالّ على الإيجاب و القبول أو إعطاء في مجلس المقاولة، بحيث يكون إرسال المتاع إلى صاحب الفلس و إرسال الفلس إلى صاحب المتاع بعد انقضاء المجلس بعنوان الوفاء بهذه المقاولة و العمل على طبقها، حيث إنّ تلك الموارد لا يمكن إدخالها في شي ء من أبواب العقود من البيع و الصلح و الإجارة و نحوها، لخلوّها عن الإيجاب و القبول رأسا.

و يمكن تصحيحها- مع عدم صدق شي ء من تلك العناوين عليها- بأن يقال: لا شكّ أنّ الظاهر من قوله- عليه السّلام-: لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 104

نفسه، هو حصول الحلّية بمجرّد طيب النفس، و أنّه لا دخل لأمر آخر في ذلك أصلا، فإنّ الظاهر من الاستثناء في كلّ مقام هو ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى، إن إثباتا فنفيا،

و إن نفيا فإثباتا، و حكم المستثنى منه في المقام هو عدم حصول الحلّية، فيكون حكم المستثنى هو حصولها، و ليس معنى هذه القضيّة أنّ لطيب النفس دخلا في حصول الحلّية، و أنّه بحيث لا تحصل الحلّية بدونها، حتى لا ينافي ذلك، لاعتبار ألف أمر آخر في حصولها، و إن ذكر ذلك المصنّف- قدّس سرّه- في الرد على من استدلّ بهذا الخبر على صحّة العقد الفضولي بلا حاجة إلى لحوق الإجازة فيما إذا قارنه الرضا الباطني من المالك واقعا.

ألا ترى أنّ معنى قول القائل: لا أجيئك إلّا بواسطة زيد، أنّه بعد حصول هذه الواسطة ليس لي حالة منتظرة، غاية الأمر الالتزام باعتبار وجود المظهر في أبواب العقود، للعلم القطعي بعدم كفاية مجرّد الرضا الباطني في باب النكاح، فكذا في غيره، فيصير المحصّل: أنّ طيب النفس مع المظهر- بأيّ نحو وقع- يفيد الحلّية بهذا النحو، فإن وقع على أن يتصرّف في ماله على أن يكون مالا لمالكه يصير حلالا بهذا النحو، و إن وقع على أن يتصرّف فيه على أن يكون مالا للمتصرّف إمّا مجانا أو مع العوض، يصير حلالا بهذا النحو، و حاصل ذلك هو كفاية المراضاة مع نصب أمارة عليها في حصول المعاملة و إن لم يكن في البين إنشاء تمليك و تملّك أصلا. و لا شكّ أنّ الأمارة على الرضا من كلّ من المالكين بالمعاملة الخاصّة في تلك الموارد قائمة. فثبت أنّ هذه المعاملات صحيحة مع عدم صدق البيع عليها.

الأمر الثالث: لا إشكال في تمييز البائع عن المشتري في البيع بالصيغة

و أنّ البائع هو القائل: «بعت» و المشتري هو القائل: اشتريت أو قبلت.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 105

و أمّا تمييزهما في المعاطاة، فقبل التكلّم فيه لا بدّ من تمييز مفهوم البائع عن

مفهوم المشتري بحسب مقام الثبوت.

فنقول: لا شكّ أنّ البائع هو من يملك ماله للغير بالعوض، و المشتري هو من يقبل هذا الفعل، فالفعل الأوّلى للبائع هو التمليك بالعوض، و إن كان يشتمل على التملّك ضمنا، و الفعل الأوّلي للمشتري هو القبول و التملّك، و إن كان يشتمل على التمليك ضمنا.

و أمّا الكلام في تشخيص مصداق هذين المفهومين في المعاطاة، و أنّ كلّا منهما ينطبق على أيّ المتعاطيين، فهو أن يقال: أمّا فيما إذا كان أحد العوضين مسكوكا و الآخر جنسا، فلا شكّ أنّ التعارف قاضٍ بأنّ معطي المسكوك متملّك و معطي الجنس مملّك، و هذه الأمارة قويّة بحيث يكون عند إعطاء المسكوك قبل الجنس أيضا قائمة، فلا يقال: باع المسكوك و اشتراه بالحنطة، بل يقال: باع الحنطة و اشتراها بالمسكوك.

و أمّا فيما إذا كان كلا العوضين مسكوكا- كما في الصرف- أو جنسا، فهل المعطي أوّلا هو البائع و المعطي ثانيا هو المشتري، أو الحال مجهول مع كون أحدهما في الواقع بائعا و الآخر مشتريا أو ليس في البين بائع و لا مشتر واقعا، بل حصل تمليكان من المالكين، كلّ منهما في عرض الآخر، وجوه.

ربّما يؤيّد الأخير منها أنّ من المتعارف أنّ المبدّل للحنطة بالشعير مثلا لو سئل عنه: هل بعت الحنطة؟ يقول: «نفروختم بلكه تاخت زدم به جو» و على هذا فيكون هذا القسم من المعاطاة معاوضة مستقلّة، غير داخلة في شي ء من العناوين المتعارفة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 106

و احتمل المصنّف- قدّس سرّه- أن يكون كلّ منهما بائعا و مشتريا باعتبارين.

و فيه نظر، لأنّه إن أراد أنّ التمليك و التملّك قد حصلا من كلّ واحد، بحيث يكون كلّ منهما في عرض الآخر، فهذا

غير ممكن، ضرورة عدم إمكان حصول هذين العنوانين بفعل واحد في عرض واحد.

و إن أراد أنّ كلّا منهما حصل من كلّ منهما، لكن حصول أحدهما أوّلا و بالذات و الآخر ثانيا و بالعرض، فهذا حال كلّ بائع و مشتر و لا اختصاص له بالمقام، فما وجه تخصيص هذا الاحتمال به.

الأمر الرابع: المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين تتصوّر على أنحاء، ترتقي إلى ستّة عشر نحوا:

الأوّل: أن يقصد تمليك المال بالمال، بأن يكون المالان متقابلين في الملكيّة.

الثاني: أن يقصد التمليك بإزاء التمليك، فتكون المقابلة بين التمليكين لا المالين.

و جعل المصنّف- قدّس سرّه- ثمرة الوجهين في الإيجاب و القبول، حيث إنّ الإيجاب في الأوّل بإعطاء المعوّض و القبول بأخذه، فلو مات قبل إعطاء العوض مات بعد تمام العقد، و في الثاني يكون الإيجاب بإعطاء المعوّض و القبول بإعطاء العوض، فلو مات قبله مات قبل تمام العقد.

و فيه نظر، إذ كما يتصوّر في الأوّل كون القبول بأخذ المعوّض، يتصوّر كونه بإعطاء العوض كما هو واضح.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 107

و أمّا الثاني فإن كان التمليك المجعول عوضا هو التمليك الخارجي بخارجيته، فلازمه عدم تمامية العقد قبل وجوده، فلا محالة يكون القبول بالإعطاء، و إن كان هو التمليك بالعهدة، فالقبول حينئذ بالأخذ لا بالإعطاء، إذ التعهّد إنّما هو بالأوّل دون الثاني، فإنّ الثاني خروج عن العهدة، كما هو واضح.

و بالجملة: يكون حال المعاطاة حينئذ حال الإجارة، فكما أنّ هناك يحصل تملّك الأجرة و العمل على العهدة قبل حصول العمل، فكذا هنا يحصل تملك المال و التمليك على العهدة قبل حصول التمليك. فعلم عدم الفرق في ذلك بين الوجهين.

الثالث: أن يقصد المقابلة بين المال و التمليك.

الرابع: أن يقصد المقابلة بين التمليك و المال.

هذا في المعاطاة المقصود بها التمليك من الطرفين، و أمّا المعاطاة

المقصود بها الإباحة من طرف واحد أو من الطرفين، فلها صور متعدّدة تحصل من ملاحظة كلّ من التمليك و تمليك المال مع كل من الإباحة و المال في المباحية، و من ملاحظة كلّ من الإباحة و إباحة المال مع كلّ من الإباحة، و المال في المباحية، و المال في الملكيّة.

و كيف كان، فالمهمّ بيان حكم تلك الأقسام، فنقول: أمّا صور المعاطاة المقصود بها التمليك من الطرفين: فلا إشكال في صحّة الصورة الأولى منها، سواء قصد القبول بالأخذ أو بالإعطاء، لأنّها بيع عرفا فتشملها أدلّة صحّة البيع.

و أمّا باقي الصور، فلا إشكال في عدم كونها بيعا، لأنّها ليست مبادلة مال بمال، و لا هبة، لأنّها ليست تمليكا مجانيا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 108

نعم لو كان التعويض بنحو الاشتراط لم يناف المجانية، كما في الهبة المعوّضة، فتكون حينئذ من أفراد الهبة، فتشملها أدلّتها، و لا صلحا، لأنّها ليس عنوانها الأوّلي هو التسالم، غاية الأمر كون متعلّقه هو التمليك بل عنوانها الأوّلي هو التمليك.

و بالجملة: فلا إشكال في عدم شمول أدلّة تلك الثلاثة لها، فيمكن التمسّك لها بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، بناء على عدم انصرافه إلى العقود المتعارفة.

و كذا بعموم: المؤمنون عند شروطهم، بناء على عدم اختصاصه بالشروط في ضمن العقد، و عمومه للشروط الابتدائية.

و أمّا صور المعاطاة المقصود بها الإباحة من طرف واحد أو من الطرفين، فيشكل الأمر فيها من حيث اشتمالها على إباحة جميع التصرّفات حتى المتوقّفة على الملك، فلا بدّ لتصحيحها من الالتزام إمّا بثبوت الإباحة الشرعية لجميع التصرّفات بسبب الإباحة المالكيّة، و حصول الملكيّة القهريّة آنا ما قبل هذه التصرّفات، و من الواضح عدم دليل على هذه الإباحة الشرعيّة، و أمّا قاعدة السلطنة فهي

على ما عرفت غير مشرّعة.

أو بأن يقال: إنّ مقصود المبيح من قوله: أبحت لك أن تتصرف في مالي، توكيل المباح له في نقل المال إلى نفسه قبل هذه التصرّفات حتى تكون واقعة في ملكه، أو توكيله في إيقاع البيع للمالك ثمّ نقل الثمن إلى نفسه، أو تمليكه ماله لكن من حين إرادة أحد هذه التصرفات، و يكون المباح له بواسطة هذه التصرّفات قابلًا لهذا التمليك.

و الالتزام بواحد من هذه الثلاثة أيضا غير ممكن، إذ من المعلوم عدم قصد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 109

المتعاطيين في تلك الصور لشي ء من هذه المقاصد.

هذا و لكن ظاهرهم عدم ورود مثل هذا الإشكال في مثل: أعتق عبدك عنّي، حيث صحّحوه بأنّ استدعاء العتق لما لم يكن صحيحا شرعا قبل الملك، فلهذا يكون مفاده بدلالة الاقتضاء: استدعاء التمليك ثمّ العتق، فهذا الاستدعاء تملّك و العتق الصادر من المالك بعد ذلك تمليك ضمني، كما أنّ تصرّف ذي الخيار فسخ ضمنيّ.

و أنت خبير بعدم الفرق بين المقامين أصلا، فلو كان دلالة الاقتضاء في الثاني مسلّمة، فلا بدّ أن تكون كذلك في الأوّل أيضا، فيقال: ترخيص العتق و البيع مثلا لما لم يكن صحيحا شرعا قبل الملك، فلهذا يكون مفاده بدلالة الاقتضاء أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة، بأن يقال مثلا: إنّ المبيح قد ملك المباح له المال المقيد بحين إرادة أحد هذه التصرّفات بواسطة هذا الترخيص بدلالة الاقتضاء، و المباح له بقبوله لهذا الترخيص قابل لهذا الإنشاء، و ليس هذا من التعليق المبطل في شي ء، و إنّما يكون منه لو كان التعليق في نفس الملكيّة، لا فيما لو كان في متعلّقها و هو المال، كما ذكروه في الوكالة: من أنّ تعليق نفسها على

أمر متوقّع الحصول مبطل لها، و تعليق متعلّقها غير مبطل، و إن كان و لا بدّ من منع هذه الدلالة في الأوّل، فلا بدّ من اطراده في الثاني، ضرورة عدم تعقّل فرق بينهما، فتخصيص الأوّل بالإشكال و فرض الثاني سليما عنه- كما وقع في كلام المصنّف قدّس سرّه- ممّا لا وجه له.

فالكلام في المقام تارة في الاستدعاء المذكور، و أخرى في الإباحة المذكورة.

أمّا الكلام في الأوّل: فهو أنّه إن بنينا على أنّ مفاد قوله: لا عتق إلّا في ملك، أنّه لا بدّ أن يكون من ينسب إليه العتق مالكا، سواء أجرى الصيغة بنفسه أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 110

بوكيله، و أمّا المعتق عنه، فيمكن أن يكون غيره، فيكون حال اشتغال الذمّة بتحرير الرقبة حال اشتغال الذمّة بالدين، فكما يؤثّر في رفع الثاني أداء الغير تبرّعا، كذلك يؤثّر في رفع الأوّل تحرير الغير تبرّعا، فالاستدعاء المذكور على طبق القاعدة.

و أمّا ما ذكروه: من حصول الملك آنا ما ثمّ الانعتاق في مسألة شراء العمودين، فليس من جهة لزوم كون المعتق عنه مالكا، بل من جهة الجمع بين القاعدتين المسلمتين، و رفع المنافاة عمّا بينهما، أعني: قاعدتي صحّة شرائهما، و نفي الملك عنهما بحمل الأوّل على إثبات الملك آنا ما، و الثاني على نفي الملك المستقرّ.

و إن بنينا على أنّ معناه أنّه لا يثمر العتق في رفع اشتغال الذمّة بالتحرير إلّا في ملك، و أنّ مفاده لزوم كون المعتق عنه مالكا، فحال مسألة الاستدعاء حال مسألة الإباحة بلا فرق، فإنّ صحّحنا الأوّل، بأنّ قول المستدعي: أعتق عبدك عنّي- لكونه حكيما لا يصدر منه الكلام الباطل- بمنزلة قوله: ملّكني إيّاه ثمّ أعتقه عنّي، فلا بدّ أن نصحّح

الثاني أيضا، بأنّ قول المبيح: أبحت لك جميع التصرفات، أو فعله الدال على ذلك- لكونه حكيما كذلك- بمنزلة قوله ملّكتك هذا المال عند ارادة التصرّف المتوقّف على الملك، و إن أبطلنا الأوّل بمنع الدلالة المذكورة، لأنّ الغالب كون المتكلّم غير حكيم، فلا بدّ أن نبطل الثاني أيضا لذلك.

و إن بنينا على أنّ معناه: أنّه لا بدّ أن يكون من ينسب إليه العتق مالكا للعتق و من بيده اختياره، سواء كان مالكا للعبد أو وكيله أو مأذونا من قبله. و أمّا المعتق عنه، فمسكوت عنه، فاستدعاء العتق من مالك العبد عن المستدعي صحيح شرعا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 111

و الظاهر من هذه الثلاثة هو المعنى الأوّل. و عليه فقد عرفت أنّ الاستدعاء صحيح من دون حاجة إلى ما ذكروه.

و أمّا الكلام في الثاني: فيتوقّف على بيان الحال في كلّ من العتق و البيع و الوطي، فنقول:

أمّا العتق: فلا يصحّ من المباح له على الاحتمال الأوّل، لظهور أنّه هو الذي ينسب إليه العتق و ليس بمالك.

و لا ينتقض بالوكيل، فإنّ الوكيل بمنزلة لسان المالك، فعتقه ينسب حقيقة إلى المالك، و هذا بخلاف المأذون، فإنّ عتقه لا ينسب إلّا إلى نفسه.

و أمّا على الاحتمال الثاني: فلا يصحّ أيضا إن كان عن نفسه، و يصحّ إن كان عن المالك.

و أمّا على الاحتمال الثالث: فيصحّ و إن كان عن نفسه، ضرورة أنّه صار مالكا للعتق بإباحة المالك.

و أمّا البيع فإن قلنا: بأنّ مفهومه المعاوضة، و مقتضى المعاوضة دخول كلّ من العوضين في ملك من خرج عن ملكه الآخر، و أنّه لا يعقل تحقّق هذا المفهوم بدون ذلك، فبيع المباح له إن كان للمالك يقع صحيحا للمالك، بمقتضى الإجازة السابقة،

و إن كان لنفسه، فهو أمر غير معقول، نعم لو كان في البين دليل خاص قويّ على وقوعه للمباح له، فلا بدّ للجمع بين هذا الدليل و تلك القاعدة العقليّة من القول بحصول الملك القهري آنا ما قبل البيع.

و إن قلنا بأنّ المعتبر في مفهوم البيع عدم المجانيّة و أنّ تملّك الولد أو الأخ أو الصديق مثلا عوض أيضا، فالبيع على أن يكون الثمن لأحدهم لا يكون مجانا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 112

نعم إطلاق البيع ينصرف إلى دخول كلّ من العوضين في ملك مالك الآخر، فحينئذ فبيع المباح له لنفسه، صحيح لأنّه من أفراد البيع، و المفروض أنّ المالك قد أذن فيه.

فعلم أنّ قوله: «لا بيع إلّا في ملك» لا ربط له بالمقام، إذ على الأوّل يكون الحكم هو الفساد، للقاعدة المذكورة و إن لم يكن هذا الخبر في البين، و على الثاني يكون الحكم هو الصحّة لما ذكر، من دون منافاتها لهذا الخبر، لأنّ المأذون من قبل المالك يجوز بيعه بلا خلاف.

و لكنّ المصنّف- قدّس سرّه- مع كون مبناه هو الأوّل قد صحّح بيع البائع الفضولي لنفسه كالغاصب، و حكم بانحلاله إلى قصد البيع الذي حقيقته نقل كلّ من المالين من كلّ من المالكين الواقعيين إلى الآخر و إلى ادّعاء المالكيّة، فحكم بأنّ لحوق الإجازة يجعله للمالك.

و لا يخفى أنّه لو سلم ذلك، فلا فرق بين ذلك البيع و بين المعاطاة التي يقصد بها إباحة جميع التصرّفات، التي منها بيع المباح له لنفسه، فكما ينحل الأوّل فكذا تنحل الإباحة المذكورة أيضا إلى إباحة أصل البيع و إلى إباحة كونه لنفسه، و كذا ينحل بيع المباح له لنفسه إلى قصد أصل البيع و إلى

قصد وقوعه لنفسه، فكلّ من الإباحة و القصد المتعلّقين بوقوعه لنفسه باطل، فيؤخذ بالإباحة و القصد المتعلّقين بأصل البيع، فيقع البيع للمالك بإذنه.

و الحقّ: أنّ الانحلال في المسألة الأولى ممنوع، إذ من الواضح أنّ الفضولي المذكور لم يصدر منه إلّا قصد واحد، متعلّق بمتعلّق خاص غير معقول، و هو البيع لنفسه، و لهذا إن تعلّق الإجازة بنفس ذلك، فقد تعلّقت بأمر غير معقول، و إن تعلّقت بالبيع للمالك، فقد تعلّقت بأمر أجنبي عمّا وقع و قصد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 113

و كذا الكلام في المسألة الثانية، فإنّ المبيح لم يقصد إلّا شيئا واحدا و هو إباحة بيع المباح له لنفسه، و المباح له أيضا لم يقصد إلّا شيئا واحدا و هو إنشاء البيع لنفسه، فكلاهما متعلّق بأمر غير معقول، فيلغيان، فإذا أوقع البيع للمبيح فلا بدّ من الإجازة الجديدة.

نعم على المبنى الثاني، فمصداق البيع قد تحقّق في كلتا المسألتين، فالإجازة اللاحقة المتعلّقة بالبيع للفضولي مصحّحة في الأولى، و الإباحة المتقدّمة مصحّحة في الثانية كما مرّ.

و أمّا الوطي: فإن قلنا بعدم لزوم الصيغة الخاصّة في تحليل وطي الأمة، و كفاية مطلق المراضاة و لو كانت مستكشفة بالأمارة المعاطاتيّة، فلا إشكال، ضرورة أنّ التحليل أحد مجوّزات وطي الأمة، كما أنّه لو قلنا بلزوم صيغة «حلّلت» فلا إشكال أيضا في عدم محلّلية الإباحة المذكورة للوطي.

الأمر الخامس: في جريان المعاطاة في سائر العقود.

و محصّل الكلام فيه أنّه لا إشكال في إمكان المعاطاة في سائر العقود كما في البيع و لا في صدق عناوين تلك العقود على ما كان منها بالمعاطاة، كما كان باللفظ بلا فرق، و مقتضى ذلك دلالة أدلّة صحّة تلك العقود- كالإجارة و الهبة و الصلح و نحوها- على صحّة المعاطاة فيها.

نعم،

استثنوا من ذلك عقد النكاح، فحكموا بعدم جريان المعاطاة فيه.

ثمّ إن أخذنا بالقواعد المتقدّمة الدالّة على لزوم مطلق المعاطاة، فلا كلام، و إن أخذنا بالإجماع المتقدّم على جوازه، فيلزم القول بعدم جريانها في الرهن، لأنّ الرهن وثيقة في الدين، و من المعلوم أنّ تحقّق هذا المفهوم متوقّف على اللزوم من طرف الراهن، فيدور الأمر بين اللزوم من طرفه و عدم التحقّق، و لازم ذلك عدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 114

تعقّل المعاطاة المفيدة للجواز من الطرفين في الرهن.

و تأمّل المصنّف- قدّس سرّه- في جريان المعاطاة الجائزة في الوقف، مستندا إلى أنّ الجواز غير معروف في الوقف من الشارع. ثمّ إنّه- قدّس سرّه- أمر بعد ذلك بالتأمّل، و لعلّه أشار به إلى أنّ مجرّد عدم معروفية الجواز غير مضرّ، إذ لا دليل على أخذ اللزوم في مفهوم الوقف، بل يظهر من بعض جعل القبض شرطا في لزوم الوقف، و مقتضاه كونه جائزا بعد العقد و قبل القبض، مع أنّ لازم عدم جريان المعاطاة في الوقف أن يكون جميع القناطر و الخوانات و نحوها ملكا للواقف أو ورثته، للقطع بعدم تداول ذكر الصيغة فيها، و وقفيّتها أيضا ممّا لا ينكر.

الأمر السادس: في ذكر الملزمات.

و لا بدّ أوّلا من تقرير الأصل، فنقول: أمّا على القول بإفادة المعاطاة للملك الجائز، فأصالة اللزوم الثابتة بالوجوه المتقدّمة هي المرجع عند الشكّ في اللزوم و الجواز.

لكنّ المصنّف- قدّس سرّه- في بابي الاستصحاب و خيار الغبن من الرسائل و المكاسب قد ردّ على المحقّق الكركي- قدّس سرّه- المتمسّك في باب تلقّي الركبان على فوريّة الخيار بالعموم الأزماني، لآية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أنّه يقتصر في تخصيصه على أوّل زمان الاطّلاع على الغبن- بأنّه لم يؤخذ كلّ

زمان في الآية فردا مستقلا، بحيث كان كلّ عقد في كلّ زمان موضوعا مستقلا لوجوب الوفاء، حتى لو خرج عقد في زمان يكون هو باقيا فيما بعد هذا الزمان تحت العموم، بل الزمان فيها أمر واحد مستمرّ، فليس كلّ عقد إلّا فردا واحدا، فلو خرج عقد في زمان، فلا يفرق الحال فيه بعد ذلك بين أن يكون داخلا أو خارجا، و لا يكون دخوله حفظا لظهور العام، و لا خروجه تخصيصا زائدا، فلهذا لا مجرى في هذا العقد بعد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 115

ذلك الزمان، لأصالة العموم، بل يؤخذ باستصحاب حكم المخصّص.

و لا يخفى أنّ هذا الإيراد غير مردود على المصنّف في هذا المقام، حيث تمسّك عند الشكّ في اللزوم و الجواز بأصالة اللزوم الثابتة بعمومات وجوب الوفاء بالعقد.

توضيحه: أنّ المولى إن تعرّض لحال الزمان، بأن لاحظ كلّ جزء منه بلحاظ إجمالي، كما في قوله: أكرم العلماء في كلّ زمان، فلا شكّ أنّ هذا يوجب كون كلّ زمان فردا مستقلا، فالتمسّك بالعموم عند خروج فرد في زمان بعد هذا الزمان جائز.

و إن لم يتعرّض لحاله، فلا شكّ أنّه في نفسه أمر واحد مستمرّ، و حينئذ فإمّا أن يكون مقتضى أصالة الإطلاق هو تعلّق الحكم بالطبيعة، بلحاظ صرف الوجود، و إمّا أن يكون مقتضاها تعلّقه بها بلحاظ وجودها الساري المستمر باستمرار الزمان، كما في أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و «تواضع للعالم» على ما مرّ الكلام فيه.

و على الثاني: فلو خرج فرد في زمان، فإمّا أن يكون خروجه من أوّل الأمر، أو من الوسط، أو من الآخر، فإن كان من أوّل الأمر كالبيع، حيث إنّه يكون فيه خيار المجلس من أوّله، فهذا يوجب

أن يجعل مبدأ الاستمرار بعد هذا الزمان، و لا شكّ أنّ مراعاة ظهور العام يقتضي أن يجعل المبدأ أسبق مهما أمكن، فيكون المرجع عند الشكّ هو العموم، و إذا انقطع الاستمرار من الوسط، فقد وقع التصرّف في ظهور العام، فلا يتفاوت الحال بعد ذلك بين ثبوت الحكم في الفرد و عدمه، فلا يصير التصرّف بالأوّل أقل، و لا بالثاني أكثر، فيكون المرجع عند الشكّ هو استصحاب حكم المخصّص و إن انقطع من الآخر. «1».

.

______________________________

(1) هنا بياض في الأصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 116

فأصل كونه مضمونا و عدم كونه هدرا معلوم، و أمّا أنّه مضمون بالعوض المجعول المسمّى، أعني: العين الموجودة، أو بالعوض الواقعي، أعني: المثل أو القيمة، فغير معلوم. و مقتضى الاستصحاب ضمان الأوّل، لأنّه كان عوضا، فالأصل بقاء عوضيّته، و عدم ضمان الثاني، لأنّه لم يكن عوضا، فالأصل بقاؤه على عدم العوضيّة. و قد تقرّر في محلّه أنّ تخالف الأصلين في طرفي العلم الإجمالي سبب لانحلاله، و موجب للتعبّد بأنّ المعلوم الإجمالي ثابت في أحدهما و منفي في الآخر.

لكن في المقام اشكال، و هو أنّ الشك في أنّ العين الموجودة بدل أم لا، مسبّب عن الشك في جواز رجوع مالكها و عدمه، فإذا استصحب جواز رجوعه، ثبت عدم البدلية تعبّدا، فلا يبقى مورد لاستصحاب البدلية، فيبقى في البين أصلان: استصحاب جواز الرجوع، و مقتضاه عدم بدلية العين الموجودة، و استصحاب عدم بدليّة المثل أو القيمة.

لكنّ المصنّف- قدّس سرّه- جعل الأوّل منهما حاكما على الثاني، بمعنى أنّه إذا استصحب جواز الرجوع، لم يبق شكّ في بدليّة المثل أو القيمة، فلا يبقى مورد لاستصحاب عدم بدليّتهما.

و يمكن أن يقال: بأنّ مجرى الأصلين إمّا أن يكونا

من قبيل الموضوع و الأثر، بمعنى أنّ أحدهما موضوع و الآخر أثره، و حينئذ فلا شك أنّ الأصل الجاري في الموضوع رافع للشك عن الأثر، فالعالميّة المشكوكة لو استصحبت، لم يبق شك في وجوب الإكرام. و كذا لو استصحب الطهارة المشكوكة في الماء، لم يبق شك في طهارة الثوب النجس المغسول به. و كذا لو استصحب جواز الرجوع المشكوك لم يبق شكّ في عدم بدليّة العين الموجودة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 117

و إمّا أن يكونا من قبيل سببين، نعلم بثبوت أحدهما و عدم اجتماعهما، و لازم هذا العلم أنّه لو كان أحد هذين السببين معلوم الانتفاء، كان الآخر معلوم الثبوت، لا أنّ هذا الثبوت أثر شرعي لذاك الانتفاء. و من المعلوم أنّ الاستصحاب يفيد التعبّد بالآثار الشرعية لمجراه، لا بلوازمه التي تكون معه في عرض واحد إلّا على الأصل المثبت و إن كان لو حصل العلم بالملزوم حصل العلم باللازم.

و ذلك كاستصحاب عدم التكليف، حيث لا يلزم منه ثبوت الإباحة، لأنّ قضية مضادّة الأحكام الخمسة، و عدم خلوّ الواقعة عن أحدها، هو ثبوت الإباحة عند فقد الأربعة الأخر، لا أنّ ثبوت الإباحة أثر شرعي لفقدها.

و كذلك ما نحن فيه، فإنّ قضية العلم الإجمالي بأحد الأمرين من ضمان العوض الحقيقي، و ضمان العوض الجعلي و عدم اجتماعهما، هو ثبوت الأوّل عند فقد الثاني، لا أنّه من آثاره الشرعية. فثبت أنّ أصالة الجواز، التي أثرها الشرعي عدم ضمان العوض الجعلي، لا تكون حاكما على استصحاب عدم ضمان العوض الحقيقي، و إنّما يكون كذلك، لو كان ثبوت ضمان العوض الحقيقي أثرا شرعيا لعدم ضمان العوض الجعلي، نعم لو ثبت ذلك بالدليل لا بالأصل، كما لو فرض دلالة

قاعدة التسليط على تسلّط مالك العين الباقية على الرجوع، فحينئذ لا بدّ من الالتزام بثبوت ضمان العوض الحقيقي و طرح استصحاب عدمه.

و يمكن أن يقال: إنّه لا محلّ لأصالة الجواز في العين الباقية، لأنّ معنى الرجوع فيها هو سلب الإباحة العوضية عنها، و هذا المفهوم لا يتحقّق إلّا بسلب الإباحة عن مقابلها و هو التالف.

و ليس المراد بالرجوع في العين الباقية استردادها منفردا، بل استردادها من حيث البدلية المتوقف على ردّ مقابلها، فالاقتدار عليه يتوقّف على الاقتدار على ردّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 118

مقابلها.

و بعبارة أخرى: الرجوع هنا بمعنى الترادّ فسلب الإباحة عن العين الموجودة يتوقّف على إمكان سلبها عن التالف، و إمكان سلبها عن التالف يتوقّف على إمكان إثباتها فيه، و هو غير ممكن، لأنّ الإباحة حكم تكليفي يقتضي موضوعا مقدورا، فبسبب التلف ينتفي الاقتدار على سلب الإباحة عن التالف، فينتفي بسببه الاقتدار على سلبها عن الموجود. و هذا بخلاف ما إذا كانت المعاوضة في الملكية فتلف أحد العوضين، فإنّه يمكن لمالك التالف الرجوع، لإمكان اعتبار ملكية التالف له آنا ما ليرجع إلى بدله.

و الحاصل: أنّه يمتنع إجراء أصالة الجواز التي هي حاكم على استصحاب ضمان العوض الجعلي، فيرجع إلى العلم الحاصل بأنّ التالف ليس بلا ضمان، لأنّ مال المسلم محترم، و حرمة ماله كحرمة دمه، و هذا الضمان المعلوم مردّد فيما نحن فيه بين العوض الجعلي و العوض الحقيقي.

و قد عرفت أنّ مقتضى الأصل في الأوّل ثبوت الضمان، و في الثاني عدم ثبوته، و طرح الأصلين في طرفي العلم الإجمالي إنّما يلزم لو كان العمل بمضمونهما مؤدّيا إلى مخالفة العلم الإجمالي القبيحة عقلا كما في أصالة الطهارة في كل من الإنائين

المعلوم نجاسة أحدهما فإنّ الطرح حينئذ لازم لأنّ العمل بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، و إمّا لو لم يؤدّ إلى ذلك، كما لو كان الأصل في أحد الإنائين المذكورين هو الطهارة، و في الآخر النجاسة، و كما في المقام حيث إنّ الأصل في العوض الجعلي هو الضمان، و في العوض الحقيقي عدمه، فحينئذ لا مانع من العمل بهما.

ثمّ إنّ المصنف- قدّس سرّه- بعد الحكم بحكومة أصالة الجواز على أصالة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 119

ضمان العوض الحقيقي. قال- قدّس سرّه- يعني مع الغض عن أصالة الجواز فحيث

(إنّ ضمان التالف ببدله معلوم، إلّا أنّ الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي، أعني: المثل أو القيمة، أو البدل الجعلي، أعني: العين الموجودة، فلا أصل)

في شي ء من الطرفين، لثبوت العلم الإجمالي المذكور. لكنّك عرفت أنّ العمل بهذين الأصلين حيث لم يؤدّ إلى مخالفة العلم الإجمالي، فلا مانع منه. هذا كلّه هو الكلام في الإباحة المالكية عند التلف.

و أمّا الإباحة الشرعية: فإن قلنا بالأول إلى البيع، فالكلام فيها عند التلف هو الكلام في الملك الجائز من أوّل الأمر، فالمرجع عند الشك أصالة اللزوم، سواء كان العينان باقيين أم تالفين، أم كان أحدهما باقيا و الآخر تالفا.

و إن قلنا بعدم الأول، و أنّ الملكية المتأخّرة على خلاف الأصل، فإن كان إحدى الإباحتين غير مربوطة بالأخرى شرعا، فالمرجع عند الشك هو أصالة الجواز، فيرجع المالك في صورة بقاء العين إلى نفسها، سواء كانت العين الأخرى باقية أم تالفة، و في صورة تلفها إلى بدلها كذلك، فإنّ الإباحة الشرعية لا تمنع عن الضمان، و إن كان إحداهما مربوطة بالأخرى و بإزائها، كما هو الظاهر، فالكلام فيها هو الكلام في

الإباحة المالكية في أنّ جريان أصالة الجواز مختصة بصورة بقاء العينين، و أنّه لا محلّ لها مع تلف إحداهما، فيكون الباقي بعد ذلك هو العلم الإجمالي بضمان التالف، إمّا ببدله الحقيقي، و إمّا ببدله الجعلي، و مقتضى الأصل ثبوت الضمان في الأوّل، و عدمه في الثاني، فيعمل بكلا الأصلين.

قال- قدّس سرّه-: و لو كان أحد العوضين دينا إلى قوله: (لأنّ الساقط لا يعود).

أقول: قد يبحث عن جواز و لزوم هذا القسم من المعاطاة من جهة القواعد،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 120

و قد يبحث عنهما من جهة إمكان الترادّ و عدم إمكانه.

أمّا الكلام في الأوّل، فهو أنّه لا شكّ أنّ القدر المتيقّن من الخروج عن تحت قاعدة اللزوم هو صورة كون العوضين عينين، فتبقى صورة كون أحدهما دينا تحت القاعدة من أوّل الأمر.

أمّا الكلام في الثاني، فهو: أنّه كما يمكن نقل السلطنة على الدين من الدائن إلى المديون، كذلك يمكن نقلها من المديون إلى الدائن ثانيا، فليس دينيّة العوض كتلفه، فأصالة الجواز- لولا العمومات- ثابتة، لثبوت موضوعها، لا أنّها منفية لانتفائه.

قوله- قدّس سرّه- (فافهم).

أقول: لعلّه إشارة إلى أنّ الحكم بكونه كالتلف على هذا القول أيضا ليس على إطلاقه، لأنّه إن تصرّف المباح له في الدين تصرّفا متلفا، كالإسقاط و الحوالة و النقل، فحينئذ يكون كالتلف، فتكون العين الموجودة بدلا عن التالف بمقتضى استصحاب بدليّته، و لا مجرى لأصالة الجواز ليكون حاكما عليه، و إن كان تصرّفه هو الإبقاء فحينئذ يمكن الترادّ، و لا مانع من استصحاب الجواز.

قوله- قدّس سرّه- (لامتناع الترادّ).

أقول: قد عرفت أنّه ليس المراد بالترادّ هو الترادّ الخارجي حتى يكون غير ممكن مع التلف، بل الترادّ في الملك، و هو ممكن معه، فيمكن

هنا اعتبار ملكيّة المبيع من حيث كونه تالفا للمالك الأصلي، ليرجع إلى عوضه و إن كان من حيث كونه موجودا، ملكا للمشتري، لكنّ العمومات مقتضية لعدم جواز الترادّ هنا، إذ المتيقّن من مخالفتها هو صورة عدم طريان النقل و الانتقال على شي ء من العينين.

ثمّ لو رجع العين إلى ملك البائع بسبب الفسخ، فهل يعود جواز الترادّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 121

أو لا؟ احتمل كلّا منهما المصنّف- قدّس سرّه- من أنّ الترادّ بعد الفسخ ممكن، فيستصحب جوازه، و من أنّ الشك في جواز الترادّ هنا ناش عن الشك في الموضوع، إذ لا نعلم أنّ موضوع جواز التراد الثابت قبل البيع، هل هو العين المملوكة لمن انتقلت إليه بالمعاطاة مطلقا، سواء لم تخرج عن ملكه أو خرجت و عادت حتى يكون ثابتا بعد الفسخ، فيكون حكمه و هو جواز الترادّ أيضا ثابتا، أو هو العين المذكورة بشرط أن لا تخرج عن ملكه حتى يكون مرتفعا بعد الفسخ، فيكون حكمه أيضا مرتفعا، فالمستصحب، أعني: جواز التراد مقطوع البقاء على تقدير أن يكون موضوعه العين المطلقة، و مقطوع الارتفاع على تقدير أن يكون هو العين المقيدة، و قد تقرّر في محلّه أنّ إحراز الموضوع لا بدّ منه في الاستصحاب، بمعنى اتّحاد موضوعي القضيتين المقطوعة و المشكوكة.

ثمّ قوّى- قدّس سرّه- الوجه الثاني، أعني: عدم إحراز الموضوع في هذا الاستصحاب، مستندا إلى أنّه لم يثبت في مقابلة أصالة اللزوم جواز الترادّ بقول مطلق.

ثمّ إنّ السيد المحشّي- دام ظلّه- أورد على الوجه الأوّل، أعني:

استصحاب جواز الترادّ: بأنّه لا وجه لهذا الاستصحاب، إذ المفروض سقوط الجواز بنقل العين، فبعد العود، الأصل بقاؤه على السقوط إلّا أن يقال: إنّ العود بالفسخ يكشف

عن عدم سقوطه بالنقل. و هو كما ترى. و بالجملة، فالمستصحب مقطوع الزوال و الانقطاع.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الاستصحاب هنا تعليقي. «1».

[الأمر السابع في ذكر وجهين للمعاطاة في صيرورتها بعد التلف بيعا بعد التلف أو معاوضة مستقلة]

قال- قدّس سرّه-: (السابع: إنّ الشهيد الثاني- قدّس سرّه- ذكر في

______________________________

(1) هنا بياض في الأصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 122

المسالك وجهين) إلى قوله: (و الظاهر أنّ هذا تفريع على القول بالإباحة).

أقول: لعل مراد الشهيد- قدّس سرّه- أنّ الظاهر من أدلّة خياري المجلس و الحيوان- حيث إنّ مفادها «أنّ البيّعين بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع»، و أنّ «صاحب الحيوان بالخيار إلى ثلاثة أيّام»- هو أنّ هذين الخيارين ثابتان في البيع الذي يكون مبناه على اللزوم لولاهما، فلهذا لا يجريان في المعاطاة على القول بالإباحة، سواء قلنا بأنّها بيع عرفي فاسد شرعا، أم قلنا: بأنّها بيع عرفي صحيح شرعا، و أنّ التلف أو التصرّف فيها كالقبض في المجلس في الصرف و السلم، لاختصاص هذين الخيارين بالبيع الصحيح شرعا، و المعاطاة على تقدير كونها كذلك يكون مع قطع النظر عنهما جائزة. فلا تشملها أدلّتهما، و جعل مبدأ الخيارين فيها من حين حصول التلف أو التصرف، مناف لظاهر أدلّتهما من كون مبدءهما من أوّل زمان المبايعة.

و أمّا خيار العيب و الغبن، فمقتضى قاعدة الضرر المثبتة لهما جريانهما في المعاطاة على كلا القولين فيما إذا ظهر العيب أو الغبن بعد حصول التلف أو التصرّف، فإنّ الصبر على المعيوب أو المغبون فيه حينئذ ضرر، لا فيما إذا ظهر قبل ذلك.

نعم دليل التّخيير بين الردّ و الأرش في خيار العيب لا يشمل المعاطاة على الأوّل، لاختصاصه بالبيع الصحيح شرعا، و يشكل على الثاني، لاحتمال انصرافه إلى البيع المبني على اللزوم.

الأمر الثامن: اعلم أنّ الفقهاء ذكروا لصيغة البيع شروطا، كالعربية، و الصحّة مادّة، و إعرابا، و تقدّم الإيجاب على القبول

إلى غير ذلك مما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى، و مرادهم أنّها شروط للصحّة لا للزوم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 123

ثمّ إنّ المشهور ذكروا عقيب هذا المبحث

مسألة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و لفظ العقد الفاسد في كلامهم ناصّ في الفاسد من جهة اختلال شروط الصيغة، فإنّ مقتضى الاتصال بهذا المبحث كونه إمّا خاصا به، و إمّا شاملا له و لغيره، و مع الغض عن ذلك، فهو ظاهر فيه بمقتضى الإطلاق.

و ظاهر المحقّق و الشهيد الثانيين كون الصيغة المختل بعض شروطها معاطاة، فيكون كلامهما مناقضا لمقالة المشهور، إذ مقتضى الأوّل هو الضمان بالعوض الجعلي، و مقتضى الثاني هو الضمان بالمثل أو القيمة.

و تحقيق المقام: أنّه إن قلنا بأنّ تلك الشروط ليست شروطا أصلا، و أنّ الصيغة الفاقدة لجميعها بيع صحيح بمقتضى الإطلاقات السليمة عن المعارض و لازم بمقتضى القواعد المتقدّمة كذلك، فلا حاجة لنا إلى البحث في هذا المقام.

و إن قلنا باشتراط الصحّة بالجميع أو بالبعض. فإن بنينا على إفادة المعاطاة للملك الجائز، فلا معنى لجعل الفاقد لبعض تلك الشروط من هذا الباب، لمكان التنافي بين جعل الشرط شرطا للصحّة، المقتضي لعدم ترتّب مقصود المتعاقدين على فاقده و ترتّب الضمان عليه، و بين جعل الفاقد له مفيدا للملك، إذ الصادر من المتعاقدين ليس إلّا الرضا الباطني بملكيّة كل من المالين بإزاء الآخر لمالك الآخر، و الصيغة اللفظية على طبقه، و التقابض بعد ذلك، فالأوّل لا يصلح بمجرّده سببا لحصول الملكيّة، بل يحتاج إلى المظهر بلا إشكال، و الثاني فاسد بالفرض، و الثالث إنّما وقع مبنيا على العقد و على وجه الوفاء به و العمل بمقتضاه، لا بقصد إنشاء الملكيّة، لوضوح أنّ المتعاقدين العالمين بصحّة الصيغة و حصول الملكيّة بها، لا يقصدان بالتقابض بعده إنشاء التمليك، لكونه تحصيلا للحاصل باعتقادهما، و من المعلوم أنّ التقابض المجرّد عن قصد الإنشاء- و لو كان باعتقاد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 124

الملكيّة خطأ- لا يفيد الملكيّة.

نعم لو قصدا بالتقابض الإنشاء عند انكشاف فساد الصيغة لهما، فيقع صحيحا من باب المعاطاة، لكن المعاطاة إنّما حصلت حينئذ بالتقابض، و الصيغة فاسدة لم يترتب عليها شي ء أصلا، و الكلام في كون الصيغة الفاسدة معاطاة.

و إن بنينا على إفادة المعاطاة للإباحة، فحينئذ و إن كان جعل الصيغة الفاقدة لبعض الشروط من هذا الباب له معنى، لكن ليس له وجه، إذ حصول الإباحة بالعقد الفاسد- على فرض تسليمه- مخالف للقاعدة، فيقتصر فيه على مورد المعاطاة الفعلي دون القولي، فإنّ الأوّل هو المتيقّن من دليله من الإجماع أو السيرة، فعلم أنّ القول باشتراط الشروط المذكورة في صحّة الصيغة لا يجامع جعل الفاقد لها معاطاة بكلام القولين فيها.

و ربّما يجمع بين مقالة المشهور: من جعل تلك الشروط شروطا للصحّة و جعل المقبوض بفاقدها مقبوضا بالعقد الفاسد، و بين كلامي المحقق و الشهيد الثانيين، القائلين بكون الصيغة الفاقدة معاطاة، بأنّه قد لا يكون للمتبايعين بالصيغة الفاقدة رضا آخر غير الرضا الحاصل في ضمن التمليك، و التقابض الواقع بينهما بعد العقد يكون مبنيّا على زعم صحّة المعاملة، بحيث لو تنبّها على بطلان العقد لم يتقابضا، و قد يكون لهما رضا آخر علاوة على الرضا في ضمن البيع، كأن يكون مقصودهما الأصلي إباحة تصرّف كلّ في مال الآخر، فتوسّلا إليه بالبيع، بحيث لو تبيّن لهما الفساد لم يمتنعا من التقابض فيحمل مقالة المشهور على الصورة الأولى، و كلامهما على الصورة الثانية.

و هذا الجمع لا يستقيم، لأنّه لو أريد بالرضا الزائد: إنشاء تمليك ثانوي بعد العقد في ضمن التقابض، فهذا لا يصدر ممّن يعلم بصحّة المعاملة، فإنّه تحصيل الحاصل باعتقاده. نعم

يصدر ممّن تبيين له فساد العقد أو أراد الاحتياط للشكّ في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 125

الصحّة، لكنّ المعاطاة حينئذ إنّما تحصل بالتقابض لا بالصيغة.

و إن أريد أن يكون المعلوم من حالهما رضا كلّ منهما بتصرّف صاحبه في ماله مجّانا و لو على تقدير عدم حصول المعاملة أو فسادها، فهذا الرضا مضافا إلى أنّه ليس فعليا- بل تقديري، إذ المفروض زعم كلّ واحد ماله حقّا لصاحبه بعد العقد، و فعلية هذا الرضا يتوقّف على زعم مالية المال لنفسه- لا يترتب عليه آثار المعاطاة من اللزوم بالملزمات و نحوه، بل حاله حال الرضا بالتصرّف المستكشف بشاهد الحال.

و إن أريد رضا كل واحد بتصرّف الآخر في ماله بإزاء إباحة الآخر فلا شكّ أنّ هذا أيضا ليس فعليّا، بل حاصل على تقدير فساد المعاملة.

و نحن و إن سلّمنا حصول المعاطاة بمجرّد الرضا من دون توقف على حصول الإنشاء بالفعل. و قلنا بأنّ قوله- عليه السلام-: «لا يحل مال امرئ إلى آخره»، يدلّ على تحقّق الحلية متى تحقّق طيب النفس، و الإجماع في باب العقود و الإيقاعات قام على مدخليّة الكاشف و المظهر في التأثير، و به صحّحنا دخول الحمام، و شرب الماء من موضع السقي، و وضع الفلوس في المحل المعدّ له، لكون فتح باب الحمام و نحوه أمارة دالّة على الرضا، لكن ذلك إنّما هو في الرضا الفعلي لا التقديري، لعدم صدق طيب النفس عليه. سلّمنا أنّ المعاطاة تحصل بالرضا التقديري أيضا، لكن من أين علم من حال المتعاقدين إقدامهما على هذه الإباحة المعوّضة على تقدير فساد المعاملة؟ فلعلّهما يوقعان البيع ثانيا على الوجه الصحيح.

و ذكر السيّد المحشّي- دام ظلّه- في مقام الجمع ما حاصله: أنّه

تارة يكون مقصود المتعاقدين بالصيغة الفاقدة: إنشاء خصوص الملكية اللازمة، و لهذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 126

اختارا البيع بالصيغة، كما هو الغالب في البيوع الخطيرة الواقعة بالصيغة، و تارة يكون مقصودهما إحداث مطلق التمليك، سواء كان لازما أم جائزا، كما في بعض البيوع التي لا اعتبار بشأنها، بحيث لا يبالون بأن يحصل الرجوع فيها أم لا، فعلى الأوّل: يكون العقد الفاقد فاسدا، و المقبوض به مقبوض بالعقد الفاسد. و على الثاني: يكون كالمعاطاة في إفادة الملك. و الأولى حمل كلام المشهور على الصورة الأولى و كلام المحقق و الشهيد الثانيين على الصورة الثانية.

و لكن لا يخفى أنّ هذا الجمع أيضا غير مستقيم، لأنّه إن لم يجعل تلك الشروط شروطا للصحّة، فلا كلام، و لكنّ المفروض تسليم ذلك، و مع هذا فما معنى قولكم: إنّه يحصل بالصيغة الفاقدة المعاطاة و الملكية الجائزة؟ و هل هذا إلّا التهافت؟

فرعان:

الأوّل: لا إشكال في أنّه على القول بإفادة المعاطاة للملك المتزلزل نماءات المبيع للمشتري، و نماءات الثمن للبائع

متصلة كانت كالصوف على ظهر الغنم و السمن، أو منفصلة كاللبن و النتاج، لأنّ النماء ملك لمن حدث في ملكه، فإذا رجع أحدهما في عينه انتقل العين إليه مع النماءات المتصلة دون المنفصلة.

و أمّا على القول بالإباحة، سواء كان مقصود المتعاطيين التمليك أو الإباحة، فلا إشكال في إباحته للمباح له، لأنّ النماء تابع للعين.

و أمّا حكم الرجوع فيه، فإن احتمل كون إباحته لازمة، بأن يكون اللزوم من آثار عنوان نتيجة المباح، فلا يمكن التمسّك على جوازه بقاعدة التسليط، لأنّها متعرّضة لحكم المال من حيث إنّه مال، فالتمسّك بها على جواز الرجوع، ينفع في مقام يعلم بعدم طريان عنوان على المال مقتض لعدمه، لا في مقام يحتمل ذلك كما فيما نحن فيه، فإذا شكّ في زوال الإباحة بسبب

الرجوع يستصحب بقاءها،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 127

و على تقدير ثبوت الجواز- بإجماع أو سيرة- فهل النماء مستقل في الرجوع؟ بحيث يجوز الرجوع فيه دون العين و بالعكس، أو تابع للعين؟ بحيث إذا رجع في العين وحدها ارتجع نماؤها بتبعها قهرا، و إذا رجع في النماء وحده لم يرتجع، أو يتوقف ارتجاعه على الرجوع في العين؟ ثمّ الرجوع بعد ذلك في النماء، وجوه.

الثاني: حكي عن المحقّق الثاني- قدّس سرّه- في كتاب صيغ العقود ما حاصله: أنّ القرض يحتاج إلى اللفظ

و الدفع على جهة القرض بدون اللفظ يكون معاطاة، و يفيد إباحة التصرّف للمقترض. لكن لو تلفت في يده يستقرّ العوض في ذمّته. و الذي ينساق إليه النظر أنّ المعاطاة في البيع تفيد ملكا متزلزلا إلى أن يتلف إحدى العينين، فيصير لازما، و هذا يقتضي أن يكون نماء المبيع قبل التلف للمشتري، و هذا بخلاف القرض بالمعاطاة، فإنّ نماءه الحاصل في يد المقترض يكون للمقرض.

أقول: هنا سؤالان عن المحقق، الأوّل: أنّه ما الفرق بين المعاطاة في البابين؟ حيث قلتم بإفادتها الملك في أحدهما و الإباحة في الآخر، و إطلاقات البيع كما تشمل البيع المعاطاتي كذلك إطلاق القرض أيضا يشمل القرض المعاطاتي، فمقتضى القاعدة أن تكون المعاطاة في القرض أيضا مفيدة للملك. سلّمنا لكن كون النماء للمقرض مخصوص بصورة الرجوع في العين لا مطلقا كما هو ظاهر كلامه.

الثاني: أنّ هذه الإباحة إن كانت مجّانية، فما معنى كون التلف في يد المقترض موجبا للضمان؟ و إن كانت معوّضة، فالعوض لا بدّ و أن يكون في ذمة المقترض، و ليس عينا خارجيّا يجوز التصرّف فيه للمقرض كما في البيع، فيلزم أن يكون المقرض مالكا للعوض في ذمّة المقترض، إذ لا يتصوّر إباحة التصرّف إلّا في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 128

العين الخارجي، و

حينئذ فما معنى قولكم بالإباحة و عدم حصول الملك للمقترض؟ و هل هذا إلّا الالتزام باجتماع العوض و المعوض في ملك المقرض؟

[مقدمة في خصوص ألفاظ البيع]

[اعتبار اللفظ في البيع يختص بصورة القدرة]

قال- قدّس سرّه-: (لكن هذا يختصّ بصورة القدرة).

أقول: اعلم أنى الأصل الأوّلى في جميع ذوات الأسباب من العقود و الإيقاعات و غيرها عند الشك في الحصول، هو الفساد و عدم الحصول، مثلا: لو شك في انتقال المثمن إلى المشتري و الثمن إلى البائع بسبب فرد خاصّ من البيع، فأصالة عدم تغيّر الحالة السابقة و بقائها بحالها تقتضي عدم الانتقال، و كذا لو شك في انقطاع علقة الزوجية بطلاق خاص، أو حصول الطهارة للمتنجس بغير البول بالغسل مرّة واحدة.

لكن لو كان في دليل تأثير هذا السبب إطلاق و كان مقدمات الحكمة فيه مجتمعة، يحصل بذلك أصل ثانوي في البين يكون هو المرجع عند الشك في اعتبار أمر زائد على العنوان المأخوذ في الدليل في التأثير، و هو أصالة الإطلاق، و ذلك كإطلاق لفظ الغسل الواقع في روايات تطهير المتنجس بغير البول من النجاسات، و عدم تقييده بمرّتين، و إطلاق دليل صحة البيع و العقد و لزومهما، فلو شك بعد صدق هذه العناوين في حصول التأثير لاحتمال اعتبار أمر آخر، يدفع هذا الشك بأصالة الإطلاق، فالأصل الأوّلي في المقام أصل عملي، و هو الاستصحاب، و الثانوي أصل لفظي، و من استدلّ على عدم لزوم التعدد في غسل المتنجس بغير البول: بأصالة البراءة، فمراده بهذا الأصل أصالة البراءة (كذا)، إذ من المعلوم أنّ الغسل ليس مطلوبا نفسيا حتى يقع مجرى لأصالة البراءة.

و إذا ثبت تقييد إطلاق العنوان المأخوذ في الدليل بشي ء- بإجماع و نحوه- فلا بدّ أن يقتصر فيه على المورد المتيقّن.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص:

129

فنقول: لو فرض حصول الإجماع على اعتبار وجود اللفظ في لزوم البيع، فالقدر المتيقن من مورده هو صورة قدرة المتبايعين على التلفظ بالمباشرة فعلا، من دون مانع شرعي و لا عقلي، فيقع بيع العاجز عن التنطق- سواء كان عجزه لخرس أو لمرض في لسانه قابل للبرء و سواء كان قادرا على التوكيل أم لا، و القادر عليه، الممنوع منه لعذر شرعي كالناذر أن لا يتكلم في اليوم، أو عقلي كالخائف من عدوّ مكره- صحيحا لازما على حسب القواعد، و بيع الأخرس بإيجاد فعل دالّ عليه- كما يفعل في إفهام سائر مقاصده- صحيح لازم و لو كان قادرا على التوكيل، لأصالة الإطلاق، مضافا إلى فحوى روايتين واردتين في كفاية ذلك في طلاقه.

ثمّ اعلم أنّه كما أنّ في الأقوال صريحا و ظاهرا، كذلك في الأفعال أيضا صريح و ظاهر، و الصريح منهما ما لا يحتمل الخلاف، و الظاهر ما يحتمله، لكن نوع العرف لا يتحيّرون في معناه، و لا يعتنون باحتمال الخلاف، ما لم يرد عليه دليل من الخارج.

فنقول: القدر المتيقن خروجه من تحت إطلاقات البيع هو ما إذا لم يقع الإنشاء بالقول أو الفعل الصريح أو الظاهر في معنى البيع، سواء وقع بالقصد المجرد، أو بالقصد المقرون بقول أو فعل له ظهور شخصي لا نوعي، و خروج ذلك إمّا من باب التخصيص بالإجماع، أو التخصيص لعدم صدق عنوان البيع عليه عرفا.

و أمّا صور وقوع الإنشاء بصريح من القول أو الفعل أو الظاهر منهما، فجميعها داخلة تحت الإطلاق على نحو سواء، و في عرض واحد، بلا ترتيب بينها، فكما يقع البيع بالصريح من القول و الفعل، فكذا بالظاهر منهما و لو مع القدرة على الصريح.

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 1، ص: 130

بقي هنا أمران ينبغي التنبيه عليهما:

الأوّل: قراءة الحمد و السورة و الأذكار و التشهد و السلام في باب الصلاة مطلوب نفسي بحيث إنّ المطلوب أوّلا من كلّ مكلّف هو الصلاة مع القراءة، غاية الأمر إنّ الشارع اكتفى في حق العاجز- كالأخرس- بالإشارة، فالإشارة في هذا الباب بدل عن القراءة، لا في عرضها، و هذا يقتضي أن يراعى في الإشارة الأشبه بالقراءة فالأشبه، بأن يأتي عوض كل حرف بإشارة قاصدا بدليّتها عنه، لا أن يأتي بالإشارة لأداء المعاني و مفادات الألفاظ كما يأتي بها لأداء سائر المقاصد، بل في خبر السكوني زيادة «تحريك اللسان على الإشارة بالإصبع»، و لعلّه الموافق للقاعدة أيضا بناء على كون حركات الشفة و اللسان مقوّما للقراءة- كما هو ظاهر- فيلزم الإتيان بها عند تعذّر بقية الأجزاء.

و أمّا بناء على كونها مقدّمة لها، فالقاعدة تقتضي عدم لزومها، لأنّ وجوب المقدّمة فرع وجوب ذيها، فيسقط بسقوطه، و الأمر في المقام على عكس هذا الباب، فالإشارة هنا في عرض اللفظ، لا بدل عنه، فلا يلزم مراعاة أشبهيّتها به، بل يؤتى بها لإفادة المقصود و هو البيع، كما يؤتى بها لإفادة سائر المقاصد.

الثاني: لو دار الأمر في بيع الأخرس بين الكتابة و الإشارة، فمقتضى القاعدة على ما عرفت- هو التخيير بينهما و عدم الترتيب لكن ربّما يستظهر الترتيب بتقديم الكتابة من الرواية الواردة في طلاق الأخرس، حيث حكم الإمام بإيقاعه بالكتابة، ففرض السائل عدم القدرة عليها، فحكم حينئذ بإيقاعه بالإشارة المفهمة، كما أفهم كراهته عن زوجته.

و أنت خبير بأنّ الرواية غير ظاهرة في الترتيب. نعم يحتمله، لكن هذا الاحتمال معارض باحتمال أن يكون الاكتفاء بذكر الكتابة من باب الاكتفاء بذكر

كتاب

البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 131

أحد الأفراد.

نعم لو كان فرض عدم القدرة على الكتابة في كلام الإمام، كأن يقول:

فإن لم يقدر على الكتابة فيوقعه بالإشارة، كان ظاهرا في الترتيب.

[في الخصوصيات المعتبرة في لفظ عقد البيع]

قال- قدّس سرّه-: (أمّا الكلام من حيث المادة) إلى قوله: (و مع هذه الكلمات كيف يجوز أن يسند إلى العلماء).

أقول: الإنصاف أنّ هذه الكلمات لا محصّل لها. هذا.

و يمكن الخدشة في التفصيل المذكور في كلام العلّامة بين الصريح و الكناية: بأنّ الكناية أيضا قد تكون صريحة، و ذلك فيما إذا كان اللازم المستعمل فيه الكناية من اللوازم المساوية للملزوم. نعم فيما إذا كان لازما أعم له، تكون الكناية ظاهرة.

نعم اللازم- مع قطع النظر عن كونه مساويا أو أعم- قد يكون من اللوازم البعيدة، بحيث لا ينتقل نوع الأذهان منه إلى ملزومه إلّا بالمداقّة الأكيدة، و قد يكون من اللوازم القريبة، بحيث يحصل الانتقال منه إلى الملزوم لغالب الأذهان بسهولة.

قال- قدّس سرّه-: (و لعلّ الأولى أن يراد باعتبار الحقائق في العقود) إلى آخره.

أقول: حاصل وجه الفرق بين ما إذا كان القرينة مقالا و بين ما إذا كان حالا، هو أنّ إفادة المطلب و هو البيع في الأوّل، منتهية إلى الدلالة الوضعيّة، فيصدق أنّ البيع وقع باللفظ، و في الثاني منتهية إلى القرينة الحالية لا الدلالة الوضعية، فلا يصدق أنّه وقع باللفظ.

لكنّك خبير بأنّ ذلك إنّما يتمّ لو كانت القرينة الحالية بنفسها- مع قطع النظر عن اللفظ- مفيدة للمطلب، و من المعلوم خلاف ذلك، بل إنّما هي توجد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 132

في اللفظ ظهورا، بحيث تستند الدلالة على المطلب إلى نفس اللفظ، غاية الأمر إنّه يقال: إنّ محدث هذه الدلالة في اللفظ هو القرينة الحاليّة

لا وضع الواضع.

و الحق في المقام أنّه- بعد إحراز كون الظهور النوعي في البين- لا فرق بين اللفظ الصريح ك «بعت»، و الكناية ك «أدخلته في ملكك»، أي: أوجدت في نفسي قرار دخوله في ملكك، فإنّ الدخول في الملك لازم للمبادلة، فيقال:

بعته فدخل في ملك الغير، كما يقال: كسرته فانكسر، و لا بين الحقيقة و المجاز، ك «بعت منفعة هذا الدار» في الإجارة، و لا بين الألفاظ التي وقع التعبير بها في لسان الشارع، و غيرها.

ثمّ الانتقال من اللازم إلى الملزوم في الكناية، و هي الكلمة المستعملة في اللازم لغرض الاستطراق و الانتقال منه إلى الملزوم بحيث لو استعمل في الملزوم ابتداء كان مجازا، ممّا لا إشكال فيه في القضايا الخبرية، كما في قولنا: زيد كثير الرماد، فيحصل الانتقال منه إلى قضية أخرى ملزومة لهذه القضية، و هو قولنا:

زيد جواد، و لهذا يكون الأخبار بالقضية اللازمة بمنزلة الإخبار بالقضية الملزومة، و لهذا يعدّ الإخبار بالقضيّة اللازمة في المثال مدحا.

و أمّا القضايا الإنشائية: فعلى القول بكون الإنشاءات موجدة لمعانيها، يشكل تصوير الكناية فيها، بأن يقصد من إنشاء اللازم إنشاء الملزوم، فإنّ الإنشاء على هذا إيجاد من اعتبار المتكلّم و اللفظ، و المفروض أنّه لم يتحقق إلّا بالنسبة إلى اللازم، فلا محالة يكون المنشأ به هو اللازم بدون الملزوم، لمكان المغايرة بينهما.

و أمّا على المختار من كونها كاشفة عن معانيها، فالكناية تكشف عن وجود اللازم في نفس المتكلّم، فيكشف عن وجود الملزوم فيها قبل ذلك، مثلا قوله:

أدخلت هذا العين في ملكك بعوض كذا، يكشف عن تحقّق جعل قرار الدخول المذكور في نفس المتكلّم، و هذا لا يمكن إلّا بعد تحقّق الجعل البيعي في نفسه،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1،

ص: 133

فيستكشف من تحقّق الجعل اللازم تحقّق الجعل الملزوم.

و ملخص الكلام في المقام: أنّه قد عرفت أنّ الأصل في كل ذي سبب هو الفساد، إلّا أن يكون إطلاق في البين، فيكتفى بكل ما صدق عليه العنوان إلى أن يعلم التقييد، فيقتصر فيه على المتيقّن، ففي باب البيع إن بنينا على وجود إطلاق في البين- كما اخترناه- فلا نلتزم باشتراطه بشي ء ممّا ذكروه، لعدم دليل عليها يقاوم الإطلاق. نعم، لو سلّمنا الإجماع على اعتبار اللفظ في اللزوم، قلنا به، لكن قد عرفت الخدشة فيه.

و إن بنينا على عدمه، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن من جميع الجهات، بأن يكتفى من جهة المادة على العربي و على خصوص لفظ البيع، لأنّه الوارد في الكتاب و السنّة، فيحتمل أن يكون لخصوصيته دخل، فلا يجزي مرادفاته، و لا مجازات قرينتها لفظ كلفظ العارية و الصلح. و من جهة الهيئة على الصحيح فلا يجزي الملحون الغير الخارج عن العربية كلفظ «بعت» بفتح الباء، فضلا عمّا كان كذلك كلفظ «بغت» بالغين المعجمة، و على الماضي فلا يجوز المستقبل و الأمر، و على ما إذا كان المتكلّم عالما بأنّ لفظة التاء في «بعت» في العربية بمنزلة الميم في «فروختم» في الفارسية.

و بعبارة أخرى: كان عالما بوضعه المادي و الهيئتي تفصيلا.

[في شروط عقد البيع]

[من جملة شروط عقد البيع تقديم الإيجاب على القبول]

مسألة هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول، أو لا؟

مجمل القول فيه: أنّه إن بني على وجود إطلاق في البين، فينفى ذلك به.

و أمّا إن بني على عدمه، ففرّق المحقق المصنّف- قدّس سرّه- بين ما إذا وقع القبول بلفظ «قبلت» فيشترط التقديم، و بين ما إذا وقع بلفظ «تملّكت» أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 134

«اشتريت» فلا يشترط، و حاصل

ما أفاده- قدّس سرّه- في بيان وجه الفرق: أنّه لا بدّ أن يشتمل القبول في باب البيع على إنشاء فعلي للتملّك بالعوض، و حصوله في «تملّكت و اشتريت» المتقدّمين واضح، و أمّا قبلت المتقدم، فحيث لم يصدر من الموجب تمليك، فيكون معناه الرضا بما يفعله الموجب بعد ذلك، من إنشاء التمليك بالعوض، لا إنشاء للتملّك، بخلافه لو كان متأخّرا، فإنّه حيث صدر التمليك من الموجب، فلا محالة يكون معناه قبولا لتمليكه و تملّكا فعليا.

و تنقيح المقام: أنّه إن كان اعتبار القبول في البيع من باب اعتبار مجرّد الرضا، و أنّه لا يجوز التصرّف في مال الغير بدون رضاه- بأن لا يكون تحقّق الإنشاء من المشتري معتبرا في مفهوم البيع، فإنّ البائع على هذا مستقلّ في إدخال ماله في ملك المشتري و إدخال مال المشتري في ملك نفسه، فكلاهما يحتاج إلى إمضاء المشتري و رضاه.

فإن قلت: كيف يمكن تملّك مال الغير مع عدم حصول التمليك منه.

قلت: التملّك ممكن الانفكاك عن التمليك، كما في تملّك المباحات بالحيازة، غاية الأمر إنّ التمليك هنا لما كان متعلّقا بمال الغير، يحتاج إلى رضاه، و هذا هو الظاهر بحسب الصناعة، فإنّ مفهوم البيع- و هو مبادلة المال بالمال- إنّما يتحقّق من البائع، و لعلّه يكون المرتكز في الأذهان العرفية أيضا، حيث يرون معظم قوام البيع من جانب البائع، و لا يرون من طرف المشتري إلّا مجرّد إمضاء و رضا- فحينئذ يلزم الاكتفاء بمجرّد حصول الرضا- كيفما اتفق- سابقا على الإيجاب، أو مقارنا له، أو لاحقا و لو بفصل طويل، بل يلزم الاكتفاء بمجرّد الإيجاب فيما إذا باع ولي الصغيرين مال أحدهما من الآخر، و يكون على هذا قول المشتري: بعني هذا

بهذا، كافيا، لكونه كاشفا عن الرضا، مع أنّه مجرّد الاستدعاء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 135

و طلب البيع، و ليس فيه إنشاء التملّك و التمليك أصلا.

و إن كان اعتباره من باب توقّف تحقق مفهوم البيع على تحقق الإنشاء من المشتري كما يتحقق من البائع- غاية الأمر أنّه في الأوّل تملّك مطابقي و تمليك ضمني، و في الثاني بالعكس- فحينئذ يكون قول: تملّكت أو اشتريت- سابقا أو لاحقا- كافيا، إذ القبول المأخوذ في مفهومهما متعلّق بالملكية الخارجية، فيكون معنى تملّكت: هوّنت على نفسي و حمّلتها أن يكون هذا ملكا لي بإزاء أن يكون ذاك ملكا لك.

فيحصل إنشاء التملّك مطابقة بقوله: تملّكت هذا، و إنشاء التمليك ضمنا بقوله: بهذا، و هذا بخلاف لفظ «قبلت» في باب العقود، فإنّ القبول فيه متعلّق بالمعاملة الصادرة من الموجب، ألا ترى أنّه يقال: قبلت الصلح أو الإجارة أو النكاح، فهو انفعال و مطاوعة من القابل للفعل الذي صدر من الموجب بالنسبة إليه، و حينئذ فإن كان معناه مجرّد الرضا و طيب النفس من المشتري بفعل البائع من دون أن يكون في البين إنشاء صادر من المشتري، فهو كما يمكن تحقّقه لاحقا فكذا سابقا، فإنّه قد يرضى الإنسان بالفعل المستقبل، و إن كان معناه تحميل النفس و تصييرها متحمّلة لفعل البائع، بمعنى أن يصير القابل معاونا و مساعدا للبائع، فحينئذ لو وقع عقيب الإيجاب يكون المعنى لم أردّ تمليك هذا المال إيّاي بإزاء ذاك، بل أخذته من البائع و التزمت به، فيكون الأخذ المتعلّق بتمليك هذا بهذا، تملّكا مطابقيا و تمليكا ضمنيا، و لو وقع قبله يكون التزاما بما لم يصدر من البائع بعد، على أن يكون نافذا على تقدير حصوله

من حين حصوله، و هذا و إن كان إنشاء حاليا للتملّك و التمليك، إلّا أنّه معلّق و مشروط بحصول الإيجاب، و التعليق و إن كان ليس بمفسد للعقد عقلا، إلّا أنّ الإجماع قام على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 136

مفسديته له.

فإن قلت: ما ذكرته بعينه جار في الإيجاب المتقدم، فإنّ الملكية لا تحصل لأحد من الطّرفين إلّا بعد القبول، فالتمليك و التملّك من الموجب في صورة التقديم، لا يمكن إلّا على وجه التعليق.

قلت: هذا تعليق لأثر الإنشاء من الملكية على حصول القبول بجعل الشارع، كتعليقه على حصول القبض في المجلس في بيع السلم، لا تعليق لنفس الإنشاء من قبل المنشئ، إن قلنا بأنّ مفهوم البيع يتحقق بإنشاء البائع فقط، فإنّه مبادلة مال بمال، و فاعل المبادلة هو البائع، غاية الأمر إنّه لا يؤثّر بدون رضا المشتري، فما يعتبر أن يتحقّق من جانب المشتري إنّما هو الرضا، لا لأجل تحقّق مفهوم البيع به، بل لأجل نافذية البيع الصادر من البائع.

فإن قلت: بل قوام البيع بل كلّ معاوضة و معاملة و عقد إنّما هو بالطرفين، و مجرّد إنشاء طرف واحد لا يحقّق هذا المفهوم و إن كان الأثر مع تحقّق هذا المفهوم بالتزام الطرفين قد يكون متوقفا على أمر آخر، كتوقف حصول الملكية في بيع السلم و الصرف على القبض في المجلس، لكن المفهوم العقدي يتوقف على الالتزام من الطرفين، و لا يحتاج إلى أزيد من ذلك.

و يؤيد ذلك أنّ مفهوم الشراء في العربية و مفهوم «خريدن» في الفارسية، يعدّ عرفا أمرا زائدا على مجرّد الرضا بفعل البائع، و على هذا لا بدّ أن يصدر من القابل في كل عقد إنشاء مناسب لهذا العقد، ففي عقد

الهبة لا بدّ من إنشاء التملّك المجاني، و في عقد الرهن من إنشاء قبول العلاقة التي أحدثها الراهن، و هكذا.

قلت: مفاهيم العقود مفاهيم عرفيّة، لا شرعية، لا بدّ من أخذها من العرف لا الشرع، و لا شكّ أنّ [في] العرف لو قال أحد لآخر: هل تبيع مالك الفلاني

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 137

مني؟ فقال الآخر: بعتك، يعدّ ذلك بيعا من دون أن يرون لأخذ المستدعي المال مدخليّة في تحقّقه، بل يرون المستدعي ملزما بالقبول بمجرّد الاستدعاء المذكور، و تعقبه بالقول المذكور، و هذا يدل على أنّ قوام البيع عندهم بطرف البائع فقط، غاية الأمر إنّه مع عدم الرضا، بيع غير مؤثّر.

ألا ترى أنّ عقد الوكالة متحقّق من طرف الموكل من دون حاجة إلى إنشاء من طرف الوكيل.

و في رواية سهل الساعدي أنّ الزوج قال للنبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: زوّجنيها، فقال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم زوجتكها. و ظاهرها الاكتفاء بمجرّد إيجاب النبيّ، و عدم تعقّبه بإنشاء القبول نم طرف الزوج.

و مفهوم الشراء و إن كان مفهوما مغايرا لمجرّد الرضا، لكن لا دليل على لزومه مع ترتّب الأثر في الكتاب و السنّة على مجرّد البيع، لا البيع و الشراء.

و الحاصل: أنّه إن قلنا بهذا، فالخطب سهل، فكما يجزي الرضا اللاحق من المشتري فكذا السابق بل هو أولى، بل لو حصل الرضا بعد الإيجاب بمدّة كان كافيا، كما في الإجازة اللاحقة في البيع الفضولي، بل يكفي مجرّد قول «بعت» فيما إذا باع ولي الصغرين مال أحدهما من الآخر.

و إنّما الإشكال و الكلام فيما لو قلنا بأنّ عقد البيع لا يحصل بدون إنشاء القبول من المشتري، و وافقنا الإجماع

على أنّ العقود مركّبة من الإيجاب و القبول الظاهر منه غير الرضا المجرّد، مع ملاحظة الإجماع الآخر على أنّه لا يكفي في باب العقود الإنشاء التعليقي، بل لا بدّ أن يكون آنيا حاليا فعليا، فإنّه لو حملنا القبول المحتاج إليه في تحقّق مفهوم العقد على القبول المطاوعي- و ربّما يؤيّد ذلك بما هو المتداول في القبول في أبواب العقود من تعليقه بفعل الموجب، فيقال: قبلت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 138

المصالحة و الإجارة و نحو ذلك- فحينئذ لا إشكال في قبلت المتأخّر، و كذا في تملّكت و اشتريت المتأخّرين، فإنّه و إن كان مدلولهما الأوّلي هو إنشاء قبول الملكية و هو غير القبول المطاوعي، لكنّه بوصف كونه متأخّرا عن الإيجاب يصير منشأ لانتزاع القبول المطاوعي.

و يشكل الحال في قبلت المتقدّم، فإنّه و إن كان إنشاء للقبول المطاوعي بمدلوله الأوّلي، لكن هذا الإنشاء إنّما يتحقّق مبنيّا على وجود الإيجاب، فإنّه فرع وجوده، فيكون تعليقيا غير كاف بالإجماع.

و كذا الكلام في تملّك و اشتريت المتقدمين، فإنّهما و إن كانا إنشاء فعليا حاليا لقبول الملكية، لكنّ القبول المطاوعي إنّما يحصل بهما على تقدير وجود الإيجاب، بحيث إذا وجد يكون المجموع من هذا الإنشاء و الإيجاب منشأ لانتزاع القبول المطاوعي، فيكون إنشاء القبول المطاوعي، الذي هو مدلولهما الثانوي تعليقيا.

و لو حملنا القبول المحتاج إليه العقد على قبول الملكيّة بالعوض الراجع إلى التملّك الابتدائي، و التمليك الضمني المدلول عليه بلفظة الباء العوضيّة، الداخلة على العوض، على عكس ما يحصل من البائع، فحينئذ لا إشكال في تملّكت و اشتريت المتقدمين و المتأخّرين، لكونهما إنشاء فعليا للتملّك المذكور في كلا الحالين، و إن كان إنشاء القبول المطاوعي المدلول عليه بهما التزاما

تعليقيا، كما في صورة التقدّم، لكن لا ضير فيه بعد أنّ ما هو المعتبر هو إنشاء التملّك لا القبول المطاوعي.

و لا إشكال أيضا في قبلت المتأخّر الغير المستعمل في معنى تملّكت مجازا، فإنّه و إن كان مدلوله المطابقي الأوّلي هو إنشاء القبول المطاوعي، لكنّه إذا تعلّق

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 139

بالتمليك بالعوض- كما هو المفروض- يستلزم حصول التملّك بالعوض من القابل قهرا، و المفروض أنّ إنشاء القبول المطاوعي فعلي، لكونه متأخرا فيكون إنشاء التمليك الناشئ من قبله أيضا فعليا.

و يشكل الأمر في قبلت المتقدم، فإنّه إنشاء للقبول المطاوعي تعليقيا، فيكون ما ينتزع منه من إنشاء التملّك بالعوض أيضا تعليقيا. نعم لو استعمل في معنى تملّكت مجازا، كان الحال فيه هو الحال في تملّكت، في أنّه يصير تملّكا حاليا، بالدّلالة المطابقية، و مصداقا للقبول المطاوعي التعليقي بالدلالة الالتزامية.

قوله: (أو لأصل الرضا به)

قال السيد المحشّي- دام ظله-:

لم أفهم معنى هذه العبارة.

أقول: الحدس القطعي شاهد بأنّ العبارة كانت هكذا: (أوّلا قبل الرضا به) فوقع حرف القاف في خطّ المصنّف شبيها بالصّاد، و هذا الحدس حاصل بملاحظة خطه- قدّس سرّه- و ضعف باصرته.

[و من جملة شروط عقد البيع الموالاة بين إيجابه و قبوله]

قال- قدّس سرّه-: (أقول حاصله أنّ الأمر المتدرج شيئا فشيئا) إلى قوله:

(و انضباط ذلك إنّما يكون بالعرف).

أقول: أمّا اعتبار الموالاة بين المستثنى و المستثنى منه فلقضيّة وحدة الكلام ذلك، بل الحال في سائر القرائن المتّصلة كذلك، فإنّه لو أتى بها بعد فصل طويل، تكون قرائن منفصلة أجنبية عن الكلام السابق، و يكون هو مستقلا عنها.

و الحاصل أنّ مجرّد تعليق الحكم على مركب لا يدل على اعتبار الموالاة بين أجزائه ما لم يعلم اعتبار الهيئة الاتصالية بينها، إمّا من العرف كما في لواحق

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 1، ص: 140

الكلام، أو من الشرع كما في الأذان و القراءة و نحوهما. و أمّا العقد فيمكن منع احتياج مفهومه إلى الطرفين أوّلا، لأنّه بمعنى العهد و هو ممكن الحصول من طرف واحد، كما في النذر و نحوه، و منع اعتبار اتّصال قبوله بإيجابه ثانيا، ضرورة صدق هذا المفهوم فيما لو صدر إيجابه من أحد الطرفين، و قال الآخر: إنّي لا أقبل حتّى أتأمّل في صلاحه و فساده، فجاء بعد مدة و قال: قبلت، فإذا لم يعتبر الاتّصال في صدق البيع و العقد عرفا، كان العقد الخالي عن الموالاة داخلا تحت إطلاق الحلّية و لزوم الوفاء، المعلّقين على البيع و العقد العرفيين.

[و من جملة شروط العقد التي ذكرها جماعة التنجيز في العقد]

مسألة اعلم أنّ اعتبار التنجيز في العقد بأن يكون حاليا غير معلّق على شرط، ممّا نقل عليه الاتفاق، لكن ما ذكروا في تعليله عليل، فإنّهم علّلوه بأنّه لا يعقل تحقّق الإنشاء بدون الجزم، و لا يعقل تحقّق الجزم إلّا مع عدم الترديد، فمع الترديد لا جزم، فلا إنشاء في البين أصلا.

و أنت خبير بعدم منافاة التعليق للجزم أصلا، ألا ترى أنّ المخبر بقوله: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، معتقد و جازم بمفاد هذه القضية التعليقية، فالمنشئ إمّا أن يجعل التعليق متعلّقا بالمنشإ فتنشأ الملكية المقيدة بيوم الجمعة، فيكون يوم الجمعة قيدا و شرطا للملكية المنشأ به، فلا تصير فعليّة إلّا بعد حصوله، و إمّا أن يجعله متعلّقا بنفس الإنشاء، فينشأ في ظرف حصول المعلّق عليه، لا بأن يكون هو ظرفه الواقعي فإنّ ظرفه الواقعي إنّما هو زمان التكلّم، بل ظرفه الفرضي، فيفرض أوّلا أنّ يوم الجمعة مثلا متحقّق فينشئ، فيكون هذا الإنشاء متحقّقا في ظرف يوم الجمعة المتحقّق في عالم

الفرض، فيكون الإنشاء تابعا ليوم الجمعة في التقديرية و الفعلية، و على كلا التقديرين فالإنشاء صادر بطريق الجزم، غاية الأمر

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 141

إنّ كيفية الإنشاء مختلفة، من دون فرق في ذلك بين أن يكون المعلّق عليه متوقّع الحصول في المستقبل قطعا كيوم الجمعة، أو احتمالا كقدوم الحاج، أو محتمل الحصول في الحال كما في بعته إن كان مالا لي، فحال المنشئ بالقضية التعليقية حال المخبر فيها في حصول الجزم، غاية الأمر إنّ المخبر يجعل التعليق لنفس الإخبار لا للمخبر به، فإذا قال: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، فلا إشكال أنّ مفاد هذا القول ليس هو الإخبار بأنّ الملازمة بين طلوع الشمس و وجود النهار موجودة، فإنّ القضية تختلف باختلاف طرفيها، فكل من زيد قائم، و زيد القائم موجود، و قيام زيد موجود، و الربط الحاصل بين زيد و القيام موجود قضية مستقلّة غير الآخر، بل المخبر به هو وجود النهار.

ثمّ لو كان التعليق راجعا إلى المخبر به يلزم أن يكون المتكلّم مخبرا و جازما بوجود النهار المعلّق على طلوع الشمس، و هذا لا يصحّ إلّا بعد العلم بفعلية الطلوع، و القول المذكور لا يتوقّف عليه بل يصح مع القطع بالخلاف فلا محالة يكون التعليق راجعا إلى نفس الإخبار، بمعنى أنّه يفرض أوّلا أنّ طلوع الشمس متحقّق، فيجزم و يخبر بوجود النهار، فيكون هذا الجزم و الإخبار واقعا في ظرف الطلوع المتحقّق في عالم الفرض.

نعم لو اصطاد أحد من مطاوي كلماتهم في هذه المسألة و إرسالهم إيّاها إرسال المسلّمات، أنّ أصل المطلب كان مسلّما بينهم، غاية الأمر أنّهم علّلوه في بعض المقامات بالدليل المذكور في قبال العامة، إسكاتا لهم كان الأمر

سهلا.

و أمّا لو لم يحصل ذلك و احتمل أن يكون تمام اعتمادهم على هذا الدليل، فالأمر مشكل.

[و من جملة شروط عقد البيع الجزم]

قال: و تفصيل الكلام أنّ المعلّق عليه. إلى قوله ثمّ التعليق.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 142

أقول: مثال التقادير الأربعة فيما إذا كان الشرط مصحّحا للعقد، أن يحتمل انقلاب الخمر بالخلّ في الحال أو في الاستقبال أو يقطع به في أحدهما و يعلق بيعه على ذلك، و ليعلم أنّ تعليق البيع على المالية المحتملة أو المقطوعة المتحقّقة في الاستقبال بأن يقول: بعته إن صار ملكا لي في الاستقبال، داخل في بيع ما ليس عندك فيشمله النهي عنه.

و ممّا استدل به على بطلان التعليق في البيع: أنّ الأدلّة الدالّة على صحته ظاهرها ترتّب الأثر، و هو الانتقال، على البيع من حين وقوعه، فالتعليق مخالف لذلك.

و فيه:- مضافا، إلى عدم جريانه في ما إذا كان الشرط محتمل الوقوع أو مقطوعة في الحال- أنّ الوفاء بكل عقد على حسبه، ألا ترى أنّ الوفاء بنذر صوم الغد هو الصوم في الغد، فالوفاء بالعقد المقتضي لحصول الملكية في المستقبل الالتزام بآثارها فيه.

و استدل على ذلك أيضا بتوقيفية العقود، فلا بدّ أن يقتصر على المتيقّن و هو الخالي عن التعليق.

و فيه: أنّ بعد إحراز الإطلاقات في أبواب العقود لا وجه لذلك.

فلو احتمل استناد تمام المجمعين أو البعض المقوّم للإجماع على هذه الوجوه الضعيفة ارتفع الوثوق عن هذا الإجماع، و لم يكن كاشفا عن رأي المعصوم- عليه السلام.

و لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان إمكان التعليق في الإنشاء و عدمه.

فنقول: لا إشكال في وقوعه، كما في الواجبات المشروطة، و الوصية و التدبير، لكن هنا إشكالان:

الأوّل: أنّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد، و لازمه الفعلية، و

لا يعقل التعليق فيه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 143

كما في الإيجاد التكويني، فإنّه دائر بين الوجود الفعلي و العدم الأصلي، و لا يعقل فيه الوجود التعليقي.

الثاني: أنّ الإنشاء من المعاني الحرفية، و من المقرّر في محلّه أنّها معان غير مستقلّة باللحاظ، و من الواضح أنّ تقييد شي ء يتوقّف على لحاظه مستقلّا فكيف يكون الإنشاء مع ذلك قابلًا للتعليق و التقييد، و للمحققين في التفصّي عنهما وجوه:

الأوّل: ما اختاره شيخنا العلّامة- قدّس سرّه- على ما في التقريرات: من إرجاع القيود إلى المادة دون الهيئة، فليس نفس الإنشاء معلّقا على شي ء أصلا، و هذا نظير ما اختاره صاحب الفصول في الواجب المعلّق، فإنّه جعل للواجب ثلاثة أقسام:

الأوّل: الواجب المطلق المنجّز، و هو ما لم يكن وجوبه و لا نفسه مشروطا بشي ء.

و الثاني: الواجب المطلق المعلّق، و هو ما كان القيد قيدا لنفس الواجب لا للوجوب.

و الثالث: الواجب المشروط، و هو ما كان وجوبه معلّقا على شي ء.

و التزم بذلك للتفصّي عن الإشكال في فروع كثيرة.

منها: وجوب الغسل للصوم قبل طلوع الفجر، مع أنّه مقدمة للصوم، و هو لا يجب إلّا بعد الطلوع، فالتزم بأنّ وجوب الصوم بالنسبة إلى دخول الليل مشروط، و بعد دخوله يصير مطلقا، و مقدمات الواجب المطلق واجبة، و الطلوع مبدأ للواجب و هو الصوم، لا الوجوب.

لكن شيخنا العلّامة منكر للواجب المشروط رأسا، و ملتزم بإرجاعه إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 144

المعلّق بإرجاع القيد إلى المادة دون الهيئة، و لا يخفى أنّه على ذلك يصير معنى أكرم زيدا إن جاءك، أنّ إكرام زيد الجائي مطلوب لي، و معين مطلوبيّة المقيّد و محبوبيته: كراهة الطالب عن عدمه، سواء كان بانتفاء قيده أو

بعصيان المأمور مع وجود القيد، فيلزم أن يكون الآمر مبغضا لعدم تحقق الإكرام المقيّد بالمجي ء في الخارج، سواء كان لعدم تحقّق المجي ء- غاية الأمر إنّ المأمور حينئذ غير عاص- أو لعدم الإكرام مع تحقق المجي ء، و من المعلوم أنّ الحال في المثال و أمثاله ليس كذلك، فإنّه ربّما لا يجبّ الآمر عدم تحقق القيد في الخارج، فيحبّ أن لا يجي ء زيد إلى منزله. نعم على تقدير تحقّق القيد يحبّ الإكرام و يبغض تركه، فمتعلّق الطلب و الحب ليس هو المقيد حتى يسري إلى قيده.

و أيضا يلزم على هذا أن يكون الجزم في الإخبار بالقضية التعليقية كقولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، متعلّقا أيضا بالمقيّد فيكون المجزوم به في المثال هو وجود النهار المقيّد بطلوع الشمس، و هذا لا يتحقّق إلّا بعد الجزم بالطلوع، و من المعلوم أنّ الإخبار بذلك يصحّ مع القطع بعدم الطلوع فضلا عن عدم العلم به.

الثاني: أنّ القيد راجع إلى المنشأ لا الإنشاء كالوجوب و الملكية، فالمنشى ء ينشئ فعلا الوجوب المعلّق أو الملكية المعلّقة، كما ينشئ الوجوب و الملكية المطلقين، فالوجوب و الملكيّة على قسمين، و الإنشاء في كليهما منجّز.

و لا يخفى أنّ هذا إنّما يستقيم على القول بأنّ المعاني الإنشائية معان لا واقعية لها سوى الفرض و الاعتبار، و موجدها الألفاظ، فإنّه على هذا كما أنّ الوجوب المطلق معنى اعتباري، فكذا الوجوب المعلّق أيضا ممكن الاعتبار. و أمّا على القول بأنّها معان نفس أمرية حاصلة في النفس، و الألفاظ أمارات عليها، فحالها حال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 145

الموجودات الخارجيّة بعينها، فكما لا يعقل التعليق في الوجود الخارجي فكذا في الموجود في النفس. و كذا لا يستقيم هذا في

الجزم في الإخبارات المعلّقة، فإنّه صفة موجودة في النفس غير قابلة للتعليق، ألا ترى أنّ المخبر بقوله: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، جازم بهذه القضية فعلا.

الثالث: لا إشكال في أنّ الخارج الصرف لا يتصرّف في النفس، و لا يوجد فيها طلبا و إرادة أو جزما، ألا ترى أنّه لو جاء زيد و كان في إكرامه ألف مصلحة و لكنّك لم تلتفت إلى ذلك، لم يوجب ذلك تحقق الطلب و الحب في نفسك، بل المتصرّف في النفس هو الوجود العلمي سواء طابق الخارج أو لا. ألا ترى أنّ من اعتقد بصلاح فعل يتحرّك إليه، و يشتغل بمقدمات وجوده و لو كان اعتقاده جهلا مركبا.

فنقول: المتكلّم بإن جاءك زيد فأكرمه يرى مجي ء زيد متحققا في الخارج في عالم فرضه، و سرّه أنّ الصور الذهنية حاكية عن الخارج في النظرة الأولى، و لهذا قد يتكيّف الإنسان ببعض الخيالات بحيث إذا التفت بالنظرة الثانية أنّ ذلك مجرّد الخيال و لا واقعية له، يزول عنه التكيّف، ففي المثال ما دام المتكلّم باقيا على النظرة الأولى يرى المجي ء متحقّقا في الخارج، كمن اعتقد بتحقّقه بالجهل المركّب فيحدث هذا العلم الجعلي الخيالي في نفسه حبّا و طلبا فعليّا للإكرام، لكن لا يؤثّر هذا الطلب في المأمور و لا يحركه نحو المأمور به، لأنّ الطالب إذا انتقل إلى النظرة الثانية يرى ما تخيّله واقعا غير واقع، فلهذا يزول طلبه، و لهذا متى تحقق المجي ء في الخارج يؤثّر فورا، فالتعليق على هذا ليس تقييدا واقعا، و لكنّه بحكم التقييد.

أمّا عدم كونه تقييدا، فلأنّ الفارض قد رأى الشرط متحقّقا بالفرض، غاية الأمر إنّ اعتقاده محض الخيال، كما أنّ الجاهل المركب معتقد بوجود الشرط على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 146

خلاف الواقع، و الفرق بينهما: أنّ الأوّل يزول اعتقاده بالنظرة الثانية و الثاني لا يزول.

أمّا كونه بحكم التقييد، فلأنّ التأثير متوقّف على حصول الشرط في الخارج، و كذا المخبر ب: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، يفرض طلوع الشمس كأنّه متحقّق في الخارج و إن كان غير متحقق فيه، فينقدح له بسبب هذا الفرض الحاكي عن الخارج الجزم بوجود النهار من دون تعليق، لكن ينثلم هذا الجزم بالالتفات إلى جهة كون فرضه و خياله فرضا و خيالا، بخلاف ما لو كان الطلوع متحقّقا في الخارج، فإنّ جزمه حينئذ لا ينثلم بالالتفات المذكور.

فظهر فساد توهم أنّه لا إرادة و لا طلب أصلا قبل حصول الشرط في الواجب المشروط، حتّى يشكل الأمر في مثل وجوب الغسل قبل الفجر بأنّه:

كيف تحقق وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذيها؟ و ذلك لما عرفت من أنّ هنا إرادة و وجوبا مبتنية على فرض حصول الشرط، إلّا أنّ هذه الإرادة و الوجوب ليست مؤثرة بالنسبة إلى ذي المقدمة، لأنّ محله بعد حصول الشرط، و هو غير حاصل بالفرض، ألا ترى أنّ المريد لضيافة شخص على تقدير وروده عليه، لو علم بأنّ سيرد، يسعى في تحصيل مقدمات الضيافة من جمع الطعام و آلات الطبخ و نحوه، و محرّكه إلى ذلك هو الإرادة المذكورة، بل لو علم بعدم تمكّنه من تحصيل هذه الأسباب لدى الورود، يعدّ تحصيلها قبله لازما على نفسه، كما أنّه لو علم بتمكّنه في كلا الوقتين، يرى نفسه مخيّرة.

و بالجملة: فحال هذه الإرادة حال الإرادات المطلقة في البعث المذكور بلا فرق، هذا حال الإرادة الفاعلية المبتنية على فرض حصول الشرط.

و الإرادة الأمرية [أيضا] كذلك، فإذا

قال المولى: إن قدم زيد فأضفه، و علم بتحقق القدوم في المستقبل، تخيّر العبد بين جمع أسباب الضيافة قبله و بينه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 147

بعده لو تمكّن منه في كليهما، و تعيّن عليه الجمع قبله لو تعذّر عليه بعده.

و الشاهد على ذلك أنّه لو ترك الجمع في الصورة الثانية، معتذرا بأنّه غير واجب قبل القدوم و غير مقدور بعده، عدّ قبيحا عرفا، بل قد تؤثّر هذه الإرادة في وجوب ذي المقدمة أيضا، و ذلك فيما إذا كان الشرط المعلّق عليه متأخّرا عن الواجب، كما لو قال: استقبل زيدا إن قدم. و مع ترتّب هذه الآثار كيف تكون الإرادة قبل حصول الشرط عدما. فيبقى الكلام في أنّه يلزم على هذا أن يصح الإتيان بالوضوء قبل دخول وقت الفريضة بقصد الوجوب، بل يكون واجبا متعيّنا لو علم بعذرة بعده.

و كذا الغسل للصوم بالنسبة إلى دخول الليل و نظائرها، و تحقيق ذلك يذكر في محله من بحث الواجب المشروط إن شاء اللّٰه تعالى.

فتبيّن أنّ التعليق في الإنشاء لا مانع منه عقلا، و الإجماع على بطلانه في باب العقود إن احتمل استناد المجمعين فيه إلى توهّم الامتناع العقلي ارتفع الوثوق منه، و إلّا كان المتيقّن منه صورة كون الشرط مشكوك الحصول في الاستقبال، فيبقى غيرها تحت الإطلاقات.

[و من جملة شروط العقد التطابق بين الإيجاب و القبول]

قال- قدّس سرّه-: (و من جملة شروط العقد التطابق بين الإيجاب و القبول).

أقول: المناط في ذلك أن لا يصدق المعاهدة مع التخالف، سواء كان في المثمن، كأن يقول الموجب: بعت هذا الفرس، و يقول القابل اشتريت هذا الحمار، أو في الثمن كأن يقول الموجب: بعت بعشرة دراهم، و يقول القابل: قبلت بدينار، أو في المشتري، كأن يقول: بعتك بدرهم

في ذمتك، فقال آخر: قبلت، لا فيما إذا قال: بعتك بهذا الدرهم مشيرا إلى درهم في يد المخاطب، و كان لغيره

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 148

الحاضر في المجلس، فقال هذا الغير المالك: قبلت، فإنّ البيع مبادلة مال بمال، و المفروض تحقّق الإنشاء من كل من المالكين الواقعيين، و اعتقاد كون المخاطب مالكا غير مضر بعد عدم دخله في حقيقة البيع.

و لو قال أحدهما: بعت هذا العبد بمائة درهم، فقال الآخر: اشتريت نصفه بخمسين، رجّح المصنّف- قدّس سرّه- البطلان، و وجه أنّ ما تعلّق به الإيجاب هو المجموع من حيث المجموع، و ما تعلّق به القبول هو النصف، و المجموع غير النصف.

و لا يخفى أنّ هذا مبني على عدم انحلال بيع الجملة بالجملة إلى بيع الأبعاض بالأبعاض، إذ على تقدير الانحلال كان البيع المذكور بيوعا متعدّدة، لحق القبول بعضها و لم يلحق بالباقي، و حكمهم في مقام آخر بأنّه لو باع ما يملك و ما لا يملك بصفقة واحدة فردّ المالك الآخر، صحّ البيع بالنسبة إلى ما يملك، و كان للمشتري خيار تبعّض الصفقة، مبنيّ على الانحلال، إذ على تقدير عدمه كان المتعيّن هو البطلان بالنسبة إلى ما يملك أيضا، لعدم تعلّق إيجاب و قبول به، فالتفرقة بين المقامين لا وجه لها.

و هكذا الكلام فيما لو قال: بعتكما هذا العبد بمائة درهم، فقال أحدهما:

اشتريت نصفه بخمسين، فإنّه لو سلم الانحلال كان الإيجاب بمنزلة بعتك نصف العبد بخمسين، مخاطبا لكل واحد مرّتين، فما وجه عدم الصحّة بالنسبة إلى القابل، و لو لم يسلّم فما وجه القول بثبوت الخيار عند تبيّن كون بعض أحد العوضين مستحقّا للغير و عدم الحكم بالبطلان من الرأس؟ ثم لو سلّم

عدم الانحلال، فما وجه التفرقة بين هذا و بين ما لو قال كل منهما: اشتريت نصفه بخمسين، إذ كل واحد من القبولين قد تعلّق بما لم يتعلّق به الإيجاب.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 149

و أمّا لو قال أحدهما: بعتك بشرط كذا، و قال الآخر: اشتريت بلا هذا الشرط، فيمكن أن يقال بالصحّة فإنّ الشرط ليس من أركان العقد، و إنّما هو التزام في التزام، فالعقد قد حصل، فإن تعقّبه الإمضاء من الموجب أثّر، و لهذا لو لم يف بالشرط في صورة قبوله صحّ البيع بالنسبة إلى التمام و يثبت الخيار للمشترط.

[و من جملة الشروط في العقد أن يقع كل من إيجابه و قبوله في حال يجوز لكل منهما الإنشاء]

اشارة

قال- قدّس سرّه-: (و من جملة الشروط في العقد أن يقع كل من إيجابه و قبوله في حال يجوز لكل منهما الإنشاء).

أقول: إن قلنا بأنّ مفهوم المعاهدة غير قائمة بالاثنين، و يكفي فيه الطرف الواحد و هو الموجب، فحينئذ من الواضح أنّه لا يشترط بقاء أهليّة الموجب إلى تمام القبول، و لا بقاء أهلية القابل من أوّل الإيجاب إلى تمام القبول، بل يكفي كون الموجب في حال الإيجاب قابلًا و أهلا، و إن لم يكن الطرف الآخر قابلًا و أهلا في هذا الحال أو خرج عنه بعده، غاية الأمر إنّ نفوذه يحتاج إلى إمضاء من له الإمضاء، و إلّا فالمعاهدة متحقّقة.

و أمّا إن قلنا بتوقّف مفهومها إلى الإنشاء من الطرفين، فحينئذ يمكن الخدشة في بعض الأمثلة التي ذكرها المصنّف- قدّس سرّه- و إن كان بعضها خاليا عن الخدشة، فإنّه لو مات أو جنّ القابل بعد تمام الإيجاب و قبل صدور القبول كان الإيجاب بلا قبول، فإنّ المجنون مسلوب العبارة شرعا و عرفا، و كذا لو صار مغمى عليه في هذا الحال، و كذا

لو كان صغيرا في حال الإيجاب. و بالجملة:

فمفهوم المعاهدة لا يصدق في هذه الموارد.

و أمّا لو كان محجورا عليه من التصرّفات المالية- لفلس أو سفه أو رقّ- فلأنّه و إن كان ممنوعا من التصرفات لكنّ الإنشاء يتمشّى منه، لصحّة عقله، و السفيه هو من لم يكن خبيرا بإصلاح ماله و إن كان عاقلا عالما. و بالجملة فلا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 150

شكّ في تحقّق مفهوم العهد منه، فإذا وقع في أحد طرفي العقد، تمّ به المعاقدة و المعاهدة، غاية الأمر إنّه غير مؤثّر و [غير] نافذ شرعا، فلو لحقه إجازة الغرماء في الأوّل، أو الولي في الثاني، أو السيد في الثالث، فلا مانع من تأثيره، فإنّه عقد تام الأجزاء مع حصول الرضا به ممن يعتبر رضاه.

و أمّا المكره فيتمشى منه أيضا الإنشاء المعتبر في العقد، لوضوح أنّ المعتبر في العقد ليس هو الرضا بالعنوان الأوّلي و طيب النفس، بل يكفي مطلق الرضا و إن كان من باب الإلجاء و الحاجة، كأداء دين أو نفقة عيال، فكما يحدث من هذه الأمور رضا بالمعاملة فكذا من دفع ضرر الظالم عن النفس أو العرض أو المال، و بالجملة، فعقده صحيح تامّ، لتحقّق مقدمات تحقّق الإنشاء و العهد في حقّه، و على هذا فصحته على وفق القاعدة لا على خلافها، كما ذكره المصنّف- قدّس سرّه. بل القاعدة لولا النص كانت مقتضية للتأثير بلا ترقّب لحوق الرضا.

فإن قلت: يمكن استفادة كون المكره مسلوب العبارة من حديث الرفع، كما استفيد ذلك في حق الصغير من حديث رفع القلم.

قلت: لا شكّ أنّ رفع الأمور المذكورة في ذلك الحديث إنّما هو على وجه الامتنان، و لا الامتنان في سلب العبارة عن

المكره، بل اللائق به رفع التنجيز عن تأثير عبارته، فهذا الحديث لا يصلح لتقييد إطلاقات صحّة المعاملات أزيد من ذلك، فيكون عند لحوق الرضا عقدا صحيحا شرعيا، بمقتضى الإطلاقات.

[فرع]

قال- قدّس سرّه-: (و الأوّلان مبنيّان على أنّ الأحكام الظاهرية المجتهد فيها) إلى آخره.

أقول: الكلام هنا تارة في المبنى، و أخرى في صحّة الابتناء فنقول: قد استشكل ابن قبة على التعبد بخبر الواحد بأنّه مستلزم لتحليل الحرام و عكسه،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 151

و هذا الإشكال كما ترى لا اختصاص له بخبر الواحد، بل يجري في جميع الأمارات و الطرق الظاهرية.

و قد تفصّى عنه بوجوه:

الأوّل: الالتزام بأنّه لا واقع إلّا ما أدّى إليه ظن المجتهد بحسب طريقه، فحكم اللّٰه الواقعي الأوّلي يختلف باختلاف الظنون في حقّ الأشخاص، و هذا كما ترى تصويب باطل شرعا و عقلا، أمّا شرعا: فلأنّه المتيقّن من الإجماع على بطلان التصويب، و أمّا عقلا: فلأنّه مستلزم للدور، إذ على هذا يكون العلم سببا لحدوث الحكم و قبله لا حكم أصلا، و من المعلوم توقّف حصول العلم على ثبوت الحكم لكونه متعلّقه.

الثاني: إنّ الأحكام- على المذهب الحقّ- تابعة للمصالح و المفاسد الواقعية، و من الواضح كون الحسن و القبح في الأشياء بالوجوه و الاعتبار، و حينئذ فلا مانع من أن يكون شي ء بحسب ذاته- مع قطع النظر عن الطواري- مشتملا على المفسدة المحرّمة، لكن إذا عرض عليه حالة تغيرت المفسدة بالمصلحة في إثباته، و لا شك أنّ كوننا ظانّين بصدق الراوي المخبر بحليّة الخمر مثلا صفة من صفاتنا، و كون الخمر مما أخبر بحليّته الثقة حالة من حالاته، فيمكن أن يتغيّر باعتبار هذا العنوان الطارئ، المفسدة الكامنة في ذات الخمر، و انقلب

بالخلو عن المفسدة و المصلحة، فتكون الحلّية حكما واقعيا ثانويا. و هذا الوجه هو الذي لو تمّ ربّما يقال بأنّه يفيد لهذا المقام، فإنّ من يجوّز العقد بالفارسية بحسب مقتضى طريقه فهذا حكم واقعي ثانوي في حقّه، فيكون إيجابه أو قبوله بمنزلة إشارة الأخرس.

فكما أنّه لو لحق القبول أو الإيجاب الصحيح بإشارة الأخرس صار عقدا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 152

صحيحا مؤثّرا في حق كليهما، فكذا هنا، لكن قد ادّعي الإجماع على بطلان هذا القسم من التصويب أيضا، و إن كان عن محذور الدور خاليا كما هو واضح.

الثالث: إنّ المصالح و المفاسد الكامنة في ذوات الأشياء غير متبدّلة بحال من الأحوال، بل هي باقية على حالها أبدا، فالأحكام الواقعيّة ثابتة غير منقلبة بشي ء من الأحوال في حقّ شخص من الأشخاص، لكن لا مانع لأن ينصب الشارع طريقا و أمارة على هذه الأحكام، لوضوح أنّ الاقتصار على القطع في إدراكها ينجرّ إلى العسر و الحرج، فيمكن ذلك لتسهيل الأمر على المكلّف، فإن أصاب هذه الأمارة فهو المطلوب، و إلّا فالمكلّف معذور في عدم الإتيان بالواقع.

و تظهر الثمرة بين الوجهين الأخيرين فيما لو انكشف خطأ الطريق و أداؤه إلى خلاف الواقع بعد العمل، فعلى سببية الطرق و كون مؤدياتها أحكاما واقعية ثانوية لا يلزم التدارك، و على الطريقية و كون المؤديات أحكاما عذرية يلزم، و لا فرق في لزوم التدارك على الثاني بين ما لو انكشف الخطاء بالقطع أو بأمارة أخرى.

و إن كان السيد المحشّي- دام ظلّه- فصل بينهما بلزومه في الأوّل و عدمه في الثاني، و ذلك لأنّ مقتضى جعل الأمارة الثانية طريقا للواقع و كاشفا عنه ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها و آثار القطع

على نفسها كيف ما كان، و من جملتها التدارك عند الفوات، فلو طلّق امرأة بالفارسية لقيام أمارة على جوازها، فانكشف خطاؤها بأمارة أخرى لم يجز له نكاحها، و كذا لكل من كان حاله ذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا شكّ أنّه على الطريقيّة لو صدر الإيجاب أو القبول بالفارسية ممن يعتقد الجواز لأمارة، و كان الآخر معتقدا للخلاف، فالعقد بنظر الثاني باطل بالنسبة إلى كليهما، لكونه بلا إيجاب أو قبول عنده، و أمّا على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 153

السببية فهل يصح العقد بالنسبة إليهما أو لا؟

الحق هو الثاني، فإنّ السببية و إن كانت مفيدة فيما لو كان العمل صادرا من واحد كالصلاة، فلو صلّى بلا سورة لقيام أمارة معتبرة على عدم وجوبها، كانت صحيحة، و إن انكشف الخطاء، و كالإيقاع، فلو طلّق امرأة بالفارسية كان الطلاق صحيحا و كان طلاقه موضوعا لحكم غيره ممّن يرى عدم جواز الطلاق بالفارسية، لكن إفادتها فيما كان بين الاثنين، و محتاجا إلى الطرفين ممنوعة، فإنّ مؤدى الطريق و إن كان له واقعية، لكن في حقّ من قام عنده الأمارة لا غيره، و الفرق بين إشارة الأخرس و الإيجاب بالفارسية على السببية: أنّ الإشارة واقعي أوّلى في حقّ الأخرس في عرض القول في حق غيره، و ليس بدلا اضطراريا عن القول، و الإيجاب المذكور واقعي ثانوي في حق من قام عنده الأمارة بعد اشتراكه مع غيره في حكم واحد، غاية الأمر إنّ الحكم الأوّلي قد انقلب في حقّه بغيره، لكنّه باق بحاله بالنسبة إلى الطرف الآخر، بل الحال على الطريقية أسهل منه على السببيّة، فإنّ من قام عنده الأمارة يعترف على الأوّل بصحّة العقد للآخر، لأنّه يرى مؤدّى طريقه

حكما واقعيا أوّليا في حقّ كل أحد، و لا يعترف بها. بل بالبطلان على الثاني، إذ هو معترف بأنّ حكم اللّٰه الأوّلي كان مشتركا بينهما، و بعد قيام الأمارة انقلب في حقّه و بقي بالنسبة إلى الآخر على حاله.

ثمّ هذا كلّه فيما إذا لا يتسرّى النقص و العيب الواقع في أحد طرفي العقد إلى الطرف الآخر، كصورة الإخلال بالعربية أو الماضوية أو الصراحة. و أمّا لو تسرّى منه إلى الآخر، فحينئذ و إن قلنا بكون السببية مفيدة و رافعة للعيب، لا تجدي هنا، فإنّ غايته رفع العيب عن طرف من قام عنده الأمارة، لكنّ الطرف الآخر يبقى بحاله من العيب، فيكون العقد حينئذ باطلا بالنسبة إليه بلا إشكال.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 154

نعم يكون صحيحا بالنسبة إلى الأوّل و ذلك كما إذا أخّر القابل القبول عن الإيجاب على وجه فات الموالاة بينه و بين الإيجاد و كان ممّن لا يعتبرها بينهما و الموجب ممّن يعتبرها، فإنّ الموالاة وصف قائم بكلا الطرفين، إذ هي عبارة عن اتّصال الإيجاب بالقبول و اتّصال القبول بالإيجاب، و من الواضح أنّ انتفاء وصف الاتّصال في القبول يوجب انتفاء الموالاة في كليهما، فحالها حال القاطع في الصلاة، فإنّه عبارة عن شي ء ينقطع بسببه الهيئة الاتصالية للصلاة، فتبطل بسببه الأجزاء السابقة و اللاحقة معا لانتفاء الشرط في كليهما، بخلاف المانع فإنّه يمنع عن لحوق الأجزاء اللاحقة بالسابقة، و إلّا فالسابقة في حدّ نفسها صحيحة.

و كذا الكلام في الترتيب، فإنّه عبارة عن وصف كون الإيجاب سابقا و القبول لاحقا، و من المعلوم تلازمهما وجودا و عدما، فلو قدم القبول من لا يعتبر الترتيب لزم اتّصاف الإيجاب باللاحقية، فالبناء على السببية لو سلم

كونه مصحّحا، فإنّما يصحّح سابقية القبول، لا لاحقيّة الإيجاب.

و كذلك التنجيز فإنّه لو علّق أحدهما إنشاءه على أمر لعدم اعتبار التنجيز عنده و كان معتبرا عند الآخر، فإن كان إنشاء الآخر منجزا لزم عدم التطابق، و إن كان معلّقا لزم التعليق المبطل عنده، و البناء على السببيّة أنّما يصحّح على فرضه تعليق الأوّل لا الثاني.

[مسألة المقبوض بالعقد الفاسد]

اشارة

قال- قدّس سرّه-: (مسألة: لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه، و كان مضمونا عليه).

[بيان أقسام الضمان]

أقول: الضمان على قسمين: أحدهما ضمان الإتلاف. و هو مختص بصورة التفريط، فلا يثبت مع التلف السماوي، أو إتلاف الغير.

و الثاني: ضمان اليد و هو ثابت مع التلف مطلقا، و إن كان بفعل الغير، غاية

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 155

الأمر إنّ الغير يكون حينئذ ضامنا أيضا، و المقصود هنا إثبات الثاني

[أدلة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد]

[و من أدلته أخبار ضمان منفعة الأمة المسروقة]

و الاستدلال له بخبر الأمة المسروقة بتقريب: أنّ الحكم فيه- بردّ قيمة ولدها إلى سيّدها- مبنيّ على ضمان اليد، إذ لم يصدر من المشتري إتلاف، و إنّما وجد الولد حرا، فالحاصل إنّما هو التلف لا الإتلاف، و ضمان الولد الذي هو النماء يستلزم ضمان الأصل بطريق أولى.

يمكن الخدشة فيه: أوّلا: بأنّ هذا الحكم فيما إذا كان أحد المتعاقدين سارقا أو غاصبا، و لعلّه لا يمكن تعديته إلى ما إذا كانا مالكين و كان الفساد ناشئا من جهة الصيغة فقط.

و ثانيا: بإمكان دعوى صدق الإتلاف عرفا في مورد الرواية.

[و من أدلته قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أصلا و عكسا]

و أمّا قاعدة: كل عقد يضمن بصحيحه إلى آخره، فحيث لم يرد بها آية أو رواية و ليست معقدا للإجماع، فلا يمكن التعويل عليها، و لا فائدة في بيان معناها. «1».

[و من أدلته الحديث النبوي على اليد و بعض أحكامه]

و مقتضى إطلاق الحديث كون الأخذ متعهّدا للخسارات المتعلّقة بالمأخوذ لكل من ورد عليه الخسران سواء كان مالكا أم غيره.

و من هنا أنّه لو ترتّبت الأيدي في الغصب و تلف المال في اليد الأخيرة صار الجميع ضامنا للمالك، بمعنى أنّ له مطالبة ماله من أيّها شاء، ثمّ إذا رجع إلى واحد منها فليس للمرجوع إليه أن يرجع إلى سابقه، و لكن له الرجوع إلى لاحقه، و يستقر الضمان بالآخرة على اليد الأخيرة التي تلف المال عندها.

و سرّ ذلك أنّ المال حين كونه في اليد الأولى كان بوصف أنّ خسارته لا ترد إلّا على المالك، و إذا انتقل إلى الثانية صار بحيث يرد خسرانه على اثنين، و هكذا

______________________________

(1) هنا بياض في الأصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 156

كلّما صار الأيدي أكثر صار الخسران واردا على أكثر.

و كذا لو كان المأخوذ التالف مستأجرا كان الأخذ ضامنا للمالك و المستأجر، أو مرهونا كان ضامنا للراهن و المرتهن.

ثمّ إنّ مفاد الحديث- على ما عرفت- هو أنّ العين الخارجي يكون في العهدة في كل حال، في حال وجوده و في حال عدمه، و لا ينتقل إلى البدل أبدا، و حينئذ فلو تلف و كان قيميّا، فإن قلنا بعدم اعتبار القيمة السوقية، كان المعتبر هو قيمة يوم الأداء، لأنّها القائمة مقام العين في هذا الحال، و إن قلنا باعتبارها، كان المعتبر أعلى القيم من حين الأخذ إلى زمان الأداء، لأنّ العين بتمام ماليّتها كانت في عهدة الأخذ في تمام

الأحوال، و منها حالة كون المالية مساوية لأعلى القيم، فإذا دفع الأعلى برأت ذمّته من الأدنى، لاندراجه تحت الأعلى، بل مقتضى هذا القول أنّه لو كانت العين موجودة تعيّنت إضافة زيادة القيمة السوقية، المنتفية حين الأداء، الثابتة قبله و بعد الأخذ إليها.

ثمّ إنّ إطلاق اليد في الحديث شامل لليد الأماني، و لكنّها خارجة بالمخرج، و هو ما دلّ على ثبوت اليمين على الأمين، و النهي عن اتهام من ائتمن، ضرورة أنّه لو كان ضمان الأمين من باب ضمان اليد الثابت مع التفريط و عدمه، لما احتيج إلى اليمين على عدم التفريط، بل كان لغوا، و لم يصدر من أحد اتهام من ائتمنه بالخيانة و التفريط حتّى يحتاج إلى النهي عنه.

و لا يبعد دعوى انصراف اليد عن يد تابع الظالم، فإنّه ليس المراد به الجارحة المخصوصة، بل هي كناية عن الاستيلاء و التصرّف، لحصولهما بها غالبا، و لا شكّ أنّ الاستيلاء ينسب عرفا إلى المتبوع، و يد التابع إنّما هو بمنزلة الآلة له، و لا استقلال له بنفسه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 157

و الحاصل: أنّ الظاهر أنّ المراد باليد هنا هو المراد باليد المجعولة أمارة للملكية، و لا شكّ أنّ يد التابع و استيلاءه لا يجعل عرفا أمارة على مالكيته بل على مالكية متبوعه، و كذا يد الطفل و المجنون، فإنّه لا يعدّ عرفا يدا.

نعم قاعدة ضمان الإتلاف شاملة لهذه الأيدي، لصدق «من أتلف» على التابع و الطفل و المجنون، و كذا يد المأذون من قبل المالك، فإنّ يده يد المالك.

[شرح قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده و بيان الجهة الثالثة و هي عدم اختصاص الضمان بجهل الدافع بفساد المعاملة]

و أمّا الكلام في مسألتنا، و هو المقبوض بالعقد الفاسد، فنقول: ربّما يفصل بين صورة جهل الدافع بالفساد- سواء كان القابض جاهلا أم عالما-

فالضمان ثابت، ضرورة أنّه لم يسلّط القابض على ماله مجّانا بل دفعه إليه بزعم أنّه صار مالا له بالمعاملة، فيكون الدفع على وجه الإيفاء بها، فالرضا بالتصرّفات يكون مقيّدا بالملكيّة، و مبنيّا عليها لا محالة، و المفروض عدم الملكيّة واقعا، فينتفي الرضا المقيّد بها أيضا، فيكون يد القابض على مال الغير بدون إذنه، و لو كان القابض عالما بالفساد فالضمان أوضح.

و بين صورة علم الدافع بالفساد- سواء كان القابض جاهلا أم عالما- فلا ضمان، إذ المالك سلّط القابض على ماله مع علمه بعدم صيرورته مالا له، و لا عوضه مالا لنفسه، فيكون التسليط بمنزلة إباحة جميع التصرّفات حتى التلف مجّانا، فحينئذ يكون له الرجوع إلى عينه ما دام باقيا، فإذا تلف ذهب من كيسه، فإن كان عين الآخر باقيا عنده، فللآخر الرجوع إليه.

و يمكن أن يقال بثبوت الضمان في هذه الصورة أيضا، إذ لا شك أنّ للمتعاقدين نظرين من جهتين: أحدهما من جهة تشرّعهما، فيكون بيع الخمر مثلا عندهما باطلا لا محالة بهذا النظر. و الثاني: من حيث كونهما عرفيّين كسائر أهل العرف ممّن لم ينتحل هذه الشريعة، و لا شكّ أنّهما بهذا النظر يعدّان البيع المذكور

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 158

بيعا صحيحا كسائر المعاملات، فيزعمون حصول المبادلة به، ألا ترى أنّ من يبيع الخمر بثمن فهو لم يدفع الثمن على وجه الإحسان و بلا عوض، بل يزعم أنّه دفع مالا و أخذ مالا، بل ربّما يفرح بزعم أنّ ما أخذه أكبر ممّا دفعه، و إنية غبن الآخر، فدفع الثمن الواقع بهذا النظر إنّما يكون على وجه الإيفاء بالمعاملة و مبنيّا على زعم ملكيّة الآخر. و الحاصل أنّ الصورتين مشتركتان في أنّ الدافع

لم يدفع مال نفسه إلى القابض، بل دفع مال القابض إليه. نعم لو دفع على وجه أنّه مال نفسه فهو أجنبي عن المعاملة، و الكلام فيما إذا وقع التقابض على وجه الإيفاء بالمعاملة، فحال المتعاقدين في هذه المعاملات حال غير المتشرّعين من أهل العرف بعينه، فهما قد قطعا النظر عن جنبة التشرّع، و مشيا على طبق عرفيّتهما و ما ارتكز في ذهنهما.

[في بيان أحكام المقبوض بالعقد الفاسد]

[و من أحكامه ضمان المثلي بالمثل و القيمي بالقيمة و فيه مقامات ثلاثة]
[الأول في تعريف المثلي و القيمي]

ثمّ إنّهم عرّفوا المثلي بما يتساوى أجزاؤه، كمنّين من الحنطة، حيث يتساوى نصفاهما و ربعاهما و ثلثاهما، و هكذا، و القيمي بما يكون بخلاف ذلك

[الثاني دليل اعتبار ضمان المثلي بمثله]

لكن لا يخفى أنّ هذين اللفظين ليسا بموجودين في آية أو رواية حتّى يحتاج إلى معرفة معنييهما، و جعلهما موضوعين للحكم

[الثالث حكم الشك في كون التالف مثليا أو قيميا]

فالأولى أن يقال: إنّ الأموال على قسمين:

أحدهما ما يكون مماثلة في جميع الصفات التي يختلف باختلافها الرغبات و الأغراض كثيرا شائعا بحسب نوعه كالحنطة، و الثاني ما يكون بحسب نوعه عديم المماثل في هذه الصفات، أو كان له هذا المماثل لكن كان نادر الوجود كالحيوان، و لا شكّ أنّ تدارك التالف في القسم الأوّل إنّما يكون بدفع مماثله، ضرورة أنّه أقرب إليه عند العرف من القيمة، و لا شكّ أنّ التدارك لا يحصل إلّا بدفع أقرب الأشياء إلى التالف، بخلاف القسم الثاني، فإنّ أقرب الأشياء إلى التالف فيه عرفا هو القيمة، لا فرد آخر من نوعه، و على هذا فالقيميّة و المثلثة ربّما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 159

تختلفان باختلاف الأزمان، فربّ قيمي في زمان يكون مثليا في زمان آخر، كالظروف و الأثواب، فإنّها كانت في الزمان السابق قيميّة، و في زماننا صار ما يجلب منها من الإفرنج مثليّا، فعلى هذا لا يقع الشك في مثليّة المال و قيميّته، إذ هما متمايزان أبدا، و أمّا على كونهما تعبّديين مأخوذين من الشرع، فربّما يشكّ في شي ء أنّه من أفراد المثلي أو القيمي، فهل هنا أصل يقتضي تخيير القابض بين دفع أيّهما شاء؟ أو تخيير المالك بين أخذ أيّهما شاء؟

ربّما يقال: إنّ أصالة اشتغال ذمّة القابض بالبدل الواقعي يقتضي تخيير المالك، فبراءة ذمّته إنّما يحصل بأن يسلّم المثل و القيمة إلى المالك، و يقول له: خذ أيّا منهما هو البدل الواقعي من مالك.

و لكنّ الحق أنّه ليس هنا أصل يقتضي تخيير واحد من الطرفين،

فإنّ البدل الواقعي في ذمّة القابض واحد معيّن ليس له دفع غيره، و لا للمالك أخذ غيره، فلا محيص من الصلح القهري، أعني مصالحة ما في الذمّة بالمثل أو القيمة.

[و من أحكامه فيما لو تعذر المثل]

لو وجد المثل في القيمي هل التدارك حينئذ بدفع القيمة، أو بدفع المثل؟

ثمّ على ما ذكرنا لو وجد المثل في القيمي- أعني ما ليس له نوعا مماثل في الصفات المذكورة في الغالب- هل التدارك حينئذ بدفع القيمة، أو بدفع المثل؟

وجهان: من أنّ التدارك كان عند العرف بحسب نوع الموارد بالقيمة، و الظاهر أنّ هذا الحكم لا يزول في هذا المورد الشخصي، و من أنّ دفع القيمة في الغالب إنّما هو من جهة تعذّر المثل الذي هو أقرب الأشياء إلى التالف، فإذا وجد كان هو المتعيّن، و الظاهر هو الثاني، لكون المثل أقرب إلى التالف من القيمة.

[و من أحكامه ضمان القيمي بالقيمة و الأقوال في القيمة المعتبرة]
اشارة

ثمّ إنّك عرفت أنّ المعتبر في القيمي هو قيمة يوم الأداء- بناء على عدم الاعتبار بالقيمة السوقية- و أعلى القيم من يوم الأخذ إلى يوم الأداء- بناء على اعتبارها- إلّا أنّ ظاهر صحيحة أبي ولّاد هو اعتبار قيمة يوم الغصب و الأخذ،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 160

فيحتمل أن يكون ذلك لخصوصيّة في الغصب الذي هو موردها، و يحتمل أن يكون لتخطئة الشارع طريقة العرف في تدارك التالف في جميع الموارد، و ليس هذا من باب التعارض بين هذه الصحيحة و الحديث النبوي، فإنّ الحديث ليس مدلوله اللفظي كون الاعتبار بقيمة يوم الأداء، بل استفيد من إطلاق كون العين في عهدة الأخذ الذي هو مضمونه أنّه لو طالب المالك العين وجب على القابض دفع العين. و أمّا إنّ دفع العين في صورة التلف إنّما هو بدفع قيمته يوم الأداء، فهو المطابق للمرتكز في أذهان أهل العرف.

[الاستدلال بصحيحة أبي ولاد على اعتبار قيمة يوم الضمان و شرح بعض مفرداتها تيمنا]

و لا بأس بشرح بعض فقرأت الصحيحة تيمّنا.

فنقول: قوله: فقال: ما أرى لك حقا، إلى آخره. مراد أبي حنيفة هو القاعدة المسلّمة بين العامّة من أنّ الخراج بالضمان، يعني: أنّ المنافع تكون لمن عليه ضمان التلف و الأرش، فالمكتري المذكور حيث إنّه اكترى البغل لأن يركبه في الطريق بين الكوفة و القصر، فخالف ذلك و ركبه من طريق الكوفة إلى النيل، ثمّ منه إلى بغداد، ثمّ منه إلى الكوفة، فهو غاصب من أوّل الأمر، و كان ضمان التلف و الأرش عليه في تمام هذه المدّة، فصار مالكا للمنافع في جميع المدّة، و المفروض أنّه أعاد البغل سالما، فلم يبق للمالك حقّ عليه.

قوله: ذاهبا من الكوفة، إلى آخره.

يظهر منه أنّه لم يكن بين الكوفة و القنطرة مسافة معتدّ بها، ضرورة

أنّه لو كان بينهما هذه المسافة، كان اللازم احتساب كري البغل إلى القنطرة من أجرة المسمّى، لا أجرة المثل، لأنّ الركوب إليها كان بحقّ، و المخالفة حصلت منها.

قوله: (فلي عليه علفه، فقال: لا، لأنّك غاصب) إلى آخره،

و من الواضح أنّ جميع ما ينفق الغاصب على المغصوب قد ذهب من كيسه، و ليس له حقّ مطالبتها من المالك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 161

قوله: (لو عطب البغل) إلى آخره، الظاهر أنّ المراد بعطب و نفق واحد، أي هلك، و هذا من السائل إشارة إلى تلك القاعدة المذكورة.

قوله: قيمة بغل يوم خالفته إلى آخره.

لو قرئ «بغل» باك «تنوين» صار نكرة، فيلزم كفاية قيمة كل بغل، و من المعلوم أنّه ليس بمراد، لوضوح اختلاف قيم البغال، فاللازم في كل بغل قيمة نفسه، لا قيمة غيره، فلا بدّ من إضافته إلى اليوم، فيكون اللام ساقطا منه بالإضافة، فالمعنى: أنّ هذا البغل في يوم المخالفة، عليك أن تدفع قيمته.

قوله: يوم تردّه عليه إلى آخره. لا بدّ من كونه ظرفا للدفع المعلوم من سياق الكلام، يعني عليك أن تدفع الأرش إلى المالك يوم ترد المال إليه، إذ لو كان ظرفا للقيمة، لزم اختلاف قيمة العين في صورة التلف مع أرشها في صورة النقصان، حيث إنّ الأوّل بملاحظة يوم الغصب و المخالفة بمقتضى الفقرة السابقة، و الثاني بملاحظة يوم الردّ، و من المعلوم عدم الفرق بينهما في ذلك.

قال- قدّس سرّه-: (إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا).

أقول: قد يضاف شي ء واحد إلى شيئين في عرض واحد، و لا إشكال في وقوعه و إمكانه، فإنّ العطف على المضاف إليه ممكن بلا شبهة، كما في قولك:

غلام زيد و عمرو، أو غلام زيد عمرو،

بإسقاط العاطف.

إنّما الكلام في أنّه هل يمكن إضافة شي ء أوّلا إلى شي ء ثمّ إضافته ثانيا بوصف كونه مضافا إلى الأوّل إلى شي ء آخر.

فتكون الإضافة الثانية في طول الأولى، بأن يعتبر مجموع المضاف و المضاف إليه في الإضافة الأولى شيئا واحدا في طرف المضاف في الإضافة الثانية.

الحقّ أنّه أيضا واقع، و منه «حجّة إسلامنا» و «أطفال محلّتنا»، فإنّه ليس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 162

المقصود إضافة الحجّة إلى الإسلام، و إضافة الإسلام إلى ضمير المتكلّم، بل المقصود إضافة الحجّة المضافة إلى الإسلام إلى الضمير، و كذا ليس المراد إضافة الأطفال إلى المحلّة ثمّ إضافة المحلّة إلى الضمير، بل المراد إضافة الأطفال المضافة إلى المحلّة إلى الضمير.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 1، ص: 162

و أمّا الاستشهاد بالصحيحة فمورده فقرتان منها:

الأولى: قوله: نعم قيمة بغل يوم خالفته.

و الثانية: قوله: أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكترى كذا و كذا.

و يمكن أن يقال: إنّ التعبير بيوم المخالفة و يوم الإكتراء ليس لأجل تعيين القيمة المعتبرة من بين القيم المختلفة، إذ من البعيد اختلاف القيمة السوقيّة للبغل في هذه المدّة القليلة، أعني: خمسة عشر يوما، بل الممكن الوقوع في هذه المدّة المحتاج إلى تعرّض حكمه هو حدوث العيب و النقص في البغل من هزال و نحوه، فالتعبير بيوم المخالفة لبيان أنّه لا بدّ أن تكون القيمة قيمة يوم الغصب الذي كان البغل فيه سالما من جميع العيوب، لا قيمة يوم التلف و لا قيمة يوم الأداء، إذ ربّما حدث فيه بعد الغصب و قبل التلف عيب، فلو كان

المعتبر قيمة يوم التلف أو يوم الأداء، لزم أن يكون العيب الحادث بلا عوض، فعلى هذا لا تكون الصحيحة مؤيدة لأحد الأقوال، لعدم تعرّضه لحيث اختلاف القيمة السوقية أصلا.

هذا مع أنّ هنا في هذه الفقرة احتمالا مبنيّا على أن يكون تصديق النفي ب «نعم» و تكذيبه ب «بلى» كما قرّر في النحو، و هو أن يقال: إنّ السائل لما صار مغروسا في ذهنه في مجلس أبي حنيفة أنّ ثبوت قيمة العين على العهدة ينافي مع ثبوت أجرة المنافع عليها، استبعد حكم الإمام- عليه السلام- بثبوت كري البغل عليه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 163

ذاهبا من القنطرة إلى النيل، و منه إلى بغداد، و جائيا من بغداد إلى الكوفة، و قال:

أ ليس على تقدير العطب يلزمني قيمة البغل؟ و الإمام- عليه السلام- لم ينكر هذا المغروس، بل أراد رفع الاستبعاد مع تسليمه، بتقريب أنّه و إن كان على تقدير العطب تثبت في الذمّة قيمة البغل، لكن لا في يوم المخالفة لفرض وجوده فيه، بل في يوم العطب، ففي يوم المخالفة الذي هو زمان ثبوت الأجرة لا قيمة في البين، و في يوم العطب الذي هو زمان ثبوت القيمة لا أجرة في البين، فلم يجتمعا في زمان واحد، فليس الاستبعاد في محلّه، فمعنى الكلام يصير هكذا: نعم على تقدير العطب لا يلزمك في يوم المخالفة قيمة بغل. و على هذا يكون تنكير لفظة بغل في محلّه، لوقوعه في سياق النفي، و لا يحتاج إلى التكلّف الذي ذكره المصنّف- قدّس سرّه- من إضافة القيمة المضافة إلى البغل إلى اليوم، و أيضا لا مانع على هذا من حمل الظرف في قوله: «عليك تفاوت ما بين الصحّة و العيب

يوم تردّه عليه»، على ظاهره من كونه ظرفا لقيمتي الصحّة و العيب، فلا حاجة إلى حمله على خلاف ظاهره من كونه ظرفا للدفع كما هو اللازم على ما ذكره المصنّف- قدّس سرّه- لئلّا يلزم اختلاف صورتي التلف و العيب، من حيث إنّ الاعتبار في الأولى بقيمة يوم المخالفة، و في الثانية بقيمة يوم الردّ.

و لا يخفى أنّه على هذا الاحتمال لا مجال لتوهّم شهادة الفقرة المذكورة لشي ء من الأقوال، إذ المفروض أنّ السائل ليس في مقام الاستعلام عن حكم العطب حتّى يحمل الجواب على بيانه، فيكون شاهدا على واحد من الأقوال على وجه و غير شاهد على آخر، بل هو في مقام استبعاد حكم الإمام، فالجواب المناسب رفع استبعاده بالبيان المتقدّم، فيكون حكم القيمة اللازمة على تقدير العطب و أنّها أيّ قيمة، مسكوتا عنه في طرفي السؤال و الجواب كليهما.

نعم يستفاد من نفي الإمام على تقدير العطب لزوم القيمة في يوم المخالفة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 164

لزومها في يوم العطب، و أين هذا من كون الاعتبار بقيمة يوم العطب.

ثمّ مع الغض عن هذا الاحتمال و تضعيفه بأنّ الاستفهام في كلام السائل إنكاري، فهو بمنزلة الإيجاب، فيكون «نعم» الواقع في الجواب بمنزلة يلزمك، فالاحتمال الأوّل- المبني على كون احتمال ارتفاع القيمة السوقية للبغل في مدة خمسة عشر يوما مرتفعا من البين و هو أن يكون اعتبار يوم المخالفة و الإكتراء لملاحظة سلامة البغل عن العيوب الحادثة فيه فيما بين هذا اليوم و يوم التلف لو حدثت، جار بلا إشكال.

ثمّ إنّ قوله- عليه السلام-: «إمّا أن يحلف هو فيلزمك إلى آخره»، مشتمل على خلاف القاعدة من حيث الحكم بثبوت الحلف ورده للمالك مع ادّعائه للزيادة

و إنكار الضامن لها، و من حيث الجمع بين الحلف و مسموعيّة البيّنة في طرف واحد.

و لكن لا يخفى أنّه بناء على ما ذكرنا من عدم اختلاف القيمة السوقية للبغل في تلك المدّة يصير المالك منكرا، إذ النزاع في زيادة و نقيصة قيمة التالف أو أرش الجزء أو الوصف الفائتين حينئذ يرجع إلى دعوى المالك: أنّ جميع العيوب الكائنة في العين التالفة أو الباقية أو بعضها حدثت في يد الضامن، و لم تكن ثابتة حين الأخذ، أو أنّ وصف الكمال حدث في يده ثمّ نسي بناء على مضمونيّة هذا الوصف كما يأتي. و دعوى الضامن في جميع هذه الصور ثبوت فوات جميع الأجزاء أو الأوصاف الفائتة أو بعضها من حين الأخذ، و حينئذ فأصالة الصحّة حين الأخذ أو في الأثناء تكون مع المالك، فيكون منكرا.

نعم لو ادّعى المالك: أنّ العيب الفلاني حدث في يد الضامن بعد ما لم يكن ثمّ زال، و قلنا بضمان هذا العيب، فأصالة الصحة حينئذ تكون مع الضامن،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 165

لكن هذا القول ضعيف و مع منكريّة المالك يكون الحكم الأوّل على طبق القاعدة كما هو واضح. و أمّا الحكم الثاني فيمكن أيضا تطبيقه عليها بناء على أن لا يكون مفاد دليل ثبوت اليمين على المنكر لزومه عليه، حتّى يكون معارضا لإطلاق دليل حجيّة البيّنة و مخصّصا له، بل كان مفاده الاكتفاء بيمينه عن بيّنته.

و يمكن التطبيق على القاعدة مع اختلاف القيمة السوقية للبغل في تلك المدة أيضا بأن يقال: الترديد في كلام الإمام- عليه السلام- منزّل على اختلاف الموارد، إذ ربّما يكون المدّعي هو المالك و المنكر هو الضامن و ربّما يكون بالعكس.

فالأوّل كما إذا اتّفقا على

أنّ قيمة حين التلف- أعني: تلف العين أو الجزء أو الوصف- مساوية لقيمة حين الأخذ، لكن ادّعى المالك أنّ قيمة حين الأخذ هو الثلاثون مثلا، و ادّعى الضامن أنّه العشرون، و كذا لو اتّفقا على أنّه العرشون لكن ادّعى المالك صيرورتها ثلاثين حين التلف، و الضامن بقاءها بحالها، فالحكم بإقامة صاحب البغل الشهود منزّل على هاتين الصورتين.

و الثاني كما إذا اتّفقا على أنّ قيمة حين الأخذ هو الثلاثون لكن ادّعى الضامن صيرورتها عشرين حين التلف، و المالك بقاءها بحالها، و الحكم بالحلف أو ردّه لصاحب البغل، منزّل على هذه الصورة. و حيث إنّ المقام لم يكن مقام التّرافع فالإجمال في الحكم لا بأس به.

و كيف كان فالصحيحة ليست بحجّة، لإجمالها، و عرفت أنّ المستفاد من قاعدة على اليد، أنّ العين في جميع الأحوال ثابتة في عهدة الأخذ و لا تنتقل أبدا بالمثل أو القيمة، فالضمان العرفي باق بحاله، و حينئذ فالأمر لا يخلو من حالين:

إمّا أن يكون ارتفاع القيمة السوقيّة معتبرا أو لا؟ فعلى الثاني، لو كانت العين موجودة في هذا الحال أي حال الأداء، وجب ردّ نفسها بلا زيادة بالفرض،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 166

فالقائم مقامها عند التعذّر هو قيمة هذا الحال بلا زيادة أيضا.

و على الأوّل- كما هو المستفاد من إطلاق القاعدة، إذ هي بإطلاقها مفيدة لكون المال بجميع مراتبه من الشخصيّة و النوعية و الماليّة ثابتا في العهدة في جميع الأحوال- يكون المعتبر أعلى القيم من حين الأخذ إلى حين الأداء، فإنّه إذا تعذّر الخروج عن عهدة الشخصيّة و النوعيّة بواسطة التلف، فالخروج عن عهدة الماليّة باق بحاله، لإمكانه، و المفروض أنّ تعهّد الماليّة كان ثابتا من حين الأخذ إلى حين

الأداء، لا إلى حين التلف، و ذلك لإمكان اتصاف التالف بالمالية، فالمنّ من الحنطة التالفة مال و إن لم يصح إضافته إلى أحد، فالخروج عن عهدة المالية إنّما يحصل بدفع الأعلى المذكور، و لكن القطع باعتبار ارتفاع القيمة السوقية مع ذلك مشكل، لأنّ من المسلّم عند الفقهاء: أنّه لو كانت العين باقية و طالبها المالك، و كان قيمتها السوقية حين المطالبة أنقص منها حين الأخذ، يكفي ردّ نفسها، و لا يجب دفع ارتفاع القيمة السوقية معها، و يعلّلون ذلك: بأنّ المالية أمر اعتباري لا اعتبار به، مع وضوح فساده، فإنّها و إن كانت أمرا اعتباريا لكنّه يعتني بها العقلاء كمال الاعتناء، فلا وجه لنفي الاعتناء بها، بل يمكن التمسّك في اعتبارها في بعض الموارد بأدلّة نفي الضرر، كما إذا كان الأخذ في فصل يكون ماليّة المأخوذ فيه ألفا، فحبسه إلى فصل صار الماليّة فيه خمسمائة.

و بالجملة: فالإنصاف أنّه لولا الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، فالقول باعتبار ارتفاع القيمة السوقية ممّا لا مانع منه أصلا، لكن حيث وقع التعليل المذكور في كلام المجمعين أشكل الأمر، إذ يحتمل أن يكون تمام استنادهم إليه و يحتمل أنّه كان الحكم المذكور مسلّما عندهم، و بعد ذلك علّلوه بهذا الوجه تأييدا و إسكاتا للخصم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 167

قال- قدّس سرّه-: «نعم لا بأس بالتمسّك باستصحاب الضمان المستفاد من حديث اليد».

أقول: لا فرق بين هذا الاستصحاب و أصالة بقاء الاشتغال، إذ ليس المراد بالضمان إلّا اشتغال الذمّة بالقيمة عند التلف، فكما أنّ الشك في الثاني مجرى للبراءة لكونه شكا في الأقل و الأكثر فكذا الأوّل.

قال- قدّس سرّه-: «فالظاهر اعتبار محلّ التلف، لأنّ ماليّة الشي ء إلى آخره».

أقول: الظاهر أنّ الكلام

في ذلك مبني على أنّه هل يكون للمالك في صورة وجود العين في محلّ، مطالبتها من الغاصب في محل آخر، أو لا؟ بل لا بدّ أن يأخذها في المحلّ الأوّل، بنفسه أو بوكيله، فإن قلنا بالأوّل، كان له في صورة التلف مطالبة قيمة المحلّ الثاني، إذ هي بدل عن العين في هذا المحلّ الذي كان له استيفاؤها من الغاصب، و قد تعذّر، و إن قلنا بالثاني، فالمعتبر قيمة محل التلف لا غير.

[في ضمان ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينية]

قال- قدّس سرّه-: (و أمّا إذا كان حاصلا من زيادة في العين، فالظاهر) إلى آخره.

أقول: الأصل في ذلك أنّ الأوصاف الكمالية الحادثة في العين في يد الضامن، الزائلة عنده، مضمونة عليه، سواء بقيت العين أم تلفت، كوصف الكتابة إذا تعلّمها العبد عند الضامن و نسيها عنده، و ليس حالها كحال ارتفاع القيمة السوقيّة الناشئة من تفاوت الرغبة.

قال- قدّس سرّه-: (و أنّ العبرة بيوم فواتها).

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 168

أقول: تظهر ثمرة هذا القول فيما إذا حصل نسيان الصفة قبل تلف أصل العين و كان قيمة اليومين مختلفة، كما إذا نسي العبد الكتابة في يوم كان قيمته كاتبا المائة، ثمانون منها لنفسه و العشرون لكتابته، ثمّ تلف نفسه بعد ذلك في يوم كان قيمته كذلك الخمسين، أربعون منها لنفسه و العشرة لكتابته، فحينئذ لا بدّ أن يدفع أربعون لنفسه و العشرون لكتابته، و كذا الكلام بناء على اعتبار قيمة يوم الضمان أو أعلى القيم.

[مباحث بدل الحيلولة]

اشارة

قال- قدّس سرّه-: (ثمّ إنّ في حكم تلف العين في جميع ما ذكر من ضمان المثل أو القيمة حكم تعذّر الوصول إليه).

[في بيان مورد بدل الحيلولة]

أقول: الحكم بثبوت بدل الحيلولة لا إشكال فيه في صورة تعذّر الوصول إلى العين بغرق أو سرقة أو ضياع و نحوها، فإنّ العين و إن كانت باقية لكنّها تعدّ في العرف حينئذ تالفة، فتكون مشمولة للأدلّة العامّة، من قوله على اليد و نحوه، بناء على ما عرفت من أنّ مفاده: أنّ العين في عهدة الأخذ في جميع الأحوال، و أنّ للمالك مطالبتها في كلّ حال، فإن وجدها موجودة يأخذها، و إلّا يأخذ بدلها، مضافا إلى الأخبار الخاصة الواردة في ضمان الودعي لو وضع الوديعة في بيت الجار فضاعت هناك.

و أمّا في صورة العلم بحصول المال بعد مدّة كثيرة أو قليلة، أو رجاء حصوله، أو نحو ذلك ممّا لا يصدق معه التلف عرفا، فيمكن التمسّك لإثباته أيضا بقاعدة على اليد، إذ العهدة المستفادة منها شاملة لحال تعذّر التسليم فعلا.

و الفرق بين بدل الحيلولة و بدل التلف: أنّ الضامن ببذل الثاني يفرغ ذمّته عن عهدة العين رأسا و يستريح، فله تفريغ ذمّته ببذله في أيّ وقت شاء، و ليس للمالك الامتناع من الأخذ، بخلاف بدل الحيلولة، فإنّه حقّ ثابت للمالك زائدا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 169

على عهدة أصل العين، إذ عهدتها باقية بحالها و إن بذل هذا البدل، بمعنى أنّه لو تمكّن الضامن منها في زمان، فللمالك مطالبتها منه، فلهذا يكون المالك هنا مخيّرا عند بذل الضامن بين الأخذ و الصبر إلى زوال العذر.

[دفع بدل الحيلولة لا يقتضي انتقال العين إلى الغارم]
اشارة

قال- قدّس سرّه-: (و قال الثاني: إنّ هذا لا يخلو عن إشكال من حيث اجتماع العوض و المعوّض على ملك المالك).

أقول: العوض تارة يكون عوضا في الملكيّة كما في باب المعاوضات، فإنّها عبارة عن تبديل المالين، و صيرورة مال كل من

الطرفين مالا للآخر، و حينئذ يلزم من اجتماع المالين في ملك أحد الطرفين في زمان واحد اجتماع العوض و المعوّض.

و أخرى يكون العوض تداركا لما فات كما في باب الغرامات، فإن كان الفائت هو الملكيّة كما في صورة الإتلاف، فلا بدّ أن يتدارك بالملكيّة. و إن كان هو السلطنة الفعليّة على المال، بمعنى تقليبه و تقلّبه في وجوه التصرّفات و الانتفاعات كما فيما نحن فيه، فالتدارك إنّما هو بحصول سلطنة مثل تلك السلطنة للمالك على مال الضامن، و لكن حيث إنّ حصول سلطنة كذلك متوقّف على حصول الملكيّة لتوقف إباحة بعض التصرفات عليها، فلا بدّ من حصولها مقدّمة لتحقق السلطنة المتدارك بها، و حينئذ لو اجتمعت هاتان السلطنتان في زمان واحد، لزم اجتماع العوضين، و لهذا لو عادت السلطنة الفائتة للمالك عادت السلطنة الحادثة إلى الضامن، و اجتماع الملكيّتين لا يضرّ بعد ما عرفت من أنّ الملكيّة الجديدة إنّما حدثت تبعا للعوض، أعني: السلطنة، لا لحصول التدارك بنفسها و كونها نفس العوض.

قال- قدّس سرّه-: (و لولا ظهور الإجماع و أدلّة الغرامة في الملكيّة، لاحتملنا أن يكون مباحا له إباحة مطلقة و إن لم يدخل في ملكه، نظير الإباحة المطلقة في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 170

المعاطاة على القول بها فيها، و يكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين).

أقول: الالتزام بعدم حصول الملكيّة من أوّل الأمر و حصول إباحة مطلق التصرفات حتّى المتوقفة على الملك، لو كان للفرار من لزوم اجتماع العوضين على تقدير حصولها من أوّل الأمر، ففيه:- بعد ما عرفت من عدم لزومه- أنّه لا فرق في لزومه- على تقدير تسليمه- بين صورة حصول الملكية من أوّل الأمر و بين صورة حصولها في آن

عقليّ، فليس الالتزام المذكور إلّا كرّا على ما فرّ.

و إن كان للجمع بين استصحاب بقاء ملكية الضامن للبدل و بين تدارك السلطنة الفائتة المتوقفة على ملكيّة المالك له، ففيه: أنّ الاستصحاب لا مجرى له هنا.

و توضيح ذلك، أنّ مفاد «لا تنقض» هو النهي عن النقض العملي، سواء في الشبهات الموضوعية أو الحكمية، و لا شكّ أنّ النقض العملي فرع ثبوت عمل مشكوك في البين، كما أنّه إذا شكّ في حياة زيد، فيشك في وجوب نفقة عياله، و عدم تقسيم أمواله بين ورثته، إلى غير ذلك.

و كذا إذا شكّ في بقاء الوجوب، فالشكّ العملي ثابت لا محالة، و لا شكّ أنّه ليس فيما نحن فيه عمل مشكوك، إذ من المعلوم أنّ السلطنة ثابتة للمالك و غير ثابتة للضامن، فالبناء على عدم ملكيّة الضامن ليس فيه نقض عمليّ للملكيّة فلا يشمله النهي.

ثمّ ممّا ذكرنا من أنّه إذا كانت السلطنتان متقابلتين فلا يلزم من اجتماع الملكيّتين اجتماع العوضين، يتبيّن الحال في بعض الفروع.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 171

فروع
الأوّل: لو مزج الغاصب المال مع ماله، فله صور أربع:

الأوّل: أن يمزج بالمجانس المماثل كالحنطة بمثلها.

الثاني: أن يمزج بالمجانس الأدون.

الثالث: بالأجود.

الرابع: بغير الجنس كالسمن بالدبس. فهل يحصل حينئذ الشركة في العين أو في الثمن، أو يكون ذلك بمنزلة التلف فيرجع إلى البدل؟

لا بدّ أوّلا من التكلّم في أصل الشركة بالمزج مع قطع النظر عن الغصب.

فنقول: قد عرّفوا الشركة بأنّها اجتماع حقوق متعدّدة لملّاك متعدّدين في مال واحد، فذكروا لها أسباب، و عدّوا من جملتها المزج. و ظاهر هذا أنّ نصف كلّ من الخليطين ينتقل إلى مالك الآخر حتّى تحصل الإشاعة الواقعية، و إلّا فالمالان متمايزان واقعا، و هذا الانتقال لا دليل عليه إلّا أن يكون في البين إجماع،

و مقتضى القاعدة عدم حصول الشركة في العين، فيباع و يكون الثمن مشاعا، و على تقدير الإجماع فالقدر المتيقّن منه صورة الخلط بالمجانس المساوي، فيكون باقي الصور على وفق القاعدة، هذا فيما إذا حصل الاختلاط لا بفعل أحدهما.

و أمّا لو كان مستندا إلى فعل فاعل كما فيما نحن فيه أعني: مسألة الغصب، فهو ضامن، و يكون للمالك الآخر أن يقول للغاصب: إذا أخذت مالي كان مفروزا غير متفرّق الأجزاء، فأطلبه منك بوصف المفروزيّة، بإطلاق على اليد.

و حينئذ حيث امتنع ردّ ماله بعينه وجب ردّ الأقرب إليه، كما هو قضية تلك القاعدة، و لا شك أنّ الأقرب في صورة المزج بالمجانس المساوي هو نفس العين المركّب من عين المال و مثله، لا غيره من الأمثال، إذ هي مشتملة على صرف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 172

المثلية من دون الاشتمال على شي ء من عين المال، فيكون المتعيّن حينئذ فيما إذا مزج منّا من الحنطة بمنّ مثله، دفع منّ من هذين المنّين لا من آخر مثلهما.

و أمّا لو خلط بالأدون أو بالأجود، فهل يكون الأقرب حينئذ هو المال المركّب من العين و المخالف، أو المال المماثل بتمامه؟ الظاهر أنّ المال حينئذ يعدّ تالفا، إذ هو بوصف الجودة أو الرداءة غير موجود، فيرجع إلى المثل، و يكون هو الأقرب، و هذا فيما إذا خلط بغير الجنس أوضح، إذ السمن بعد الامتزاج بالدبس مثلا يصير طبيعة أخرى غير السمن، فيتعيّن دفع سمن مثله.

ثمّ في هذه الصور الثلاث الأخيرة هل يكون عين مال المالك المخلوط بمال الغاصب باقيا على ملكه مع أخذه المثل؟ كما قلنا بذلك في بدل الحيلولة، فلا يجوز للغاصب التصرّف في المخلوط، أو تحصل المعاوضة القهريّة، فينتقل

ماله المخلوط إلى الغاصب عوضا عمّا انتقل من مال الغاصب إلى المالك من المثل.

الثاني: لو أحدث أحد في مال الغير مالا

كأن يغرس في الأرض شجرة، أو وصف كمال، سواء كان أثرا لعمله، كأن يعلّم العبد صنعة، أم لماله، كأن يصبغ الثوب بنيله، فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك بغصب و عدوان، و إمّا أن يكون بحق، فإن كان الأوّل و غرس في الأرض شجرة، فلا إشكال في أنّ نفس الشجرة تكون للغاصب، و لكن للمالك إجباره على قلعها و تسوية الأرض بعده بطمّ الحفر، و بعبارة أخرى على جعلها مصفّاة كما كانت في السابق، و ليس له مطالبة الأرش من المالك، إذ لا حقّ لعرق ظالم.

و لو كان غاصبا و أحدث في المال كمالا و كان منشؤه عمله، كان المال مع وصف الكمال مالا للمالك، و ليس للغاصب فيه حقّ، لا بنحو الشركة و لا بنحو آخر، لأنّ منشأ حدوث الكمال عمله الغير المحترم، لكونه منهيّا عنه، و لازم عدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 173

احترام العمل في نظر الشارع عدم ترتّب الماليّة على أثره لصاحب العمل في نظره.

و لو كان غاصبا و أحدث الكمال و كان منشأ حدوثه ماله، كما لو صبغ الثوب الغصبي بنيله، فحيث إنّ مال الغاصب محترم بلا إشكال، و لازم احترام المال هو ترتّب المالية على أثره الكمالي لصاحب المال، كان للغاصب حقّ متعلّق بالعين الغصبيّة على نسبة تفاوت ما بين واجد الوصف و فاقده.

و أمّا كونه شريكا في نفس العين على النسبة المذكورة فهو على خلاف القاعدة، لعدم تحقّق شي ء من أسباب الشركة. و أمّا كونه مالكا للوصف و كون المالك مالكا للعين وحدها- و تظهر الثمرة فيما لو ارتفعت القيمة السوقيّة للوصف، فيملكه

الغاصب بتمامه على هذا، و يكون بينهما بالنسبة على الشركة- فضعيف أيضا، لأنّ الأوصاف الكمالية ليست بنفسها مالا، و إنّما هي منشأ لزيادة مالية العين، فماليّة العين المخصوصة كذا، لا أنّ ماليّة أصل العين كذا و ماليّة الوصف كذا، و لهذا لا يقسّط الثمن على الأوصاف بخلاف الأجزاء، فيحتمل قويّا أن يكون هذا من قبيل حقّ الزكاة المتعلّق بالإبل، فإنّ زكاة الخمسة الآبال شاة، مع كون الزكاة متعلّقة بعين المال الزكوي، لا بالذمّة. و حق الإرث للزوجة المتعلّق بالأبنية بدون الأراضي، حيث إنّه مع كونه متعلّقا بالعين الخارجي، حكموا بأنّ للزوجة ثمن قيمة الأبنية، لا ثمن نفسها، إلى غير ذلك من الحقوق و هي كثيرة، و معنى هذه الحقوق: أنّها ثابتة على عهدة المال الخارجي، بمعنى أنى لصاحب الحق حبس المال حتّى يصل إليه حقّه، ففيما نحن فيه يكون للغاصب قيمة وصف على عهدة العين، و يكون الاعتبار حينئذ بقيمته يوم الأداء.

هذا كلّه هو الكلام في الغاصب و أمّا غيره، كمن أحدث مالا أو كمالا في ماله الذي اشتراه بالبيع الخياري قبل انقضاء مدّة الخيار، ثمّ فسخ العقد و عاد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 174

المال إلى مالكه الأصلي، و كالمفلس إذا أحدث أحدهما فيما اشتراه ببيع النسية ثمّ فلّسه الحاكم، فإنّ البائع أحقّ بالمبيع من سائر الغرماء. فالكلام فيه في صورة إحداث وصف الكمال ما عرفته في الغاصب فيما إذا أحدث الكمال و كان منشؤه ماله، من غير فرق هنا بين ما إذا كان المنشأ هو المال أو العمل، لأنّ الثاني هنا محترم كالأوّل، و أمّا الكلام في صورة غرس الشجرة فهو. «1».

.

______________________________

(1) هنا بياض في الأصل. و قاعدة الاحترام الآتية من الأدلة

التي تمسك بها لإثبات قاعدة ما لا يضمن. فهي من تتمة البحث السابق فلا تغفل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 175

[من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد ضمان المنافع المستوفاة و من أدلتها]

قاعدة الاحترام

قد يقال: إنّ الحرمة إذا تعلّقت بالأفعال كانت ظاهرة في التكليف، و إذا تعلّقت بالأعيان كانت ظاهرة في الوضع نظير الحريم و الحرم، فمعنى هذا المكان حريم البيت أو حرم عدم كون الإنسان في السعة المطلقة بالنسبة إليه، بل له لوازم يعدّ التخطّي منها تعدّيا، و كما أنّ احترام الإنسان يقتضي عدم صدور فعل بالنسبة إليه غير مناسب لمقامه، يقتضي أيضا أنّه إذا صدر ذلك الفعل و أمكن التدارك بالترضية و الاعتذار و غيرهما كان التدارك حفظا لاحترامه، فإذا صار مكان أو زمان محترما بنظر الشارع كان قضيّة محترمية أيضا لزوم الجبران على فرض صدور منافي الاحترام، غاية الأمر لا طريق للعرف إلى تشخيص ما يحصل به التدارك، و أمّا إذا صار الموضوع للاحترام الشرعي هو المال فالتدارك له بيد العرف و يعرف أنّ جبران المال دفع المثل أو القيمة.

لا يقال: اشتمال الكلام على حكمين قد أخذ في موضوع أحدهما الآخر كيف يتصوّر؟ فإنّ الاحترام الشرعي حكم و ما دام لم يجعل هذا الاحترام الأوّلي لم يتحقّق موضوع للاحترام الثانوي المتحقّق في فرض مخالفة الأوّل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 176

فإنّا نقول: يمكن ذلك إمّا بنحو القضيّة الطبيعيّة و إمّا بتنقيح المناط القطعي، و حينئذ فنقول: إذا وقع مال لأحد في يد آخر مبنيّا على معاوضة فاسدة فإمّا يكون الدافع حال الدفع ملتفتا بفساد المعاوضة، و إمّا يكون غير ملتفت، فإذا كان غير ملتفت فلا إشكال أنّه حينئذ ليس أمانة مالكية و لم يسلّط عليه المالك مجّانا فاحترامه محفوظ، فنفس وقوعه تحت استيلاء غير

مالكه مخالف لاحترامه فيجب تداركه و هو يكون بدفع نفسه حال وجوده، و بدفع بدله حال العدم و لو فرض كون تلفه في غير يد القابض الأوّل بل اعتور عليه أيدي آخرين و كان تلفه في يد غير القابض الأوّل، فإنّ نفس الوقوع تحت يده خلاف احترام حصل من قبله و إن كان معذورا فيه لجهله و لا جبران له إلّا بإعادة مثل العين أو قيمتها إلى المالك و لا فرق في ذلك بين العين و المنفعة و عمل الحرّ.

لا يقال: كما أنّ مال المالك محترم، مال الضامن أيضا كذلك. لأنّا نقول:

حيث إنّ سوق القضيّة لأجل الامتنان على النوع ناسب أن يلاحظ الاحترام في الأوّل لا الثاني، و من هنا يعرف تقريب قاعدة لا ضرر، فإنّ عدم جعل الضمان في المقام حكم ضرري فقد ارتفع، إذ كما أنّ الضرر الحادث بوجود حكم منفيّ بارتفاعه، كذلك الضرر الجائي من قبل عدم حكم أيضا منفيّ بارتفاعه، و ارتفاع كلّ شي ء نقيضه فيثبت وجود ذلك الحكم، إذ ليس مفاد القاعدة أن ليس الحكم الضرري حتّى يقال بعدم شموله ل «اللاحكم»، بل مفاده أنّه لم يصدر من الشارع ما يوجب الضرر سواء كان هو الحكم أم السكوت في مقام الحكم، هذا إن قلنا بأنّ مفاد القاعدة نفي الأثر، و أمّا إن قلنا بأنّ مفادها نفي الموضوع أوّلا بلحاظ الأثر فالأمر أسهل كما لا يخفى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 177

و أمّا الضمان في المسابقة الفاسدة فلأنّ الضامن هو الذي ألقى صاحبه في خطر الخسارة إذ لولا قراره الفاسد لما أقدم على عمل السبق، فإقدامه على القرار و العمل تفويت منه لاحترام المال، أعني: السبق.

هذا كلّه في صورة جهل الدافع

بالفساد، و أمّا مع علمه فقد يقال بعدم الضمان نظرا إلى إذنه و رضاه، و كونه مقيّدا بالملكيّة و هي غير حاصلة، مدفوع بأنّه ليس مقيّدا بالملكيّة الشرعية بل بالملكيّة المنشأة و هي حاصلة، و ترتّب على ذلك جواز التصرّف و عدم وجوب الردّ إلى أن يرجع المالك عن إذنه.

فإن قلت: لم يصدر من المالك سوى التمليك و قد أبطله الشارع و بعد بطلانه و الفرض عدم إذن منه مستقلّا فأين الإذن؟

قلت: التمليك المذكور له حيثيّتان، فمن حيث إفادة الملكيّة غير مؤثّر لاحتياجه إلى الصيغة الصحيحة، و أمّا من حيث إفادته الإذن فليس مشروطا بشي ء فلا مانع من تأثيره من هذه الجهة، و يظهر منه أنّه في صورة الجهل يكون القيد هي الملكيّة الشرعيّة، فإذا انتفت انتفى الإذن، بمعنى أنّ الملكيّة المنشأة جعلت عبرة للشرعية فارتبط الإذن بها، و لا يجري هذا في صورة العلم لمكان التفكيك.

لا يقال: يمكن الجبران بدفع مال من القابض إلى المالك بقدر الزمان الذي كان ماله في يد القابض إلى زمان التلف السماوي.

لأنّا نقول: معنى الجبران إعادة سلطنة للمالك على مثل ماله بنحو السلطنة التي كانت له على ماله و هي أن لا يخرج عن تحت يده بغير اختياره و بغير تلف سماوي أو إتلاف من قبله، فإعطاء العين بذلك المقدار ثمّ الأخذ منه قهرا عليه لا يكون جبرانا لما فات.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 178

هذا غاية تقريب التمسّك بقاعدة الاحترام، و لكنّه مع ذلك مخدوش بأنّه أوّلا: لا يتمّ في عكس القاعدة، فإنّ الهبة الفاسدة بقضيّة العكس لا توجب الضمان و قضيّة الاحترام هو الضمان، فإنّ التسليط و الإذن إنّما كانا في تقدير الملكيّة فإذا انتفت انتفيا فتبقى

قضيّة الاحترام بحالها، و بالجملة الحيثية حيثيّة تقييديّة لا تعليلية.

و ثانيا: على فرض الغضّ عن ذلك و القول بأنّ الحيثية تعليليّة فلا بدّ من الفرق بين المعاوضات و العقود الأخر بأنّ المالك هو الذي سلب الاحترام عن ماله في الثاني بتسليطه بلا عوض، و لم يسلب في الأوّل لأجل اعتبار العوضيّة فيه حسب الفرض.

فنقول حينئذ: لا فرق بين المتعاقدين في هذه الجهة و ذلك لأنّه إن كان الإعطاء بعنوان العوضيّة رافعا لسلب الاحترام من قبل المالك، فالأخذ بهذا العنوان أيضا لا بدّ و أن يكون كذلك من طرف الأخذ و إن كان عدم سلامة العوض المسمّى موجبا لصيرورة الأخذ سالبا للاحترام، فلم لا يصير من جانب المالك كذلك؟ فيقال: هو الذي سلب الاحترام عن مال نفسه بنفس إعطائه، فالتفكيك بينهما بملاحظة عنوان العوضيّة في طرف المالك و عدم سلامة العوض في طرف الأخذ لا وجه له، فتنقّح أنّ قاعدة الاحترام لا تنهض لإثبات القاعدة أصلا و عكسا.

[قاعدة اليد]

و أمّا قاعدة اليد فهي جارية في الأعيان بمعنى عدم توقّفها على وجود عقد فتجري مع اليد و إن كان إثباتها بتخيّل الماليّة بدون عقد في البين، بل و في العقود الفاسدة التي لا ضمان في صحيحها كما في الهبة الفاسدة، إذ لا إذن من المالك إلّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 179

بعنوان المالكيّة و المفروض عدم حصولها و لا تتم أيضا في الإجارة الفاسدة الواقعة على عمل الحرّ، فإنّ شمول القاعدة للمنافع إنّما هو بتبع شمولها للأعيان، و حيث لا يد بالنسبة إلى عين الحرّ لعدم جريان الغاية، أعني: «حتّى تؤدّيه» فيه لاختصاصه بالأموال فلا تشمل منافعه. نعم يمكن أن يقال: في ما إذا كان الحرّ

أجيرا لآخر أنّ الأخذ و التأدية صادقان بالنسبة إلى عين الحرّ.

[قاعدة الإتلاف]

و أمّا قاعدة الإتلاف، فإذا وقع عمل من شخص بأمر من آخر فالحكم بالضمان لقاعدة الإتلاف حسن، و أمّا إذا عمل نفس العالم عقيب إجراء الصيغة عمله بدون أمر من المعمول له بل بعنوان الوفاء بالعقد فلا يصدق الإتلاف حينئذ، و مجرّد وصول نفع العمل إلى الغير لا يوجب ضمانه، كما لو سقي زرع شخص بماء غيره بسبب سماوي، و لا مجرى فيه لقاعدة الاحترام، لأنّ المالك هنا هو الفاعل و هو الذي أوجد خلاف الاحترام في عمله، و إن قيل: قضيّة الحرمة و الاحترام عدم صيرورته بلا عوض، يقال: ما الدليل على تعيين العوض في ذمّة المعمول له، و لم لا يكون في بيت المال؟ و إذن فالقاعدة هي الدوران مدار اليد و الإتلاف و بدونهما فلا ضمان.

و محصّل المقام أنّه لا بدّ من ملاحظة سعة دائرة القاعدة و ضيقها ثمّ ملاحظة مساعدة المدرك لها و لو كان هو قواعد متعدّدة باجتماعها، فنقول: من جملة الموارد التي تكون الكلّية الإيجابيّة مقتضية للضمان فيها هو عمل الحرّ الذي وقع تحت الإجارة الفاسدة، و من جملة الموارد التي تكون الكلّية السلبيّة موجبة لعدم الضمان فيها هو العين المستأجرة في الإجارة الفاسدة.

فنقول: أمّا مفاد القاعدة فهو أنّ ما كان طبع العقد الصحيح ضمانه بمعنى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 180

أن يكون الضمان من مدلوله المطابقي ففاسده أيضا يوجب ضمانه، و كلّ ما لم يكن من طبع العقد- و إن كان الضمان ثابتا، كان من جهة الحكم الشرعي- ففاسده لا يقتضيه.

و قد يقال: إنّ العين في الإجارة الصحيحة ليس عدم ضمانها بقضيّة طبع العقد، فإنّ مورد

العقد إنّما هو المنفعة، و التسليط على العين حكم شرعي من باب توقّف استيفاء المنفعة عليه فلا اقتضاء لنفس العقد فيها، فلا بدّ من إحراز حكمها من قواعد أخر، و على هذا فلو قيل بالضمان لأجل اليد لم يكن تخصيص في القاعدة، لكنّ الظاهر أنّه من اقتضاء نفس العقد و إن كان مورده المنفعة، لكنّ التسليط على العين أيضا من اقتضاء طبعه، فمقتضى القاعدة بحسب عكسها هو عدم ضمانها في الإجارة الفاسدة. هذا بحسب المفاد.

و أمّا المدارك فيمكن أن يقال: إنّ تسليم العين المستأجرة بعد أنّه من الأمانة المالكيّة يكون استحقاق المدفوع إليه لاستيفاء المنفعة من باب الداعي لهذه الأمانة و الإذن، نظير شراء الدواء بداعي الانتفاع، فالتخلّف إنّما هو من باب تخلّف الداعي. و الحاصل: يمكن أن تكون الحيثيّة أعني استحقاق استيفاء المنفعة تقييديّة و يمكن كونها تعليليّة، لكن بحسب مقام الإثبات الظاهر بحسب العرف هو الثاني فراجع.

و أمّا عمل الحرّ الذي وقع تحت الإجارة الفاسدة فمقتضى إيجاب القاعدة هو الضمان و لا يمكن التمسّك باليد، لعدم تمشّي الغاية، و هذا بخلاف المنافع في الأعيان المملوكة، فإنّ التأدية بلحاظ تلك الأعيان، فيصحّ أن يقال على عهدة اليد جميع خسارات العين التي منها خسارات منافعه إلى أن تؤدّي تلك العين إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 181

صاحبها، و أمّا في الحرّ فلا يتمشّى ذلك كما هو واضح.

و الإتلاف أيضا لا يتحقّق بمجرّد إجراء الصيغة، أعني: قبول الإجارة إذ المفروض أنّه باختياره و بعنوان الوفاء بعقده أقدم على الخياطة أو البناء مثلا فالمتلف نفسه و بعد تمام زمان العمل انقضى ماله، فإنّ الموجود حالا هو الأعيان التي هي مملوكة للمالك، و الصورة أيضا لا ربط

لها بالخيّاط و البنّاء، إذ هي ليست إلّا تلك الأعيان بالشكل الخاص و هي مملوكة للمالك بالفرض.

[قاعدة «لا يحلّ مال امرء إلّا بطيب نفسه»]

و قاعدة «لا يحلّ مال امرء إلّا بطيب نفسه» لا تجري لذلك، لعدم وجود المال و هو العمل حال التصرّف، و إنّما عمل عملا و انقضى و زاد الماليّة في مال المالك من جهة عمله لكن لا تصرّف في عمله أصلا، بل في أعيان المالك.

[تتمة قاعدة الاحترام و قاعدة نفي الضرار]

بقي ما تمسّك به شيخنا العلّامة المرتضى- أعلى اللّٰه مقامه- و هو قاعدة الاحترام و نفي الضرار، و تقريب الأوّل أنّ عمل المسلم مال له و هو محترم، و قضيّة احترام العمل أن لا يبقى بلا أجر بل وقع مشكورا و مأجورا، و من المعلوم عرفا أنّ طرف الإضافة إلى العمل من يرجع نفعه إليه و إن اتّفق من باب الاتّفاق و بلا التفات من العامل، كما لو بنى بخيال دار نفسه فتبيّن دار زيد مثلا فإنّ أجر العمل الواقع على ملك الغير خروجه أجره من كيسه، فإنّ هذا معنى المقابلة، فإنّ الأجر ما يقابل الشي ء و يكون بحذائه، و لازم هذا في الأعمال المتصرّمة الغير القارّة بالذات و الباقية بالآثار إنّما هو خروج الأجر من كيس من دخل في كيسه أثر العمل، كما أنّه لا بدّ من ورود الأجر أيضا في كيس العامل.

و الحاصل: العرف يفهم من احترام العمل ما ذكرنا و هو أنّ عمل العامل إذا لم يتعلّق بأحد، كما إذا بنى بناء في أرض مباحة لا تتعلّق بأحد بخيال أنّها أرض

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 182

نفسه فليس عدم إعطاء أحد أجر هذا العمل خلاف احترام من أحد، و أمّا إذا كانت تلك الأرض ملك شخص فإنّ انتفاع هذا الشخص بتلك البناء و لو كان تمام مادّته ملكا لنفسه من دون اعتناء إلى عمل ذلك العامل،

خلاف لاحترامه.

هذا ما يتوهّم.

و فيه أنّه بعد أن لا دخالة للمالك في حصول العمل و إنّما حصل بتمام اختيار من العامل بزعم استحقاق المالك فحال المالك بالنسبة إلى هذا العمل مع سائر الناس على وجه سواء، نعم من جانب اللّٰه حصل زيادة في ماله من جهة ذلك العمل، و مجرّد محترميّة العمل مع وصول نفعه إلى المالك من جانب اللّٰه لا يوجب تحميل أجرة على المالك الغير الدخيل بكلّ وجه.

و الحاصل: عمل العامل محترم و صرفه نفسه باعتقاد فاسد، و مال المالك أيضا محترم و بعد العمل يكون تمام تقلّب المالك في ماله بدون تصرّف في شي ء من مال غيره، فقضيّة حرمة المال عدم خروجه عن ملكه بغير اختياره و خلاف احترام العمل مستند إلى خطأ اعتقاد العالم و لا ربط له بالمالك أصلا، فلا وجه لتحميل أجرة عليه قضية لاحترامه بل هو خلاف احترام في مال المالك.

و من هنا يعرف الكلام في لا ضرر حرفا بحرف فإنّ مجرّد اتّفاق وقوع العمل على ملك الغير لا يوجب نفي الحكم الضرري جعل ضمانه على عهدة المالك إذ هو مع غيره على حد سواء، مع أنّه أيضا من أفراد القاعدة.

لكنّ الإنصاف الفرق بين ما لم يكن بين الطرفين قرار و ما كان و كان العمل جريا على ذلك القرار، وجه الفرق أنّ في صورة القرار لا شبهة أنّ أحدهما مسلّم و الآخر متسلّم و هذا المعنى لا شبهة في وقوعه، غاية الأمر انفكاكه عن التأثير و لم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 183

يكن نفس القرار متقيّدا بتأثيره و إلّا لزم الدور، و العمل بالقرار ليس إلّا إتيان نقشته في الخارج، فكما كان في مرحلة الإنشاء تسليم

و تسلّم يكون في الوفاء الخارجي أيضا تسليم و هو نفس إتيان العمل و تسلّم و هو رضي الآخر بوقوعه.

و حينئذ نقول: حرمة العمل مقتضية لضمان من تسلّمه من عامله، لا يقال:

هذا ينافي ما سبق من أنّ لحاظ العوضيّة إن كان في جانب المؤجر رافعا للهتك فكذلك من جانب المستأجر لأنّ تسلّمه أيضا مبنيّ على هذا اللحاظ، و إن كان عدم سلامة ما لحظا عوضيّته يوجب كون قبض القابض هتكا كان إعطاء المالك أيضا كذلك، و ذلك لأنّ الضمان الذي يقتضيه الاحترام لا يدور مدار الهتك، فنقول: تسلّمه ليس هتكا كتسليم العامل لكن عدم تعقيبه بالأجر مستلزم للهتك هذا.

و من هنا يعرف الكلام في لا ضرر فإنّه مع التسليم لا تشمل القاعدة المتسلّم، فإنّه أقدم على العوض مع شموله للعامل و مع عدمه يتعارض الفردان منها، هذا بناء على شمولها للعدميّات، و أمّا بناء على عدمه كما لا يبعد- إذ لم يعلم منه إلّا أنّ الشارع ما أوجد الضرر لا أنّه إذا أوجد الضرر نفس المكلّف فهو يدفع هذا الضرر- فلا ربط لها بالمقام.

و من جملة موارد الحكم السلبي الهبة الفاسدة فمقتضاه عدم الضمان لو تلف في يد المتّهب أو أتلفه، و وجهه أنّ من المسلم أن لو قال المالك: ألق مالي في البحر فألقاه فلا ضمان، و من المعلوم أنّ حكم الضمان على اليد و الاحترام يستفاد منه الحقيّة، فإنّه جعل رعاية لجانب المالك فيكون منشأ لانتزاع الحقّ،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 184

و الحاصل: ليس حكما صرفا و يكون أيضا قابلًا للإسقاط بدليل ما ذكرنا من مثال الإلقاء في البحر. و إذن فنقول: الواهب فعل فعلين في عرض واحد بدون تقييد أحدهما بالآخر

و هما إنشاء ملكيّة المال للمتّهب و الإقدام على تضرّره بهذا المال بأن يصير مكانه خاليا من العوض.

فإن قلت: يكون هذا الاقدام عقيب الإخراج و تبعا له. قلت: بل يكون في عرضه، فإنّه أقدم على إخراجه عن ملكه بلا عوض و هذا واقع و لو انفكّ عن التأثير شرعا فتأمّل، فإنّه لا فرق بين الإقدام على عدم الضمان و الإقدام على الضمان، و قد مرّ أنّ فيه بعد بطلان الخصوصية لا يبقى أصل الضمان.

و لكن قد ينظر المقام بالعقود التي تتبعّض كما في الشروط الفاسدة و بيع ما يملك و ما لا يملك بصفقة واحدة فيقال: إنّه بنظر العرف و إن كان قد فعل فعلا واحدا لكنّه بنظرهم يعدّ فعلين في عرض واحد كما في تلك المقامات.

لا يقال: فلا بدّ من القول ببقاء أصل التمليك بعد بطلان خصوصية المجانيّة، فإنّه يقال: فرق بين التمليك و الإسقاط فإنّ الأوّل يحتاج إلى أسباب خاصّة بخلاف الثاني.

[في العقود الضمانيّة في صورة علم الدافع بالفساد]

بقي الكلام في العقود الضمانيّة في صورة علم الدافع بالفساد فلا شبهة في حصول الملكيّة العرفيّة لوضوح إمكان انفكاكها عن الشرعيّة كما في بيع الخمر، فالرضا مقيّد بالماليّة للدافع فلم يأذنه في ماله، إنّما الكلام في أنّه يصدق الغرور في ما إذا كان الثمن المسمّى أقلّ من العوض الواقعي أو لا يصدق أو يفرق بين ما إذا كان الفساد في إيجاب البائع فيصدق، و ما إذا كان في قبول المشتري فلا يصدق، الظاهر عدم الصدق فإنّ معنى الغرور إراءة ما ليس بواقع واقعا، و في المقام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 185

المشتري جاهل بأنّ الصيغة الفارسيّة مثلا فاسدة و البائع العالم يجريها و يقرّ جهله، فالمشتري مغرور لجهله لا من

قبل البائع. نعم لو كان البائع ممّن يركن إليه فركن المشتري إليه و جعل إعماله لهذه الصيغة طريقا إلى صحّتها صدق الغرور حينئذ.

[قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده و نقوضها هي]

اشارة

بقي الكلام في نقوض القاعدة،

أحدها [النقض بعارية الصيد]

الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ مع أنّ صحيح العارية غير موجب للضمان و الظاهر أنّ الضمان هنا ضمان الإتلاف لوجوب إرسال الصيد عليه شرعا، فلا ربط له بعقد العارية.

الثاني [النقض بمنفعة المبيع فاسدا]

حمل المبيع مع أنّه لا يحكم بالضمان في الصحيح و الأمر فيه غير خارج عن قسمين إمّا داخل في المبيع فالصحيح أيضا موجب للضمان لوقوع جزء من الثمن بقبالة، و إمّا خارج و يكون أمانة مالكيّة في يد المشتري فالفاسد أيضا لا يوجب الضمان لعين ما تقدّم في العين المستأجرة، نعم لو ثبت بالإجماع أنّه خارج عن المبيع و أنّ الفاسد موجب لضمانه تمّ النقض.

الثالث [النقض بحمل المبيع بالبيع الفاسد]

منافع المبيع من المستوفاة و غيرها مع عدم ضمانها في الصحيح و عدم الضمان في الصحيح غير مستند إلى العقد، فبالعقد يحصل التعارض بين المالين في الملكيّة، و من توابع الملكيّة ملكيّة المنافع، فالحكم بالضمان في الفاسد ليس نقضا في القاعدة.

الرابع [النقض بالشركة الفاسدة]

الشركة العقديّة الفاسدة، و مقتضى القاعدة فيها أيضا عدم الضمان في الصحيح و الفاسد، لأنّ دفع أحد الشريكين المال المشترك إلى الآخر يكون على وجه الأمانة و تكون الشركة من قبيل الداعي لا القيد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 186

[حكم ما لو علم الدافع بالفساد]

ثمّ إنّه قد يقال في صورة علم الدافع بالفساد بعدم الضمان [ببيان أنّ] القيد للإذن إنّما هو الملكيّة الإنشائية و هو حاصل.

فإن قلت: الصادر منه ليس إلّا التمليك و إذا صار باطلا فمن أين الإذن؟

قلت: التمليك فعل واحد ذو جنبتين، فمن جنبة كونه تمليكا يحتاج إلى الأسباب الخاصّة و من جنبة كونه إذنا لا يحتاج إلى سبب خاص.

و فيه: أنّ البيع عبارة عن مبادلة مال بمال فلا يخلو إمّا أن يقصد العالم بالفساد هذا المعنى جدّا، و إمّا لا قصد له جدّا، و الثاني خارج عن محلّ الفرض، لأنّ الكلام في البيع الفاسد، و الأوّل لا يمكن صحّته إلّا باختلاف النظر و اللحاظ بمعنى أنّه ليس ببيع في نظر الشرع، و بيع و مبادلة بنظر العرف، نظير بيع الخمر حيث لم يدفع المال مجّانا بنظرهم، و حينئذ فنقول: فقد رأى بهذا النظر إلى صيرورة ماله إلى صاحبه و بالعكس و التسليم و التسلّم أيضا وقعا وفاء بهذا المعنى، و لا شبهة أنّ الرضا على هذا لم يتحقّق في مال الدافع بعنوان أنّه ماله بل بعنوان أنّه مال القابض.

ربّما يقال في المقبوض بالبيع الفاسد بجواز التصرّف إذا كان الدافع عالما بالفساد للإذن فيه في ضمن التمليك، و دعوى أنّ الإذن مقيّد بالملكيّة و هي غير حاصلة مدفوعة بأنّ القيد ليس إلّا الملكيّة في اعتبار البائع و هي حاصلة، إذ المفروض أنّه أنشأها و بنى على كون

المشتري مالكا و قد قبل هو أيضا، نعم لو كان مقيّدا بالملكيّة الشرعية صحّ دعوى عدم حصول القيد لكنّه ليس كذلك.

و الحاصل: أنّ المقيّد بقيد حاصل يكون كالمطلق، و الإذن في ما نحن فيه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 187

كذلك، فإنّ قيده الملكيّة الواقعيّة بحسب اعتبار المتبايعين و المفروض بناؤهما عليها بحسب إنشائهما.

فإن قلت: لم يصدر من البائع إلّا التمليك و قد صار لغوا في حكم الشرع بالفرض فأين الإذن؟ قلت: هذا التمليك له حيثيّتان فهو إذن من حيثيّة و تمليك من أخرى، و لمّا كان التمليك محتاجا شرعا إلى صيغة صحيحة و المفروض عدمها فهو غير مؤثّر من هذه الجهة لعدم حصول شرطه، و أمّا من الحيثيّة الأخرى فهي غير مشروطة شرعا فيجوز العمل به، فإنّ الإذن مؤثّر في جواز التصرّف من غير اشتراط بصيغة خاصّة، فيشمله عموم ما دلّ على جواز التصرّف مع الإذن و طيب النفس و إذا جاز التصرّف فلا يجب الردّ إلى المالك فضلا عن كونه فوريا، نعم لو رجع عن إذنه فطلبه وجب الردّ إليه فورا فتدبّر.

أقول: محلّ الكلام ما إذا قصدا البيع جدّا، و حيث إنّ البيع عبارة عن مبادلة مال بمال فلا بدّ من قصدهما إلى صيرورة كلّ من العوضين مالا للآخر جدّا، فإنّه إذا لم يتحقّق منهما هذا القصد جدّا خرج عن البيع، و مفروض الكلام حصوله غاية الأمر بنحو الفساد، و أمّا إنّه كيف يمكن هذا القصد مع العلم بعدم الحصول فإنّ الإنسان لا يقصد أمرا يعلم بعدم حصوله؟ فيمكن تصويره باختلاف النظر في العرف و الشرع، فربّ عقد يكون بنظر العرف بيعا و يرتّبون عليه آثاره و لا يكون بنظر الشرع هكذا، بل

المال باق بحاله الأوّل، فالقصد المعاملي مبنيّ على هذا النظر العرفي و لا فساد بهذا النظر بالفرض، فيتمشّى منه القصد جدّا.

ألا ترى إلى الفسّاق الغير المبالين بأحكام الشرعية يبيعون الخمر و يشترونها

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 188

مع وضوح فساده في الشريعة؟ و هل ترى لا يتمشّى منهم القصد فيرون صرف مالهم بلا عوض؟ بل يتمشّى منهم حقيقة قصد البيع و ما ذاك إلّا بجريهم على وفق نظرهم العرفي.

فإن قلت: فلم لا تقولون في ما لو قال أحد: الخمر حلال، إنّه يكون على حسب النظر العرفي و لا ينافي مع اعترافه بالحرمة بحسب نظر آخر فلا يحكم بكفره و إنكاره الضروري؟ فإذا حكمتم هنا بالكفر و الإنكار علم أنّه لا تلائم بين النظرين و أنّه مع أحدهما ينتفي الآخر، و حيث إنّ البيع مع علم الفساد أيضا واقع نلتزم فيه بأنّه بناء و عقد للقلب على كون ما ليس ببيع بيعا كما في التشريع و الجحود.

قلت: ليس البيع للخمر مثل البيع لما لا ماليّة له بنظر العرف و لو مع ادّعاء المالية له و عقد القلب و البناء عليه، فراجع وجدانك فإنّه أعدل شاهد في البين، و الحاصل لا يلزم التناقض مع تعدّد نظري الحاكم، و إذن فنقول: البائع في هذا النظر قد رأى انتقال ماله جدّا إلى صاحبه فيدفعه إليه بعنوان أنّه ماله و لا يراه مالا لنفسه حتّى يتمشّى منه الإذن.

فإن قلت: ما الفرق بين الهبة الفاسدة و هذا المقام؟ حيث حكمت هناك بأنّه فعل في عرض واحد فعلين، أحدهما التمليك و الآخر رفع الضمان و قلت هنا:

ليس التمليك و الإذن في عرض واحد بل الثاني في طول الأوّل.

قلت: الفرق يظهر بأدنى

تأمّل، فإنّ الواهب لا يرفع الضمان لأجل أنّه صار مالا للمتّهب بل يرفعه عن مال نفسه، فكما أنّ موضوع التمليك مال نفسه فكذلك موضوع رفع الضمان، و أمّا في البيع فالتمليك و الإذن مترتّبا بمعنى أنّه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 189

بعد ما ملّكه للمشتري و رآه أجنبيّا عن نفسه يرضى بكونه في يده من باب أنّه مالكه، فليس رضاه متعلّقا بمال نفسه. و الحاصل: لا يراه إلّا آكلا لمال نفسه لا لمال البائع، فالرضا مبنيّ على الماليّة، و قاعدة المبنيّ انتفاؤه بانتفاء المبنى.

نعم لو فرض أنّه لا يقصد البيع جدّا و إنّما مقصوده الوصول إلى الثمن بهذه الحيلة فيوقع الصورة الخالية عن القصد تمّ حينئذ القول بأنّ الإذن مقيّد بأمر حاصل و هو التصوّر الخيالي الغير الجدّي لكنّ الأمر على خلاف ذلك.

ثمّ إنّ النهي عن عمل تارة يتعلّق بحدوثه بحيث لو حدث فبقاؤه غير مبغوض، و أخرى به حدوثا و بقاء بحيث كانت المبغوضيّة ثابتة لمطلق الوجود للطبيعة، نظير لوازم أصل الطبيعة كبرودة الماء و حرارة النار حيث إنّ القطرتين أكثر برودة من القطرة الواحدة، و مثله الخمر في الشرعيات حيث إنّ القطرتين منها أشدّ مبغوضيّة من القطرة الواحدة، و إذن فنقول: النهي المتعلّق بالتصرّف في مال الغير من القبيل الثاني، فوضعه في الصندوق كلّما ازداد طولا و مكثا تزداد المبغوضيّة من غير احتياج إلى جعل الإمساك في كلّ آن تصرّفا مستقلّا حتّى يناقش بأنّه ليس في البين إلّا تصرّف واحد ممتدّ. و حينئذ فيصير حال التخلّص من الإمساك حال الخروج من الدار المغصوبة حيث إنّه منهيّ عنه من الأوّل لأنّه أيضا تصرّف لكنّ العقل يستقلّ بلزومه من باب لزوم أخفّ المحذورين عند

دوران الأمر بينهما، فإنّه يدور أمر المكلّف بعد وضع اليد على مال الغير بين إبقاءه فيقع في المحذور الأشدّ و بين التصرّف التخليصي حتّى يقع في الأخفّ، و لا شبهة في تعيّن الثاني عقلا، دفعا للأفسد بالفاسد، و حيث إنّ هذا الوجوب عقليّ جاء من قبل هذا الدوران الذي نشأ من قبل سوء اختيار المكلّف، فلو كان متوقّفا على مؤنة كثيرة فلا تنهض

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 190

لرفعها أدلّة نفي الضرر، فإنّها ناهضة لنفي الضرر في الأحكام الشرعيّة، و الحكم الشرعي هنا لم يوقع أحدا في الضرر، فإنّه عبارة عن طلب ترك كلّ تصرّف في مال الغير أخذا و تخلّصا، و هذا لا يلازم ضررا أمّا من حيث الأخذ فواضح و أمّا من حيث التخلّص فلأنّ ترك التخلّص ممكن بترك الأخذ، و الطبيعة إذا كان له فردان أحدهما مقدور و الآخر غير مقدور، صحّ توجّه الطلب نحو الطبيعة، و إذا ارتفع المانع من شمول النهي من الابتداء لجميع أنحاء التصرّف حتّى التخلّص فالضرر الجائي بعد ذلك من قبل الدوران الذي جاء من سوء اختيار المكلّف مستند إلى جهل المكلّف بالجهل البسيط و لا ربط له بالشرع.

و هذا نظير النهي عن شرب الخمر إذا توقّف ترك شربه في مكان مخصوص على بذل مال كثير، فالنهي من الأوّل لا مانع من تعلّقه بالمكلّف على وجه الإطلاق حتّى من الشرب في ذلك المكان، و ليس في هذا ضرر إذ له أن لا يذهب إلى ذلك المكان، و أمّا إذا ذهب بسوء اختياره فالمال الكثير الذي يتضرّر بدفعه مقدّمة لترك الشرب ضرر أورده نفسه على نفسه و مستند إلى سوء اختياره و لم يجئ من قبل حكم

الشارع، إذ يكفي في عدم ضرريّة الحكم عدم ضرريّة إحدى الطرق لتحصيل المطلوب، فإذا استقرّ و تنجّز و استقرّ العقاب كان الضرر بعد ذلك مستندا إلى نفس المكلّف لدفع ضرر العقوبة الثابتة.

و ليعلم أنّ لزوم الردّ في ما لم يكن مستلزما لزيادة تصرّف إذ ربّ إمساك إلى أجل يعدّ عرفا أقلّ تصرّفا من الردّ كما لو استلزم الحمل إلى مكان بعيد يوجب نقصانه كعرج الدابّة و نحوه، هذا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 191

[في بيان بعض الأمور المتعلقة بالمقبوض بالعقد الفاسد]

فصل هل يضمن منافع المقبوض بالعقد الفاسد الضماني كالبيع الفاسد مطلقا أو لا مطلقا أو تفصيل بين المستوفاة فتضمن و غيرها فلا؟

الظاهر الأوّل، لدلالة قاعدة اليد، إذ بعد عدم جواز أن يراد ب «على» العهدة نظير العهدة في الديون بقرينة «حتّى تؤدّيه» حيث يلزم اتّحاد المغيّى و الغاية لا بدّ من الحمل على عهدة الخسارة، و أيضا لا يبعد هذا المعنى من إضافة العهدة إلى العين، فإذا قيل: هذا الفرس على عهدتك، يعلم منه أنّ مناقصه و خساراته عليك، و كما أنّ من مناقص العين و خساراتها العرج و العمى و الهلاك، كذلك منها كونه بلا استنفاع مدّة يمكن فيها ذلك بإجارة و استيفاء فيكون على الأخذ عهدة ذلك أيضا، و من المعلوم عدم الفرق بين استيفاء الأخذ لها و عدمه مضافا إلى قاعدة الإتلاف في الصورة الأولى بل و في بعض صور عدم الاستيفاء كما لو ربط الدابّة و لم يركبها.

و الحاصل: لا نحتاج في إدراج المنافع تحت ضمان اليد بتعميم الموصول في «ما أخذت» إليها حتّى يقال: إنّه خلاف الظاهر بل نقول باختصاصه بالأعيان، و لكن من جملة أنحاء خسارات العين خسارات منافعها، مضافا إلى قاعدتي الاحترام و عدم الحلّ.

أمّا الأولى: فبتقريب أنّه كما أنّ من شئون الشي ء الموجود حال الوجود بعض الأمور، كذلك من لوازم هذا الاحترام حال الوجود

أيضا كون تلفه على المتلف فلا يقال: كيف يمكن إسراء الحكم إلى حال عدم الموضوع، و أمّا الثانية:

فيمكن إرجاعها إلى الأولى و ذلك بأن يقال: المراد بالحلّ ما يقابل الاحترام و هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 192

كون الإنسان مطلقا و بلا قيد من ناحية هذا المال و كون المال سائغا و جائزا و نافذا بالنسبة إلى متصرّفة و من لوازم ذلك أن لا يوجب إتلافه شيئا على متلفه، و مقتضى هاتين أيضا عدم الفرق بين الاستيفاء و غيره كما هو واضح، هذا.

و لكن ما يخالف ذلك و أوجب مصير بعض إلى الخلاف: النبوي المرويّ من طرق أهل الخلاف المعدود من جوامع الكلم و الكلمات القصار و هو قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم:

«الخراج بالضمان» «1» و المراد بالخراج ما يخرج من الشي ء، أعني: منافعه، و الباء إمّا للسببية أو للمقابلة، و المراد بالضمان إمّا الأعمّ ممّا كان بجعل الشرع أو بجعل المتعاقدين فالمعنى أنّ المنافع تكون بإزاء أو بسبب الضمان الثابت على عهدة الشخص، فكلّما ثبت الضمان تملّك الضامن منافع المضمون أو ليس عليه ضمان المنافع و لو لم يتملّكها و هذا بعينه ما أفتى به أبو حنيفة حيث حكم بسقوط الكراء بضمان البغل، و قال الإمام- عليه السلام-: «في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها و تحبس الأرض بركاتها» «2» و بالجملة أخبار الشيعة و إجماعهم على خلاف ذلك.

و إمّا خصوص ما أقدم عليه المتعاقدان مع إمضاء الشرع فيختصّ ذلك بالبيوع الصحيحة، إذ البيوع الفاسدة كما ذكره شيخنا العلّامة- أعلى اللّٰه مقامه- ليس الضمان فيها ممّا أقدم عليه المتبايعان، و إنّما هو حكم قهري من الشارع.

و إمّا خصوص

كون تلفه من مال الإنسان، فالمعنى: كلّما كان تلف المال من كيس شخص فمنافعه في كيسه، فيطابق القضيّة المعروفة «من عليه الغرم فله الغنم». و يؤيّده ما في بعض الروايات: «حيث سئل عن البيع الشرطي إذا جاء

______________________________

(1) انظر: كنز العمال: 4/ 9698.

(2) الوسائل: ج 13، الباب 17، في أحكام الإجارة، ص 255، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 193

المشتري بالثمن في رأس الأجل و كان في أثناء المدّة للدار المبيعة غلّة أو منفعة لمن تكون هذه الغلّة؟ فقال: للمشتري ألا ترى أنّها لو احترقت لكان من ماله» «1» و لكن لازم هذا المعنى أن تكون منافع المبيع ما دام في يد البائع و قبل قبض المشتري للبائع، لأنّ تلفه من ماله، و لا يلتزم به أحد مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ الضمان فإنّه لا يقال: الإنسان ضامن لأمواله مع كون تلفها من كيسه.

فإن قلت: يمكن إرادته بقرينة صدره حيث يحكى أنّه: «ورد في جواب من سأل عن غلام ظهر كونه معيبا بعد مضيّ مدّة من اشترائه ففسخه المشتري لعيبه و قد استخدمه في تلك المدّة هل للبائع أجرة ذلك الاستخدام؟ فقال: الخراج بالضمان». فيقال: إنّ اللام في كلمتي الخراج و الضمان للعهد الذكري يعني هذا الاستخدام يكون بإزاء هذا الضمان الذي ثبت للمشتري بقبضه، و نتيجة هذا أن لا يجري هذا المعنى في غير البيع.

قلت:- مع أنّ كونه للعهد خلاف الظاهر، بل المناسبة المقاميّة بين الحكم و الموضوع تقتضي إرادة الجنس و لا ينافيها السبق بالسؤال كما في قضيّة: «لا تنقض»- ليس في السؤال إلى هذا المعنى المغاير للمعنى الثاني إشارة فلم لا يكون المراد جنس الضمان و يكون ذكره من باب

تطبيق الكلّي على فرده باعتبار حصول الضمان المقدم عليه في مفروض السؤال أيضا.

و على كلّ حال فما هو ظاهر هذه القضيّة و هو المعنى الأوّل غير معمول و ليس لها بعده معنى آخر نافع بالمقام، إلّا أن يقال في مقام فهم أصل معنى

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 8، من أبواب الخيار، ص 355، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 194

القضيّة و إن لم ينفع المقام: إنّ الظاهر منها بقرينة المقام هو المعنى الثاني حيث توهّم السائل أنّ منفعة العبد و خدمته لو كان للمشتري كانت مجّانا، فدفع هذا التوهّم بأنّه إنّما ملك الخدمة بإزاء الثمن الذي جعله و تراضى هو و البائع عليه فلم يصر له مجّانا، و الثمن و إن لم يقابل في مقام الجعل في قبال المنافع إلّا أنّ المنافع ملحوظة في جعله في قبال العبد ففي اللبّ قد أعطى مقدارا من الثمن بإزائها.

فإن قلت: المفروض استرداده هذا الثمن فمن أين الاستحقاق؟ قلت:

يكفي في الضمان المعنى التعليقي بمعنى أنّه لو تلف العبد في تلك المدّة كان مضمونا عليه بذلك الثمن و لم يكن له استرداده، بل ليس معنى الضمان إلّا هذا المعنى التعليقي، و على هذا فلا يستفاد منها الكلّية في جميع أفراد الضمان و لو مثل ضمان المقبوض بالسوم و المغصوب بواسطة سبق السؤال المشتمل على خصوص الضمان العقدي الذي أمضاه الشارع.

و أمّا المناسبة بين الحكم بثبوت الخراج و بين مطلق الضمان فلا نسلّمها، ألا ترى أنّ الارتكاز لا يساعد على استحقاق السارق و الغاصب بمجرّد ضمانهما العين شيئا من منافعها. فإذن لا تنفع هذه القضيّة في المقام لعدم استنباط الكلّية منها.

و أمّا قاعدة الإتلاف و الاحترام و عدم حلّ

المال إلّا بطيب النفس فربّما يخدش- مضافا إلى عدم جريانها في صورة تلف المنافع تحت غير يد العاقد كما لو سرق منه سارق لعدم صدق الإتلاف و عدم اقتضاء الاحترام و عدم الحلّ أزيد من عدم كون إتلافه بلا عوض فلا يقتضي الضمان في الصورة التي ذكرنا- بأنّ المنافع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 195

لا تسمّى مالا، فإذا كان قيمة الدار مائة و كراها عشرة لا يحسب ماليّة صاحب الدار مائة و عشرة، و السرّ في ذلك أنّ المنافع سبب اعتبار الماليّة في العين، و لهذا لو كانت العين مسلوبة المنفعة إلى آخر الدهر لم يبذل بإزاء العين شي ء، و لو نقص من منافعه شي ء نقص بذلك الحساب من ماليّته. ألا ترى أنّ الدار المقوّمة بمائة لو ملكت منافعها إلى سنة بإجارة و نحوها ينقص من قيمتها أو يقوّم بالمائة لكن مع الأجل؟ مع أنّه لو لم تكن منافعه مملوكة الغير لتقوّم بالمائة الحالّة.

فإن قلت: على هذا لو تلفت العين التي قيمتها مائة بعد استيفاء المنافع منها سنة فيلزم الاكتفاء بدفع المائة، إذ هي غاية ماليّتها حسب الفرض فيلزم عدم ضمان منافعها، قلت: كلّا و أين المائة المدفوعة في آخر السنة من المدفوعة في أوّلها؟ و هذا هو الفرق بين النقد و النسيئة.

فإن قلت: فيلزم على هذا ضمان تفاوت القيمة السوقيّة، قلت: فرق بين ما إذا كان التفاوت لصرف اختلاف الرغبات من دون تفاوت في نفس المال- فيمكن حينئذ القول بعدم الضمان لكونه اعتباريا صرفا- و بين ما إذا كان لأجل نقص في واقعيّة المال و ما ذكرنا من هذا القبيل، فإنّ المال المسلوب المنفعة في أجل معيّن له نقص بحسب واقعة عن المال

ذي المنفعة الحالّة، و كذلك النسيئة لها نقص واقعي بالنسبة إلى النقد.

فإن قلت: فيلزم في ما إذا كان المغصوب نفس أحد النقدين و تأخّر الأداء إلى سنة أن يجب أداء أزيد ممّا أخذ بملاحظة تأخير هذا الزمان و لا يلتزم به أحد، قلت: نلتزم بخروجه بالإجماع. اللّهمّ إلّا أن يقال: غاية ما ذكرت كون المنفعة منشأ ماليّة العين و لا ينافي هذا أن يكون نفسها أيضا مالا، بل ربّما يقال: كيف يمكن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 196

أن يكون شي ء بلحاظه حصل الماليّة للمال غير مال؟ فلا محالة الماليّة الذاتية ثابتة للمنفعة و التبعيّة «1» العرضيّة للعين.

و بالجملة: فإن ثبت: هذا فهو المقصود فيتمّ القواعد الثلاث مع الاستيفاء كما هو واضح، و كذا مع الاستيلاء بدون الاستيفاء، و أمّا مع عدم الاستيفاء و الاستيلاء معا- كما لو دخل تحت استيلاء ثالث- ففي شمولها حينئذ منع واضح، و إلّا يثبت المقصود بقاعدة اليد، إذ على تقدير عدم الماليّة الاستقلاليّة للمنفعة فهي كما عرفت منشأ لماليّة العين فبنقصها يرد النقص في ماليّة العين، و المفروض أنّ قاعدة اليد مقتضية لضمان جميع المناقص الواردة في ماليّة العين، و على كلّ حال تشمل قاعدة اليد الصورة الثالثة بهذا البيان كما هو واضح فتدبّر جيدا.

فصل لا تعرّض في أدلّة الضمان في المضمونات لتعيين المثل في المثلي و القيمة في القيمي

و إنّما المدلول عليه بها لزوم مطلق التدارك فيعيّنه العرف فيما له مثل في جميع الخصوصيات التي تختلف بها الرغبات نوعا في المثل، لأنّه الأقرب إلى التالف، و فيما ليس كذلك في النقد الغالب في البلد فإنّه أقرب إلى ماليّة التالف، لأنّه بمنزلة نفس الماليّة، فلو تحقّق إجماع على قيميّة ما يعدّه العرف مثليّا كالكرباس أو بالعكس كان هذا تعبّدا شرعيّا و تخطئة لنظر

العرف، فيرجع في غير هذا المورد ممّا لم يثبت التخطئة إلى ما يعيّنه العرف و ذلك للاقتصار في تخصيص ذلك العموم على المقدار المعلوم فإنّ الشبهة مفهوميّة.

______________________________

(1) و البيعية.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 197

و أمّا لو شككنا في تعيين نظر العرف في مورد فالتمسّك بالإطلاق غير ممكن لأنّه شبهة موضوعيّة فالمرجع الأصل العملي فنقول: تارة نقول بأنّ الحكم بالقيمة في القيميات من باب الإرفاق على الضامن فله لو ظفر أحيانا بالمثل دفعه، و أخرى نقول: لا يجوز له دفع المثل و لا للمضمون له مطالبته كالقيمة في المثلي، فإن قلنا بالأوّل فالمقام من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير، فإعطاء المثل هو الخروج عن العهدة قطعا، و إن قلنا بالثاني فالمقام من باب دورانه. «1».

فصل لو تعذّر المثل في المثلي فهل للمالك مطالبة الضامن بالقيمة أو يجب عليه الصبر؟
اشارة

الحقّ الجواز لأنّ أداء القيمة يعدّ عرفا وفاء إذا كان بتراض منهما، فإذا طالب المالك فقد حصل رضاه فيجب على الضامن أن يرضى لأن يتحقّق مصداق الوفاء.

و الحاصل: مصداق الوفاء في حقّه ممكن غاية الأمر بواسطة مقدورة و هي رضاه، فيجب تحصيلها مقدّمة لحصول الوفاء الواجب بمطالبة الدائن.

و الحاصل: أنّ هنا مطلبين، الأوّل: جواز مطالبة المالك، و الثاني: كون القيمة مصداقا للوفاء، أمّا الأوّل فلقاعدة سلطنة الناس على أموالهم، و أمّا الثاني فلكونه عند العرف كذلك مع التراضي، فيجب على الضامن لإمكانه، هذا.

و هل للضامن أيضا دفع القيمة قبل مطالبة المالك فيجبر المالك على القبول؟ المسألة مبتنية على أنّ العين بواسطة تعذّر المثل تصير قيميّة، أو أنّ المثل الثابت في الذمّة يصير بالإعواز كالتالف فينقلب إلى القيمة فيضاف القيمة إليه لا

______________________________

(1) هنا في النسخة الأصلية سقط.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 198

إلى العين، أو أنّ المثل مستقرّ

في الذمّة إلى حين الأداء و لو في حال الإعواز فيكون دفع القيمة من باب الوفاء بغير المجانس؟

الحقّ هو الأخير، و ذلك لأنّه بعد أن كان مفاد أدلّة تدارك المضمونات في المثليّات كون تداركها المثل فلا يفرق فيه بين حال التمكّن و التعذّر، فإنّ شيوع المثل في المثلي يكون من قبيل الحكمة لحكم العرف على الحقيقة الكذائية بكونها مثليّة من غير التقييد بكونها متمكّنة المثل، و الفرض أنّ الوضع لا ينافيه التعذّر.

و الحاصل: أنّ هنا مصداقين للوفاء مصداقا أوّليا ذاتيا و آخر جعليّا، فالأوّل في المثليات هو المثل سواء في حال إمكانه أم تعذّره، و الثاني هو القيمة، و قد عرفت احتياجها إلى التراضي، و كلّ منهما وفاء للمثل الثابت في الذمّة أو للعين الثابتة فيها على الوجهين في مفاد أدلّة الضمان.

و أمّا دعوى أنّ العين ما دام إمكان المثل مثليّة و بعد الإعواز تصير قيميّة، أو أنّ المثل الثابت في الذمّة يتلف بالإعواز فيثبت عوضه فيها و هو القيمة فكلاهما عريّة عن البيّنة.

أمّا الأولى فلما عرفت من أنّ الحكم بالمثليّة و القيميّة معلّق على نفس الحقائق من دون تقوّم بالإمكان و التعذّر، نعم الإمكان و التعذّر النوعيان حكمة لثبوت هذا الحكم و الشاهد على ذلك العرف، و أمّا الثانية فلأنّها متوقّفة على جريان قاعدة اليد في المثل الثابت في الذمّة و هو ممنوع، لأنّه لا يصدق في المورد فردان من الغصب أحدهما بالنسبة إلى العين و الآخر بالنسبة إلى المثل، بل فرد واحد بالنسبة إلى العين، و ثبوت المثل إنّما هو من أثر غصب العين مع تلفها و قد عرفت عدم المانع من ثبوته حال التعذّر أيضا، بل هو مقتضى القاعدة المذكورة في العين

حينئذ كما عرفت.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 199

و من هنا يعرف أنّ القيمة في المقام ليست من باب بدل الحيلولة للمثل المتعذّر نظير العين المتعذّرة، و ذلك لانحصار المدرك فيه في قاعدة اليد، فإنّ بعد المالك عن ماله ضرر عليه فيجب تداركه مع حفظ ماليته، و قد عرفت عدم جريان القاعدة في المثل في مقامنا، و أمّا قاعدة السلطنة فلا يثبت بها إلّا السلطنة على أخذ المال مع إمكانه و إلّا بدله على معنى البدل في المالية لا في الحيلولة، فإثبات بدل الحيلولة أمر زائد على السلطنة على المال و ليس من شئونها فتأمّل.

ثمّ على فرض الشكّ في أنّ القيمة في المقام من باب انقلاب ما في الذمّة إليها بأحد وجهيه أو من باب الوفاء بغير الجنس، فللمسألة صورتان، الأولى:

صورة طروّ التعذّر بعد التمكّن منه في أزمنة تلف العين، و الثانية: صورة التعذّر الابتدائي الحاصل من أوّل تلف العين، فلا إشكال في أنّ قضيّة الاستصحاب في القسم الأوّل بقاء المثل في الذمّة و عدم انقلابه إلى القيمة، و أمّا في القسم الثاني فقد يقال في ما إذا كان قيمة يوم الإعواز عشرة مثلا و قيمة يوم الدفع عشرين مثلا بأنّ الأمر في مقام الأداء دائر بين الأقلّ و الأكثر، فالأصل البراءة من الزائد، لكنّ الظاهر أنّ المورد مجرى لأصالة الاشتغال، لأنّ هذا الشكّ مسبّب عن الشكّ في أنّ الثابت في العهدة عند الإعواز أيّ من المثل أو القيمة، و هما متباينان هذا، مضافا إلى استصحاب القضيّة التعليقية الثابتة حال بقاء العين مع وجود المثل، أعني:

كونها بحيث لو تلفت يثبت مثلها في الذمّة.

مسألة إذا تعذّر ردّ العين فله صور

الأولى: أن يحصل اليأس من الظفر بها كأن تقع في وسط البحر،

و هذا بحسب إطلاق أدلّة الغرامات و خصوص الأخبار

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 200

الواردة في المقام يكون بحكم التلف، فيكون للمالك أخذ البدل. و الثانية: أن يكون التعذّر موقّتا كما لو سرق و علم التمكّن منه بعد ستّة أشهر مثلا، أو علم جفاف البحر بعد هذه المدّة.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في هذه الصورة أيضا يجب بذل العوض- لو طالب المالك و ليس للضامن إلزامه، بل للمالك الصبر إلى زمان التمكّن من عين ماله- و يملكه المالك في صورة الأخذ مع بقاء العين على ملكه و لا يلزم اجتماع العوض و المعوّض، لأنّ المعوّض إنّما هو السلطنة الفائتة دون ملكيّة العين، و تدارك السلطنة و إن كان بمثلها، لا الملكيّة لكن لمّا تتوقّف السلطنة التامّة على الملكية لتوقّف بعض التصرّفات عليها كان القول بها من هذه الجهة لا من باب أنّها ممّا يكون به التدارك.

ثمّ إذا تمكّن الغاصب من العين وجب عليه ردّها لعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»، و إذا تلفت العين قبل الردّ لم تكن مضمونة بضمان آخر لاستصحاب كونها مضمونة بالغرامة و عدم طروّ ما يزيل ملكيّته عن الغرامة أو يحدث ضمانا جديدا، فإذا دفع العين إلى المالك زال ملكيّته للغرامة لعود السلطنة المبدلة فيجب دفعها أو دفع بدلها مع التلف أو الخروج عن ملكه بناقل لازم بل جائز.

و استشكل في هذا المقال شيخنا الأستاذ- دام بقاه- بأنّ السلطنة ليست من قبيل الأوصاف الفائتة مثل الصحّة و نحوها و إلّا لزم تداركها في ما إذا ردّت العين بعد التمكّن منها كما يتدارك سائر الأوصاف إذا ردّت العين فاقدة لها، و توضيح المقام أنّ قوله- عليه السلام-: «على اليد ما

أخذت حتّى تؤدّيه» إمّا يحمل الموصول فيه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 201

على ظاهره من نفس العين المأخوذة فالمعنى ثبوت نفس العين في عهدة الضامن سواء في حال وجودها أم في حال تلفها، و معنى عهدتها في حال الوجود حينئذ ردّ نفسها إن أمكن و إلّا ردّ بدلها، و حيث إنّ المفروض وجودها و عدم انقطاع ملكيّة المالك عنها و إنّما المنقطع سلطنة الانتفاعات بها في الوجوه المقصودة من الأملاك، فلا محالة كانت البدليّة بالنسبة إلى هذه السلطنة. و أمّا العين فهي باقية على ملك المالك و اعتبار البدليّة بالنسبة إليها مستلزم لاجتماع العوض و المعوّض.

و كذا ليست البدليّة بالنسبة إلى السلطنة على مطالبة نفس العين مع قطع النظر عن الانتفاعات بها و إلّا لزم كون العين مباحة لغير المالك بعد بذلك الغرامة، فيصحّ القول بأنّ الامتناع من أخذ البدل حقّ للمالك لبقاء هذه السلطنة بالنسبة إلى نفس العين فله أن يصبر إلى زمان التمكّن منها.

و يندفع أيضا توهّم النقض بما إذا ردّت العين بعد التمكّن منها فيجب بذل عوض القدر الفائت من السلطنة في الزمان الماضي، وجه الاندفاع أنّ الزمان الماضي ظرف للسلطنة لا قيد لها، فالمبدل هو مطلق السلطنة و هي تعود بعود العين، و من هنا يظهر أنّه لو عاد التمكّن من العين يجب على الغاصب ردّها فيأخذ الغرامة، و لو فرض الشكّ في هذا الوجوب التكليفي قال شيخنا المرتضى:

لا يمكن استصحاب عدمه الثابت في حال التعذّر، لأنّ سقوط الوجوب إنّما كان بحكم العقل و من باب العذر العقلي.

و هذا الكلام منه- قدّس سرّه- مبنيّ على عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة و لكن قد حقّق في الأصول عدم الفرق و

أنّه يجوز استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي، و كما يستصحب وجود الحكم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 202

يستصحب عدمه أيضا، و وجه جريان الاستصحاب في الحكم المستكشف من العقل أنّ من الممكن أن يكون هنا ملاك أعمّ للحكم كان موجودا مع وجود القيد الذي أخذه العقل و مع عدمه.

ثمّ قال- قدّس سرّه-: بل مقتضى الاستصحاب هو الوجوب، و مقصوده- قدّس سرّه- من هذا الاستصحاب هو استصحاب الوجوب الإنشائي المنكشف من إطلاق المادة في أدلّة الضمان الساقطة عن الدلالة بعد دفع البدل، إذ لا شبهة في أنّ القدرة إذا لم تؤخذ في موضوع الحكم شرعا صارت من القيود العقلية و يحكم بإطلاق الحكم في مرحلة الإنشاء و من حيث الأغراض المولويّة في حال وجود القدرة و عدمها.

فنقول: قد أنشأ المولى حكما قد تمّ مقتضيه من ناحية أغراضه و وصل النوبة إلى العقل، فإذا لم يكن عذر عقليّ صار ذلك الحكم الشأني الحيثيّ (كذا) حجّة فعليّا، و إذا كان يسلب عنه الفعليّة فنقول: نستصحب هذه المرتبة الحيثيّة من الحكم بعد دفع البدل إلى حال التعذّر و منها إلى حال التمكّن، و الحكم بالفعليّة حينئذ لوجود أسبابها العقليّة ليس من الأصل المثبت، لأنّه من لوازم نفس الحكم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 203

[الكلام في شروط المتعاقدين]

[في بيان الشرائط العامة للمتعاقدين]

[الشرط الأول البلوغ]

فصل في بيع الصبي

المشهور كما قيل، بطلان عقد الصبيّ، و ليعلم أوّلا أنّ هنا ثلاث مراحل لابدّ من طيّها و التكلّم فيها:

المرحلة الأولى: الكلام في صرف الإنشاء الخالي عن الاستقلال في جهات النظر في المعاملة، فيتكلّم في أنّه هل هو بلا أثر فلا بدّ من إجراء إنشاء آخر من الكبير مطلقا حتّى لو لحقه إذن الولي، أو له الأثر مطلقا و لو لم يأذنه الولي،

أو له الأثر مشروطا بإذنه؟

المرحلة الثانية: الكلام في أنّه هل له الأهليّة في التصرّفات الفعليّة نظير الأهلية في الفضولي، حتّى لا يؤثّر تصرّفه استقلالا و لكن كان له أهليّة التأثير بلحوق الإذن سابقا أم لاحقا، أو ليس له ذلك فلا تأثير في فعله من حيث إنّه مضاف إليه، و لا يقبل أن يؤثّر بعد الإذن و بواسطته أيضا؟ نعم لو فرض أنّه يخرج بواسطة إذن الولي عن كونه مضافا إليه و يصير فعلا للولي و مضافا إليه فلا مانع من تأثيره حينئذ من هذه الجهة و لا ربط له بموضوع البحث لأنّه فعل الصبيّ.

المرحلة الثالثة: الكلام في أنّه هل يكون كواحد من الكبار البالغين حتّى يكون له الاستقلال في التصرّف و الاختيار التام بلا حاجة إلى إمضاء الغير أو ليس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 204

كذلك؟

إذا عرفت هذا نقول: الظاهر أنّه لا شبهة في المرحلة الأخيرة من حيث عدم ثبوت الاستقلال و الاختيار التام له حتّى يفعل في أمواله ما يشاء، و بعد هذا يقع الكلام في المرحلة الثانية في كونه ساقط التصرّف رأسا حتّى كان مسلوب العبارة أيضا.

فنقول: عمدة ما في الباب الأخبار الدالّة على توقّف جواز أمر الصبيّ على بلوغ الأشد المفسّر بالسن الكذائي، فربّما يقال: من الأمور هو الإنشاء الصرف بعد إتمام تمام جهات العمل من ناحية الكبيرين، فهذا أيضا بحسب الإطلاق غير جائز، و معنى عدم جوازه عدم ترتّب الأثر المقصود المترقّب منه عليه.

و لكنّ الإنصاف انصراف الأمر عن مثل هذا، بل المراد هو الأمور التي لم يرض الشارع بتعطيلها و حمّلها الوليّ من التدبير في أموره و تمييز جهات الصلاح عن الفساد و الإقدام في تحصيل جهات الصلاح و

تبعيده عن جهات الفساد، و الحاصل إدارة أمر معاشه، فيخرج عنه مجرّد الإنشاء الخالي عن الدخل في الرتق و الفتق و الحلّ و العقد، و على هذا فيبقى إنشاؤه تحت القواعد و تشمله عمومات المعاملات من غير حاجة إلى إذن الولي، فيكون حال لسانه في إجراء الصيغة كحاله في سائر تكلّماته مثل إنشاء السلام و نحوه، فكما لا يحتاج فيها إلى إذن الولي فكذا في هذا.

و بعد طيّ هذه المرحلة يبقى الكلام في أنّه هل لعمله الذي باشر الصبيّ بنفسه رتقه و فتقه أهليّة التأثير حتّى يؤثّر بعد تعلّق إمضاء الوليّ به أو هو ملغى و لا ينفذ حتّى مع إمضائه؟

فنقول: رجّح شيخنا الأستاذ- دام بقاه- في مجلس الدرس الثاني، نظرا إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 205

إطلاق الحكم في الأخبار المتقدّم إليها الإشارة بعدم جواز أمر الصبيّ الشامل لحال إذن الولي، فلو كان لعمله أهليّة كما في عمل الفضولي فلازمه أنّه لو أجازه الوليّ بأن يعمل في ماله كلّ ما يشاء جاز تصرّفه كما هو الحال في الفضولي، و هذا مخالف لإطلاق الخبر النافي لنفوذ الأمر عنه بقول مطلق، هذا في الإذن الكلّي المتعلّق بنوع التصرّفات.

و أمّا الإذن الشخصي المتعلّق بالقضيّة الشخصيّة التي لاحظها الوليّ فرآها صلاحا و كذا الإمضاء اللاحق في القضيّة الشخصيّة، فإن صار هذا الإذن و الإمضاء سببا لإضافة العمل إلى الولي كما قيل في إجازة الفضولي فهو خارج عن مسألتنا خروجا موضوعيا، لأنّ الكلام في عمل الصبيّ من حيث إضافته إليه، و إن لم يكونا سببا لذلك بل كانت إضافة العمل إلى الصبيّ محفوظة مع ذلك فمقتضى إطلاق الأخبار أنّ العمل مهما صار عملا للصبيّ فهو لا يمضى و

لا ينفذ حتّى في حال وجود الإذن.

فانقدح أنّ ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من أنّه يصدق عدم الجواز و عدم المضيّ مع الوقوف على الإجازة- كما يقال بيع الفضولي غير ماض بل موقوف- يكون مخالفا للإطلاق. ثمّ استشهد- قدّس سرّه- لتأييد مرامه بالاستثناء الواقع في بعض الأخبار بقوله بعد الحكم بجواز الأمر إذا بلغ: «إلّا أن يكون سفيها» «1» حيث يستفاد منه أنّ السفاهة بعد البلوغ يكون حالها كحال الصباوة، فبعد القطع بأنّ البالغ السفيه لا يكون مسلوب العبارة يعلم أنّ الصبي أيضا كذلك.

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، الباب 2، في أحكام الحجر، ص 143، ح 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 206

و أنت خبير بأنّه إنّما يحسن لو كان الاستدلال في المرحلة الأولى لأجل إثبات مسلوبية العبارة، و لكن عرفت أنّ الاستدلال يكون في المرحلة الثانية بعد الفراغ عن عدم كون الصبيّ مسلوب العبارة كالسفيه لأجل إثبات عدم تأثير عمله حتّى بعد رضا الولي، و على هذا لا ينفع الاستشهاد، إذ نقول في السفيه أيضا يكون الأمر على هذا النسق، فعبارته غير مسلوبة، لكن لو باشر عملا من بيع أو شراء أو غيرهما من المعاملات فليس له شأنية المضيّ حتّى بعد إذن الولي.

اللّهمّ إلّا أن يثبت إجماع هناك على خلاف ذلك، و معه أيضا لا ينثلم به ظهور الإطلاق الذي ادّعيناه، غاية الأمر يجب رفع اليد عن هذا الظهور في السفيه بدليل خارجي، هذا ما ذكره الأستاذ- دام ظلّه.

لكن لا يبعد أن يقال: إنّ ما ذكر من استظهار نفي الجواز المطلق المستلزم لنفي الأهليّة.

الغلام لا يجوز أمره في البيع و الشراء حتّى يبلغ خمس عشرة سنة، فإنّ الظاهر أنّ ما يثبت بعد حتّى بقضيّة

مفهوم الغاية نقيض الحكم في ما قبله، و لا شبهة أنّ ما يثبت بعده، أعني: حال البلوغ هو الجواز المطلق و الاستقلال التام، فلا بدّ أن يكون المغيّى رفع هذا المعنى، و هو لا يقتضي أزيد من احتياج نفوذ أمره إلى إجازة الولي، فلا ينفي الأهليّة.

و دعوى أنّ الثابت بعد الغاية حكم جزئي، إذ قد يطرأ مانع آخر كالجنون، و أيضا قد يلاحظ التصرّف في ماله و قد يلاحظ في مال غيره، لا يخفى بعدها، فإنّ الخبر ناظر إلى حيث الصباوة من دون نظر إلى الحيثيّات الأخر.

و دعوى أنّه كما كان مقتضى الإطلاق في جانب المغيّى هو السلب الكلّي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 207

كذلك مقتضاه في جانب المفهوم الإيجاب الكلّي، فيها أوّلا: أنّ هذا المطلب مبنيّ على أنّ المفهوم يؤخذ من ذات المطلق لا منه بوصف الإطلاق، و يفرق بينه و بين العموم حيث يؤخذ بعد لحاظه و هو كلام لا يخلو عن الخدشة كما قرّر في محلّه، و ثانيا: أنّه على فرض تسليمه إنّما يجري في مفهوم الشرط دون الغاية فلا يستفاد من الثاني إلّا رفع الحكم الكلّي المنتج للقضيّة الجزئية.

و على هذا فبعد ضمي أنّ الأخبار بتمامها تكون في مساق واحد لا يبعد أن يقال بالتفصيل بين الإذن في نوع التصرّفات فلا يكفي، إذ يصدق عرفا استقلاله في التصرّف، و بين الإذن في القضيّة الواحدة الشخصيّة أو الرضا اللاحق فيها فيكفي، لعدم صدق الاستقلال معه، و اللّٰه العالم.

فصل هل يستفاد من هذه الأخبار عدم مشروعيّة عباداته على خلاف المشهور أو لا؟

الظاهر الثاني، و حينئذ فإطلاقات أبواب العبادات من قبيل «الصلاة خير موضوع» «1» و «الصوم جنّة من النار» «2» محكّمة و إن كانت الخطابات التكليفيّة الواردة في أبوابها مقيّدة بالبالغين فلا يمكن الأخذ

بإطلاق موادّها للاقتران بما يصلح للقيديّة، لكنّ الأخبار المتعرّضة لأجزاء الصلاة و شرائطها خالية عن ذكر شرطيّة البلوغ، و إنّما حكم برفع التكليف عن الصبيّ بمقتضى حديث رفع القلم، و معلوم أنّ ظاهره رفع قلم المؤاخذة لا قلم جعل الأحكام، فهو إنّما يقيّد مثل أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ* «3» دون مثل «الصلاة خير موضوع» فيبقى إطلاق مثله الذي لا

______________________________

(1) انظر: كنز العمال: 7/ 18916.

(2) الوسائل: ج 1، الباب 1، من أبواب مقدّمة العبادات، ص 8، ح 3.

(3) البقرة: 43.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 208

شبهة في إطلاقه من جهة الموضوع، و كذا الأخبار المبيّنة لأجزاء العبادة و شرائطها الدالّة بإطلاقها على أنّ الجامع لتلك الأجزاء و الشرائط صلاة من غير فرق بين كون الفاعل بالغا و عدمه.

و يتفرّع على ذلك أنّه لو صلّى في أوّل الوقت ثمّ بلغ في آخره أو في أثناء الصلاة لم يجب عليه الإعادة، لتحقّق حقيقة الصلاة عنه، و لولا دلالة الدليل في باب الحجّ على أنّ حجّ الصبيّ لا يكفي عن حجّة الإسلام لقلنا بالكفاية ثمّة أيضا على حسب القواعد.

فصل و ممّا استدلّ به للبطلان و سلب العبارة حديث رفع القلم

و فيه أنّ الظاهر منه قلم المؤاخذة لا قلم جعل الأحكام، و لعلّ سرّه أنّ الذي عيّن له الكاتبان و يحاسبانه من العبد يوما فيوما إنّما هو الحسنات و السيئات، فإنّها المتدرّجة وجودا فيحتاج إلى المحاسبة، أمّا الوضعيّات فلها وجود إنشائي قارّ و لا تتجدّد بتجدّد الأيام.

و ممّا استؤنس به لسلب العبارة حديث «عمد الصبيّ و خطاؤه واحد» «1» و فيه أيضا أوّلا: أنّ الظاهر منه تنزيل العمد منزلة الخطاء و تشبيهه به في الحكم، لا مجرّد سلب حكم العمد و إلّا لم يكن وجه لذكر الخطاء، بل كان ينبغي أن

يقال:

عمده كالعدم، فلا بدّ أن يكون مصبّ هذه القضيّة عملا كان لعمده حكم و لخطائه حكم، فيحكم بأنّ عمده من الصبيّ بحكم الخطاء من غيره و هو كما في باب الجنايات فلا مساس له بالمعاملات و لا دخل له بمسألة سلب قصده و جعله

______________________________

(1) الوسائل: ج 19، الباب 11، من أبواب العاقلة، ص 307، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 209

كلا قصد مطلقا.

و ثانيا: الظاهر منه ما إذا كان عنوان العمل محفوظا مع كلّ من العمد و الخطاء فلا يصحّ إجراؤه في عمل كان عنوانه متقوّما بالقصد و مع الخطاء يرتفع موضوعه فلا يتصوّر في موضوعه الخطاء، و الأوّل كعنوان القتل، و الثاني كعنوان العقد و الإيقاع.

و بالجملة: فيختصّ الخبر بباب الجنايات، و بعد ما كان الظاهر من الخبر ذلك فلا يغيّر هذا الظهور ما وقع في ذيله من الاستشهاد بحديث رفع القلم، لأنّ مفاد الصدر و الذيل أنّ عمد الجناية يوجب القصاص و القصاص عقوبة، و حيث إنّ العقوبة مرتفعة عن الصبي فأوجب ذلك أن يجعل عمده بحكم الجناية الخطائيّة، غاية ما في الباب يستفاد من هذا الذيل مطلب أعمّ و هو أنّه كلّما يترتّب على العمل العمدي و لو لم يكن لخطائه حكم أو لم يكن له القسم الخطائي عقوبة سواء كانت أخرويّة أم دنيويّة و سواء تعلّقت بالنفس كالقصاص أم بالمال كالدية فهذه العقوبة عن الصبي مرتفعة.

و يمكن أن يستفاد من هذه الرواية أنّ الدية في شبه العمد من باب العقوبة إذ لو لم يكن كذلك لكان المناسب أن يحكم على عمد الصبي بحكم شبه العمد حتّى تكون الدية في ماله، فحيث حكم عليه بحكم الخطاء علم أنّ الدية في

شبه العمد من باب العقوبة لا السببيّة الصرفة، و من هنا يعلم أنّ الضمان الثابت بالإتلاف جار في الصبيّ، لأنّه من السببيّة المحضة، و لهذا يتحقّق مع الإتلاف في حال النوم و السهو.

إذا عرفت ذلك فنقول: بذل المال بإزاء المال ليس من العقوبة في شي ء كما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 210

هو واضح، فلا يشمله الخبر، و أمّا التعزير فإن علّق على الصبيّ في دليل خاص لم يكن تخصيصا في رفع القلم كما في حديث الرفع بالنسبة إلى الأثر المترتّب على عنوان الخطاء، و وجهه أنّ العنوان المؤثّر في إثبات شي ء لا يعقل أن يكون رافعا لذلك الشي ء، فالصباوة كالخطاء إنّما يكونان رافعين للحكم الثابت مع قطع النظر عن الصباوة و الكبر، و الخطاء و العمد، لا ما كان متقوّما بأحد الأمرين، إذ في أحدهما يكون الرفع برفع الموضوع و في الآخر يكون العنوان واضعا لا رافعا.

فصل و ممّا يمكن الاستدلال به لما أيّدناه سابقا من جواز تصرّفات الصبي مع إذن الوليّ رواية السكوني

عن الصادق- عليه السلام- «قال- عليه السلام-: نهى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده» «1» معلّلا بأنّه إن لم يجد سرق.

و يستفاد من هذه الرواية الشريفة بملاحظة مفهوم الوصف أنّ الصغير الذي يحسن الصناعة يجوز كسبه، و من المعلوم أنّه ليس المراد ما إذا كان بصرف إنشاء اللفظ منه مع صدور سائر إصلاحاته من غيره، بل الظاهر أنّه المباشر للعمل و الاكتساب مستقلّا، غاية الأمر لمّا كان الاستقلال الرأسي الغير المحتاج إلى إذن الولي مخالفا للإجماع يقيّد الإطلاق بصورة كون الاكتساب بالصنعة عن إذن من الوليّ، و كذلك الظاهر عدم اختصاص النهي بخصوص الولي بل متوجّه إلى عامّة الناس فيكون في جانب المفهوم كذلك فيكون الخطاب

عامّا لجميع الكسبة الذين يعاملون مع الصبي بكسبه و يبيعونه الخبز و سائر المأكولات و غيرها من موارد الحاجات، فتدلّ الرواية على جواز ذلك، غاية الأمر تقييد ذلك أيضا

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 33، من أبواب ما يكتسب به، ص 118، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 211

بإذن الولي فهذا مؤيّد لما استفدنا سابقا من روايات حجر الصبي من أنّ المقصود بها نفي الاستقلال التام في التصرّفات الغير المنافي لاحتياج نفوذها إلى الإذن.

فإن قلت: لعلّ الرواية في مقام المنع من جهة العلّة المذكورة، أعني: عدم مبالاته من السرقة و هذا لا ينافي وجود المانع من جهة أخرى و هي الصباوة.

قلت: لو كان كذلك للزم التعليل بالصباوة لا باحتمال السرقة، و كونه علّة لتأكّد المنع لا لأصله خلاف الظاهر، فالإنصاف أنّ الرواية ظاهرة عرفا في نفوذ تصرّف الصبيّ و جواز كسبه الحاصل له من اعمال صنعته و جواز تقليبه و تقلّبه فيه بإيقاع المعاملات عليه، هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّه لا ينافي مع الحاجة في معاملته في كسبه إلى كون الولي واسطة في حلّ المعاملة و عقدها، كما لا ينافي ذلك أيضا في أصل اعمال صنعته بأن كان الولي هو المتولّي و المباشر لإجارته و فصل أجرته مع من يعمل له.

إلّا أنّ الإنصاف ظهور الرواية في أنّه لو آجره الولي فأعطاه المستأجر الأجرة جاز له أخذها و كان قبضه قبضا صحيحا، و ذلك لأنّ من البعيد في تلك الموارد التي يؤجر الأولياء الصبيان مباشرة نفس الأولياء لقبض مال الإجارة عن المستأجر، و كذلك توكيله للمستأجر في القبض من جانبه، فعدم التّقييد في الرواية مع غلبته و كونها في مقام البيان من هذه الجهة

دليل على نفوذ هذا التصرّف منه غاية الأمر مع إذن الولي.

[الشرط الثاني القصد إلى المدلول]

فصل في اعتبار القصد في تحقق مفهوم العقد لا شبهة في اعتبار القصد في تحقّق مفهوم العقد، فلو تكلّم باللفظ من دون عمد إلى اللفظ لم يتحقّق العقد، و كذا مع العمد و القصد إليه لكن مجرّدا عن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 212

الاستعمال، كما في ما يلقّن الصبي مثلا، و كذا مع القصد و الاستعمال لكن مجرّدا عن الجدّ بأن كان إنشاء هزليّا بدون أن يقصد به التوسّل إلى حصول المنشأ و هو النقل و الانتقال في الخارج.

و قد نظر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- الاستعمال الخالي عن الجدّ في الإنشاءات بالكذب في الإخبارات، فإنّ الكاذب يقصد اللفظ و يقصد المعنى بحسب الاستعمال، يعني يلاحظ معنى زيد قائم مثلا مطابقا للفظه و يعطي كلّ لفظ معناه لكن ليس له الجدّ في هذا المعنى، أعني: وقوع نسبة القيام إلى زيد في الخارج، و الحاصل توجّه القصد نحو هذا المعنى النسبي الاسنادي يكون على نحوين.

الأوّل: صرف إحضار الصورة في الذهن لغرض في نفس الإحضار و لو لإيهام على المخاطب و إيقاعه في الاعتقاد بخلاف الواقع.

و الثاني: أن يكون مع ذلك مريدا حقيقة لهذه الصورة المحضرة و كان غرضه في نفس الصورة أعني: في وقوع النسبة الإسنادية أو لا وقوعها، و الكاذب قد تحقّق فيه الإرادة الصورية بالنسبة إلى النسبة الواقعيّة و انفك عن الإرادة الجدّية بالنسبة إليها، فيصير نظير الإنشاء الهزلي في أنّ المعنى الإنشائي متصوّر في الذهن لكن ليس المتكلّم بصدد تحصيل هذا المعنى الإنشائي بأن كان غرضه قائماً بحصوله، فحال الحصول الخارجي في الإنشاء حال الحصول الخارجي السابق في الإخبار، فكما لو لم

يكن المنشئ بصدد التوسّل إلى الحصول الخارجي فقد انفكّت الإرادة الاستعماليّة عن الجدّية، كذلك المخبر إذا لم يكن بصدد إلقاء الحصول الخارجي السابق في ذهن المخاطب فقد انفكّت الإرادتان في حقّه.

و الكاذب من هذا القبيل لأنّ ما صار بصدد إلقائه بحسب الإرادة الجدّية

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 213

ليس بخارجي بنظره و ما هو خارجي كذلك ليس بصدد إلقائه، فهو و إن تعلّق إرادته الجدّية بمضمون زيد قائم لكن على أنّه الواقع الجعلي لا على أنّه الواقع الحقيقي بنظره و لا نعني بالإرادة الجدّية في الإخبار إلّا الإرادة الحقيقيّة على طبق مضمونها على أنّه الواقع الحقيقي، غاية ما هنا من الفرق بين الإخبار الكاذب و الإنشاء الهزلي أنّ المخاطب لا يعلم بحقيقة الحال و انفكاك الإرادتين في الأوّل لكنّه عالم به في الثاني، فلو فرضنا الإخبار الكاذب في مقام الهزل أيضا صار شبيها بالمقام من هذه الجهة أيضا.

ثمّ إنّه هل يعتبر تعيين البائع و المشتري في القصد أو لا؟ يظهر من كلمات بعض المحقّقين التفصيل بين ما إذا كان العوضان معيّنين، كأن يبيع هذه الحنطة الخارجية بهذا المبلغ الخارجي فحينئذ يصير كلّ منهما إلى مالك الآخر فلا يحتاج إلى تعيين الطرفين و بين ما إذا كانا كليّين كما لو كان أحد وليّا على صغيرين أو وكيلا عن كبيرين فباع منّا كلّيا من الحنطة بدرهم كلي من النقد مردّدا في كلّ منهما بين نفسه و أحد الصغيرين أو الكبيرين، فحينئذ يعتبر التعيين مستدلّا بأنّ هذا القسم من المعاملة، خلاف الشائع المتعارف فلا تشمله الإطلاقات.

و قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: بأنّ تعيين المالكين ليس بمعتبر مطلقا حتّى في مورد كون العوضين كليّا من حيث نفسه، نعم

حيث إنّ الكلّي المجرّد عن الإضافة إلى ذمّة أحد ليس له الماليّة، و البيع مبادلة مال بمال، فمن هذا الحيث يعتبر تعيين الذمّة.

و تحقيق المقام أن يقال: لا إشكال في أنّه لو أوقع الإنسان المعاملة بين جنسين كليّين من دون إضافتهما إلى ذمّة أحد حتّى المردّد في المحصورين فلا يتحقّق عنوان المعاوضة و لا يتّصف الجنسان بالماليّة، أمّا الأوّل، فلأنّ المعاوضة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 214

ليست هنا بصيرورة أحد المالين خليفة الآخر في المكان بل في الملكيّة، و بعد ما لم يفرض ملكيتهما لأحد فلا معنى لإيقاع المعاوضة بينهما، و أمّا الثاني، فالظاهر أيضا عدم الإشكال في أنّ مفهوم عشرة أمنان حنطة مثلا من دون لحاظ وجود معه إمّا في الخارج و إمّا في الذمّة ليس متّصفا بالماليّة، و يعلم بالعرض على الوجدان.

و إذن فلا كلام في هذه الصورة، إنّما الكلام في صورة ترديد الذمّة بين ثلاث ذمم مثلا، فهل يجوز لشخص واحد مختار على الذمم الثلاث أن ينقل من إحداها مالا و ينتقل إلى إحداها مالا و يكون اختيار تعيينه بيده فله أن يختار في ما بعد تعيين البائع في أيّهم شاء و كذلك تعيين المشتري؟

قد يقال بعدم المانع بحسب النظر العرفي مع قطع النظر عن المنع الشرعي و ينظر المقام بما إذا كان متعلّق الملك الأحد المردّد بين الثلاث مثلا كأن يملّكه أحدا من الصّيعان الثلاث بلا تعيين في الواقع أيضا و كذلك قد يصير متعلّقا للأمر كما لو أمر بإكرام أحد الرجلين لا على التعيين بل قد يصير الأحد المبهم متعلّقا للعهدة كما في الأيادي المتعاقبة حيث إنّ واحدا منها على البدل متعهّد للمال، و للمالك تعيين أيّهم شاء، فلا

مانع إذن في جعل البائع و المشتري أحدا مبهما ما بين الثلاث مثلا، فإن كان واحد واليا على الثلاث كان هو المطالب و إلّا كما في الوكيل عن الاثنين كان المشتري بالخيار في تعيين أيّهم شاء.

هذا ما يقال و لكنّه في ما كان اختيار الذمم الثلاث بيد واحد كما في مثال الوليّ حسن و أمّا في غيره كما في الوكيل فمحل إشكال، لأنّه لا يمكن إلزام واحد من صاحبي الذمم، لأنّه ترجيح بلا مرجّح. هذا كلّه في ما إذا كان العوضان كليّين، و أمّا في ما كانا معيّنين فهنا صورتان، الأولى: أن يكون البائع مطّلعا على الحال أعني: كون هذا المال لغير من ينقل إليه الثمن كما لو باع مال نفسه بعنوان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 215

غيره لينتقل الثمن إلى هذا الغير أو باع مال الغير بعنوان نفسه لينتقل الثمن إلى نفسه كما في الفضولي الغاصب. الثانية: أن لا يكون كذلك بل باع مال الغير عن نفسه باعتقاد أنّه لنفسه، أو باع مال نفسه عن الغير باعتقاد أنّه لذاك الغير.

أمّا الأولى فقد يقال بأنّه كيف يمكن من الملتفت بأنّ البيع مبادلة مال بمال و قضيّته انتقال كلّ من المالين إلى ملك من انتقل الآخر عن ملكه كما هو الحال في المبادلة المكانيّة، و لو فرض أنّه ليس في حاقّ البيع ذلك فلا أقلّ من كونه متبادرا بالتبادر الإطلاقي، فمع كون الشخص قاصدا لتحقّق هذا المعنى كيف يقصد انتقال الثمن إلى غير مالك المثمن، و هل هو إلّا التهافت في القصد و التناقض فيه؟

و قد يدفع ذلك بدعوى أنّه يدّعي غير المالك مالكا فيدّعي الغاصب نفسه مالكا للمبيع فيقصد انتزاعه من نفسه بعد هذا

الادّعاء، و كذلك في العكس يدّعي مالكيّة الغير لمال نفسه فينزعه منه بعد هذا الادّعاء، و لكنّه لا تندفع غائلة الإشكال بذلك، ألا ترى أنّك لو ادّعيت وجود زيد في دار عمرو لا ينقدح في نفسك جدّا إرادة جلبه من دار زيد و لا تصير بصدد إتيان مقدّمات ذلك كما [لا] تصير في حال قطعك، فكذلك كلّما ادّعيت أنّ مال نفسك مال زيد لا يمكن أن ينقدح في نفسك قصد نزع إضافته عن زيد و لا تصير اعتباريّة الملك فارقا بين المقام و المثال، لأنّ الملك له نفس أمريّة و صدق و كذب.

و دعوى أنّ المنشئ قاصد للنقل من الصاحب الواقعي غاية الأمر أنّه يدّعي أنّه الصاحب ففي الحقيقة يلاحظ النقل بالنسبة إلى صاحب المال الواقعي، مدفوعة بأنّ الغاصب لا يبيع المغصوب بقصد أن ينتقل الثمن إلى المغصوب منه، و كان هو آخذا له بتوسّط ادّعاء أنّه الصاحب.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 216

و الذي ينبغي أن يقال في حلّ هذه العويصة: أنّه لا تنافي بين جزئي القصد المزبور حتّى يحتاج إلى الذهاب تارة إلى تصحيحه بالحقيقة الادّعائية، و أخرى إلى القول بأنّه لا بدّ من رفع اليد عن أحد الجزئين و جعله ملغى حتّى يرد عليه أنّه لا وجه لرفع اليد عن خصوصيّة كونه لغير المالك، و الأخذ بأصل المبادلة، لم لا يجوز العكس.

و وجه عدم التنافي أنّك عرفت أنّ البيع يكون المتبادر منه و لو إطلاقيّا هو النقل عن المالك الواقعي و بعد هذا الظهور ليس ما يصادمه إلّا ظهور كلمة للغير في كونه بلا واسطة لكن من الممكن بلا كثير عناية حمله على الأعمّ منه و من الكون له مع الواسطة، و

إذن فيرتفع التنافي رأسا، إذ نقول: نأخذ بظهور البيع في النقل عن المالك الواقعي، أعني: المغصوب منه في مسألة الفضولي و نفس العاقد في عكسها، و بعد انتقال الثمن إليه يغصبه منه كما غصب مثمنة منه في الغاصب الفضولي أو ينتقل إلى الغير في البائع لمال النفس عن الغير بدون أن يكون في البين ادّعاء.

و يؤيّد ذلك أنّ الغصّاب لا يدّعون أنّ أنفسهم مالكون لا حين المعاملة و لا بعدها بل يقرّون بغاصبيّتهم حتّى يرون الأموال التي حصّلوها من النقود الغصبيّة أنّها أموال لمالكي تلك النقود و أنّهم غاصبوها كما كانوا غاصبين لأثمانها، و كذلك من يبيع مال نفسه عن زيد مثلا يقال: إنّه أعطى الثمن لزيد كما أنّه لو أعطى نفس المثمن أوّلا إيّاه يقال: إنّه عطية هذا الشخص فهنا يقال بدّله بصورة النقد و أعطاه زيدا، فلو قلنا: إنّ تمليك زيد يحتاج إلى سبب مستقلّ و لا يتحقّق بهذا القصد الضمني فهو مطلب آخر لا ربط له بقصد حقيقة المبادلة، فهذا القصد موجود و مؤثّر و ذاك موجود غير مؤثّر شرعا، هذا في الصورة الأولى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 217

و أمّا الصورة الثانية و هي ما لو قصد حقيقة المبادلة لاعتقاده أنّ هذا من مصاديقها فنقول: من قصد الخاص فقد قصد العام لعدم تعقّل وجود الخاص بدون العام، فأنت إذا قصدت شرب هذا الخمر و كان ماء فقد قصدت أصل شرب الخمر، أعني: المهملة الجامعة بين المرسلة و المقيّدة و لا يحتاج في صحّة النسبة أن يضاف إلى المهملة حيثيّة انضمامها بالخصوصيّة فلا يحتاج أن يقال:

قصد شرب الخمر المتخصّص بهذه الخصوصيّة بل يقال: قصد نفس شرب الخمر و ليس لازمه سراية القصد

إلى فرد آخر، إذ هو فيما لو كان المقصود هو المرسلة لا ما إذا كان الجامع بينها و بين المقيّدة، فلا يسري القصد منها إلى سائر الأفراد إذا كان نسبة القصد إليها ثانيا و بالعرض و بتبعيّة المقيّد.

و الحاصل: أنّ من قصد المبادلة المقيّدة بكون طرفها زيدا سواء كان بنحو تعدّد المطلوب أم بنحو وحدته، أعني: كان بنظره صورة المالك منطبقة على زيد أم كان في نظره من الأوّل شخص زيد بلا وساطة عنوان ففي كلتا الصورتين يقال إنّ لهذا القاصد قصدين، أصليّا و تبعيّا، فالقصد الأصلي متعلّق بالمقيّد و التبعي بالمهملة.

و بعد هذا نقول: إذا فرضنا أنّ المهملة يكون قصدها موجبا لوجودها في الخارج فلو فرض أنّ قصد شرب الخمر في المثال موجد له لزم في المثال أن يتحقّق في الخارج شرب الخمر، و البيع من المفاهيم التي يكون وجودها بالقصد و يكون القصد علّة تامّة لها، فهذا القصد التبعي بعد صحّة إضافتها و نسبتها إلى مهملة البيع يصير موجبا لوجود هذه المهملة في الخارج، و لازم وجودها الخارجي أن ينتقل المال من ملك مالكها الواقعي و ينتقل ثمنه إلى ملك ذلك المالك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 218

ثمّ هذا كلّه في تعيين البائع من يبيع له و المشتري من يشتري له، و أمّا تعيين البائع لخصوص من يشتري له المشتري و المشتري لخصوص من يبيع له البائع، فاعلم أوّلا أنّه قد يستشكل على عبارة شيخنا المرتضى في هذا المقام بعدم الانتظام نظرا إلى أنّ المسألة راجعة إلى مرحلة الثبوت، و استدلاله- قدّس سرّه- مرتبط بمرحلة الإثبات، فإنّه بعد ذكر الوجهين في المسألة قال: الأقوى هو الأوّل عملا بظاهر الكلام، فإنّ التمسّك بالظاهر إنّما

ينفع لمقام الشك.

و هذا الإشكال مندفع عنه- قدّس سرّه-، لأنّ ظاهر عنوانه المسألة أنّ كلامه من الأوّل راجع إلى الإثبات بعد الفراغ من الكبريين في مرحلة الثبوت، أعني: أنّه لو علم قصد أحد المتخاطبين لخصوص الطرف الآخر فتبيّن أنّه قصد النيابة يبطل، و لو علم قصده للأعمّ منه و من النيابة فتبيّن ذلك يصحّ، و بعد تماميّة هاتين الكبريين ساق الكلام في مقام الشك و دوران الأمر بينهما، فإنّه- قدّس سرّه- استثنى في كلّ من الوجهين المذكورين في كلامه صورة العلم، فيعلم أنّ النزاع مفروض في صورة الشك مع التسالم في مورد العلم.

إذا عرفت ذلك فلنتكلّم في الكبريين المذكورين فنقول: قد يفرض الكلام في ما كان العوضان معيّنين و قد يفرض في ما كانا كليّين، أمّا القسم الأوّل: فقد أورد شيخنا الأستاذ- دام بقاه- تبعا للسيد المحقّق المحشّي- طاب ثراه- بأنّه ما الفرق بين هذا الفرض و الفرض المتقدّم الذي يبيع البائع مال نفسه عن غيره؟

حيث رجّح شيخنا المرتضى فيه الصحّة أخيرا بواسطة انحلال القصد إلى أصل المبادلة و قصد كونها للغير، فيؤثّر الأوّل و تشمله العمومات و يلغو الثاني، فإنّ هذا الكلام جار هنا حرفا بحرف، فينحلّ قصد البائع البيع من خصوص المشتري مع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 219

كون المالك غيره إلى قصد أصل المبادلة و قصد كونها للمخاطب فيلغو الثاني و يؤثّر الأوّل، فتأمّل.

و أمّا القسم الثاني: فالمتّجه فيه البطلان، لا لما تقدّم في الفرض المتقدّم، فإنّ الوجه فيه على ما ذكره شيخنا المرتضى هو أنّ الكلّي بدون الإضافة إلى الذمّة أصلا لا يعدّ مالا، و الكلّي المضاف إلى الذمّة المردّدة غير معهود من العرف اعتبار ملكيّته، فلا يتحقّق عنوان مبادلة

مال بمال، و أمّا هنا فالكلّي مضاف إلى ذمّة معيّنة واقعا غير معلومة لدى البائع، فهو إمّا من باب جعل الثمن الفرد المنتشر و واحدا من صيعان الصبرة الذي قد ادّعي الإجماع على بطلانه مع عدم الجهالة فيه، و إمّا باطل من باب الغرر، فإنّ الذمم مختلفة في سهولة الاقتضاء و عدمها و اليسار و الإعسار.

[الشرط الثالث الاختيار و فيه فصلان]

فصل و من شروط المتعاقدين الاختيار فعقد المكره غير نافذ
اشارة

و تمام الكلام في المقام في طيّ أمور:

الأوّل: في تصوير أنّه كيف يتصوّر من المكره- المفروض كراهته لنقل ماله- القصد الجدّي و التسبّب الواقعي إلى وقوع مضمون العقد؟ فنقول: إنّه كما أنّ للألفاظ المفردة طبعا ثانويّا في فنائها في المعاني الاستعماليّة و كذلك المركّبات، كذلك للمركّبات- أعني: الجمل الخبريّة و الإنشائية- أيضا طبع ثانوي في الفناء في الأغراض التي وضعت لأجل إفادتها.

مثلا: الجملة الخبرية وضعت لأجل أن تستعمل بغرض إعلام المخاطب بالمضمون، أو بغرض إعلامه بعلم المتكلّم، و كذلك الإنشائية وضعت لأجل أن يتسبّب و يتوسّل بسببها إلى تحقّق مضمونها في الخارج، فتفكيك كلّ من الجملتين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 220

عمّا هو قضيّة طبعهما لا يصدر من المتكلّم بهما إلّا مع قيام داع في التفكيك المذكور كما في مقام الهزل، و أمّا بدون هذا الداعي فاللفظ أبدا جار على ما هو قضيّة طبعه، و هذا معنى أصالة الجدّ في عامّة الألفاظ.

فنقول: المكره لا داعي له إلى هذا التفكيك إلّا توهّم أنّه يخلصه من مكروه طبعه و هو ما أكرهه عليه المكره من بيع داره مثلا، و هو فاسد، فإنّ المحذور الذي يكون فعلا محلّ ابتلاء المكره، و يتمهّد الحيلة للفرار عنه خروجه عن داره و بقاؤه بلا منزل و مسكن، و معلوم أنّ هذا لا يحصل الفرار

منه بتجريد اللفظ عن الجدّ، لأنّ المحذور المذكور حاصل على أيّ حال.

فإن قلت: يكفي في الداعي أنّ المال باق على ملكيّته على فرض التجريد و خارج عنه مع عدمه، فلعلّه يقدر على أخذ ماله بعد ذلك فيتمكّن منه على تقدير بقائه في ملكه.

قلت: هذا التمكّن حاصل على أيّ حال، لأنّه قادر على التقدير الآخر على الردّ بواسطة عدم إمضاء عقده، هذا ما قاله شيخنا الأستاذ- دام بقاه-، لكنّه كما ترى غير خال عن الخدشة، و الأولى أن يقال: إنّه و إن كان متمكّنا من عدم القصد و لم يكن إكراه بالنسبة إلى هذا الجزء الباطني، و بعبارة أخرى يعتبر في صدق عنوان الإكراه عدم إمكان التفصّي و التورية، و تجريد اللفظ عن معناه قسم من التفصّي فمع إمكانه لا يصدق عنوان الإكراه. لكنّه يكفي في إكراهيّة العقد حصول أحد أجزائه عن إكراه، و لا شبهة في حصول اللفظ عن الإكراه، فهذا الجزء يكون مرتفع الأثر فيبقى الجزء الباطني قصدا خاليا مجرّدا عن المظهر اللفظي.

الأمر الثاني: لا فرق بين المكره و المضطرّ في أنّ كلا منهما غير طيّب النفس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 221

بالعنوان الأوّلي، و طيّب النفس بالعنوان الثانوي، فإنّه بعد ما يوازن في عقله بيع الدار مع الضرر المتوعّد به يرضى نفسه عند الدوران بأخفّهما، كما أنّه إذا لاحظ بيع الدار مع سقوط الشرف و الاعتبار يختار عند الدوران أخفّهما، و ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من عدم الطيب في المكره دون المضطرّ لا يستقيم في هذا القسم، و مجرّد كون العمل بتحميل الغير و تحريكه لا يوجب بعد بقاء الاختيار للإنسان بتحمّل الضرر الموعد به، و إلّا فما الفرق بين

ما إذا أكره الإنسان أوّلا على بيع الدار و بين ما إذا أكره على إعطاء ألف درهم لم يكن قادرا على دفعها بغير بيع الدار فيتصدّى للبيع لأجل ذلك، مع أنّ الثاني من البيع الاضطراري بلا كلام؟

نعم هنا قسم آخر يمكن القول بعدم حصول الطيب فيه، و هو ما إذا كان قهرمانيّة المكره مشغلة لقلب المكره بحيث لا يبقى له حال تفكّر العاقبة و موازنة المصلحة و المفسدة، فهو حين البيع و إن كانت تتحرّك جوارحه عن إرادة و ليس كحركة المرتعش لكن جوارحه مسخّرة للقاهر و مقهورة تحت إرادته، و إن شئت قلت: إرادة الفاعل هنا مقهورة لإرادة الآمر القاهر، و شيخنا الأستاذ- دام ظلّه- حاول حمل كلام شيخنا المرتضى على هذا و لكنّه بعيد غايته فراجع كلامه- طاب ثراه.

الأمر الثالث: في بيان الفرق بين الإكراه الرافع لأثر المعاملات و المسوّغ لارتكاب المحرّمات، فاعلم أنّه يعتبر في مفهوم الإكراه أمور، الأوّل: أن يكون هنا آمر، و الثاني: أن يقترن أمره بإيعاد الضرر، و الثالث: أن يكون مطلوبه مكروه طبع الفاعل و مخالف ميلة، و الرابع: أن يعلم أن يظنّ ترتّب الضرر الموعد به على ترك العمل، و الخامس: أن لا يكون طريق للتفصّي و لو بالمحذور الأدون، فلو فرضنا أنّ المكره كان له خلاف طبع آخر أخفّ من العمل المكره عليه لو تحمّله استراح

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 222

من تحمّل الأشد، مثلا لو فرض في ما أكره على بيع الدار أنّه لو أظهر المطلب عند أحد رفقائه يكفي عنه شرّ المكره فهذا الإظهار و إن كان صعبا عليه لكنّه أهون من بيع الدار، فلو تركه و باع لا يصدق أنّه مكره عليه،

نعم لو كان صعوبة هذا الإظهار بمثابة البيع أو أشدّ صدق.

فنقول: قد أجروا حكم الإكراه في باب المعاملة و لو مع وجود الطريق المماثل أو الأشدّ للتفصّي، و لم يجوّزوا ارتكاب المحرّم إلّا عند عدم إمكان التفصّي بكلّ وجه، فما وجه الفرق؟

الذي ذهب إليه شيخنا الأستاذ- دام ظلّه- في الفرق أنّ الاختلاف إنّما هو في مقام التطبيق مع الاتفاق في مقام المفهوم، ففي كلا المقامين وجود المحذور الأخفّ مضرّ بالصدق، و وجود المماثل و الأشد غير مضرّ، لكنّ المحذور في المحرّمات إنّما يلحظ بالنسبة إلى أغراض الشرع من غير نظر إلى أغراض الفاعل، و وجه ذلك أنّ الرفع المعلّق بعنوان ما استكرهوا عليه يراد به رفع الأثر الشرعي و هو التحريم في المحرّمات و المبادلة الواقعيّة في المعاملات، و قد عرفت أخذ المكروهيّة و عدم الملائمة للطبع في مفهوم الإكراه.

فالظاهر المنصرف إليه من رفع ما استكرهوا عليه اتّحاد ما يرفع و ما يكره و لا يلائم الطبع من حيث السنخ، فإن كان المرفوع أثرا شرعيّا كان المكروه من حيث الأثر الشرعي، و إن كان المرفوع غرضا فاعليّا كان المكروه أيضا من حيث غرض الفاعل، و لا شكّ أنّ غرض الشارع لا يزاحمه إلّا ما كان هو أيضا غرضا للشارع، فلا بدّ أن يفرض المزاحمة في المحرّمات في مثل ما لو أكره على الزنا و أمكن التفصّي بالتقبيل، و أمّا الإظهار عند الرفيق فهو و إن كان في أعلى درجة من الصعوبة على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 223

نفس الفاعل فلا يعدّ مزاحما فلا بدّ من تحمّله و دفع ارتكاب الحرام بسببه، و هذا بخلاف باب المعاملة فإنّ المرفوع لمّا كان هو المبادلة و هو

من أغراض الفاعل فلا جرم يلاحظ في مزاحماته ما هو من أغراض الفاعل.

و على هذا فلو فرضنا أنّ المكروهيّة في الحرام لم تكن راجعة إلى جهة التحريم الشرعي كما لو أكره على شرب الخمر و كان منزجرا لا من جهة زجر الشرع بل من جهة تنفّره النفساني من شربه فهو حينئذ خارج عن حديث الرفع و لا بدّ من تعيين حكمه من دليل آخر، أعني: قاعدة تزاحم الغرضين، فإن كان الضرر الموعد به من قبيل القتل فلا بدّ من ارتكابه و هكذا.

ثمّ إنّك عرفت اعتبار المكروهيّة في حقيقة الإكراه، فلو فرضنا أنّ الفاعل لا يكره المحرّم بوجه أصلا بل يشتهيه، غاية الأمر مصادفة ذلك، أمر الآمر و إيعاده بالقتل على الترك فلا شكّ في خروج ذلك عن موضوع الإكراه، و أمّا حكمه فالحقّ أن يقال ببقاء الحرمة لو أتى بالفعل لا بقصد التوصّل به إلى دفع الضرر الموعد به المفروض أهميته في نظر الشارع من ارتكاب الحرام المفروض، و ذلك لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها، و النهي عن الحرام في صورة هذا القصد غير ممكن، لمنافاته مع استيفاء الغرض الأهمّ، و أمّا بدون هذا القصد فالمقتضي و هو المبغوضيّة الملزمة موجود و المانع أيضا مفقود فلا وجه لعدم النهي، و قد ذكر مثل ذلك في الأصول في أوّل بحث المقدّمة.

لا يقال: ما ذكرت في باب المحرّمات من أنّه لا بدّ من الموازنة بين المكره عليه و المتفصّى به و ملاحظة الأهم منهما شرعا لا يناسب مع سوق الرواية مساق المنّة، إذ على هذا لا منّة لأنّها في مقام ثبوت مقتضى الوضع و لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 224

مقتضى مع الدوران و وجود الأهمّ، فإنّ

العقاب على المهم حينئذ قبيح فلا منّة في رفعه.

لأنّا نقول: إنّما اعتبرنا ملاحظة أغراض الشرع في عنوان التفصّي لا في عنوان الجزاء، فلا يعتبر كون الجزاء المترتّب الموعد به أمرا شرعيّا بل أمرا نفسانيّا طبيعيا منافرا للنفس و إن لم يكن فيه منافرة شرعية، و وجه الفرق بين المقامين حيث اعتبرنا في الأوّل أن يكون من الأغراض الشرعيّة و في الثاني من الأغراض النّفسية، أمّا الأوّل فلما ذكرنا من الانصراف المتقدّم بيانه، و أمّا الثاني فلأنّه مأخوذ في حقيقة الإكراه ذلك أي عدم الملائمة مع القوّة النفسانيّة دون عدمها مع القوّة العقلانيّة، كما أنّ عنوان الاضطرار أيضا من جهة الضررات النفسيّة.

و الحاصل: أنّ الإكراه و الاضطرار شريكان في أنّ الضرر المخوف ترتّبه على عدم الإقدام معتبر كونه ضررا راجعا إلى الإنسان إمّا في عرضه أو ماله أو نفسه، غاية الأمر إنّه يعتبر في الأوّل أن يكون ذلك بقهر قاهر و تحريك آمر و في الثاني أن يكون من غير هذه الجهة.

فروع الأوّل: إذا أكره على واحد من أمرين أو أمور فإن كان للقدر الجامع أثر فلا شبهة في ارتفاع ذلك الأثر

و لا ينافي استناد الخصوصيّة إلى الاختيار، نعم لو لم يكن للقدر الجامع أثر كما لو أكرهه على شرب الماء أو الخمر، أو على البيع الصحيح أو الفاسد فاختار الخصوصيّة المؤثّرة فلا شبهة في عدم الإكراه، و هذا لا شبهة فيه، إنّما الكلام في ما إذا أكره على أمر موسّع كما [لو] أكرهه على شرب الخمر في أحد الآنات الواقعة بين الطلوع و الغروب، فهنا ثلاث صور، الأولى: أن يعلم بحدوث

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 225

طريق التفصّي لو صبر إلى آخر الزمان، و الثانية: أن يشكّ، و الثالثة: أن يعلم العدم. لا إشكال في عدم الإكراه في الصورة الأولى و هذا واضح،

و أمّا الصورة الثانية فالظاهر أنّه شبهة مصداقيّة لعنوان الإكراه، و توضيح ذلك أنّ هنا مطلبين، أحدهما شرط علمي في مفهوم الإكراه و الآخر واقعي، فالأوّل قدرة الآمر على إيراد الضرر على المكره (بالفتح) لو لم يفعل، فلو كان عاجزا واقعا، و علم المكره (بالفتح) قدرته كفى في صدق الإكراه، و الثاني انحصار طريق زوال الضرر الموعد به في الفعل المكره عليه و عدم طريق آخر للتفصّي عنه، و هذا شرط واقعي، فلو علم أنّ خدمة [يدفعون] عنه و كانوا في مكان قريب منه فأقدم لم يصدق الإكراه، و الفارق بين المقامين هو الوجدان الحاكم في أمثلتهما، و على هذا فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل، و أصالة عدم تحقّق سبب الزوال في ما بعد لا يثبت عنوان الإكراه فيبقى أصالة عدم تحقّق الإكراه جاريا، و مع الغضّ عنه فأصالة بقاء الحكم السابق من الحرمة في التكليفيات و الصحّة في المعاملات جارية.

أمّا الصورة الثالثة: و هي صورة العلم بعدم حصول التفصّي إلى آخر زمان التمكّن، فهل الإقدام في أوّل الزمان و وسطه داخل في الإكراه أو لا؟ الظاهر الثاني، و ذلك لأنّ كلّ خصوصيّة من خصوصيّات أجزاء الزمان المقتضي للمبغوضيّة الاستقلاليّة أو الصحّة موجود فيه.

و يدلّك على هذا أنّا لو فرضنا شخصين أحدهما شرب الخمر من أوّل ابتلائه به و الآخر أراد الشرب فدافع نفسه و لم يشرب في اليوم الأوّل، و هكذا اتّفق له ذلك في اليوم الثاني و هكذا إلى عشرة أيّام مثلا فغلبته نفسه في العاشر و شربها فهل تراهما متساويين في الدرجة و العقوبة و القرب و البعد؟ من الواضح أنّ الثاني

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 226

قد حفظ مطلوب

المولى في تسعة أيّام و يثاب على ذلك، و ليس من باب صرف حسن السريرة بل من باب الطاعة الحقيقيّة و ليست هذه الطاعة متحقّقة في الأوّل، و على هذا ففي كلّ زمان المقتضي التعييني على ترك الشرب فيه موجود و المفروض عدم الخوف على نفسه بشي ء على تقدير الترك، فالإكراه في هذه الصورة منطبق قهرا على الجزء الأخير من الزمان.

فصل المشهور بين المتأخّرين بل عن الرياض تبعا للحدائق أنّ عليه اتّفاقهم أنّه لو رضي المكره بما فعله صحّ العقد

و الكلام فيه من حيث اعتبار مقارنة الطيب و عدمه هو الكلام في الفضولي، حيث نصحّحه على طبق القواعد، و إنّما الكلام من حيث حديث الرفع، فإنّه قد يقال: بعد ملاحظة إطلاق أَوْفُوا و أَحَلَّ و ملاحظة تقييده ب تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «لا يحل مال امرئ إلخ» يصير الأثر التأهّلي لذات العقد و الفعلي له مقيّدا بالطيب، فحكومة حديث الرفع إمّا يعتبر بالنسبة إلى الأثر الأوّل، و إمّا بالنسبة إلى الثاني، فإن اعتبر إلى الأوّل فقد كان المحصّل أنّ ذلك العقد الصادر عن إكراه ليس له قابلية أن ينضمّ إليه الطيب، و إن اعتبر إلى الثاني فالمحصّل أنّ العقد الصادر عن إكراه ليس له الأثر الفعلي الثابت له لولا الإكراه عند انضمام الطيب إليه.

و توضيح المقام أنّ هنا مبنيين، أحدهما: أن نقول: إنّ الرضا و الطيب يجتمع مع الإكراه بمعنى أنّ الفعل بالعنوان الثانوي الحاصل بعد الإكراه صادر عن الرضا و الاختيار كالرضا و الاختيار الحاصلين بالعنوان الثانوي الحادث بالاضطرار، و الثاني: أن نقول: إنّ الطيب مفهوم لا يصدق في ما إذا كان الاختيار و الرضا من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 227

جهة إكراه قوي.

فإن قلنا بالأوّل- و لا محالة يتعلّق حديث الرفع حينئذ برفع الأثر الفعلي- فعند حصول الإجازة لا يمكن

القول بالتأثير من جهة هذه الإجازة، لأنّ المفروض تحقّق الرضا الذي هو الشرط مع الإكراه أيضا، بل اللازم القول بأنّ المؤثّر هو عدم الإكراه الذي هو المانع، فإنّه كان موجودا إلى الحال و ارتفع من هذا الحين فيؤثّر العقد عند ذلك أثره، لفرض وجود شرطه و ارتفاع مانعه، و لكن فيه أنّ عنوان الإكراه إذا تحقّق في شي ء فهو ليس ممّا يقبل البقاء، بل حاله حال الأمر في أنّه يسقط بمجرّد امتثاله و حصول مقتضاه في الخارج، فإذا عمل بمقتضى إكراه المكره و هو إتيان العقد فقد انتفى من هذا الحين و لا معنى لبقائه بعده، كما لا معنى لبقاء الأمر بعد الامتثال.

ثمّ إنّ العقد الذي صدر بالإكراه أيضا لا ينسلب عنه عنوان كونه مكرها عليه في شي ء من الأوقات، كما لا ينسلب عن الفعل الذي أتى به بعلّية الأمر عنوان كونه مأتيّا به بأمر الآمر، و لا يطرأ عليه عنوان ضد ذلك، و الحاصل: العقد الصادر عن الإكراه لا يفرض فيه توارد الحالتين الإكراهيّة و الاختياريّة حتّى يقال بحفظ إطلاقات الأدلّة المحكومة عند طروّ الحالة الثانية و ارتفاع الأولى.

و إن قلنا بالثاني و هو عدم اجتماع الطيب مع الإكراه كما يشهد الوجدان و التبادر من كلمة طيب النفس مع أنّ الرضا الذي يحكم باعتباره العقل في حلّ مال الغير أيضا لا يشمل مثل هذا الرضا الذي فرضنا تحقّقه في الإكراه من باب دفع الأفسد بالفاسد. و بالجملة: المعتبر في العقود بحكم الشرع و العقل هو المعنى الذي لا يجتمع مع الإكراه و أخذ فيه عدم النشوء من جور جائر، فحينئذ إمّا أن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 228

يعتبر الحكومة بالنسبة إلى الأثر الشأني

يعني أنّ العقد سقط عن أهليّة التأثير و لو انضمّ إليه الطيب بسبب الإكراه، فيدلّ على عدم إفادة الإجازة اللاحقة، و إمّا أن يعتبر بالنسبة إلى الأثر الفعلي، يعني أنّ العقد بواسطة الإكراه سقط عن إفادة الأثر الفعلي عند اجتماع شرائطه التي منها الطيب، فيدلّ أيضا على عدم إجداء الإجازة اللاحقة.

و القول بأنّ إسقاط الأثر الشأني أو الفعلي إنّما هو ما دام الوصف العنواني و هو الإكراه لا مع رفعه مدفوع بما تقدّم من أنّ هذا الوصف غير قابل للبقاء، و العقد المتّصف به متّصف به إلى الأبد و إلّا يلزم اللغويّة في حديث الرفع، إذ المفروض ارتفاع الإكراه في آن تحقّق المكره عليه فيلزم صحّة العقد في هذا الآن و اختصاص البطلان بالآن العقلي.

و يمكن أن يقال: إنّ الرضا الموجود بالعنوان الثانوي في الإكراه متّحد مع الرضا المعتبر في عنوان الطيب من حيث الذات، و إنّما الفرق ممحّض في أنّ الأوّل مسبّب عن الإكراه، و الثاني أخذ فيه عدم ذلك أي عدم كونه عن إكراه و لم يعتبر فيه أمر وجودي.

و إذن فنقول: قد تقرّر في محلّه أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الأثر الثابت للعناوين مع قطع النظر عن الإكراه فلا بدّ في ما نحن فيه من ملاحظة العقد مع قطع النظر عن كونه واقعا بالإكراه، و المفروض أنّ مادّة الرضا موجودة فيه، و القيد الذي يصدق على هذه المادة صفة الطيب هو الأمر العدمي، أعني: عدم التسبّب عن الإكراه، و نحن في فرض قطع النظر عن صفة الإكراه نرى هذا الرضا و نرى عدم تسبّبه عن الإكراه فيتحقّق في هذا النظر وصف الطيب في العقد، و المفروض

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 229

أنّ الأثر الثابت للعقد بهذا الوصف هو الأثر الاستقلالي.

و أمّا إذا لاحظنا العقد مع وصف الإكراه فحينئذ نراه منفكّا عن الطيب فيدخل تحت الأدلّة الدالّة على أنّ العقد المنفكّ عن الطيب له أهلّية أن يؤثّر إذا انضمّ إليه الطيب في المستقبل، و المفروض عدم رفع هذا الأثر بحديث الرفع لأنّه مع قطع النظر عن الإكراه و هذا أخذ فيه الإكراه، فالأثر الذي يقبل أن يرفعه حديث الرفع هو الأثر الاستقلالي الثابت بالأدلّة الدالّة على استقلال العقد المقرون بالطيب.

فهنا طائفتان من الأدلّة، الأولى ما دلّ على استقلال العقد المقرون بالطيب، و الثانية ما دلّ على أهلّية العقد المنفكّ عن الطيب، و ما يمكن حكومة الحديث بالنسبة إليه هو الطائفة الأولى المثبتة للاستقلال دون الثانية المثبتة للأهلية.

و لكن يخدش في هذا أيضا أنّ نسبة دليل الرفع مع الأدلّة المثبتة للأحكام للعناوين الأوّلية ليس من قبيل النسبة بين الأحكام الثابتة للعناوين الأوّليّة و الثابتة للعناوين الثانوية من قبيل دليل حلّية الغنم و دليل حرمة الغصب، فإنّه لوحظ في دليل الحلّية، الغنم مع قطع النظر عن طروّ الغصب بمعنى أنّه حكم على الطبيعة من حيث هي، و مع ملاحظتها بنفسها بدون عروض عارض عليها بالحلّية، و هذا يجتمع مع الحكم الثابت للطبيعة باعتبار عروض الغصب فيقال: إنّ هذه الطبيعة باعتبار الذات حلال و باعتبار طروّ الغصب حرام و لهذا يتفاوت حرمته مع حرمة الخنزير، و هذا المعنى غير موجود في حديث الرفع و أدلّة الأحكام المتعلّقة بالعناوين، فإنّه لو كان كذلك لما كان في البين حكومة، إذ مبناها على أن يكون الدليل المحكوم متعرّضا لمورد و أخرج الدليل الحاكم ذلك المورد عن تحت المحكوم بطريق النظر إليه و الشرح

له، و مع وجود المعنى المذكور لم يثبت دليل الرفع حكما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 230

مناقضا لما أثبته أدلّة الأحكام.

فالمقصود من قطع النظر المأخوذ في سائر الأدلّة من قيد الإكراه هو المعنى الموجود في المطلقات و المقيّدات بمعنى عدم الدخالة و عدم اللحاظ و أنّ الحكم ثابت مع هذا القيد و لا معه.

و حينئذ فالحكم الثابت بالأدلّة بالنسبة إلى عنوان الإكراه مطلق و لم يلحظ فيه وجوده و لا عدمه فيسري في كليهما، فيصحّ حينئذ حكومة الحديث عليها فالمحصّل أنّه يلاحظ في حديث الرفع طبيعة العقد لا مع الإكراه و لا لامعه و يحكم برفع أثره، لا أنّه يلحظ بقيد عدم الإكراه و التجرّد عنه، فلا يصحّ القول بأنّ الأثر الثابت في ظرف شمول الحديث هو الأثر الاستقلالي.

و حينئذ فنقول: إنّ الأدلّة بمطلقاتها و مقيّداتها أثبتت لقسمين من العقد حكمين، فأثبتت للعقد المقرون بالطيب الأثر الاستقلالي و لا يمكن حكومة الحديث بالنسبة إلى هذا القسم، لعدم قبول هذا القسم للإكراه حسب الفرض من عدم اجتماع الطيب مع الإكراه، و أثبتت للعقد المنفكّ عن الطيب الأثر التأهّلي و لا يمكن الحكومة بالنسبة إليه أيضا، و وجهه أنّ الطيب عبارة عن الرضا الغير المتسبّب عن الإكراه دون الرضا المتسبّب عن الأمور الأخر، فلو فرض حدوث الرضا بلا داع و علّة أصلا يصدق عليه الطيب بشهادة الوجدان و التبادر، فالعقد الموضوع للأثر هو العقد المتّصف بكونه لا عن إكراه، و ارتفاع الأثر يكون برفع هذا المقيّد و هو إمّا يكون بانتفاء أصل العقد و إمّا بانتفاء قيده الذي هو كونه لا عن إكراه، و انتفاء هذا العدمي يكون عين وجود الإكراه، حيث إنّ النفي في النفي

إثبات، فحدوث الأثر التأهّلي لذات العقد في قبال الأثر الفعلي و غير مندكّ فيه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 231

موقوف على صفة الإكراه و قد فرضنا عدم حكومة الحديث بالنسبة إلى الأثر المأخوذ فيه صفة الإكراه.

هذا ما ذكره الأستاذ- دام ظلّه- و لكنّه بعد محلّ تأمّل، فإنّه لقائل أن يقول:

لا نجعل مجرى الحديث الأثر التأهّلي بوصف الاندكاك و لا بوصف المنحازيّة بل نجعله هذا الأثر غير ملحوظ فيه شي ء من الوصفين الثابت لجامع العقد الغير الملحوظ معه الاقتران بالطيب و الانفكاك عنه.

و قد أجاب- دام ظلّه- عن ذلك بأنّ الحديث ناظر إلى الآثار الخاصّة الثابتة للموضوعات الخاصّة و ليس بناظر إلى جامع الأثر المرتّب على جامع الموضوعات، فإذا رتّب على الإنسان العالم وجوب الإكرام، و على الإنسان الجاهل حرمته فليس الحديث ناظرا إلى أصل الإلزام المرتّب على أصل الإنسان.

و فيه أيضا نظر، فإنّه على تقدير تسليم هذا التفصيل في الحديث فهو إنّما يسلم لو جعل العقد في الأدلّة الأوّلية من الأوّل على قسمين و رتّب على كلّ أثر و لكنّه خلاف الواقع، فإنّه رتّب الأثر في دليل على طبيعة العقد و دليل آخر قسمه بقسمين، فالدليل الأوّل ليس مثبتا إلّا جامع الأثر لجامع القسمين.

و إذن فلا مانع من حكومة الحديث و لكن نقول: إطلاق الأدلّة محفوظ بالنسبة إلى حال ارتفاع الإكراه، و ما ذكره- دام ظلّه- من عدم تعقّل البقاء و الارتفاع لعنوان الإكراه إنّما هو مسلم في مثل الكسر و الانكسار، فإذا وقع الكسر بالإكراه فلا يصير في الأزمنة المتأخّرة لا عن إكراه و لو طاب نفسه به، و أمّا في مثل المقام- حيث إنّ العقد، أعني: نفس القرار المنشأ باللفظ له بقاء

و امتداد و لهذا يعقل له الحلّ و الفسخ و يكون في تمام أزمنة وجوده تحت اختيار الإنسان- فما دام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 232

صفة الإكراه باقيا يرتفع أثره، و إذا ارتفع أثّر أثره، ألا ترى أنّ البيعة مع الإمام الجائر إذا كانت الإكراه لا يجوز البقاء عليها بعد رفع الإكراه؟

و أمّا حديث اللغوية فلا نسلّم لزومه، فإنّ وجه البطلان في الآن المتأخّر عن العقد مع أنّه آن ارتفاع الإكراه، هو أنّ الرضا الذي هو بمنزلة المادة للطيب، و الكره غير محفوظ لأنّ علّته هو الإكراه و قد زال، فزال هو بزواله فإذا عاد يؤثّر حينئذ أثره. و بعبارة أخرى: المنشأ و إن كان نفس القرار لا بقيد الحدوث و لا البقاء لكنّ الرضا لم يتعلّق إلّا بعنوان الحدوث.

بقي الكلام في أنّ الأصل و مقتضى القاعدة هنا و في الفضولي هو الكشف أو النقل و لا بدّ أوّلا، من بيان المراد بالكشف الذي يجعل طرفا للدوران، فنقول: فيه أربعة احتمالات، الأوّل: أن يكون الأثر حال وجود العقد بمؤثّرية الرضا اللاحق، و الثاني: هذا و لكن بمؤثّرية عنوان تعقّب الرضا، و الثالث: أن لا يحصل الأثر حال وجود العقد إلى حال وجود الإجازة فتؤثّر الإجازة حينئذ في النقل و الانتقال من أوّل العقد فيسري أثره إلى الزمان الماضي، و الرابع: أن لا يحصل حال العقد و لا أثّر الإجازة في السابق و لكن نزل الشارع المال بمنزلة مال المشتري فيحكم بملكيّة نماءاته الحادثة بعد العقد و قبل الإجازة له.

و حينئذ نقول: لا شبهة في أنّ قضيّة الأصل، أعني: استصحاب عدم نقل المال عن مالكه هو النقل في كلّ من الاحتمالات و هذا واضح، و

أمّا بحسب قاعدة لا يحل مع الإطلاقات فالحق اختلافها، فإن كان الدوران بين النقل و الاحتمال الأوّل من الكشف فقضيّة القاعدة هو الكشف، لأنّه بعد فرض أنّه لا بدّ من وجود طيب في البين حتّى يحصل النقل و أنّه يمكن تأثير الطيب اللاحق في النقل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 233

السابق على ما هو الفرض، فقصر وجوب الوفاء المستكشف منه الحكم الوضعي على زمان الطيب خلاف إطلاق أَوْفُوا الشامل لجميع قطعات الزمان، و نظير ذلك الحال في ما لو كان الاحتمال الثاني من الكشف طرفا للترديد، إذ بعد فرض أنّه على تقدير شرطيّة التعقّب يكون الشرط حاصلا من أوّل وجود العقد و على تقدير شرطيّة الطيب الخارجي يكون الشرط متأخّرا، فالمناسب للإطلاق المذكور هو الشقّ الأوّل.

لكنّ الظاهر أنّ القاعدة على كلا الاحتمالين هو النقل، إذ المعتبر هو طيب نفس المالك، و على تقديري الكشف المذكورين يخرج المالك عن كونه مالكا، و القول بكفاية حفظ المالكيّة في رتبة الإجازة مدفوع بأنّ الظاهر اعتبار إجازة المالك المحفوظ مالكيّته في زمان الإجازة، و لا يكفي الانحفاظ في الرتبة السابقة.

و إن كان الدوران مع الاحتمال الثالث فمقتضى القاعدة هو الكشف، لكونه جمعا بين إطلاق المطلقات و ظاهر لا يحل كما لا يخفى، نعم على الاحتمال الرابع يكون الكشف خلاف مقتضى لا يحل كما أنّه خلاف مقتضى الأصل أيضا، و الفرق أنّ الفرض على الاحتمال الثالث تسليم إمكان ذلك الاحتمال، و من المعلوم أنّه حينئذ مقتضى القاعدة، و على الرابع الكلام على تقدير عدم إمكان ذلك، و من المعلوم أنّ حلّية النتاج و النماء الحاصل بين العقد و الرضا حينئذ على خلاف مقتضى لا يحل إذ الرضا لم يتعلّق

إلّا بالأصل دون النماء.

فإن قلت: مقتضى قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هو الوفاء من أوّل زمان صدور العقد و قاعدة لا يحل خصّصه بغير مورد الطيب، فلا يجب الوفاء بالعقد المجرّد عن الطيب، و أمّا العقد المقرون به و لو كان حصول الطيب في زمان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 234

متأخّر فمقتضى إطلاق أَوْفُوا كونه من حين الطيب مؤثّرا من أوّل صدور العقد حقيقة، لكن لمّا لم يكن هذا معقولا فلا بدّ من تنزيل ذلك على الملكيّة التنزيليّة، يعني يجب من حين الطيب المعاملة مع المال معاملة ملكيّته للمشتري من أوّل صدور العقد، و وجه أنّ الطيب اللاحق يقتضي التأثير في السابق أنّه يتعلّق بمضمون العقد و هو النقل في السابق، أعني: النقل الإنشائي، فيكون إمضاء الشارع أيضا على طبقه إمضاء للنقل السابق.

قلت: ليس الزمان داخلا في المنشأ و قيدا فيه، و إنّما هو ظرف للإنشاء، و إذن فالمنشأ بالعقد أصل حقيقة النقل بدون أخذ الزمان الخاص و لا الإرسال في الزمان فيه، نعم هو بعد تحقّقه بالعقد يستمرّ باستمرار الزمان بطبعه، ثمّ هذه الحقيقة من أوّل تحقّقها الإنشائي ليس ما يوجب وجودها الخارجي إلى أن يحصل الرضا، فإذا حصل لحقه الإمضاء الشرعي، فاللازم ثبوت الوجود الخارجي من هذا الحين لأنّه حين تماميّة العلّة، و لا يعقل سبق المعلول على العلّة التامّة فانقدح أنّ القاعدة على الكشف الحكمي هو النقل، كما كان على الاحتمالين الأوّلين.

ثمّ قد تكلّمنا في حديث الرفع الخاصّ ببيع المكره و بقي علينا الكلام في قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ الجاري هنا و في الفضولي، حيث إنّ ظاهره حصر المجوّز من أقسام الأكل في التجارة الناشئة عن الرضا، و من المعلوم عدم

تحقّق هذا المعنى بالرضا اللاحق، فإنّ الظاهر كون الصدور مستندا إلى الرضا، فمقتضاه بطلان الفضولي و عقد المكره حتّى بعد لحوق الإجازة.

و أجاب عن ذلك شيخنا المحقّق المرتضى- قدّس سرّه اللطيف- بوجهين:

أحدهما: أنّ الوصف غالبي لا احترازي و لم يمنع مفهوم الوصف، لأنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 235

الاستدلال يتمّ بدونه مع احترازيّة القيد أيضا، فإنّه إذا بنينا على أنّ لهذا القيد دخلا فلا أقلّ من تضييقه للموضوع، يعني: أنّه ليس الحكم معلّقا على طبيعة التجارة مع طبيعة الرضا، بل لا بدّ من قيد كون التجارة أيضا ناشئة عن الرضا، فمع فقدان هذا الأخير و عدم قيام شي ء آخر مقامه ينتفي الحكم و هو الجواز، و من المعلوم في المقام عدم قيام شي ء آخر مقام هذا الوصف.

فعلم أنّ مبني الاستدلال على استفادة نفس العلّية دونها مع الانحصار الذي هو مبني المفهوم، فلهذا تعرّض شيخنا لنفي أصل العلّية و أنّ القيد غالبي لا احترازي.

ثانيهما: أنّ الاستثناء منقطع غير مفرّغ و هو لا يفيد الحصر، و الظاهر أنّ قوله غير مفرّغ قيد توضيحي لا احترازي، فإنّ المنقطع لا يتصوّر فيه المفرغيّة، فإذا قيل:

ما جاءني إلّا حمار، كان المقدّر لا محالة ما يعمّ الحمار فيصير متّصلا و هذا واضح، و ظاهره- قدّس سرّه- الاحتياج إلى هذا الوجه و لو مع تسليم الوجه الأوّل أعني:

كون القيد غالبيّا و أنّ إفادة الحصر مضرّة مع ذلك، و أنت خبير بأنّ الحصر غير مضرّ بعد فرض أنّ القيد غير احترازي، إذ مفاده حينئذ عدم جواز أكل المال بغير التجارة.

ثمّ إنّه قيل في توجيه كلام الشيخ من عدم إفادة المنقطع للحصر بأنّ كلمة (إلّا) تكون فيه بمعنى كلمة (لكن) فيكون الكلام بمنزلة

جملتين بينهما كلمة (لكن) و من المعلوم أنّه غير مفيد للحصر، و استشهد على ذلك بقول بعض النحاة، و لكنّ الظاهر أنّ كلمة (إلّا) في المنقطع يكون على معناه في المتّصل، و مع ذلك غير مفيد للحصر و ليس المقام مقام الرجوع إلى الغير امّا الأوّل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 236

[دراسة أخرى للشرائط العامة للمتعاقدين]

[الشرط الأول البلوغ و فيه أمور]

[الأمر الأول] في بيع الصبي «1»

و بعد فقد قال المصنّف المحقّق العلّامة و المدقق الفهّامة آية اللّٰه على الورى الشيخ مرتضى الأنصاري- قدّس اللّٰه سرّه و طيّب رمسه-:

(المشهور- كما عن الدروس و الكفاية-: بطلان عقد الصبي).

أقول: لا بأس بالإشارة الإجماليّة إلى أحكام الصبي في غير عقوده و إيقاعاته.

فنقول: لا إشكال في اشتراكه مع البالغين في الوضعيات الغير المتوقّفة على القصد و النيّة، كالطهارة و النجاسة و الجناية و الضمان بالإتلاف، و كذا ضمان اليد لو كان مميّزا، بحيث عدّ ذا يد عرفا، غاية الأمر إنّ الخطاب التكليفي بالدفع متوجّه إلى الولي لو كان، فيدفع عوض التالف من مال الصبي، و إن لم يكن له مال أو كان و لم يكن له ولي، يتوجّه الخطاب بدفع العوض إليه عند البلوغ، كالخطاب بالغسل لو حصل له موجب الجنابة.

و كذا لا إشكال في اشتراكه مع البالغين في استحقاق المدح على الأفعال الحسنة عند العقل، المتوقّفة حسنها الفاعلي على القصد، كإنقاذ الغريق و إعانة الملهوف إذا أدرك عقله حسنها، ضرورة أنّ العقل كما يستحسن هذه الأفعال من البالغين و يمدحهم عليها، فكذا لو صدرت من صبيّ مميّز يحكم باستحقاقه

______________________________

(1) راجع ص 203.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 237

المدح، و لا يفرق بينه و بين البالغ خصوصا لو كان قريبا بالبلوغ بيوم أو يومين.

و كذا يستحقّ الذمّ كالبالغين على الأفعال القبيحة العقليّة

المتوقّفة قبحها الفاعلي على القصد، فكما يعدّ الظلم قبيحا عقلا من البالغ و يستحق الظالم البالغ الذمّ عليه، فكذا غير البالغ إذا أدرك عقله قبحه بلا فرق.

نعم العقاب المولوي حيث إنّه مترتّب على مخالفة المولى و هو غير صادر عن الصبيّ بمقتضى رفع القلم عنه، غير متوجّه إليه، و هذا من المواضع التي تخلّف فيها حكم العقل عن حكم الشرع، أعني لم يصدر من الشرع الخطاب التحريمي إلى الصبيّ بالنسبة إلى الظلم مثلا، مع كون العقل حاكما بقبحه منه قبحا يبلغ حدّ التحريم، و من هنا ظهر عدم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، إذ هي على تقدير تسليمها عقليّة، لا تقبل التخصيص، فإنّه ربّما يكون الفعل في أقصى مرتبة الصلاح من دون أن يكون فيه فساد أصلا، لكن في الأمر به مفسدة، بحيث لو كان الأمر به بلا مانع لأمر به الشارع أمرا لزوميّا، كالسواك على ما يستفاد من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: لولا أن أشق، إلى آخره، فيدرك العقل صلاح نفس الفعل، فيحكم بوجوبه، و لا يدرك مفسدة الأمر به، و كذا الكلام في عكسه.

فإن قلت: لا يلزم التخلّف في هذا المورد و أمثاله، إذ المقدار الذي جزم به العقل و هو حسن نفس الفعل و حسن فاعله أو ذمّهما، قد حكم الشرع به أيضا قطعا، فإنّه أعقل العقلاء، و إنّما حكم الشارع بقبح الأمر و النهي من حيث نفسهما، و العقل أيضا لو اطّلع على ما اطّلع عليه الشرع من مفسدتهما كان حاكما بقبحهما.

قلت: ليس مراد القائل بالملازمة إمضاء الشرع و تصديقه العقل في أحكامه، فإنّ هذا أمر لا يقبل النزاع، بل المراد أنّ كلّ ما حكم

العقل بوجوبه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 238

فلا بدّ أن يحكم الشارع بوجوبه، حكما تكليفيا يوجب مخالفته العقاب من باب قاعدة اللطف، ضرورة أنّه لولا ذلك لم يرتدع عن ترك الفعل الذي حكم بوجوبه العقل إلّا الأوحدي من الناس، و كذا كلّ ما حكم بتحريمه العقل فلا بدّ أن يحرّمه الشرع، بحيث أوجب مخالفته العقاب للعلّة المذكورة، و هكذا. و قد عرفت أنّ الحكم الوجوبي و التحريمي للعقل هنا موجود، و الخطاب التكليفي الشرعي غير موجود.

[الأمر الثاني في عقائد الصبي و إسلامه]

و أمّا العقائد الإسلامية، فلا إشكال في عدم وجوبها على الصبي، و إن قال به بعض، و ذلك لأنّ دليل وجوب ذلك على البالغين حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإنّه لو لم يتفحّص يحتمل أن يكون الصّانع حقا، و يعذّبه على ترك التفحّص، و لا شكّ في أنّ هذا الاحتمال منفيّ في حقّ الصبي، إذ هو في أمن على أيّ حال. نعم لو احتمل أنّ هذا المولى على تقدير وجوده يعاقب الصبي أيضا على ترك المعرفة، وجب عليه حينئذ تحصيلها بالدليل المذكور.

و أمّا صحة إسلامه بمعنى ترتّب الآثار الدنيوية من طهارة بدنه و حل ذبيحته، و نحو ذلك، فقد يستظهر من كلماتهم ثبوت الملازمة بينها و بين وجوب إسلامه، بمعنى أنّه لو كان واجبا كان صحيحا و إلّا فلا و أمّا إسلام عليّ- عليه السلام- فهو من خصائصه.

أقول: لا وجه لكون ذلك من خصائصه- عليه السلام-، بل مقتضى عمومات حلّ ذبائح من قال لا إله إلّا اللّٰه، إلى غير ذلك من سائر الأحكام المترتّبة على هذا العنوان أو عنوان المسلم، شمولها لكل صبيّ، و ليس في الأخبار ما يدلّ على اختصاص ترتّب هذه الأحكام بما إذا كان

القائل هو البالغ، و دعوى الانصراف كما ترى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 239

نعم يبقى الكلام في أنّه لو ارتدّ بعد إسلامه، و كان أحد أبويه حين انعقاد نطفته مسلما، فهل يؤثّر ذلك في وجوب قتله و تقسيم أمواله بين ورثته؟ مقتضى القاعدة عدم ذلك، فلا يؤثّر في حقّه الأحكام الثلاثة لا قبل البلوغ و لا بعده، أمّا قبله، فلمنافاة ثبوت هذه الأحكام لرفع القلم عن الصبي، فإنّ المراد به قلم العقوبة، و من المعلوم أنّ جعل هذه الأحكام على المرتد إنّما هو من باب العقوبة، لا من باب تأثير الارتداد فيها وضعا، كالأسباب الوضعيّة، و أمّا بعد البلوغ، فلعدم الدليل على ثبوت تلك الأحكام، فإنّ الظاهر من دليلها ترتّبها على الارتداد فورا.

[الأمر الثالث لو علم الصبيّ بإخبار المخبر الصادق أو بأصالة الصحّة فهل يحكم بوجوب تحصيل المعارف قبل بلوغه مقدمة للمعرفة الواجبة عليه في أوّل زمان بلوغه أو لا؟]

ثم بناء على ما قرّر في محلّه، و يساعد عليه الوجدان، و بناء مشايخنا أيضا عليه، من أنّه لو علم المكلّف بأنّ المقدّمة المعلّق عليها الواجب المشروط تتحقق، يجب عليه تحصيل المقدّمات الأخر قبل حصول تلك المقدّمة إن كان محلّها قبل حصوله، أو علم بأنّه لا يتمكّن منها بعد حصول تلك، و كان حال تلك المقدمات حال مقدمات الواجب المطلق حتّى إنّه لا بدّ لتوجيه بعض الموارد التي ظاهرها توهم المنافاة لذلك على وجه لم يخالف هذا كجواز إهراق الماء قبل دخول وقت الصلاة مع العلم بعدم وجدان ما يكفي للوضوء بعده إلى آخر الوقت، فيلتزم بأنّ وجوب الوضوء كما أنّه مشروط بالدخول، فكذا بالقدرة الخاصة، أعني القدرة في الوقت على تحصيل الماء، و لا يكفي القدرة قبله.

و بالجملة: فعلى هذا لو علم الصبيّ بإخبار المخبر الصادق أو بأصالة الصحّة بأنّه يصير بالغا بعد شهرين مثلا، فحينئذ فهل يحكم بوجوب تحصيل المعارف

عليه قبل بلوغه بأقلّ ما يمكن فيه ذلك مقدمة للمعرفة الواجبة عليه في أوّل زمان بلوغه أو لا؟ توضيح ذلك [في] التكلّم في ثلاثة أمور: الأوّل: في أصل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 240

المبنى بطريق الإجمال، و الثاني: في الإشكال الوارد عليه المشترك بين المقام و نظائره، و الثالث: في دفع ذلك الإشكال.

أمّا الكلام في الأوّل، فاعلم أنّه لما كان من المسلّم بين العلماء- رضوان اللّٰه عليهم- في السالف من الزمان: أنّ الواجب المشروط عبارة عن ما لا وجوب له قبل تحقّق الشرط، و إنّما يحدث له الوجوب بعد ما لم يكن شيئا موجودا عند تحقّق الشرط، أشكل عليهم الأمر في بعض المقامات مثل وجوب الغسل للصوم قبل الفجر، فإنّه كيف تحقّق وجوب المقدمة و هي الغسل قبل وجوب ذي المقدمة و هو الصوم، مع كون الأوّل معلولا للثاني؟ حتّى إنّ صاحب الفصول- طاب ثراه- تفصّى من ذلك بأن جعل للواجب المطلق قسمين: أحدهما ما يكون ظرف الوجوب و الواجب فيه هو الحال، و سمّاه منجّزا، و الثاني ما يكون ظرف الوجوب فيه هو الحال، و ظرف الواجب هو الاستقبال، و سمّاه معلّقا، فجعل الصوم من قبيل الثاني، بمعنى أنّه يجب في الليل على المكلّف كفّ النفس في النهار.

و الحق خلاف هذا المسلم فيما بينهم، بمعنى أنّ الإيجاب المشروط، له وجود فعلي قبل وجود الشرط، غاية الأمر إنّ تأثيره في التحريك و البعث يؤخّر إلى وجود شرطه، فهو قبل وجود شرطه موجود بلا أثر، لا معدوم صرف، و الفرق بينه و بين الإيجاب المطلق، أنّ هذا إيجاب منطو و مربوط بالغير، و ذاك إيجاب غير منوط بشي ء، و معنى الإيجاب المنوط أن يكون اقتضاؤه

لأصل الفعل في محلّه منتظرا للعلم بحصول ما أنيط به في محلّه، و أمّا حاله بالنسبة إلى اقتضاء مقدّمات الفعل، فحال الإيجاب المطلق بعينه، غاية الأمر إنّ اقتضاءه للمقدّمات مع الشكّ في حصول ما أنيط به ضعيف، و مع العلم به يصير بمثابة اقتضاء الإيجاب المطلق بلا فرق، و تفصيل المطلب يطلب في بحث الواجب المشروط من علم الأصول، و هذه الدعوى بعد مساعدة الوجدان لا تحتاج إلى البرهان. هذا هو الكلام في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 241

المبنى بطريق الإجمال.

و أمّا الإشكال الوارد عليه، فهو أنّها لا تستقيم في بعض الموارد، مثل ما أفتوا به من جواز إهراق ماء الوضوء قبل الوقت مع العلم بعدم وجدان ماء آخر في تمام الوقت، و أنّ وجوب الوضوء مشروط بالدخول و لذا أفتوا بعدم جواز قصد الوجوب به قبل الوقت و هو أيضا مقتضى قوله- عليه السلام-: إذا دخل الوقت وجب الصّلاة و الطّهور فعلى الدعوى المذكورة كان اللازم عدم جواز الإهراق في الفرض المزبور و وجوب حفظه و وجوب الوضوء قبل الوقت إذا علم المكلّف بأن الوقت يمرّ عليه.

و مثل مسألتنا هذه، فإنّ مقتضى الدعوى فيها وجوب النظر و الاستدلال على الصبيّ الغير البالغ، مقدمة لحصول المعرفة الواجبة عليه في أوّل زمان بلوغه لو علم بأنّه سيبلغ، و كذا وجوب تعلّم القراءة و سائر الأحكام المتعلّقة بالصلاة و سائر العبادات الواجبة عليه في أوّل زمان بلوغه، و هذا لا يلائم مع حديث رفع القلم عن الصبي، المقتضي لعدم وجوب ذلك.

و حاصل الجواب: أنّ القدرة لو كانت شرطا عقليّا، فلا شك أنّه حينئذ كما يكفي القدرة في الوقت في صحّة العقوبة على ترك المقدمات، فكذا تصحّحها

القدرة السابقة على الوقت أيضا مع العلم بوجود الشرط فيما بعد، و إن لم يتمكّن منها في تمام الوقت، لكن ربّما يجعل الشارع القدرة في الزمان المخصوص شرطا للوجوب، كما لو جعل القدرة على الوضوء في الوقت شرطا لوجوبه، فيكون حال هذه القدرة الخاصّة- أعني القدرة في الوقت- حال نفس الوقت، و لا شكّ أنّ للمكلّف أن يوجد المانع من وجود المعلّق عليه الواجب المشروط، فيجوز له أن يمنع من وصول المال إلى حدّ النصاب، أو يسافر في شهر رمضان، فلا يتوجّه إليه الوجوب حينئذ، و لا يكون عاصيا بذلك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 242

و بالجملة: فالمقدّمة المعلّق عليها الواجب المشروط كما لا يجب تحصيلها على المكلّف، فكذا لا يجب عليه حفظها، فيجوز له في مسألة الوضوء إعدام القدرة في الوقت التي هي ممّا علّق عليه وجوب الصلاة مع الوضوء، بإهراق مائه المنحصر قبل الوقت مع العلم بعدم وجدانه بعده.

و كذا يجوز للصبيّ إعدام القدرة على المعرفة الكائنة في أوّل البلوغ، بتأخّر النظر و الاستدلال إليه، فمن يتوقّف حصول المعرفة له على النظر في يوم، جاز له تأخير ذلك إلى أوّل البلوغ، فلا يكون اليوم الأوّل من بلوغه، ظرفا لوجوب المعرفة، لعدم حصول شرطه و هو القدرة الخاصّة.

نعم لو حصل هذا الشرط اتّفاقا، بأن تصدّى للنظر يوما قبل البلوغ، كانت المعرفة في اليوم الأوّل أيضا واجبة، و أمّا بالنسبة إلى اليوم الثاني و ما بعده، فالقدرة في زمان البلوغ التي هي الشرط، حاصلة، بمعنى أنّه يقدر على النظر في اليوم الأوّل ليحصل له المعرفة في اليوم الثاني، فيصدق أنّه قادر على المعرفة الكائنة في اليوم الثاني مع قطع النظر عمّا قبل بلوغه.

و كذا الكلام

في تعلّم القراءة و سائر الأحكام، فإنّ القراءة مثلا، لو توقّف تعلّمها على شهر و لم يتعلّمها قبل البلوغ، فالصلاة بالقراءة الصحيحة ليست واجبة في حقّه في الشهر الأوّل من بلوغه.

و الحاصل أنّا نلتزم في مسألة الوضوء بأنّ الوجوب معلّق على القدرة في الوقت، و في مسألة الصبي بأنّ وجوب المعرفة و كذا الصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط، كما أنّه معلّق على البلوغ فكذا على القدرة في زمان البلوغ، و يرتفع الإشكال في كلتا المسألتين كما عرفت.

[الأمر الرابع عبادات الصبي مشروعة أو هي للتمرين؟]

ثمّ إنّه وقع النزاع بين الفقهاء- رضوان اللّٰه عليهم- في أنّ عبادات الصبي مشروعة أو هي للتمرين؟ فذهب فريق إلى الأوّل و فريق إلى الثاني.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 243

و لكن لا يخفى أنّ النزاع على هذا الوجه غير معقول، إذ لا شكّ أنّ تمرين الآباء و الأمّهات لصبيانهم أمر مرغوب مطلوب عند الشارع، و لا نعني بالمشروعية إلّا ذلك.

ثمّ إن لازم محبوبيّة التمرين كون نفس العمل الصادر من الصبي أيضا محبوبا و مطلوبا عنده، و لا ينفك محبوبيّة الأوّل عن محبوبية الثاني، فيكون نفس العمل أيضا مشروعا، أي محبوبا للشارع و راجحا عنده.

نعم بعد الفراغ عن رجحان نفس العمل الصادر من الصبي يقع الكلام في أنّه هل هو مشترك في الآثار مع العمل الصادر عن البالغين؟ فيكون صلاته ناهية عن الفحشاء، و صومه جنّة من النار، كصلاتهم و صيامهم. و بالجملة: فهما عمل واحد و حقيقة واحدة، غاية الأمر إنّه صار واجبا في حقّ البالغين و مستحبّا في حقّ الصبي. أو أنّهما حقيقتان مختلفتان، و كلّ منهما له فائدة خاصّة به، فعمل البالغين فائدته النهي عن الفحشاء و الستر عن النار، و عمل الصبيّ فائدته اعتياد

الصبي بإتيانه لئلّا يسامح فيه بعد البلوغ، و تظهر الثمرة بين الوجهين فيما لو بلغ الصبيّ في أثناء العمل أو في أثناء الوقت و قد أتى بالعمل في أوّله، فعلى الوجه الأوّل يكون ما أتى به من الأجزاء السابقة أو تمام العمل مجزيا، فلا يجب عليه الإعادة، لأنّ ما هو المطلوب صدوره منه هو حقيقة الصلاة مثلا، و قد حصلت، غاية الأمر إنّ ما حصل يكون بوصف الاستحباب و ما طلب يكون بوصف الوجوب، و مجرّد ذلك لا يجدي في وجوب الإعادة، لعدم دخل لهذين الوصفين في الغرض.

و على الثاني: لا يكون مجزيا، إذ المفروض اختلاف الحقيقتين، أعني حقيقة ما حصل و حقيقة المطلوب. و لا بدّ من استفادة ذلك من الأخبار الواردة في عبادات الصبي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 244

فنقول: قد ورد بعدم كفاية حجّة عن حجّة الإسلام النص الخاص، و استثنى منه الفقهاء- رضوان اللّٰه عليهم- ما إذا بلغ في المشعر، و ليس هذا الاستثناء مذكورا في الخبر، و إنّما فهموه بتنقيح المناط ممّا ورد في الحائض و العبد إذا طهر الأوّل و أعتق الثاني في الموقف، و أمّا الأخبار الأخر الواردة في غير هذا الباب، فهي مختلفة المفاد، فيظهر من بعضها- و هو بعض ما ورد في صومه- كونه من باب التعوّد، و من بعضها- و هو ما ورد في جواز الاقتداء به- كون صلاته كصلاة البالغين.

و بالجملة فلا يمكن استفادة شي ء من الوجهين من الأخبار، مع أنّ الظاهر من جعل عمل مترتّبا على شي ء ثم الأمر به- كما هو الحال في العبادات بالنسبة إلى البلوغ- هو لزوم كون العمل بجميع أجزائه مترتّبا على هذا الشي ء و عدم كفاية وقوعه قبله

أو وقوعه بعض الأجزاء قبله و بعضها بعده، كما هو الحال في الصلاة بالنسبة إلى الوقت، فتحصّل أنّ الإجزاء على خلاف القاعدة، مع أنّ المشهور على خلافه.

و أمّا توجّه الأمر الندبي إلى الصبي، فلا مانع منه، و حديث رفع القلم لا يقتضي أزيد من ارتفاع الأحكام الوجوبيّة و التحريميّة.

و أمّا بعض الأمور المتوقّفة على القصد، كاللقطة إذا قصد التملّك و كان أنقص من الدرهم، و كالتملّك بالحيازة مع قصده، و كحق السبق و حق التحجير، و نظائر ذلك ممّا يصير منشأ لحكم وضعيّ إذا وقع مع القصد، فالظاهر جريانها في حقّ الصبيّ و عدم اختصاصها بالبالغين، و إن لم يكن فعله ذلك بإذن الولي، لعموم أدلّة سببيّة هذه الأفعال لهذه الآثار، و عدم منافاة رفع القلم لشمولها للصبي كما هو واضح.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 245

الأمر الخامس عقود الصبي و إيقاعاته

و أمّا عقود الصبي و إيقاعاته، فقد وردت أخبار كثيرة بنفوذ وصيّة البالغ عشرا، من غير تقييد بصورة إذن الولي. و قيل بذلك- أي بالنفوذ حتّى بدون إذن الولي- في التدبير و العتق و الطلاق و الوقف.

و ورد به أخبار أيضا، لكنّها ضعيفة السند، فحكم هذه العقود حكم غيرها.

نعم لو كان التدبير نوع وصية شمله دليلها.

و أمّا غير هذه العقود من البيع و الصلح و النكاح و الإجارة و غيرها، هل هي نافذة مطلقا أو غير نافذة مطلقا، أو نافذة مع الإذن أو الإمضاء و غير نافذة بدونهما؟

مجمل الكلام فيه أن يقال: لا إشكال في عدم نفوذ هذه العقود على وجه كان الصبيّ مستقلّا بالتصرّف، و الدليل عليه قوله تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ حيث دلّ على اشتراط

دفع مال اليتيم إليه بحيث صار هو المستقل بالتصرف فيه، بثبوت رشده علاوة على بلوغ النكاح.

و قوله- عليه السلام-: «الجارية إذا زوّجت و دخل بها و لها تسع سنين ذهب عنها اليتم، و دفع إليها مالها، و جاز أمرها في الشراء و البيع» إلى آخره.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 246

فإنّ المراد بالجواز هو النفوذ و الاستقلال في التصرّف.

و أمّا تصرّفه بإذن الولي، إمّا بأن أوكل إليه أمر المعاملة بجميع خصوصياته، و إمّا بأن أوكل إليه إجراء الصيغة فقط بعد مباشرة نفسه للمقاولة و طيّ المعاملة، فقد استدل عليه أوّلا بالشهرة المحقّقة، و الإجماع المنقول في عبارات بعض.

و فيه: أنّ المحصّل من الإجماع غير حاصل، و المنقول منه غير حجّة.

و ثانيا: بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى يستيقظ». بتقريب: أنّ المستفاد منه أنّ الصبي كالجماد، فعبارته غير مؤثّرة.

و فيه: أنّ المتبادر من رفع القلم ارتفاع قلم المؤاخذة و التكليف، فلا يشمل الأحكام الوضعية.

فإن قلت: بل و لو سلّم شموله لها، فنقول: لا ينافي ذلك كون عمل الصبيّ موضوعا لتكليف غيره، فيكون بيعه منشأ لحدوث تكليف في حق الوليّ، بدفع المبيع إلى المشتري و إقامة الثمن مقام المبيع.

قلت: نتعقّل كون عمل الصبي موضوعا لحكم غيره في غير هذا الموضع، كما لو طرح النجاسة في المسجد، فيصير منشأ لحدوث التكليف بالإزالة بالنسبة إلى البالغين. و أمّا في هذا الموضع فلا نتعقّله، إذ بعد ما فرض شمول الخبر للأحكام الوضعيّة، فلا يكون لإنشاء الصبي حكم وضعي أصلا، بل يكون لغوا كالعدم، و موضوعيّة بيعه لحكم غيره فرع تأثيره للملك

كما هو واضح، فإذا لم يؤثّر شيئا بحكم الفرض، لم يعقل كونه موضوعا لحكم الغير.

و ثالثا: بقوله في الأخبار المستفيضة: «عمد الصبي و خطأه واحد»، فإنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 247

الأصحاب و إن ذكروها في باب الجنايات و لكن لا إشعار في نفس الصحيحة و لا غيرها بالاختصاص، فالأفعال التي يعتبر في ترتّب حكم عليها وقوعها بالقصد، إذا صدرت من الصبي مع القصد، تكون كما إذا صدرت من غيره بلا قصد، فعقد الصبيّ و إيقاعه مع القصد كعقد الهازل و الخاطي و النائم و إيقاعاتهم.

و اعترض عليه السيّد المحشّي- دام ظلّه-: بأنّ في بعض الروايات عقيب هذا قوله: «يحمله العاقلة» و هذا يدل بالاختصاص بباب الجنايات، و هذا كالصريح في أنّه لو لم يكن القيد مذكورا، فالعبارة المذكورة يمكن إطلاقها بالنسبة إلى أبواب العقود.

أقول: و يمكن منع ذلك، بأنّ مورد الرواية و العبارة المسطورة ما إذا كان للعمل قسمان: عمديّ و خطئي مع محفوظية عنوان أصل العمل في كلا القسمين، و كان لكل منهما حكم في الشريعة، فمفاد الرواية: أنّ القسم العمدي من هذا العمل لو صدر من الصبيّ كان بحكم الخطئيّ الصادر من البالغ، و هذا المعنى ظاهر الانطباق على باب الجنايات، فإنّ القتل مثلا يمكن تحقّقه على وجه العمد و على وجه الخطاء مع محفوظية عنوانه في كليهما، و حكم عمده القصاص أو الدية، و حكم خطأه ثبوت الدية على العاقلة.

و أمّا في باب العقود فلا يمكن إجراؤه، إذ حقيقة العقد لا يتحقّق و لا يتقوّم إلّا بالقصد و العمد، و لا يكفي فيه مجرّد اللفظ مع عدم التفات القلب، فالخطاء فيه غير متصوّر.

و أمّا أخبار جواز أمر الغلام، فقد عرفت

حالها و أنّها لا تدلّ على أزيد من نفي الاستقلال.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 248

و إذا فالمرجع هو عمومات لزوم الوفاء بالعقود، و القدر المتيقّن تخصيصها بصورة استقلال الصبيّ بالمعاملة من دون سبق إذن من الولي و لا لحوق إجازته.

و أمّا صورة المسبوقية بالإذن فلا شكّ أنّ خروجها مستلزم لزيادة التخصيص، فيتمسّك فيها بالعمومات.

و أمّا صورة الملحوقية بالإجازة، فلا يمكن التمسّك في إدخالها بالعموم الفردي، و هل يمكن بالعموم الزماني؟ بأن يقال: إنّ هذا العقد و إن كان إلى حين الإمضاء غير لازم الوفاء لكنّه يصير من هذا الحين كذلك، لعموم لزوم الوفاء لجميع الأزمان، فالكلام فيه هنا هو الكلام فيه في الأجنبي البالغ، و يأتي في باب الفضولي إن شاء اللّٰه تعالى تفصيله.

ثمّ إنّ المصنّف- قدّس سرّه- أراد أن يصحّح الاستدلال بحديث رفع القلم على لغويّة معاملات الصبي، بملاحظة صدر الرواية التي وقع هذا الحديث في ذيلها، و هي قوله في جناية المجنون و الصبي:

«و عمدهما خطأ يحمله العاقلة و قد رفع عنهما القلم».

فقال ما حاصله: انّه لا بدّ و أن يكون بين الفقرة الأخيرة و الفقرة الأولى مناسبة، و هي بأن يكون بينهما العلّية و المعلولية، إمّا بكون الفقرة الأولى علّة و الثانية معلولة، و إمّا بالعكس. فيكون المعنى على الأوّل: لمّا كان عمدهما بحكم الخطاء رفع عنهما القلم، و على الثاني: أنّه لمّا كان القلم مرفوعا عنهما صار عمدهما بمنزلة الخطاء، و على أي حال لمّا كان القصاص من العقوبة الدنيوية، فذكر الحديث في مقامه يدلّ على كونه شاملا للمؤاخذة الدنيوية أيضا، و حينئذ فنقول: الحكم على الصبي بكون ماله مالا للغير بسبب البيع- مثلا- نوع مؤاخذة ماليّة فيدلّ الحديث على

رفعها، و على هذا فكلّ التزامات الصبي على نفسه لا تفيد بمقتضى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 249

رفع قلم المؤاخذة عنه إلزاما، بل يمكن تعميم ذلك لصورة إذن الولي أيضا، إذ المؤاخذة المرفوعة شاملة للمؤاخذة التي أذن فيها الولي.

أقول: الحديث الشريف في حدّ نفسه مسوق لرفع العقوبة و الجريمة عن الصبي، سواء كانت أخروية أم دنيوية، فهو بنفسه يدلّ على رفع الحدود عنه، و كذا القصاص و الدية و القتل، و بينونة الزوجة و المال في الارتداد و نظائر ذلك مما يكون مجعولا بعنوان المؤاخذة و الجريمة على العمل. نعم يبقى الكلام في التعزير، و هو خارج عن عموم الحديث بالدليل. و بالجملة: فلا حاجة في إحراز عموم الحديث للعقوبة الدنيوية إلى ملاحظة وقوعه في هذه الرواية.

ثمّ دعوى أنّ صيرورة مال الصبيّ مالا لغيره بالتزامه البيعي و نحوه نوع مؤاخذة. لا يخفى ما فيها، إذ إيقاع المعاملة و دفع المال و أخذ العوض بغرض عقلائي ليس فيه مؤاخذة أصلا، فما يمكن أن يقال به في المقام: إنّ صورة تفويض الولي تمام النظر في المعاملة إلى الصبي من دون أن يكون للولي دخل بل و لا اطّلاع- كما هو الغالب من وضع الأطفال في الدكاكين و إيكال أمر البيع و الشراء إليهم من دون اطلاع الولي على خصوصيات معاملاتهم- يمكن فهم حكمها من أدلّة حجر الصبي و الأمر بدفع أموالهم إليهم بعد إيناس الرشد منهم بعد بلوغ الحلم، فإنّ الظاهر من تلك الأدلة: أنّ الصبي نظره ملغى عند الشارع، و حينئذ فكيف يمكن أن يؤثّر إذن الولي في اعتبار نظر الصبيّ و ترتيب الأثر عليه، و لو أمكن ذلك لإذنه الشارع، فإنّ إذنه أعظم بمراتب

من إذن الولي، فحيث لم يأذنه بل نهى الأولياء عن دفع الأموال إليهم، يكشف عن أنّ نظره ليس منشأ للآثار، و لا يقبل أن يصير محلّا لاعتناء الشارع، و بالجملة من لم يعتن بنظره الشارع كيف يمكن أن يجعله الولي معتنى به.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 250

و أمّا صورة مباشرة الولي لتمام خصوصيّات المعاملة و إذن الصبيّ لمجرّد إجراء الصيغة، فممّا لا مانع منها، إذ لا دليل على مسلوبيّة عبارة الصبي و عدم ترتيب أثر عليها أصلا، كيف و عبارته في الصلاة مؤثرة على ما مرّ من كون العبادة مستحبّة في حقّه، و كذا فحشه موجب لتعزيره، بل على هذا لا مانع من توكيل الغير إيّاه في مجرّد إجراء الصيغة للمعاملة المتعلّقة بهذا الغير، من دون حاجة إلى إذن وليّه هنا. نعم في إجراء الصيغة لمعاملة نفسه يحتاج إلى إذنه حتّى يصحّ استناد المعاملة إلى الولي.

ثمّ إنّه يظهر من المصنّف أنّه جعل خروج التعزير من عموم رفع القلم من باب التخصص، حيث جعل القلم المرفوع هو القلم الموضوع على البالغين، مثلا:

السرقة في حق البالغين موجبة لقطع اليد، فهو مرفوع عن الصبيّ إذا سرق، و هكذا. و هذا لا ينافي جعل قلم آخر عليه كالتعزير.

و لكنّ الظاهر أنّه من باب التخصيص، إذا الظاهر ارتفاع مطلق قلم المؤاخذة. و لا داعي لدعوى الاختصاص بالقلم الموضوع على البالغين، و إن كان هو الفرار عن التخصيص، فالتخصيص لازم على أيّ حال في موارد ثبوت التعزير على البالغين.

و أمّا قبول الصبي في الهبة، فلا مانع منه، إذ ليس تصرّفا في المال، بل هو تحصيل له، فيكون كسائر الأسباب المملّكة الموقوفة على القصد كالالتقاط و الحيازة، فكما لا يكون قصده

ملغى هناك حتى في صورة عدم إذن الولي فلا بدّ أن يكون كذلك هنا. نعم هو محجور عن التصرّف في المال الذي حصل له من هذه الوجوه بعد ذلك.

مضافا إلى إمكان التمسّك لعدم إلغاء قصده في المقام بأخبار جواز إعطاء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 251

الصدقات و الزكوات و الفطر إلى أطفال المؤمنين. و دعوى كونها مسوقة لبيان أصل جواز الإعطاء، فلا ينافي لزوم كون المتولّي للأخذ هو الولي، مخالفة لظاهرها.

و حاصل الكلام في معاملات الصبي: أنّ استقلاله فيها بحيث كان أمر المعاملة تحت نظره- سواء كان بإذن الولي أم بدونه- غير جائز، و أمّا لو كان تمام أمر المعاملة تحت نظر الولي، و إذن الصبي في مجرّد إجراء الصيغة، أو في مجرّد الإعطاء و القبض في المعاطاة، فهو جائز، فهنا دعويان: و الدليل على أولاهما الآية السابقة، حيث علّق فيها دفع أموال اليتامى إليهم على رشدهم بعد البلوغ، و أخبار جواز أمر الغلام على ما مرّ من أنّ المستفاد منها نفي الاستقلال في المعاملة.

و أمّا الثانية: فالدليل عليها أنّ العمومات مقتضية للصحّة، و القدر المتيقّن من المنع المستفاد من كلمات الأصحاب هو غير هذه الصورة، و خبر رفع القلم و عمد الصبي قد عرفت عدم جريانهما في المقام، و الآية و خبر جواز أمر الغلام ناظران إلى ما إذا كان العمدة في إيقاع المعاملة هو الصبيّ بحيث صحّ نسبتها إليه فلا يشملان ما إذا كانت منسوبة إلى الولي، و لم يكن للصبيّ استقلال أصلا، بل كان بمنزلة اللسان و الآلة للولي.

و من هنا يظهر وجه ما ذكره المصنف- قدّس سرّه- في مقام ردّ الاستدلال بحديث رفع القلم في الإيراد الثالث بقوله: ثالثا و

اندفاع ما اعترضنا عليه سابقا، و ذلك لأنّ الاعتراض إنّما يتم لو كان البيع مضافا إلى الصبي إذ حينئذ يقال: نفوذه خلاف الفرض من ارتفاع الأحكام الوضعيّة في حقّ الصبي، و عدم نفوذه ينافي مع دعوى كونه موضوعا للتكليف الغير.

و أمّا لو كان الصبيّ واسطة لتمامية بيع غيره، بحيث إذا تمّ بواسطة عمل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 252

الصبيّ نسب إلى الولي، بمعنى أنّ الولي كان هو العمدة في إيقاع المعاملة و لم يكن الصبيّ إلّا مجرّد الآلة بحيث لا ينسب إليه البيع أصلا، نظير ما إذا تساوم كبيران و تقاولا مدّة حتى إذا استقرّ رأيهما على البيع بالوجه الخاص، وكّلا رجلا بالغا لإجراء الصيغة، حيث إنّ هذا الرجل ليس إلّا واسطة لتصحيح بيع الكبيرين، فلا منافاة بين ارتفاع الأحكام الوضعيّة في حقّ الصبي و كون عمله موضوعا لتكليف غيره كما هو واضح. و بالجملة: فمجرّد آلية الصبي في المعاملة المتعلّقة بماله أو مال غيره ممّا لا مانع منه.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا- من المنع من استقلال الصبي و لو كان بإذن الولي- بين المحقّرات و المجلّلات، فعلى هذا لا يجوز له بيع البقل- مثلا- إلّا إذا جعله الولي «باقة باقة»، و ميّز بين الباقات، و قال له: بع كلّا من هذه بفلس مثلا، بحيث كان المفوّض إلى الصبي مجرّد الإعطاء و الأخذ.

ثمّ إنّ المصنّف لمّا التزم بسلب عبارة الصبي، و كانت رواية السكوني مخالفة لهذا، حملها على محامل، فينبغي التعرّض لها و لمعناها.

فنقول: قد روى السكوني عن الصادق- عليه السلام- أنّه قال: «نهى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده، لأنّه إن

لم يجد سرق» و ليس المراد بالكسب معناه المصدري، بل المراد المال المكتسب، و هذا النهي إرشاديّ، بقرينة تعليله باحتمال السرقة، فمفهومه أنّه لو علم من الخارج أنّه صادق في دعواه، فيجوز أخذ كسبه. فهذا يدلّ على ثبوت كسب للصبي في الجملة، إذ لو لم يكن له كسب أصلا لم يكن وجه للتعليل بالاحتمال المزبور، بل كان الأخذ منهيّا عنه حتى لو علم بصدق دعواه، فيكون مخالفا لما ذكره- قدّس سرّه- من وجهين:

الأوّل: من حيث جواز تولّيه إجازة نفسه بدون إذن الولي، و الثاني: لو سلّمنا عدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 253

جواز ذلك و أنّه لا بدّ من أن يكون المتولّي هو الولي، لكن يظهر من الرواية جواز قبض الصبي مال الإجارة الذي ملكه على المستأجر، فهذا مخالف لما ذكره- قدّس سرّه-: من أنّ قبض الصبي لا يعيّن الكلّي في الخارج. لكنّه- قدّس سرّه- حمله على مثل ما يكتسبه من التقاط، و مال الإجارة فيما إذا أوقع الولي الإجارة، و أجرة المثل عن العمل فيما إذا أوقعها الصبي بدون إذن الولي، أو أمر بالعمل من دون إجارة. لكن هذا الحمل لا ينفعه- قدّس سرّه- إذ على هذا تكون الرواية مخالفة لما ذكره في قبض الصبيّ.

و الأولى على ما ذكرنا حمل الرواية على ما إذا كان العمدة في إيقاع الإجارة هو الولي و كان الصبي آلة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 254

[الشرط الثاني القصد إلى المدلول]

مسألة

قال- قدّس سرّه الشريف-: (مسألة: و من جملة شرائط المتعاقدين قصدهما لمدلول العقد الذي يتلفّظان به).

أقول: لا إشكال في أنّ التكلّم بالصيغة بدون خطور المعنى في الذهن- الذي يعبّر عنه بالإرادة الاستعمالية- ليس بعقد، بل مجرّد لفظ مهمل، و كذا لو كان

مع خطوره و لكن لم يتعلّق القصد الجدي بوقوع مضمونها، فحينئذ و إن كان اللفظ مستعملا لكن لم يتحقّق العقد، كما في عقد الهازل، و هذا يعبّر عنه بالإرادة الجدية، و الأولى تنفك عن الثانية في الأخبار و في الإنشاءات.

أمّا في الأخبار، فكما في الكنايات، فإنّ من قال: زيد كثير الرماد، يتصوّر عند تكلّمه معاني هذه الألفاظ، و لكن ليس غرضه الانتقال إلى نفسها، بل إلى لازمها و هو الجود، و لذا لو لم يكن له رماد و كان جوادا، لم يكن كذبا أصلا أو هو كذب محلّل.

و أمّا الأخبار الكاذبة، فالغرض الجدّي متعلّق بمداليلها، و ليس المتكلّم بها كمن تكلّم بالقضية الخبرية هازلا بالوجدان.

و أمّا في الإنشاءات، فكما في عقود الهازل و كمن أنشأ الطلب لا لغرض وقوع المطلوب في الخارج، بل للاستهزاء أو التعجيز أو الامتحان أو نحو ذلك، فهذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 255

الإنشاء لا يؤثّر في لزوم الإطاعة حتّى في الأخير بحسب اللب، بخلاف ما لو كان الغرض وقوعه، فإنّ الإنشاء حينئذ مؤثّر في لزومها.

و من هنا ظهر أنّه لا وجه لما في كلامه- قدّس سرّه- من تشبيه الإنشاءات الهزلية بالأخبار الكاذبة، فإنّ الأولى- على ما عرفت- خالية عن الإرادة الجدية، و الثانية مشتملة عليها، هذا، و الإرادة الجدية لا تنفك عن الأخرى.

ثمّ إنّه نقل عن الشهيد الثاني دعوى: أنّ الفضولي و المكره غير قاصدين إلى مدلول العقد، و ليس المراد هذا الذي ذكرنا اعتباره في العقد، فإنّ تحقّق هذا في حقّهما ممّا لا شكّ فيه، بمعنى أنّ لهما القصد إلى وقوع المنشأ جدا.

نعم عقد المكره ليس عن طيب النفس بمعنى الرضا بالبيع بعنوانه الأوّلي، و إنّما رضاه به

حصل ثانيا و بالعرض، و للخوف من العدو، و لسنا نعتبر في العقود إلّا الرضا بهذا المعنى.

ألا ترى أنّ من كان ملجأ إلى بيع داره لنفقة عياله أو لأداء الدين المضيق، يكون بيعه صحيحا، مع أنّه ربّما يكون فاقدا لطيب النفس، بل يمكن أن يقال:

إنّه ليس المراد بطيب النفس إلّا مجرّد الرضا، و لو كان متعلّقا بالعنوان الثانوي، و لهذا يقال: طاب لي الموت، فعلى هذا لو لم يكن في البين حديث رفع ما استكرهوا عليه، الذي استشهد به الإمام- عليه السلام- في الوضعيات، لكان عقد المكره صحيحا بلا اشكال بمقتضى القواعد كعقد الملجإ. نعم لو كان مورّيا أو غير قاصد للمعنى أصلا، لم يتحقّق العقد من هذه الجهة.

ثمّ إنّه نقل عن بعض المحقّقين: أنّه ذكر في المقام فروعا، و جعلنا مبتنية على أنّه هل يعتبر- علاوة على القصد الجدّي إلى مدلول الصيغة- تعيين المالكين اللذين يكون منهما و إليهما النقل و الانتقال في البيع أو لا؟ و ذكر أنّ المسألة في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 256

غاية الإشكال، و اضطربت فيها كلمات الأصحاب- قدّس اللّٰه أرواحهم- في تضاعيف أبواب الفقه.

ثمّ اختار- قدّس سرّه- تفصيلا، و حاصله: أنّ العوضين لو كانا شخصيّين، فمعلوم أنّ كلّا منهما ينتقل إلى مالك الآخر، فلا حاجة إلى التعيين و إن كان أحدهما أو كلاهما كليّا، و كان من يصلح للمالكية متعدّدا، فالتعيين لازم.

مثال ذلك: لو كان شخص واحد وكيلا عن شخصين في شراء أربعة أذرع من كرباس مثلا، أو وليّا للصغيرين، فإنّه لو اشترى أربعة أذرع من كرباس معيّن بأربعة قرانات في الذمة، كان المشتري و من يصلح لأن يكون صاحبا للذمّة مردّدا بين ثلاثة، نفسه و الموكّلين

أو الصغيرين. و كذا لو كان وكيلا عن أشخاص كثيرين أو وليا على أطفال.

و ما أفاده في تعليل ذلك وجهان: الأوّل: أنّه لو لم يعيّن المالك في هذا الفرض، لزم أن يكون المال بلا مالك واقعا. و الثاني: يلزم أن لا يحصل الجزم بشي ء من العقود التي لم يتعيّن فيها العوضان، و لا بشي ء من الأحكام و الآثار المترتبة على ذلك، و لعلّ المراد أنّه لم يعلم أنّ العقد وقع لهذا الشخص أو لذاك، فيكون راجعا إلى الوجه الأوّل.

أقول: يمكن أن يقال: إنّه كما يمكن جعل المبيع كليّا- كما في بيع صاع من الصبرة، فإنّه يصير المشتري بعد البيع مالكا لصاع كلّي مردد بين أفراد محصورة و هي ما اشتمل عليه الصبرة- كذلك يمكن عكس ذلك، و هو أن يكون المبيع معيّنا و المشتري كليّا مرددا بين أفراد محصورين، كما في المثال المتقدّم، فإنّ الأربعة الأذرع من الكرباس المعيّن يصير بعد البيع ملكا للشخص الكلّي المردد بين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 257

ثلاثة أشخاص.

و دعوى أنّ المالية لا تتقوّم في الكلّيات و الذمم إلّا بإضافتها إلى شخص معيّن، و الذمّة المضافة إلى الواحد المردّد بين أشخاص غير محصورين أو محصورين ليست بمال، مدفوعة، بأنّا لا نتعقّل من مالية الكلّي في الذمّة- فيما إذا كانت الذمّة مضافة إلى معيّن- إلّا اقتدار مالكه على تحصيله في فرد معيّن من صاحب الذمّة، و هذا المعنى بعينه موجود فيما إذا كان من أضيف إليه الذمّة مرددا بين جماعة محصورين، فإنّ البائع مثلا مقتدر على تحصيل هذا الكلّي من بين تلك الجماعة، غاية الأمر إنّه متى أراد ذلك يتوسّل فيه إلى تعيين الوكيل أو الولي المذكورين المشتري من بين

الجماعة، ثمّ يرجع إلى من عيّن، و يطالب الكلي منه، فتحصيل المال من صاحب الذمّة هنا أيضا مقدور غاية الأمر إنّه مع واسطة التعيين، و المقدور بالواسطة مقدور.

و أمّا صيرورة المال كالمبيع في المثال بعد البيع و قبل تعيين المشتري بلا مالك معيّن، فلا ضير في الالتزام به بعد تحققه في نظائر المقام. ألا ترى أنّه لو وصّى أحد بكون مال معيّن من أمواله ملكا للفقير، فبعد الموت و قبل تعيين الورثة، هل يكون المالك للمال المعيّن إلّا كليا مرددا بين أفراد غير محصورين؟ و كذا حقّ الزكاة، فإنّ مالكه أيضا قبل تعيين من عليه الزكاة كلي مردّد بين فقراء العالم. و على هذا فيلزم صحّة البيع فيما إذا قال البائع بأعلى صوته في وسط السوق مثلا: بعت هذا الثوب ممن اشتراه منّي بكذا، فقال عقيب هذا متّصلا رجل: قبلت.

و يؤيد ما ذكرنا- من جواز كون المشتري واحدا مرددا بين محصورين- ما ذكروه في بابي الطلاق و العتق، من أنّه لو قال: إحدى زوجاتي طالق، أو أحد عبيدي حرّ، يقع الطلاق أو العتق صحيحا، ثمّ إذا عيّن واحدة من الزوجات أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 258

واحدا من العبيد، صارت المعيّنة طالقا، و صار المعيّن حرّا.

بل كون المشتري كليّا في البيع أيضا واقع. مثاله: لو اشترى متولّي الدار الموقوفة على الفقراء من مال الوقف بابا لها مثلا، فلا شك أنّ هذا الباب ينتقل إلى صاحب الثمن و هو عنوان الفقير، فإنّ المال مال الموقوف ليس ملكا مشاعا بين الفقراء، و لهذا يجوز للمتولّي صرفه في مصرف فقير واحد، بل هو نظير حق الزكاة ملك للكلي.

ثمّ ما يكن القول به في المقام أن يقال: لا

شكّ في أنّه يعتبر في البيع أن يكون التعاوض بين المالين، فإذا كان العوضان شخصيين فلا إشكال.

و أمّا إذا كان أحدهما أو كلاهما كليّا، فلا إشكال في أنّ نفس المفهوم الكلي ما لم يلاحظ معه وجود إمّا في الذمّة أو في الخارج ليس بالمال، و لا يبذل العقلاء بإزاء الآلاف منه فلسا، كما أنّه لو اعتبر بلحاظ الوجود في ذمّة الشخص المعيّن، فلا شبهة في ماليّته و بذل المال بإزائه. و كذا لو اعتبر بلحاظ الوجود في الخارج، كما لو لوحظ الصّاع مجرّد عن جميع الخصوصيات و مقيّدا بالوجود في الصبرة المشاهدة. و بالجملة: فلا إشكال في صحّة وقوع الكلّي بأحد هذين الاعتبارين عوضا في البيع لكونه مالا.

و أمّا لو لوحظ الكلّي باعتبار الوجود في ذمّة الكلّي، فإن كان الكلّي صاحب الذمّة مالكا للمال، فتكون ذمته أيضا متموّلة، فيكون الكلّي المضاف إلى ذمّته كالكلّي المضاف إلى ذمة الشخص، غاية الأمر إنّ المطالب هنا متولي مال الكلي و هناك نفس الشخص، و ذلك كما في مثال شراء الباب للدار الموقوفة على الفقراء إذا جعل الثمن كلّيا، فيكون المديون ذمّة الفقير الكلّي، و المطالب هو المتولّي. و بالجملة فالكلي بهذا الاعتبار أيضا مال، فلا مانع من جعله عوضا في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 259

البيع.

و أمّا لو لم يكن الكلي الجامع مالكا كعنوان «ابن بكر»، فإنّ المالك خصوص زيد أو عمرو أو خالد مثلا، و لا مالكية لهم من حيث هم أفراد لابن بكر، و كذا الواحد المردّد بين الوكيل و موكليه أو الولي و الصغيرين، فإنّ الواحد المبهم واقعا المردّد بين هذه الجماعة من حيث هو هذا العنوان لا مال له، و إنّما المال لخصوص

كل واحد من أفراده، فذمّة هذا الكلّي أيضا غير متموّلة، بمعنى أنّ الكلّي المضاف إلى ذمّته ليس بمال، فلا يصحّ جعله عوضا في البيع و لا يجدي صيرورته بعد التعيين مالا، إذ المعتبر الماليّة حال البيع حتّى يصير المال بإزاء المال، فلا بدّ حينئذ من تعيين المالك حال البيع- كما ذكره هذا المحقق- لأجل أن يصير الكلي مالا حال البيع. هذا إذا كان أحد العوضين أو كلاهما كلّيا.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 1، ص: 259

و أمّا لو كان كلاهما شخصيا فحينئذ هل يعتبر تعيين المالكين أو لا يعتبر مطلقا، أو لا يعتبر ما لم يقصد الخلاف فإذا قصد بطل البيع؟ جعل المحقق المذكور الأخير أقوى، و الوسط أوسط، و الأوّل أشبه بالأصول.

و وجه أشبهيّة الأوّل بالأصول أنّ الأصل في جميع ذوات الأسباب عند الشك في تحقّق السّبب هو العدم.

و وجه أوسطيّة الوسط أنّ عمومات صحة البيع و العقد شاملة للمقام، إذ لا شك في كون البيع الخالي عن تعيين المالك مع كون العوضين شخصيين، عقدا و بيعا.

و وجه أقوائيّة الأخير أنّ الجدّ في إرادة البيع ينافي الجد في إرادة نقل المال إلى غير مالكه، فإنّ مقتضاه نقل كلّ من المالين إلى مالك الآخر، لأنّ هذا معنى البيع و حقيقته، فلا يمكن الجدّ في كلتا الإرادتين، فلا بدّ من إلغاء إحداهما و صوريّتها،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 260

و حيث لا ترجيح تعيّن البطلان.

و نظير هذا أورد على من صحّح بيع الفضولي لنفسه بالإجازة، فيقع للمالك فإنّ قصد حقيقة البيع جدا ينافي مع قصد انتقال الثمن إلى نفسه، و

الإجازة إنّما تؤثّر فيما إذا تحقّق الجدّ في إنشاء البيع من الفضولي.

و لكن الحقّ أنّه غير المقام، سواء صححناه بالإجازة أم أبطلناه من الأصل، لأنّه إن صححناه نقول: بأنّ الفضولي قاصد جدا إلى البيع، أعني: نقل كل من المالين من مالكه الواقعي إلى المالك الواقعي للآخر، غاية الأمر إنّه يقول: أنا المالك للمثمن، فلا بدّ أن ينتقل الثمن إلى، فالإجازة مصحّحة لأصل قصده إلى إنشاء البيع، فيلغى تنزيله نفسه منزلة المالك الواقعي.

و لا يخفى أنّ هذا الجواب غير متمشّ هنا، إذ الفرض أنّ البائع مثلا يريد أن ينقل الثمن من ملك المشتري إلى ملك الثالث بإزاء نقل المثمن من ملك نفسه إلى ملك المشتري، بدون أن ينزّل الثالث مقام نفسه في مالكية المثمن، و يرى نفسه فضوليّا حتى يرتفع محذور التدافع و يتحقق منه الجدّ في إنشاء البيع و يصير التنزيل لغوا، بل هو في حال البيع يرى نفسه مالك المثمن، و مع ذلك أراد نقل الثمن ابتداء إلى الثالث، فلا محالة يكون بين هذه و إرادة البيع تهافت و تدافع، فيتعيّن البطلان.

و إن أبطلناه من الأصل فليس ذلك لأجل التدافع في القصد، بل لمنع الانحلال و أنّ الغاصب في بيعه، حاله حال من يزعم مال الغير ماله، فيبيعه، بمعنى أنّ معروض قصده ليس إلّا المعاملة الخاصّة بخصوصية إضافتها إلى نفسه، بحيث يكون للخصوصية مدخل في قوام قصده. و بعبارة أخرى ليس الصادر منه إلّا قصد واحد بسيط متعلق بشي ء واحد بسيط، و هو المعاملة الخاصة، و ليس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 261

قصده على وجه ينحلّ إلى قصد أصل البيع و تطبيق عنوان المالكية على نفسه.

فهذا نظير ما ذكروه في باب الجماعة: من

أنّ المأموم لو قصد الاقتداء بزيد مثلا على وجه التقييد، بأن يجعل الإمام في قصده هو الشخص الحاضر، المتخصّص بزعمه بخصوصيات الزيدية من حيث هو كذلك، فبان أنّه عمرو، بطلت صلاته و إن كان عمرو عادلا عنده، بخلاف ما إذا كان قصد الخصوصية الزيدية على وجه الداعي و كان المنظور في مرحلة الاقتداء هو الشخص الحاضر بتجريده عن جميع الخصوصيات، فإنّه حينئذ لو كان عمرو عنده عادلات صحّت صلاته، و إن كان المأموم ممّن لو علم بأنّه عمرو من الابتداء لم يقتد به، فلم يحكموا في الصورة الأولى بانحلال قصده إلى الاقتداء بالإمام العادل و تطبيقه على زيد.

و ما نحن فيه نظير هذه الصورة، و حينئذ فوجه البطلان: أنّ الإجازة لو صحّحت البيع للغاصب كما أنّه قصد كذلك، فهذا غير معقول، و إن صحّحته للمالك فكذلك، لأنّ البيع للمالك مخالف لما قصده الغاصب، و الإجازة إنّما تتعلّق بالمقصود. فعلم أنّ بيع الفضولي لنفسه على أي حال خال عن محذور التدافع هذا.

و أمّا صورة عدم نيّة الخلاف مع عدم تعيين المالكين المنتقل منهما و إليهما، فهي مشمولة للعمومات، لصدق عنوان العقد و البيع عليها، و إذا وجد الدليل فلا يبقى مجال لجريان الأصل.

ثمّ إنّ المحقّق المذكور ذكر هنا فروعا، و جعل الحكم فيها مبتنية على الوجه الوسط، أعني: عدم لزوم التعيين و وقوع المعاملة للمالكين و إن قصد لغيرهما.

منها: أنّه لو باع مال نفسه عن عمرو، وقع لنفسه و لغا قصد كونه عن عمرو.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 262

و منها: لو باع مال زيد عن عمرو، وقع لزيد إن كان وكيلا عنه، و إلّا يقف على إجازته، و وجه ابتناء هذين على الوجه الوسط واضح.

و

منها: لو اشترى لنفسه و جعل الثمن في ذمة زيد، فإن لم يكن وكيلا عن زيد يقع لنفسه، و يستقرّ الثمن في ذمته، و إن كان وكيلا عنه، فالمقتضي لكل من العقدين موجود، و الجمع بينهما يقتضي إلغاء أحدهما، و حيث لا معيّن احتمل البطلان و وقوعه لنفسه، لعدم تعلّق الوكالة بمثل هذا الشراء و ترجيح جانب الأصالة و وقوعه لزيد لتعين العوض في ذمته، فقصد كون الشراء لنفسه لغو كما في المعين.

و أنت خبير بأنّ الوجه الوسط وقوع المعاملة للمالكين حتّى مع قصد الخلاف إذا كان العوضان شخصيين، و لا شكّ أنّ الكلّي في ذمّة المعيّن كالشخصي، فمقتضاه كون المعاملة في هذا الفرع لزيد، و لغويّة قصد كونها لنفسه إذا كان وكيلا عنه و كونها موقوفة على إجازة زيد إذا لم يكن وكيلا عنه و أمّا الوجه الأخير، فمقتضاه البطلان في جميع هذه الفروع.

قال- قدّس سرّه-: (إلّا أن يقال: إنّ وقوع بيع مال نفسه لغيره) إلى قوله:

(و لكن الأقوى).

أقول: مقصوده- قدّس سرّه- الإشكال على ما ذكره من تصحيح المعاملة المذكورة. و حاصل الإشكال جعلها باطلة بأحد الوجهين:

الأوّل: أن يجعل وقوع البيع لغيره قرينة على عدم قصده من البيع المبادلة الحقيقية، و لعلّ مرجع هذا إلى تدافع القصدين و تناقضهما، فإنّ مقتضى قوله:

بعت هذا الكتاب، وقوع البيع لنفسه، و مقتضى قوله: عن زيد، وقوعه عنه، و من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 263

المعلوم تنافيهما، فالمقصود أنّه لم رجّحت الأوّل على الثاني، بل أجعل الثّاني قرينة على عدم إرادة الأوّل، يعني: لا مرجّح في البين، فلا محيص عن البطلان.

الثاني: أن يجعل ذلك قرينة على تنزيل البائع الغير منزلة نفسه في مالكية المبيع، حتّى يتمشّى منه

قصد المعاوضة الحقيقيّة كما ذكر ذلك في بيع الغاصب لنفسه.

و أنت خبير بأنّ جعل هذا وجها للبطلان لا يستقيم على مذهبه- قدّس سرّه- في بيع الفضولي لنفسه، حيث إنّه يصحّحه و يجعل للمالك بإجازته، بدعوى أنّ فعل الغاصب ينحل إلى شيئين: قصد المعاوضة الحقيقية و دعوى المالكية لنفسه، فالإجازة متى تحقّقت تصحّح الأوّل، و لا يعتنى بدعواه الفاسدة، إذ على هذا لا يكون المقام قاصراً عن ذلك البيع، فإذا نزل البائع هنا الغير منزلة نفسه، فقد تحقّق منه القصد إلى المعاوضة الحقيقيّة، غاية الأمر مقرونا بتطبيق خطئي، فاللازم الحكم بوقوع البيع لنفسه بلا ترقّب الإجازة، لأنّ البائع هنا نفس المالك، و قد تمشّى منه القصد إلى المبادلة الحقيقية.

و من هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم في دفع ذلك من أنّ المقصود في الاستشكال جعل المعاملة المذكورة بلا صحّة فعليّة إمّا بجعلها باطلة من الأصل، كما هو مفاد الوجه الأوّل، و إمّا بجعلها مراعى على إجازة البائع الذي هو المالك، و هذا مفاد الوجه الثاني، و ليس المقصود من هذا الوجه إسقاط المعاملة عن قابليّة الصحة بالمرّة حتّى يتوجّه الإشكال عليه- قدّس سرّه- بما ذكر.

و أمّا كون المعاملة على الثاني محتاجة إلى الإجازة مع كون البائع هو المالك، فلا ضير فيه بعد وقوع مثله، كما فيما لو باع الوارث المال بظن حياة مورّثه فبان موته، فإنّ وقوعه لنفسه يحتاج إلى إجازته.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 264

و وجه فساده ما عرفت من عدم الحاجة إلى الإجازة بعد كون البائع نفس المالك و حصول القصد إلى المبادلة الحقيقية منه. و قياس المقام ببيع الوارث مع الفارق، إذ من المعلوم أنّ البائع هناك لعدم اطّلاعه على مالكية نفسه

لم يحصل له طيب النفس الفعلي بالمعاملة، فإذا اطّلع عليها يتوقّف صحّتها على إجازته، و هذا بخلاف المقام، فإنّ البائع مطّلع على مالكيّة نفسه و ليس ناسيا لها بالفرض، غاية الأمر أنّه نزل الغير منزلة نفسه في المالكيّة.

نعم يصحّ عدّ هذا الوجه وجها للبطلان على مذاق من يجعل بيع الفضولي لنفسه باطلا من أصله، مدّعيا أنّ البائع لم يقصد إلّا وقوع البيع لنفسه، و هذا غير قابل للتصحيح بالإجازة و وقوعه للمالك غير مقصودة، فكيف تتعلّق به الإجازة، إذ له أن يقول هنا أيضا: بأنّه إذا قصد وقوع البيع لغيره منزّلا لهذا الغير منزلة نفسه مع فرض كون نفسه هو المالك، فهذا أمر لا يمكن صحّته، و وقوع البيع لنفسه خلاف مقصوده، فلا محيص عن البطلان.

ثمّ ما ذكره- قدّس سرّه- جوابا لهذا الإشكال بعد قوله:

(و لكن الأقوى)- الى آخره)

لم نتعقّل له معنى محصّلا، إذ لو كان المقصود أنّ الثمن ينتقل من المشتري إلى البائع المالك للمثمن ثمّ ينتقل منه إلى الغير، فهذا خلاف المفروض، إذ الفرض أن يكون قاصدا تحقّق النقل و الانتقال بالنسبة إلى الغير من أوّل الأمر.

و إن أراد أنّه يجعل نفسه طرفا للمعاملة لكن بقصد انتقال الثمن إلى الغير ابتداء مع ذلك فهذا لا يعقل، لأنّه لا يعقل التفكيك بين قصد البيع لنفسه و بين قصد أثره و هو انتقال الثمن إلى نفسه، و أيضا يعود اشكال التدافع فيتوجه البطلان.

ثمّ بعد تعيين الموجب البائع في نفسه أو غيره و القابل المشتري كذلك، هل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 265

يعتبر أن يعلم كلّ منهما ما عيّنه الآخر في ضميره؟ بأن يعلم الموجب أنّ القابل هو المشتري أو وكيله أو وليه، و على

التقديرين الآخرين أنّ الموكل أو المولّى عليه من هو؟ و كذا القابل، أو لا؟

الكلام هنا في موضعين: الأوّل: فيما ذكر، و الثاني: في أنّه لو علم أنّ القابل وكيل أو وليّ عن الغير، هل يجوز في مقام إجراء الصيغة أن يقول الموجب: بعتك باعتبار الوجود التنزيلي، و يقول هو قبلت؟ أو لا بدّ أن يقول الأوّل: بعت من موكّلك، و الثاني: قبلت من موكّلي؟

أمّا الموضع الأوّل، فالتحقيق فيه أن يقال: إن كان العوضان شخصيّين، فالجهل من الموجب بأنّ المشتري من هو، و من القابل بأنّ مالك المثمن من هو غير مضرّ، إذ لا يلزم منه غرر، لعدم اختلاف الأغراض في هذا الباب باختلاف الأشخاص في الغالب، نعم قد تختلف نادرا، لكنّ الحكم يدور مدار الغالب.

و إن كان أحدهما أو كلاهما في الذمّة، فالجهل المذكور مضرّ، لا من باب أنّه لو لم يعيّن من يكون العوض في ذمّته لم يكن العوض الكلّي مالا، لأنّ المفروض أنّه معيّن واقعا، بل لاستلزامه الغرر، إذ تختلف الأغراض باختلاف الأشخاص من حيث الغناء و الإعسار، و سهولة الأداء و صعوبته، و تساوي شخصين من هذه الجهة نادر، مع أنّه لا يوجب رفع الحكم الغرري عن مورده، لإناطته بالغالب، و لهذا لو اشترى ما في الصندوق بدرهم مع عدم العلم بما فيه تفصيلا، و العلم بأنّه لا ينقص عن هذا المقدار، و المفروض أنّ البائع أيضا عالم به تفصيلا، لا يوجب ذلك جواز المعاملة، و سرّه أنّ الجهل بالعوضين غالبا موجب للغرر، و كذا الجهل بصاحب الذمة في طرف البائع و المشتري.

و أمّا الموضع الثاني، فالميزان فيه وجود القرينة على إرادة المخاطب من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 266

ضمير الخطاب

من حيث وجوده التنزيلي بحيث صار الضمير ظاهرا عند العرف في ذلك، و عدمه، فإن كانت القرينة المذكورة موجودة- كما لو تواطيا قبل العقد على أن يكون القابل وكيلا أو وليا للغير، أو كان ذلك معهودا من حال القابل كما إذا كان دلّالا، فإنّ قوله: بعتك بضميمة أحد هذين، يصير ظاهرا في الوجود التنزيلي- جاز و إلّا فلا.

نعم على قول من اعتبر في صيغ العقود أن يكون دلالتها على المراد بالوضع، فلا يكفي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، إذا كان الاعتماد على القرينة الحاليّة المقاميّة، إذ يرجع هذا إلى عدم الإتيان بالكاشف لتمام المراد، بل لبعضه و الاكتفاء في البعض الآخر بالعلم به، لا يجوز هنا الاكتفاء بالقرينة الحالية.

لكنّك عرفت سابقا أنّ القرائن الحاليّة كالمقاليّة تفيد الظهور للفظ في غير ما وضع له. و بالجملة فالاعتماد عليها ليس من باب ضمّ العلم بالكاشف بل هو جعل للفظ كاشفا عن تمام المراد.

و على هذا فمقتضى القاعدة جواز الاكتفاء بضمير الخطاب مرادا به الوجود التنزيلي للمخاطب، مع شهادة الحال و المقام بذلك في باب النكاح أيضا، فيجوز أن يقول وكيل الزوجة لوكيل الزوج- إذا كان معلوما وكالته-: أنكحتك، و لعلّ عدم مرسوميّة ذلك في هذا الباب لأجل الاحتياط و المداقّة في باب الفروج.

[الشرط الثالث الاختيار]

اشارة

قال- قدّس سرّه-: (و من شرائط المتعاقدين، الاختيار و المراد به. إلى آخره).

أقول: المراد به مقابل الإكراه لا ضد الإجبار، فإنّ فعل المجبور يصدر لا عن شعور، و المكره يصدر عنه الفعل عن شعور و روية و ملاحظة الغايات.

ثمّ المراد ببيع المكره المبحوث عنه في هذا المقام هو البيع الذي كان جامعا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 267

لجميع شرائط العقد، غاية

الأمر كان الداعي إليه خوف الضرر المتوعّد به، لا ما اختل فيه بعضها كما لو كان غير قاصد إلى اللفظ أو قاصدا إليه من دون إرادة المعنى، أو معها لكن بدون الإرادة الجدية في الإنشاء و قصد وقوع المنشأ في الخارج.

و بالجملة: محلّ الكلام ما إذا كان عنوان البيعيّة محفوظا بحيث صدق على الصادر عن المكره: إنية بيع تامّ، نظير ما لو شرب الخمر مكرها، فإنّه يصدق أنّ ما صدر منه شرب الخمر.

و من هنا يظهر أنّ ما حكي عن البعض من أنّ المكره قاصد إلى اللفظ دون المدلول، لا وجه له سواء أريد أنّ لفظه مجرّد الصوت خال عن المعنى أصلا، أو قصد أنّه خال عن الجدّ في الإنشاء و قصد وقوع المضمون في الخارج، كما وجّه به المصنف- قدّس سرّه- إذ لو فقد عمله واحدا من هذين لم يكن بيعا، و خرج عن محلّ الكلام. و ليس هنا شي ء آخر كان في عقد المختار، و فقده عمل المكره سوى طيب النفس.

فنقول: إن كان المراد رضا الفاعل بالفعل أوّلا و بالذات بحيث كان متكيّفا به، فلا نسلّم اعتباره في العقود، و إلّا لما كان عقد المضطر إلى بيع داره مثلا لأداء دين مضيّق أو للإنفاق على الأهل و العيال صحيحا، ضرورة أنّه ربّما يكون فاقدا لهذا المعنى، بمعنى أنّه يقدم على البيع عن تكلّف و تحمّل مشقّة.

و إن أريد به ما يعمّ الإقدام على الفعل عن تفكّر في العاقبة و تدبير الأمر، و اختيار أقلّ الضررين و دفع الأفسد بالفاسد، و إن كان الفاعل غير راض به أوّلا و بالذات، فلا نسلّم انتفاءه في المكره، و أي فرق بينه و بين الملجإ، فإنّ الأمر

دائر هنا بين الضرب أو الشتم، أو القتل، و بين بيع الدار مثلا، و هناك بين عسر المعيشة على العيال أو استقرار الدّين، و بين بيعها، فكما أنّه يقدّم البيع هناك على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 268

العسر و الاستقرار، و يتحمّل هذا مع كونه صعبا لأجل التخلّص من ذاك لكونه أصعب، فكذا هنا، بل أيّ فرق بينه و بين من أكره على دفع مقدار من المال فباع داره لأداء ثمنه إلى المكره، أو من يبيع داره حيلة و فرارا من ظلم الظالم، فإنّ البيع في هاتين الصورتين لا شبهة في صحّته.

و من هنا يظهر أنّه لا بدّ و أن يكون المراد بالتراضي و طيب النفس في قوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و قوله- عليه السلام-: «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» هو هذا المعنى العام، و حينئذ لا وجه للاستدلال بهما على فساد بيع المكره.

نعم يمكن الاستدلال بحديث الرفع، فإنّ المراد به رفع جميع الآثار التي يكون وضعها و رفعها من وظيفة الشارع، من غير فرق بين التكليفية منها كالحرمة و الوجوب و نحوهما، و الوضعيّة كالحرية و انقطاع الزوجية و الملكيّة و نحوها.

و الدليل على شمول لفظ الرفع لجميع الآثار استدلال الإمام به لعدم تأثير الحلف بالطلاق و العتاق الذي وقع إكراها عقيب توهّم السائل تأثيره، فإنّ هذا الحلف و إن كان باطلا غير مؤثّر من أصله في مذهبنا، لكنّ الإمام قد استدل بهذا الحديث على عدم تأثير ما وقع منه مكرها عليه لأجل كونه كذلك، مع التنزّل و المماشاة مع السائل في زعم تأثير أصله، فلو لم يكن لفظ الرفع شاملا لمثل الحريّة و انقطاع الزوجيّة لتمسّك

به السائل و أنكر على الاستدلال، بل لما استدل به الإمام.

[و هنا مسائل]
[المسألة الأولى في بيان الفرق بين المكره و المضطر]

ثمّ إنّ المصنّف- قدّس سرّه- حاول الفرق بين المكره و المضطر، و حوّله إلى الوجدان، و لعلّ مراده- قدّس سرّه-: أنّ المضطر يفعل الفعل عن تدبير و رويّة، و يلاحظ غاياته، و ينظر إلى أطرافه، فيميّز حسنها عن قبحها بميزان عقله، فهو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 269

و إن كان مرتكبا للفاسد لأجل دفع الأفسد، لكنّه فاعل مستقلّ في فعله، و متحرّك بسلطان عقله و أمره و نهيه، و هذا بخلاف المكره، فإنّه بايع لإرادة غيره و ليس له إرادة أصلا إلّا عن صرف الوهم، فحاله حال الحيوان، فإنّه يعمل لصاحبه و يتحرّك بإرادته لخوف ضربه، فالفاعل المستقل المدبر هو الصاحب و ليس الحيوان إلّا صرف الآلة، و ذلك لأنّ فعله ليس عن رويّة و فكر و ترتيب الصغرى و الكبرى، و ملاحظة أنّه لو لم يتحمّل مشقّة الفعل وقع فيما هو أشدّ منه، من ألم الضرب، بل هو تابع صرف لإرادة صاحبه و إشارته، من دون أن يكون له استقلال و تدبير أصلا، و هكذا المكره، فإنّه متحرّك نحو الفعل لخوف سيف المكره، من دون أن يكون في هذا الحال مراعيا لغايات العمل.

و لكن الإنصاف أنّه مختار في عمله حيث يرجّحه على القتل. نعم يمكن أن يقال: إنّ المعتبر في حقيقة طيب النفس أن يكون العمل صادرا لا عن أمر آمر قاهر، فلا يصدق عرفا فيما إذا كان كذلك أنّ العامل طيّب النفس و إن كان الرضا الثانوي منه متحقّقا، و هذا بخلاف المضطر، إذ يقال عرفا: إنّه طاب نفسه ببيع داره لغاية احتياجه، فيكون الرضا أعمّ من طيب النفس مطلقا، و

لهذا يمكن التمسّك على فساد بيع المكره بدليل اشتراط طيب النفس، و كذا بآية التجارة عن تراض، فإنّ المتبادر منه عرفا أن لا يكون البيع بحمل الغير و قهره و إن كان لحاجة و ضرورة.

و أمّا حديث الرفع، فقد عرفت تماميّة التمسّك به لرفع الأثر عن بيع المكره، على ما مر من شموله لجميع الآثار، و أمّا وجه عدم جريانه في بيع المضطرّ مع كون عنوانه مذكورا فيه، و معلوميّة أنّ المعنى الواحد يكون مرفوعا بالنسبة إلى جميع العناوين فلا يكون المرفوع في بعضها بعض الآثار و في بعضها تمامها، فإذا ثبت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 270

التعميم في عنوان الإكراه ثبت في سائر العناوين التي منها عنوان الاضطرار، فهو أنّ الحديث الشريف مسوق في مقام اللّطف و الامتنان، فاللازم عدم شموله لكلّ حكم لا يناسب ارتفاعه للمنّة، فضلا عن أن يكون خلافها، و من المعلوم أنّ رفع الحكم عن بيع من لجأ إلى بيع داره بحيث لو لم يفعله وقع في خطر و ضرر عظيم، لا يناسب المنّة، بل يكون خلافها كما هو واضح، و هذا بخلاف الأحكام التكليفية، ففي رفعها عن المضطرّ لطف و امتنان.

[المسألة الثانية هل يعتبر في صدق مفهوم الإكراه عرفا أن لا يكون الضرر المتوعد به حقّا ثابتا على المكره]

ثمّ هل يعتبر في صدق مفهوم الإكراه عرفا أن لا يكون الضرر المتوعد به حقّا ثابتا على المكره- بالفتح- للمكره- بالكسر- كما لو قال بع دارك و إلّا قتلتك قصاصا، أو طالبتك بالدين الذي لي عليك، أو لا؟ الفتوى على صحّة البيع حينئذ، و هل هو لأجل عدم صدق الإكراه، أو لتخصيص أدلته؟ فغير معلوم.

[المسألة الثالثة الإشكال في أنّ ظهور حديث الرفع للأحكام التكليفية أقوى من ظهوره في رفع الآثار الوضعيّة]

ثمّ هنا إشكال، و هو: أنّ ظهور الحديث الشريف في رفع الأحكام التكليفية أقوى من ظهوره في رفع الآثار الوضعيّة، و هذا ممّا لا شك فيه ظاهرا، و حقيقة الإكراه هو حمل الغير على ما يكرهه، و من المعلوم أنّ مجرّد أمر أحد بإتيان ما لا يلائم الطبع لا يصير داعيا للإنسان إليه، بل لا بدّ أن يكون الآمر شخصا يوجب مخالفة أمره وقوع المكره في ضرر علما أو ظنا، و هذا الضرر قد يكون من قبيل القتل و الضرب و أمثالهما، و قد يكون ممّا يعدّ ضررا بالنسبة إلى حال المكره، كما لو كان الآمر أباه أو أمّه أو صديقه، و كانت مخالفتهم شاقّة عليه مخافة تألّمهم منها، أو قال المكره: افعل كذا و إلّا انتزعت من يدك ما تكون مأنوسا به و يشقّ عليك مفارقته- من كتاب و نحوه- فلو تحقّق الإكراه بهذا النحو في أبواب العقود يحكم بالفساد بمقتضى ظاهر الحديث، لصدق حمل الغير على ما يكرهه في هذه المقامات.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 271

و أمّا في أبواب المحرّمات، فالقطع حاصل بأنّ الإكراه بهذه التّوسعة غير مجوّز لها، إذ لا يلتزم أحد بأنّ من أمره أحد أبويه أو صديقه بشرب الخمر، أو أمره شخص آخر، و أوعد على المخالفة انتزاع كتابه المأنوس به- مثلا- من يده،

يجوز بمجرّد ذلك له الشرب، مع أنّه عنوان الإكراه صادق بل من المسلّم في القتل و اللواط ترجيح تعريض النفس للقتل عليهما.

نعم لو دار الأمر بين الشرب و القتل لم يبعد ترجيح الشرب، و لو دار بين هتك أحد العرضين، كما لو قال: وازن و إلّا زنيت بزوجتك، أو بين العرض و القتل، فالأمر مشكل. و حينئذ فإن التزم بأنّ مورد الحديث ما إذا كان المتوعّد به أشدّ مفسدة في نظر الشارع من المكره عليه، فهذا لا يناسب المنّة، لكون ذلك هو القاعدة التي لا محيص عنها عند تعارض الحرامين الشرعيين.

و إن جعل مورده في خصوص عنوان الإكراه خصوص الأحكام الوضعية، فيعمل في التكليفيات على طبق القاعدة، فهذا أيضا يبعد الالتزام به بعد ما عرفت من كون الحديث في التكليفيات أظهر منه في الوضعيات.

[المسألة الرابعة هل يعتبر في صدق حقيقة الإكراه عدم إمكان التفصّي عن الضرر المتوعّد به بغير الفعل المكره عليه أو لا؟]

ثمّ إنّه هل يعتبر في صدق حقيقة الإكراه عدم إمكان التفصّي عن الضرر المتوعّد به بغير الفعل المكره عليه أو لا؟ و التفصّي يتصور على وجهين:

الأوّل: أن يكون علنا، كما لو أكرهه مكره على البيع في مكان، و هو ما دام في هذا المكان لا يمكنه التفصّي، و لكن يمكنه أن يخرج و كان له خدم يستخلصونه من ضرر المكره.

الثاني: أن يكون بالتورية، أعني: عدم قصد المعنى عند قوله: بعت، أو قصد معنى غير إنشاء البيع، و هذا موجود في حقّ غالب الأشخاص، إلّا من غلب عليه الدّهشة و غفل عن ذلك، فهل يعتبر عدم إمكان التفصّي و المندوحة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 272

بكلا الوجهين في تحقّق موضوع الإكراه أو حكمه، أو لا يعتبر؟ أو يعتبر عدم إمكانه بالوجه الأوّل دون الثاني؟ الحقّ هو التفصيل.

و الدليل على اعتبار عدم

إمكانه بالوجه الأوّل هو أنّه لا شكّ في أنّه يعتبر في صدق عنوان الإكراه أن يكون الداعي إلى الفعل دفع الضرر المتوعّد به على الترك، و هذا لا يتحقّق إلّا مع عدم المندوحة، و أمّا معها، فليس الداعي هو دفع الضرر فقط، إذ هو كما يمكن بالفعل يمكن بإعمال المندوحة أيضا- كالخروج عن المكان في المثال- فلا محالة يكون الداعي مركّبا من دفع الضرر و ميل النفس إلى الفعل دون إعمال المندوحة للتكاسل عنه و نحوه.

و أمّا وجه عدم الاعتبار في الثاني، فهو أنّ التورية ليست بمندوحة، و لا يتفصّى بها عن شي ء، و ذلك لأنّ المكره يريد صدور السبب الشرعيّ لحصول الملك له عن المالك، و هذا يتحقّق بالتلفظ بالصيغة، فيكون أحد الجزأين و هو اللفظ محرزا بالحسّ، و الآخر و هو القصد بالأصل العقلائي الجاري في كل كلام صادر عن عاقل مختار، و من المعلوم أنّ هذا لا يفرق فيه بين التورية و عدمها، فإنّ التورية أمر قلبي لا ربط له بعالم الدلالة و ظهور اللفظ، فمقصود المكره في كلا الحالين حاصل، فالتورية لا يترتّب عليها ثمرة أصلا، أمّا في مرحلة الظاهر فلما عرفت من عدم الفرق بين وجودها و عدمها في حصول السبب الظاهري للملك، و أمّا في مرحلة الواقع، فلعدم الفرق أيضا بينهما في عدم حصول الانتقال، فكما أنّه لا يحصل الانتقال في صورة التورية لعدم البيع، فكذا في صورة عدمها لأدلّة الإكراه.

و من هنا، يظهر أنّه لو أكره على إظهار الكلمات الشنيعة فلا دليل على وجوب التورية، إذ القبيح هو التلفظ بألفاظ يكون ظاهرها عرفا هو المعاني

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 273

الشنعية، و هذا حاصل مع التورية و

عدمها، و الاعتقاد الجناني على طبق مضامين الألفاظ غير حاصل مطلقا، فلا فائدة تحت التورية، و لهذا ليس في الأخبار المجوّزة لتلك الكلمات عند الإكراه تنبيه على لزومها.

ثمّ إنّه قد يكون البيع بحمل الغير عليه صريحا و إيعاد الضرر على تركه، فلا إشكال في صدق الإكراه و فساد البيع. و قد يكون بكثرة إيذائه بقصد التوسّل بذلك إلى بيع داره، من دون أن يكون طالبا منه البيع صريحا في زمان، فيوجب ذلك إقدامه على البيع من باب الإلجاء تخلّصا من إيذائه، كما يتّفق ذلك كثيرا في الشريك القوي بالنسبة إلى الشريك الضعيف، فلا شكّ في عدم اندراج ذلك في الإكراه، لما فرض من عدم تحقّق الحمل و الطلب المعتبر في مفهومه، بل يكون من أفراد الاضطرار، و أمّا البيع فيمكن أن يقال بفساده، لكونه موافقا للمنّة، إذ لا فرق بين هذا و صورة الإكراه، فيشمله الحديث.

و بالجملة: فالظاهر أنّ الملاك في رفع كل أثر و عدمه هو الموافقة للمنّة و عدمها، فلو فرض كون الرفع عن مورد الإكراه في مقام غير موافق لها، فلا ضير في عدم شمول الحديث له، هذا لكنّ المتراءى من كلماتهم، هو الفرق بين عنواني الإكراه و الاضطرار، بالفساد في الأوّل و الصحّة في الثاني من غير تفصيل.

[و هنا فرعان يرتبطان بالبحث]
فرع لو أكره على أحد الأمرين المعيّنين لا بعينه و اختار المكره واحدا معيّنا منهما

فالمشهور على أنّ هذا، الواحد يقع مكرها عليه، فيفسد لو كان له أثر شرعي. و قيل بصحته نظرا إلى أنّه اختار الخصوصيّة بطيب نفسه لا عن إكراه.

و الحق: هو التفصيل بين ما إذا كان كلّ من الأمرين اللذين أكره على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 274

أحدهما لا بعينه ذا أثر شرعي، كما لو قال: بع دارك أو طلق زوجتك و إلّا قتلتك،

و بين ما إذا كان واحد منهما بلا أثر شرعي، كما لو قال: بع دارك أو امش من المكان الفلاني إلى المكان الفلاني و إلّا قتلتك، ففي الأوّل يفسد و في الثاني يصحّ.

و وجه الفساد في الأوّل أنّه لا شكّ في أنّ أحدهما لا بعينه مكره عليه، و يكون له أثر شرعي، لأنّه إذا كان كلّ من الشّيئين ذا أثر شرعي فأحدهما لا بعينه لا محالة يكون كذلك، فالإكراه عليه يوجب بمقتضى الحديث رفع أثره.

ثمّ لا شكّ في أنّ مفهوم أحدهما لا بعينه كلّي صادق على كل واحد من المعيّنين، و الكلّي إذا تعلّق الطلب بإيجاده فله انطباق قهريّ على أوّل شخص منه يوجد، ففي المثال لو اختار المكره البيع، فالكلّي المكره عليه ينطبق عليه، و لو اختار الطلاق فكذلك، و على أيّ حال فيرتفع الأثر بمقتضى الحديث.

و وجه الصحّة في الثاني أنّه و إن كان أحدهما لا بعينه أيضا مكرها عليه، لكنّه بلا أثر شرعي، ضرورة أنّ كون أحد الشّيئين بلا أثر شرعيّ يوجب كون جامعهما كذلك، فالإكراه عليه لا يؤثّر شيئا نظير الإكراه على أمر معيّن ليس له أثر شرعي، فالمكره لو اختار الفرد الذي له أثر كالبيع في المثال، فالكليّ المكره عليه و إن كان ينطبق على هذا الفرد لكن ذلك لا يوجب ارتفاع أثره، لأنّ الأثر إنّما يكون للخصوصيّة و هي غير مكره عليها.

فرع لو أكره على بيع واحد من عبدين فباعهما جميعا بصفقة واحدة

فإن كان مراد المكره هو الواحد بشرط الانفراد، تعيّن الصحّة في الجميع، لكون المجموع مباينا للمكره عليه مباينة الشي ء بشرط شي ء مع الشي ء بشرط لا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 275

و إن كان مراده الواحد لا بشرط، فإن كان المكره بالفتح راضيا بهذا المعنى أيضا، فلا يعقل

أن يصدر منه حينئذ إلّا بيع واحد من العبدين منفردا، لوضوح عدم الداعي إلى البيع بالنسبة إلى الزائد، و المتعيّن حينئذ صحّة البيع، إذ يعتبر في حكم الإكراه أو في موضوعه كون تمام استناد العمل إليه، لا إلى طيب النفس، أو إلى المركّب منهما.

و إن كان رضا المكره بالفتح متعلّقا بعنوان الزائد، بمعنى أنّه بعد إكراهه على بيع الواحد يرضى ببيع الآخر معه من باب الإلجاء لعدم نفع أحد العبدين بحاله، فهو في بيع واحد مكره و في بيع الآخر مضطرّ، و حينئذ فلا إشكال في فساد البيع بالنسبة إلى الواحد لكونه مكرها عليه، و حيث إنّ هذا الواحد غير متعيّن فيصير البيع بالنسبة إلى الآخر من بيع غير المعيّن، فيبطل لأجل عدم التعيين، لكن يمكن أن يقال: إنّ القدر المتيقّن من الأدلّة قدح الإهمال في مرحلة أصل الجعل، و في المقام لا إهمال في مرحلة أصل الجعل، و إنّما طرأ من جهة حكم الشرع ببطلان البيع بالنسبة إلى الواحد المكره عليه.

فهذا نظير ما إذا باع ما يملك و ما لا يملك صفقة واحدة، حيث استشكل في صحّة البيع بالنسبة إلى ما يملك بأنّ بطلانه بالنسبة إلى ما لا يملك يوجب الجهل بما يقع من الثمن في مقابل ما يملك.

فأجاب عن ذلك المصنّف- قدّس سرّه- في بعض تحقيقاته، أوّلا بالمنع من عدم انضباط ما يقابل ما لا يملك عند مستحلّ بيعه، حتّى يوجب ذلك الجهل فيما يقابل الآخر، و ثانيا بأنّ هذا الجهل على فرضه طارئ، و القادح إنّما هو الجهل الابتدائي.

و نظير ذلك أيضا ما إذا باع بثمن شخصيّ مع اعتقاد كلّ من المتعاقدين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 276

كونه من مال المشتري،

فظهر كون مقدار غير معلوم منه مستحقّا للغير، و علم بعدم رضا هذا الغير بالبيع بالنسبة إلى هذا المقدار، فلا شكّ في أنّه يقع الجهل حينئذ في بقيّة الثمن، و كذا فيما بإزائها من المثمن.

و بالجملة: ففي المسألة ثلاثة وجوه: بطلان البيع في الجميع، و صحته في الجميع، و ما ذكرنا من بطلانه في واحد و صحته في آخر، فيرجع حينئذ في مقام التعيين إلى القرعة. هذا كلّه فيما إذا باع العبدين بصفقة واحدة.

و أمّا إذا باعهما على التعاقب فالمتعيّن في الفرد الأوّل هو البطلان، لانطباق المكره عليه، عليه، و في الثاني هو الصحّة، إذ حين وقوع البيع الثاني ليس للمكره طلب أصلا، و لا يعقل حينئذ تبديل المكره عليه بالفرد الثاني بالقصد، كما لا يعقل تبديل الفرد الأوّل بالثاني في مرحلة امتثال الأوامر الصادرة من المولى إلى العبيد.

و نظير ذلك أيضا ما لو طلب المولى فردين من الطبيعة، أحدهما على وجه الإيجاب و الآخر على وجه الاستحباب، فالفرد الأوّل يتّصف بالوجوب و إن قصد به الاستحباب، و ذلك لأنّ المولى في حال الإتيان بالفرد الثاني ليس له حالة المنع من الترك. و من هنا ظهر عدم الوجه لما توهّم من الرجوع في تشخيص المكره عليه إلى قصد البائع.

ثمّ إنّه حكي عن العلّامة- قدّس سرّه- في التحرير أنّه قال: لو أكره على الطلاق فطلق ناويا، فالأقرب وقوع الطلاق. انتهى.

و قد اختلفت الآراء في توجيه هذه العبارة، فحمله بعض على أنّ المكره قاصد إلى اللفظ بمعنى الصوت دون المعنى أصلا، و المصنّف- قدّس سرّه- على أنّه قاصد للمعنى في مرحلة الاستعمال دون مقام اللّب، و قد عرفت ضعفهما و أنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 277

المكره الذي هو محل البحث قاصد للإنشاء استعمالا و جدّا.

و توضيح هذا الفرع على وجه ينطبق عليه ظاهر عبارة التحرير هو أن يقال:

إنّ المكره تارة يقدم على الطلاق لمجرد ملاحظة مشقة تحمّل الضرر المتوعد به، من دون أن يبعثه ذلك- بملاحظة الدواعي الأخر- إلى الرضا و الحب به من حيث الذات، و إن كان راضيا به من حيث إنّه يدفع به ما هو أضرّ منه بحاله و أشدّ كراهة في نفسه.

و أخرى يقدم عليه بملاحظة مشقّة تحمّل الضرر المذكور أيضا، لكن يحدث في ذهنه مقارنا لتلك الحال أمور و مطالب مثل: ملاحظة أنّه لو لم يقع الطلاق الصحيح و لم تتحقّق البينونة الواقعيّة يتّفق الزنا بذات البعل في الخارج، فالكراهة الشديدة بوقوع الزنا بذات البعل بعد معلوميّة تحقّق الإكراه لا محالة تصير علّة تامّة لحصول الحبّ الحقيقي بإيقاع الطلاق و البغض الحقيقي بتركه، فيوقعه عن طيب النفس به، فالإكراه حينئذ يكون علّة العلّة، و هذا هو الظاهر من عبارة التحرير.

و وجه أقربيّة الصحّة كون الطلاق مستندا إلى طيب النفس، غاية الأمر إنّ منشأ هذا الطيب هو الإكراه، و وجه الفساد كونه منتهيا بالآخرة إلى الإكراه.

و حاصل الكلام: أنّه يمكن أن يصير فرض تحقّق الإكراه لا محالة مع بعض الأغراض الأخروية- كما في مسألة الطلاق- أو الدنيوية، مثل: ملاحظة خلوّ اليد عن المال رأسا- على تقدير عدم صحّة البيع في مورد الإكراه عليه- داعيا إلى رضا الإنسان و حبّه بالفعل المكره عليه من حيث نفسه حتّى يقع حين وقوعه بداعي الرضا به و الحب له مع كون ذات الفعل- مع قطع النظر عن هذا الفرض- في غاية الكراهة، و هذا هو المصحّح لتحقّق عنوان الإكراه، و

الرضاية الحاصلة في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 278

ظرف فرض وجود الإكراه غير منافية له، فإنّ المنافاة إنّما تتحقّق بينهما فيما إذا اتّحدا في الرتبة، لا فيما إذا كان الرضا متأخّرا رتبة عن الإكراه كما هو المفروض.

و من التوجيهات لتلك العبارة حملها على ما إذا كان الداعي إلى الطلاق في نفس الزوج موجودا مع قطع النظر عن الإكراه، فإذا انضمّ الإكراه كان المجموع من قبيل الداعيين المستقلّين اللذين كلّ منهما لولا الآخر مؤثّر تامّ.

و فيه مع بعد هذا المعنى عن العبارة- كما لا يخفى- أنّ الإكراه ليس عبارة عن مجرّد الأمر بالفعل و لو كان الفاعل في غاية طيب النفس به، بل يعتبر في تحقّقه كراهة الفاعل للفعل المكره عليه في حدّ نفسه أيضا، فاجتماع الإكراه مع طيب النفس في مرتبة واحدة من قبيل اجتماع المتنافيين.

و منها حملها على ما إذا كان الداعي إلى الطلاق في حدّ نفسه موجودا أيضا، لكن كان ضعيفا و لم يكن بمثابة صار بوحدته مؤثّرا، و كذلك مشقّة تحمّل الضرر المتوعّد به لم تكن بمثابة كانت بانفرادها داعية إلى الطلاق، و لكن إذا انضم أحد هذين بالآخر صار المجموع من حيث الاجتماع داعيا، و وجه أقربيّة الصحّة حينئذ أنّ المتيقن من دليل الإكراه ما إذا كان تمام الاستناد إليه، فغيره مشمول للعمومات، و وجه الفساد كون الطلاق منسوبا إلى الإكراه أيضا.

و فيه على تقدير تسليم تحقّق الإكراه في هذا الفرض، أنّ هذا المعنى أيضا بعيد من العبارة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ عقد المكره لو لحقه الرضا هل يصحّ حينئذ أو لا؟ قيل: نعم، نظرا إلى أنّه عقد تامّ جامع للشروط سوى رضا المالك، فإذا انضم إليه كان تاما مؤثّرا.

و

قيل بالعدم، نظرا إلى اشتراط طيب النفس مقارنا للعقد.

ثمّ الدليل على اشتراط الرضا في العقود، أمّا اللّبي منه- أعني: الإجماع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 279

و السيرة- فواضح حاله، إذ لا يفيد أزيد من اعتبار الرضا الأعم من السابق و المقارن و اللاحق.

و أمّا اللفظي، فمنه آية التجارة عن تراض، فقد يقال بملاحظة كلمة عن النشويّة باعتبار المقارنيّة و تسبب العقد عنه.

و اعترض عليه المصنّف بأنّه: إمّا من جهة مفهوم الوصف، أو الحصر، أمّا الأوّل: فغير مفيد، لوروده مورد الغالب، نظير ربائبكم اللاتي في حجوركم. و أمّا الثاني فيمنع إفادة هذا الاستثناء للحصر، لكونه منقطعا غير مفرّغ، لوضوح أنّ التجارة عن تراض ليس من أفراد الأكل الباطل، و وجه عدم إفادة المستثنى المنقطع الحصر أنّ أداة الاستثناء فيه بمنزلة لكن، و الكلام معه بمنزلة جملتين مستقلتين خاليتين عن الحصر، فقولك: جاءني القوم إلّا حمارا، بمنزلة قولك:

جاءني القوم لكن ما جاءني الحمار.

أقول: و يظهر من تقييده- قدّس سرّه- المنقطع بغير المفرّغ، تصوير المفرغيّة في المنقطع، و أنت خبير بعدمه، إذ كلّما لم يكن المستثنى منه مذكورا في الكلام، يقدر ما يدخل تحته المستثنى، فيقدّر في قولنا: ما جاءني إلّا حمارا، شي ء و هكذا.

و بالجملة فملاك عدم إفادة الحصر- لو سلّم- هو الانقطاع و ليس لغيره مدخل في ذلك، مع إمكان منع عدم إفادة الحصر في الآية، فإنّ المستفاد عرفا من لفظ الباطل فيها هو التعليل لا التقييد، فكأنّه قيل: لا تأكلوا أموالكم فإنّه باطل، نظير قولك: تجنّب عن طول الكلام المورّث للصداع إلّا ما كان نافعا بحالك، و حينئذ فيصير المستثنى متّصلا، فيفيد الحصر، هذا.

و مجمل الكلام في دلالة الآية: إنّ الإنصاف أنّ الوصف فيها

ليس واردا مورد الغالب، بل إنّما يفهم منه: أنّه للاحتراز، و حينئذ فنقول: إمّا أن يكون المراد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 280

بالتراضي: الرضا بالعقد الذي هو السبب، أو بمضمونه الذي هو المسبب، كالنقل و الانتقال الخارجي في البيع.

فإن كان الأوّل، فالمستفاد من الآية اعتبار مقرونية البيع بالرضا بنفسه و كونه مسببا عنه، و إن لم يكن الرضا بمضمونه موجودا، و حينئذ فلا دلالة في الآية على فساد عقد المكره، لوضوح كونه ناشئا عن الرضا بنفسه كما عرفت، و بالجملة فكلّ فعل كان اختياريّا لفاعله، فلا محالة يكون مسببا عن الرضا به، غاية الأمر إنّ الرضا به تارة ينبعث عن الرضا بأثره، و أخرى عن أمر آخر- كما في المقام- فإنّ الرضا بالبيع جاء من جهة خوف الضرر المتوعد به.

و إن كان الثاني، فلها دلالة على ذلك، إذ على هذا ينحصر مصداق الوصف في البيوع الاختيارية و الاضطرارية دون الإكراهية، بمعنى أنّ من يقدم بالبيع اختيارا، فالسبب الذي دعاه إليه لا محالة يكون هو الرضا بوقوع أثره في الخارج- أعني: ملكيّة الثمن أو المثمن- كمن يشرب الخمر اختيارا، فإنّ شربه مسبّب عن الرضا بالسكر الذي هو أثر الشرب.

و هكذا المضطر، فإنّ بيعه أيضا مسبّب عن الرضا بملكيّة الثمن أو المثمن، و اللجاء إليها، و هذا بخلاف المكره، فإنّ عقده مسبب عن خود الضرر لا عن الرضا بالانتقال الخارجي. نعم هو عالم حين العقد بحصول الانتقال بسببه لو جهل بحكم الشرع بالبطلان، كما أنّ من يشرب الخمر عن إكراه، فليس شربه مسببا عن الرضا بالسكر، نعم هو عالم حين الشرب بحصول السكر بعده.

و منه أدلّة الإكراه فقد يتمسّك بها لعدم فائدة لحقوق الرضا بعقد المكره،

بتقريب: أنّ المراد «بما استكرهوا عليه» الذي رفع أثره، هو الفعل الصادر عن داعي الإكراه، فيكون مخصّصا لعموم وجوب الوفاء بكل عقد، و بذلك يسقط العموم عن الاستدلال.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 281

بيان ذلك: أنّ خروج العقد الغير المرضي به عن حكم وجوب الوفاء يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يكون بنحو التقييد لإطلاق ما دلّ على وجوبه بصورة حصول الرضا، فحينئذ لو شكّ في أنّ المعتبر هو الرضا المقارن، أو يكفي مطلق الرضا، فيمكن أن يتمسّك لإدخال مورد الشك- أعني: صورة حصول الرضا-؟؟؟ حقا- تحت الحكم بإطلاق الدليل.

و الثاني: أن يكون بنحو التخصيص لعمومه، و ما نحن فيه من قبيل الثاني، و لا يمكن أن يكون من قسم التقييد، إذ الخارج هنا هو العقد الصادر عن داعي الإكراه، فيكون الباقي تحت العام هو الصادر لا عن إكراه، و لا يخفى أنّ الواقع عن الإكراه لا يمكن تغييره عمّا وقع، فلا يصير في زمان واقعا لا عن إكراه حتّى يقال: بأنّ إطلاق الدليل مقيّد بحالة كون العقد صادرا عن إكراه، فالحالة المشكوكة- أعني: كونه صادرا لا عن إكراه- داخلة تحت الإطلاق، إذ هو بالنسبة إليها سليم عن المقيّد.

و بالجملة: فلا محيص هنا عن التخصيص الفردي، بأن يكون الخارج فردا من العقد و هو ما كان منه صادرا عن إكراه، ثمّ هذا الفرد الغير اللازم الوفاء من أوّل الأمر و إن كان يمكن أن يصير لازم الوفاء بعد لحوق الرضا- لعدم نهوض ما دلّ على خروجه عن لزوم الوفاء بإثبات الخروج في جميع الأزمان- لكن لا دليل على لزوم الوفاء به في هذا الحين أيضا.

نعم لو كان لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عموم أزماني بحيث كان كلّ قطعة

زمان بمنزلة فرد دلّ على ذلك- كما هو واضح- لكن قطع المصنّف- قدّس سرّه- في بعض تحقيقاته بعدم دلالته على العموم المذكور، و حينئذ فلا يمكن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 282

التمسّك بهذه الآية لإثبات لزوم الوفاء بعقد المكره بعد لحوق الرضا.

ثمّ إنّ المصنّف- قدّس سرّه- أيّد الصحّة بعد الرضا بفحوى صحّة عقد الفضولي بعد إجارة المالك، فإنّ هذا فاقد للرضا، و ذاك فاقد له مع كون العقد صادرا عن غير المالك.

أقول: إن جعلنا الحكم في الفضولي على طبق القاعدة، بأن قلنا بعدم اعتبار مقارنة الرضا، فالحال كما ذكر، لكن لو أثبتنا حكمه بالدليل الخاص على خلاف القاعدة، فلا وجه للأولويّة حينئذ، بل الحكم هنا أيضا دائر مدار وجود الدليل و عدمه.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- أجاب عن الاستدلال بأدلّة الإكراه لعدم الصحّة بوجهين:

الأوّل: إنّ الحديث لكونه مسوقا في مقام الامتنان لا ينهض إلّا برفع الآثار التي تكون من قبيل المؤاخذة و الإلزام بشي ء، فأثر البيع- أعني: إلزام كل من الطرفين على دفع الآخر ماله إليه- فعلا قد ارتفع عن بيع المكره، و أمّا الأثر التأهّلي، أعني: قابليته لأن يصير صحيحا بلحوق الرضا، فهذا ليس حقا على المكره- بالفتح- بل حقّ له، فالامتنان في وضعه لا في رفعه، فلا ينهض بنفيه الحديث. نعم بعد ثبوت هذا الحق يحدث بتبعه حكم إلزامي، و هو إلزام المكره بأحد الأمرين من الإمضاء و الفسخ لو طالت المدة، لكن هذا من تبعات الحقّ المذكور.

الثاني: إنّ هذا الحكم التأهلي حكم ثبت للعقد من قبل الإكراه، يعني أنّ موضوعه هو العقد المكره عليه بوصف أنّه مكره عليه، و مثل هذا لا يشمله الحديث، فإنّه يرفع الآثار الثابتة لذات الفعل لولا الإكراه،

لا لما يحدث من قبل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 283

نفس الإكراه، بل لعلّ شموله لمثل ذلك كان من الممتنعات، إذ لا يعقل أن يكون الشي ء رافعا لما اقتضاه نفسه.

أقول: تمام ذلك صحيح تام، لكن لو كان في البين دليل على ثبوت هذا الحكم التأهّلي لعقد المكره بعد رفع الحكم الفعلي عنه بأدلّة الإكراه، فلقائل أن يقول: ما الدليل على أصل هذا الحكم حتّى يفيد الوجهان كونه باقيا و غير مرفوع بالأدلّة المذكورة.

و وجه عدم المثبت لهذا الحكم أنّ أدلّة الإكراه لكونها شارحة للمراد من أدلة الأحكام التي منها أدلّة الوفاء بالعقود، فلا محالة تكون حاكمة عليها و إن كانت النسبة بينهما هو العموم من وجه، و لا إشكال أنّ المكره عليه و مصداق ما الموصولة في قوله: و ما استكرهوا عليه، في المقام هو نفس العقد لا حالة من حالاته، فتخصيص الفرد لا يمكن الفرار عنه، فكأنّه قيل: العقود التي يجب الوفاء بها، بمقتضى قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المراد بها ما سوى هذا الفرد.

نعم لو دار الأمر بين التقييد و التخصيص، كما إذا علم بخروج قطعة من الزمان من ابتداء العقد عن وجوب الوفاء و شكّ في أنّه من باب تخصيص العموم بهذا الفرد أو من باب تقييد الإطلاق بهذه القطعة، يحكم بالثاني بمقتضى أصالة عدم التخصيص، فيجعل مبدأ وجوب الوفاء من ما بعد هذه القطعة، بمقتضى أصالة الإطلاق الثابت للدّليل بالنسبة إلى قطعات الزمان.

لكن فيما نحن [فيه] حيث لا محيص عن تخصيص الفرد- لما عرفت- فالتمسّك بالعموم لإثبات الحكم فيما بعد الرضا يكون من باب التمسّك بالعام لدخول فرد في زمان بعد خروجه عن الحكم في الزمان السابق، و جوازه في المقام

مبنيّ على ثبوت العموم الزماني للآية، و الحقّ عدمه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 284

و الحاصل: أنّ العمومات ساكتة عن إثبات الحكم بالنسبة إلى ما بعد الرضا، كما أنّ أدلّة الإكراه ساكتة عن رفعه بالنسبة إليه، فيتعين الرجوع إلى القواعد، و مقتضاها البطلان.

هذا مع إمكان أن يقال: إنّ أدلّة الإكراه تدلّ على رفع الحكم بالنسبة إلى ما بعد الرضا أيضا.

و بيان ذلك: أنّ قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ دالّ على وجوب الوفاء بكلّ عقد بلا شرط، و قوله تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مشتمل على قيدين: الأوّل: أصل الرضا، و الثاني: مقارنته، و سببيّته للعقد، و ظهوره في التقييد بالنسبة إلى الأوّل- أعني: أصل الرضا- لعلّه لا يمكن إنكاره، و أمّا بالنسبة إلى الثاني، فيمكن أن يقال بوروده مورد الغالب، بملاحظة غلبة البيوع الناشئة عن الرضا و ندرة الإكراهية، فإطلاق الآية الأولى لا بدّ و أن يقيّد بالأوّل، فيصير الموضوع لوجوب الوفاء هو العقد و الرضا معا و إن كان الرضا متأخرا، لا العقد وحده.

و أمّا بالنسبة إلى القيد الثاني فظهورها في الإطلاق محكم و إن قلنا بأنّ الآية الثانية مجملة بالنسبة إليه، لما تقرّر في محلّه من أنّ القرينة المجملة إذا كانت منفصلة فلا توجب إجمال الكلام. و بالجملة فيصير المحصّل من مجموع الآيتين أنّ العقد المرضي به من الابتداء يؤثّر فعلا، و العقد الغير المرضي ابتداء ليس له أثر فعلي لفقد شرط الرضا، و لكن له أثر تعليقي، بمعنى أنّه لو لحقه الرضا يؤثّر من ذاك الحين، فحال الرضا هنا حال القبض في المجلس في الصّرف و السّلم- و من هنا تكون صحّة العقد الفضولي بعد الإجازة على طبق القاعدة كما يأتي في بابه إن شاء

اللّٰه تعالى- و حينئذ نقول إنّ قضيّة أدلّة الإكراه رفع كلّ أثر كان ثابتا لولا الإكراه، مع كونه مناسبا للمنّة، و في عقد المكره الأثر الثابت- لولا الإكراه- هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 285

الأثر التعليقي، لأنّ الأثر الفعلي مرتفع عنه لولا الإكراه أيضا، لأجل فقدان شرط الرضا.

لا يقال: إنّ سبب عدم الرضا في هذا العقد هو الإكراه فلولاه كان الرضا موجودا، فما معنى ارتفاع الأثر الفعلي لولا الإكراه؟

لأنّا نقول: إنّ الإكراه و الرضا ضدّان، و عدم أحد الضدين لا يكون مسبّبا عن وجود الآخر، بل هما متلازمان، و ارتفاع الأثر الفعلي مسبّب عن عدم الشرط الذي هو الرضا، لا عن وجود المانع الذي هو الإكراه، فصحّ أنّ الأثر الفعلي كان مرتفعا لولا الإكراه، فيبقى الأثر التعليقي، فيرتفع بأدلّة الإكراه.

و وجه مناسبته للمنّة أنّ جعل العقد المكره عليه خاليا عن كلّ أثر، أكثر داعوية بعد العلم به إلى عدم إيقاع الإكراه في الخارج من إبقاء الأثر التعليقي له، إذ حينئذ لا يصير سببا لعدم وقوعه في الخارج بالكليّة، إذ ربّ أحد يقدم عليه مع ذلك بقصد إرضائه للمالك المكره فيما بعد.

و لا فرق فيما ذكرنا- من رفع الأثر التعليقي بأدلّة الإكراه- بين القول بكون الرضا المتأخر ناقلا- بأن يكون جزء المؤثّر- و بين القول بكونه كاشفا، إمّا بأن يكون الشرط هو وصف تعقّب الرضا، و لا يكون لنفس الرضا دخل أصلا، أو بأن يكون نفس الرضا دخيلا في الأثر المتحقّق من حين العقد على نحو الشرط المتأخر، فإنّ دليل الإكراه يرفع الأثر الثابت لنفس العقد بملاحظة كونه جزء الموضوع، أو نفس المشروط و هو الأثر التأهّلي، فيبقى الجزء الآخر- و هو نفس الرضا أو

وصف تعقّبه- و كذا الشرط المتأخر بلا أثر.

و يمكن أن يقال: بعدم حكومة حديث الرفع على الإطلاقات بالنسبة إلى عقد المكره، بناء على استفادة اشتراط سببيّة الرضا للعقد من آية التجارة عن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 286

تراض، فإنّ العقد الواقع عن إكراه و إن كان له أثر تأهلي، بمعنى أنّه لو كان صادرا عن الرضا كان مؤثّرا، لكن هذا الأثر غير قابل للرّفع، لأنّ المعلّق عليه- أعني: الصدور عن الرضا- غير ممكن الوقوع بعد فرض صدور العقد عن إكراه، و هذا بخلاف ما إذا كان الشرط صرف الرضا، فإنّ فائدة رفع الأثر التأهلي عن عقد المكره حينئذ عدم ترتّب الأثر عند حصول المعلق عليه، و بالجملة رفع الأثر التعليقي بعد عدم إمكان حصول المعلّق عليه لغو.

فقد تحصل ممّا ذكرنا أنّ بطلان عقد المكره بعد حصول الرضا، مستفاد من أدلّة الإكراه بناء على اشتراط مجرّد الرضا، و مستفاد من نفس الإطلاقات بناء على اشتراط سببيّته.

بقي الكلام- على القول بالصحّة بعد الرضا- في أنّ الرضا المتأخّر ناقل أو كاشف؟ و تحقيقه يأتي في باب الفضولي إن شاء اللّٰه تعالى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 287

[الشرط الرابع من شروط المتعاقدين ملك التصرف]

القول في عقد الفضولي

اشارة

و المراد بالفضولي هو من ليس مالكا للعقد [و لا] مختارا في الأمر، فإن كان مالكا و ليس مختارا كالراهن و السفيه و الباكرة الرشيدة فهو فضولي، و إن لم يكن مالكا و لكنّه مختار للأمر كالوليّ و الوكيل و المأذون فليس بفضولي، هذا.

[الكلام في بعض الموارد]
[المورد الأول العقد المقرون بالرضا فضولي أم لا؟ و بيان الأدلة عليه]

و لكن يقع الكلام في بعض الموارد، و هو من عقد و الحال أنّ المالك راض و العاقد عالم به أو غير عالم، و الحاصل: أنّه لا إشكال في عدم الاندراج تحت هذا العنوان مع صدور إنشاء الرضا المسمّى بالإذن من المالك، و كذلك مع الفحوى، و أمّا مع حصول الرضا باطنا بدون إنشاء و إظهار له خارجا هل يخرج العاقد عن كونه فضوليّا أو لا؟

استدلّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- على عدم الاندراج بعموم وجوب الوفاء بالعقود «1» و بقوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «2» و بقاعدة «لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه» «3» تقريب الاستدلال في الأوّل أنّه وقع جميع أفراد العقود موردا لوجوب الوفاء و تطبيق العمل على وفقه من جميع

______________________________

(1) المائدة: 1.

(2) النساء: 29.

(3) الوسائل: ج 3، من الباب 3، من أبواب مكان المصلّي، ص 424، ح 1 و 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 288

المكلّفين، و معنى تطبيق العمل، المعاملة مع المثمن معاملة ملكيّة المشتري، غاية الأمر أنّه خرج [منه] صورة عدم رضي من هو مختار [في] الأمر فبقي الباقي تحت العموم، و لو فرض أنّ المفهوم من الآية بحسب الانصراف أنّه: أوفوا بعقودكم، كما في آية وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» فنقول: لا إشكال في دخول نفس المتعاقدين على مال الغير في هذا العموم، فإذا وجب عليهما الوفاء فمعناه الحكم

بملكيّة المال للمشتري، غاية الأمر خروج صورة عدم رضي [من هو] مختار في الأمر فيبقى الباقي، [تحت العموم] اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ المفهوم منها انصرافا أزيد من هذا و هو أنّه: أوفوا بعقودكم أيّها الملّاك للعقد، فيخرج ما نحن فيه عن العموم، أمّا بالنسبة إلى المتعاقدين فلعدم كونهما مالكين، و أمّا بالنسبة إلى المالك فلعدم كون العقد مضافا إليه.

و لكن يشكل على هذا دخول الفضولي بعد إجازة المالك في العموم أيضا لعين تلك الجهة، إذ كما أنّ عقد شخص لا ينسب و لا يضاف إلى غيره بمجرّد رضا ذلك الغير به باطنا، فكذلك لا ينسب إليه مع إمضائه له لاحقا أيضا، نعم لو كان هو المحرّك و السبب لصدور العقد تصحّ النسبة، فليس مادة العقد من المواد المأخوذ فيها المباشرة حتّى لا يصحّ نسبتها مع التسبّب مثل الأكل، بل من قبيل الإتلاف الذي يصحّ نسبته إلى المباشر و السبب معا، و أمّا مع عدم المباشرة و التسبّب فمجرّد الإمضاء اللاحق لا يصيّر العقد عقدا للإنسان.

و تحقيق المقام أنّا لو عملنا بظاهر الآية الشريفة كان اللازم وجوب وفاء كل واحد بكلّ عقد صدر من كلّ أحد، في مال كلّ أحد، و هذا أمر تستغربه الأذهان

______________________________

(1) الحجّ: 29.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 289

و يستوحش منه كلّ أحد، فلا بدّ أن يقال: إنّ المضيّق لهذه الدائرة الوسيعة، هو الارتكاز الموجود في كلّ أحد، من احتياج عقد غير المالك، إلى شي ء من طرف المالك، فيكون القيد لبّيا، لكنّ القيود اللبّية على قسمين، فقسم منها يكون نظير القيود اللفظية المتّصلة بالكلام و هذه تمنع من انعقاد الظهور من الأوّل في غير الخاص، كما هو الحال في اللفظيّة

المتّصلة، و قسم منها يكون نظير القيود اللفظيّة المنفصلة، فلا يمنع من انعقاد الظهور على الخلاف.

و بعبارة أخرى: القيود الارتكازية العقلية التي يصرف بها الكلام عن ظاهره قد يكون حافّة بالكلام بحيث يصحّ ركون المتكلّم إليها لأجل أنّ الكلام لا ينعقد ظهور له في العموم أو الإطلاق أصلا، لاحتياجه إلى مقتضيات أكيدة و تصريحات بليغة حتى يخرج عن الأذهان ما غرس فيها و جبلّت هي عليه- و من هذا القبيل مقدّمات الحكمة- و لهذا يقال: إنّ الكلام ظاهر في الإطلاق بسببها.

و قد لا يكون حافّة بل يقع في الكلام من الأوّل بصورته على ما هي عليه بحسب وضعه اللغوي في الذهن و بواسطة كون خلافه ارتكازيّا تحدث الوحشة ابتداء، ثمّ بعد التأمّل ففي أوامر الموالي الظاهرية إمّا يحمل على السهو و الاشتباه، و إمّا يأوّل الكلام عن ظاهره بقرينة الارتكاز، و في أوامر المولى الحقيقي فيتعيّن الثاني.

مثال ذلك كما لو قال: أكرم جيراني، و قطع من الخارج أنّه لا يجب إكرام عدوّه و أنّ في جيرانه من هو عدوّ له، فحينئذ يحمل كلامه- إن كان مولى ظاهريا- على أنّه غفل أو لم يعلم بوجود العدوّ في الجيران، و في المولى الحقيقي يتصرّف في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 290

الإطلاق و يقال: إنّ المراد ليس إلّا ما سوى العدوّ.

و بالجملة: القسمان مشتركان في المنع من العمل بالعموم و الإطلاق في ما عدا موردهما، لكنّ الفرق أنّ الأوّل يمنع من انعقاد الظهور، و الثاني يمنع من العمل به بعد انعقاده و استقراره، و تظهر الثمرة فيما إذا تردّد أمر هذا الارتكاز بين الأقلّ و الأكثر، ففي الأوّل يسري الإجمال إلى العامّ و المطلق، فلا بدّ من

الاقتصار في حكمهما على المتيقّن و هو فيما اجتمع فيه القيود المحتمل دخلها في حكم العام و المطلق، و في الفاقد [عن] بعضها لا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي، و في الثاني لا يسري الإجمال إليهما، فلا بدّ من الاقتصار في حكم المخصّص و المقيّد على المتيقّن و هو المجتمع فيه القيود المحتمل دخلها في حكم المخصّص و المقيّد و في غيره لا بدّ من الرجوع إلى العام و المطلق.

و حينئذ نقول: القيد الارتكازي في المقام يدور أمره بين أن يكون هو اضافة العقد إلى المالك: يعني يجب الوفاء بعقود المالك دون غيره، و بين أن يكون هو تعلّق رضاه به مع تحقّق الإنشاء المظهر له، و بين أن يكون مطلق للرضا و لو باطنيا، لكن مع كون العقد متسبّبا عن الرضا، و بين أن يكون مطلق الرضا و لو باطنيا و إن كان من المقارنات الاتّفاقيّة أو لاحقا للعقد.

و حينئذ فيختلف الحال بين كون القيد حافّا بالكلام و بين كونه غير حافّ به، و الحق هو الأوّل، فالمعنى الملقى في الأذهان من الآية الشريفة ليس هو ذلك المعنى الذي ذكرنا بذلك الإطلاق و السعة، بل لا يدخل في الذهن من الأوّل إلّا المعنى المقيّد، و قد عرفت أنّه مع الإجمال و التردّد بين الأقلّ و الأكثر لا بدّ من الاقتصار على ما اشتمل على جميع القيود و في ما عداه إلى حكم المخصّص أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 291

الأصل، فيكون الباقي تحت عموم الآية هو العقد الصادر عن المالك أو مأذونه أو وكيله.

و من هنا يعرف الكلام في الآية الثانية أعني قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ

تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ «1» فإنّ قيد كونه منكم، إمّا متعلّق بالمقيّد أعني: التجارة عن تراض، و إمّا مجمل، و يحتمل كونه كذلك، فدعوى الجزم بتعلّقه بالتراضي دون التجارة خالية عن الشاهد، و أمّا قوله: لا يحلّ إلخ فالظاهر أنّه حكم حيثيتي، يعني أنّ الحلّية محتاجة إلى طيب [نفس] المالك و بدونه لا يحصل، و أمّا أنّه مع حصوله لا يحتاج إلى شي ء آخر مثل إجراء الصيغة و الإنشاء من المالك فلا يفهم منه، و ذلك يعلم بالعرض على العرف، هذا.

و يمكن التمسّك للصحّة بدون الحاجة إلى الإجازة بخبر الحميري فإنّ فيه:

«الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضي منه» «2» و مثله صحيحة محمّد بن مسلم، فإنّ فيها: «لا تشترها إلّا برضى أهلها» «3» و أنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات ظاهرة في الإرشاد و الوضع، فمعناه توقّف صحّة الاشتراء على أحد الأمور الثلاثة و الظاهر منهما أنّ المعتبر من قبل المالك ليس أزيد من ذلك.

و بعبارة أخرى: و إن لم يكن في مقام البيان من جميع الجهات لكن من جهة الشرائط المعتبرة من قبل المالك الظاهر كونهما بمقام البيان، فلو كان شي ء آخر من إنشاء و غيره معتبرا في هذا المقام أيضا لكان اللازم بيانه، لكن لا يقال: إنّ الظاهر

______________________________

(1) النساء: 29.

(2) الوسائل: ج 12، الباب 1، من أبواب عقد البيع و شروطه، ص 250، ح 8.

(3) المصدر نفسه: ص 249، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 292

من «الباء» هو السببيّة و الاستناد فإذا حصل الرضى و لكن لم يستند الاشتراء إليه لم يكف، لأنّا نقول: في خصوص الأمر نقطع بخلاف ذلك بمعنى أنّه لو أمر المالك و نسيه المشتري

و اشترى بغير داعي أمره أو لم يصل إليه أمره فإنّه لا شبهة في الصحّة حينئذ، فيعلم أنّ «الباء» أريد منها المصاحبة.

[المورد الثاني في بيان صور بيع الفضولي]
اشارة

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- قسم الفضولي إلى ثلاثة أقسام، لأنّه إمّا أن يبيع للمالك أو لنفسه، و على الأوّل قد يسبقه المنع من المالك و قد لا يسبقه، فهنا ثلاث مسائل،

[المسألة الأولى: بيع الفضولي للمالك غير المسبوق بالنهي]
اشارة

المسألة الأولى: أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع من المالك و هو المتيقّن من الفضولي، و هل هو باطل أو يصحّ بلحوق الإجازة؟ المشهور هو الثاني، و استدلّ عليه شيخنا المرتضى بالعمومات و الإطلاقات، و هذا الاستدلال مبنيّ على ثلاث مقدّمات.

الأولى: وجود الإطلاق و العموم و عدم التقييد فيها بأن كان مفادها نفوذ عقد كلّ أحد في مال كلّ أحد.

و الثانية: الرضا المأخوذ قيدا في الأدلّة إمّا يؤخذ قيدا في الحكم فلا نفوذ بدونه، و إمّا في الموضوع فالعقد المرضي به نافذ، و يؤيّد الأوّل قوله: «لا يحلّ إلخ» و الثاني قوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ فعلى تقدير جعله قيدا للموضوع لا بدّ من كون الموضوع أمرا قارّا ذا بقاء حتّى يتعلّق و يرتبط به الرضى اللاحق، و إلّا فلا معنى لتعلّقه بالأمر المعدوم.

و الثالثة: أن يكون الدليل المقيّد إمّا مطلقا أعني مفيدا لكفاية مطلق الرضا أعمّ من السابق و اللاحق، أو مجملا حتى يرفع إجماله بالعمومات، و هاتان المقدمتان الأخيرتان لا صعوبة في إثباتهما.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 293

لكنّ الكلام كلّه في الأولى و هو ما ذكرنا من أنّا لو خلّينا و أنفسنا و فرضنا ورود آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» بدون الأدلّة المقيّدة لما فهمنا بحسب ارتكازياتنا إلّا المعنى المقيد الرافع للوحشة، و لم ينقدح في ذهننا من الأوّل أصلا ذلك المعنى الوسيع أعني: نفوذ عقد كلّ أحد على مال كلّ أحد بل نعلم أنّه تحت

ميزان و ضابط رافع للهرج و المرج و لمّا يدور أمر هذا الميزان و الضابط بين أمور، فلا محالة يجب الاقتصار في حكم وجوب الوفاء على القدر المتيقّن، و لا فرق في أخذ القدر المتيقّن بين المالك و غيره، فقد يكون العقد من المالك و لكن لا نعلم دخوله تحت القيد الارتكازي كما في صورة حجره كالراهن و العبد و الباكرة الرشيدة، و قد لا يكون مالكا و نعلم بدخوله تحت القيد مثل عقد الوكيل و الولي و المأذون.

فالإنصاف عدم إمكان التمسّك بهذه الأدلّة، نعم يمكن التمسّك بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ بتقريب أنّ البيع اسم للمسبّب أعني نفس المبادلة الواقعيّة الغير المتحقّقة إلّا بانتقال كلّ من المالين إلى مالك الآخر واقعا، و إطلاقه على السبب يكون على سبيل التوسّع.

و حينئذ نقول: لا شكّ أنّ الألفاظ محمولة على المصاديق العرفيّة لمفاهيمها، فينصرف لفظ البيع إلى الأفراد العرفية للمبادلة الواقعيّة و عند العرف، كما تتحقّق المبادلة بصدور العقد من وليّ الأمر أو بإذنه، و كذلك يرونه متحقّقا إذا صدر من شخص آخر ثمّ أمضاه الولي و أجازه، كما لا تحقّق لها [عند العرف] أصلا عند صدوره من غير الولي [أو المالك] مع عدم لحوق الإجازة [من قبلهما] إلى الأبد.

فالحاصل: ليس البيع كالعقد اسما للسبب حتّى يتحقّق مصداقه عرفا في

______________________________

(1) المائدة: 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 294

مورد عدم لحوق الإجازة حتّى نحتاج إلى تقييده بالقيد الارتكازي حتّى يقال: إنّه مجمل فيصير مجملا بإجماله، بل هو اسم للمسبّب و هو واقعا ليس بموجود بنظر العرف إلّا في الموارد الخاصّة. بل نقول: لو أغمضنا عن التسبّب بما ذكرنا، الذي حاصله الرجوع إلى موارد ترتّب الأثر بنظر العرف

و أريد [به] إثبات صحّة الفضولي بمجرّد الأدلّة الشرعية لمّا أمكن ذلك و لو مع الالتزام بقيد كون العقد منتسبا إلى المالك، بدعوى الانصراف الذي تقدّم، بمعنى أنّه لا يمكن في مورد [أن] نشكّ في ترتّب الأثر عرفا التسبّب بأنّ عقد الفضولي يصير عقدا للمالك بسبب الإجازة فيندرج تحت: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. توضيح ذلك: أنّ الفعل الصادر من الغير لا يصحّ انتسابه إلى الإنسان إلّا مع توقّف ترتّب أثره المترقّب منه على رضاه به، فلو فرض أنّ الأثر مترتب عليه سواء رضي الإنسان به أم لا، لا يصح أن يقال:

إنّه فعل له بل لفاعله، فإذا فرضنا أنّ العقد الصادر من الغير نشكّ في ترتّب الأثر عليه عرفا برضى مالكه، فنشكّ لا محالة في صحية تطبيق عنوان عقد المالك عليه، و أمّا لو فرضنا إحراز ترتّب الأثر عرفا عليه بمعنى أنّهم بسبب رضي المالك يحكمون بالبيع، فحينئذ و إن صحّ انتسابه إلى المالك إلّا أنّ هذا الانتساب حينئذ يكون في عرض أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، إذ لا قصور حينئذ في نفس البيع أن يكون موضوعا لل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

فالحاصل: أنّه مع قطع النظر عن البيع بنظر العرف لا انتساب، و مع النظر إليه لا حاجة إليه، فتحقّق أنّا لسنا في غنى عن التمسّك ب «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» بمعونة تطبيقه على البيوع العرفيّة.

فإن قلت: قد تقرّر في الأصول أنّ الطبيعة إذا وقعت موضوعا لحكم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 295

فالظاهر أن تكون بنفسها موضوعة لا باعتبار معرفيّتها و مرآتيّتها لأفرادها الخارجيّة، و إذن فجعل البيع في قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» إشارة إلى المصاديق الخارجية حتى لا يكون محيص عن التطبيق على المصاديق العرفيّة خلاف الظاهر، بل اللازم حمله

على نفس طبيعة البيع، و من المعلوم أنّه لا اختلاف فيها بين العرف و الشرع.

قلت: بعد ما قامت القرينة و هو الورود مورد الامتنان على عدم إرادة فرد ما من طبيعة البيع حيث لا امتنان في حليّته، فهو نظير وقوع الطبيعة موضوعة في القضايا الإخبارية، مع عدم كون محمولها الحكم، مثل إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ «2» حيث لا يمكن حملها على فرد ما، فلا يمكن الإخبار عن كون فرد ما من الإنسان في الخسر، و هذا بخلاف ما لو وقعت موضوعة للحكم مثل الوجوب فيصحّ تعلّقها بفرد ما، و يكون اختيار التعيين بيد المكلّف كما في وجوب طبيعة الصلاة، حيث إنّه يحمل على وجوب فرد ما من الأفراد الواقعة، بين أوّل الوقت و آخره.

و بالجملة بعد ما صار احتمال الحمل على فرد ما في خصوص المقام مقطوع الخلاف يتعيّن الحمل على جميع الأفراد بنحو الاستيعاب و الاستغراق.

و حينئذ إمّا نقول بأنّ المتبادر منه كون مفهوم «3» البيع المستعمل فيه اللفظة إشارة و معرّفا و مرآتا للأفراد الخارجيّة، و إمّا أن نقول بأنّه و إن لم يتعرّض المتكلّم إلّا

______________________________

(1) البقرة: 275.

(2) العصر: 2.

(3) إشارة إلى أنّه ليس من باب دخل قيد الفرد في مقام الاستعمال حتّى يكون خلاف وضع اللفظ، بل اللفظ مستعمل في ذات المعنى، لكن ذات المعنى له كيفيّتان من اللحاظ الاستقلاليّة و المرآتية كما في لفظة من و لفظ الابتداء و كما في العام المجموعي و الاستغراقي. منه دام ظلّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 296

لحمل الحكم على صرف الطبيعة، و التطبيق إنّما هو من وظيفة العقل، لكن لا بدّ و أن نقول في الحكم المعلّق على صرف الطبائع مع اختلاف موارد

تطبيقاتها بنظر الشرع و العرف من اكتفاء الشارع بما هو فرد بنظر الشارع و يقنع به امتثالا لما جعله تحت الحكم، لأنّ ما هو العلّة لحمل ألفاظه على المصاديق العرفيّة- عند تعرضه [في] كلامه للمصاديق أو على المفاهيم العرفيّة عند تخالف النظرين في المفهوم- بعينه موجود في ما لم يتعرّض للمصاديق و لم يكن اختلاف في المفهوم مع وجوده في المصاديق إذ هو نقض الغرض و من المعلوم مساواته في المقامين.

[في بيان أدلة المثبتين و النافين لصحة عقد الفضولي و بطلانه]
[المقام الأول في ذكر الأدلة على صحة عقد الفضولي و مؤيداتها]
اشارة

بقي الكلام في الأدلّة الخاصّة التي تمسّك بها لصحّة الفضولي بعد إجازة المالك،

[منها حديث عروة البارقي]

منها: قضيّة عروة البارقي، و لا صراحة فيها في الفضوليّة، إذ من المحتمل كونه مأذونا صريحا أو بالفحوى من النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أو وكيلا له كما حكي عن خلاصة العلّامة- قدّس سرّه.

[و منها صحيحة محمد بن قيس]

و منها صحيحة محمّد بن قيس، و الأحسن التيمّن بنقلها أوّلا، فنقول: روى في الوسائل عن المشايخ الثلاثة بطرقهم عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم ابن حميد عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر- عليه السلام- قال: قضى في وليدة «1» باعها ابن سيّدها و أبوه غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثمّ قدم سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الأخير فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها، فناشده المشتري فقال: خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك، فلمّا أخذ البيع الابن، قال أبوه: أرسل ابني، فقال: لا أرسل ابنك

______________________________

(1) و في رواية الكليني- قدّس سرّه-: قال: قضى أمير المؤمنين- عليه السلام- في وليدة. منه- دام ظلّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 297

حتى ترسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه» «1».

ثمّ إنّه ذكر للاستدلال بهذا الخبر موهنات.

منها: ظهور بعض فقرأته في الردّ مثل المخاصمة و قوله- عليه السلام- بطريق التعيين: خذ وليدتك و ابنها، و مناشدة المشتري و قوله: حتى ترسل ابني، فإنّ ظاهر الإرسال أنّه كان محبوسا، و لعلّ ظهوره في إظهار اليأس عن وصول الوليدة، و إنّما يسعى في علاج فكاك ابنه.

و حينئذ نقول: ظهور قوله- عليه السلام-: «حتى ينفذ لك» و قول الباقر- عليه السلام-: «أجاز بيع ابنه» في قابليّة العقد الصادر بغير إذن المالك للحوق إنفاذه و إجازته، و حيث

إنّ الإجازة المسبوقة بالردّ غير مؤثّرة إجماعا فلا بدّ من رفع اليد من أحد الظهورين أمّا بتأويل الأوّل بما لا يلازم الردّ و إمّا بحمل الثاني على البيع المستقلّ.

و منها: كون الرواية قضيّة في واقعة، و منها: تعليمه- عليه السلام- الحيلة لانفاذ البيع بتعليم ما يوجب إلجائه إليه، و من آداب القاضي ترك ذلك.

و منها: حكمه- عليه السلام- بأخذ الولد الحرّ لأجل الدين الثابت في ذمّة أبيه، فإنّ الولد الذي حصل للمشتري من الجارية يصير حاصلا بوطي الشبهة، فلا يصير رقّا لمولاها، نعم يستقرّ قيمته يوم ولادته في ذمّة المشتري لصاحب الجارية و لا يمكن بمجرّد ذلك حبس هذا الحرّ لأجل الوصول إلى هذه القيمة.

و يجاب بأنّ المخاصمة أعمّ من الرد لملاءمتها مع الترديد و مع الكراهة بدون إنشاء الردّ، و للمالك عند عدم مباشرته العقد و عدم إذنه ما لم يجز أن يحبس العين

______________________________

(1) الوسائل: ج 14، الباب 88، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 591، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 298

لأجل أنّه إن وصل إليه الثمن أجاز و إلّا ردّ.

نعم بعض التصرّفات المالكيّة تكون ردّا فعليّا مثل الوطي و العتق، و أمّا صرف انتزاع العين من يد المشتري فأعمّ، فإنّ المال ما لم يجز بحكم ملك المالك و لو على الكشف، و لهذا يحرم على المشتري قبضه و التصرّف فيه بمجرّد العقد و لو مع القطع بلحوق الإجازة، و من هنا يظهر وجه عدم ظهور الحكم بتعيين الأخذ في الردّ، فإنّه يصحّ ذلك و لو مع عدم الردّ و الإجازة معا.

و أمّا الفقرتان اللتان ادّعي ظهورهما في الإجازة، فالظاهر صراحتهما فيها و عدم احتمالهما لإرادة البيع المستقل، و ذلك

لأنّه جعل في الرواية من فائدة هذه الإجازة خلاص الابن، و مع البيع المستقلّ لا وجه للخلاص، فإنّه إمّا رقّ للمالك لعلم المشتري بالفضوليّة و كون وطيه زنا فيكون أخذ المالك له بحقّ الملكيّة، و إمّا حرّ لجهله بها فيكون الولد من الوطي بالشبهة، فيكون حبسه لأجل أخذ قيمته.

و على كلّ حال لا يرتفع ملاك الأخذ ببيع الأمة بالبيع الجديد كما هو واضح، بخلاف إجازة البيع السابق، فإنّها على الكشف يجعل الوطي صحيحا في الصورة الأولى فيخرج الولد عن الرقّية، نعم لا يرفع التجرّي، و في الصورة الثانية يكون الولد كسائر النماءات راجعة إلى المشتري، لأنّ ذلك مقتضى الكشف.

و أمّا كون الرواية قضيّة في واقعة، فلا يضرّ بعد أنّ الظاهر من نقل الباقر لقضاء الأمير- صلوات اللّٰه عليهما- أنّه يكون لأجل أن يعمل به، فإنّ محمد بن قيس على ما نقل نقل قضايا قضى فيها الأمير من قول الباقر- صلوات اللّٰه عليهما- و من الظاهر أنّ الحكمة في نقل الباقر- سلام اللّٰه عليه- لتلك القضايا لأجل العمل، و لو كان لخصوصيّة المورد دخل لما كان للعمل وجه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 299

و أمّا تعليم الحيلة مع أنّه ليس من آداب القاضي، فيمكن لأجل التوصّل به إلى درء الحدّ عن المشتري- فإنّه على ما يأتي لا بدّ من حمل وطئه على الزنا، و مع الإجازة يخرج عنه، فيدرء عنه الحدّ بانتفاء الموضوع- و إلى صيرورة ولد الزنا في حكم ولد الحلال، في الإلحاق بالنسب و غيره.

و أمّا حكمه بأخذ الولد الحرّ، لأجل الدين على الأب، فيجاب بعدم وروده بالالتزام بعدم حريّة الولد بواسطة علم المشتري بالفضوليّة، فكان زانيا فالولد كان رقّا للمولى، و ذلك بواسطة

حفظ القواعد المقتضية لعدم جواز حبس أحد لأجل مديونيّة غيره، بناء على جواز التمسّك بالعموم في مورد العلم بخلاف حكمه مع الشكّ في انطباق موضوعه لتشخيص عدم كون المورد معنونا بعنوان العام، لدوران الأمر بين التخصيص و التخصّص.

[و منها فحوى ما دل على صحة النكاح الفضولي]

و منها: فحوى صحّة الفضولي في عقد النكاح الصادر عن العبد و الحرّ الثابتة بالنص و الإجماع، بتقريب أنّ تمليك بضع الغير إذا لزم بعقد الغير، مع إجازة صاحب البضع فتمليك الملك أولى، مضافا إلى شدّة الاهتمام في نظر الشرع.

و أنت خبير بأنّ هذا إنّما يتمّ مع افادة هذه الأولوية للقطع، و بعد خفاء المصالح الواقعيّة علينا أنّى لنا بإثبات هذا القطع، فمن المحتمل أن يوجب شدة الاهتمام بالفروج تسهيل الأمر و التوسعة في أسبابه لئلّا يقع الناس في الزنا، و لا يكثر أولاد الزنا، و بهذه الحكمة شرعت المتعة كما يشهد به ما روى من أنّه لولا منع عمر عن المتعة لما زنى إلّا شقيّ «1».

______________________________

(1) الوسائل: ج 14، الباب 1، من أبواب المتعة، ص 436، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 300

لكنّ الكلام في المقام في أنّه هل بعد تماميّة هذه الأولوية، يوهنها الرواية الواردة في الردّ على العامّة حيث حكموا بصحّة البيع الصادر من الوكيل بعد عزل الموكّل إيّاه و قبل وصول الخبر إليه، و حكموا بالفساد في النكاح في عين هذه الصورة معلّلين بأنّ المال له عوض و أمّا البضع فليس له عوض، فقال الإمام- عليه السلام- لمّا حكى ذلك عنهم الراوي: «سبحان اللّٰه ما أجور هذا الحكم و أفسده إنّ النكاح أحرى و أجدر أن يحتاط فيه، و هو فرج و منه يكون الولد» «1».

فقد يقال في توجيهه: إنّ المعنى أنّه

إذا حكمتم بالصحّة في البيع فالنكاح أولى بالاحتياط بالحكم بالصحّة، فيقع الكلام في أنّه كيف يكون الصحّة في النكاح مطابقة للاحتياط؟ فيقال: إنّه لو كان صحيحا واقعا و حكم بالفساد فيتزوّج الزوجة فيقع الزنا بذات البعل، و لو كان فاسدا و حكم بالصحّة فحيث إنّ الزوجة بلا مانع فلا يقع الزنا إلّا بالمرأة الغير المزوّجة، فمعنى الأحوط هو الأشدّ احتياطا.

و أمّا البيع فلا يمكن القول بالاحتياطيّة في شي ء من الصحّة و الفساد فيه، فإنّه على فرض الصحّة لو حكم بالفساد للزم تصرّف كلّ من البائع و المشتري في ماله الأصلي المنتقل إلى صاحبه، و لو حكم بالصحّة في فرض الفساد لزم تصرّف كلّ منهما في مال صاحبه الغير المنتقل إليه، فعلى أيّ تقدير يلزم التصرّف في مال الغير بغير حقّ فيدور الأمر بين المحذورين فترجيح أحدهما بلا مرجّح.

و حينئذ فإمّا أن يقال: إنّ معنى العبارة أنّ النكاح أولى بأن يحتاط فيه بالحكم بالصحّة يعني متى دار الأمر فيه و في البيع بين الصحّة و الفساد فهو أحق

______________________________

(1) الوسائل: الباب 157، من أبواب مقدماته و آدابه، 194، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 301

بأن يحتاط فيه بالصحة من البيع، يعني أنّ الاحتياط المتأكّد فيه يوجب أقربيته إلى الصحّة و عدم الإبطال من البيع، أو يقال: إنّ هذا الاحتياط المتأكّد الموجب لأقربيّته إلى الصحّة و أبعديّته من الإبطال إنّما يحدث فيه لو حكمنا في البيع بالصحّة. أو يقال: هو مطلقا يكون موردا للاحتياط المتأكّد لكن اقتضاء هذا الاحتياط المتأكّد لأقربيّته إلى الصحّة إنّما يكون في ما لو حكمنا في البيع بالصحّة.

و الظاهر هو الوجه الأوّل فيستفاد منه أنّ طبع النكاح لمكان تأكّد الاحتياط فيه يكون

أقرب إلى الصحّة و أبعد من البطلان من طبع البيع، فلو ورد الحكم بصحّة البيع في مورد أمكن الحكم بصحّة النكاح في ذلك المورد دون العكس، فيمكن التعدّي من صحّة البيع إلى صحّة النكاح، و لكن لا يمكن التعدّي من صحّة النكاح إلى صحّة البيع، كما هو مبني الاستدلال في مسألة الفضولي.

و قد يوجّه الرواية بطريق آخر، و هو ما ذكر لكن يجعل الاحتياط هو احتياط الشارع دون المكلّف يعني أنّ الأحوط في حقّ الشارع هو التوسعة على العباد و عدم الإبطال في باب النكاح لئلّا يكثر الزنا و ولد الزنا كما هو الحكمة في تشريع المتعة، و لكنّ الظاهر هو احتياط المكلّف لاستبعاد استناد الاحتياط إلى الشارع العالم، و على كلا هذين الوجهين تكون الرواية موهنة للأولوية كما هو واضح.

و قد يوجّه بوجهين آخرين ليخرج عن الموهنيّة، أحدهما: أن يقال: إنّها متعرّضة فقط لحيث إنّ النكاح أحقّ بالاحتياط بدون تعرّض أنّ مقتضاه ماذا، يعني لو كان الاحتياط و رعاية جانب العقد الواقع بإبقائه و عدم نقضه مهما أمكن هو الملاك للحكم، فالنكاح أحقّ و أحرى بالاحتياط و لو بأن يكون بالعقد الجديد أو بالطلاق، فهذا تخطئة لهم حيث زعموا أنّ ملاك الحكم الاحتياط، و الإمام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 302

- عليه السلام- يردعهم بأنّه لو كان الملاك ذلك لما كان الحكم في النكاح البطلان، بل اختيار ما يوجب الجزم بالواقع، لأنّه أحقّ بالاحتياط من البيع.

و فيه: أنّ الظاهر من الرواية أنّ المراد هو الاحتياط بإبقاء العقد و عدم نقضه كما هو الظاهر من المنقول عن مدرك العامّة الذي هذا الكلام يكون ردّا لذلك المدرك.

و ثانيهما: ما اختاره شيخنا الأستاذ و كان مصرّا

به في مجلس الدرس- أدام اللّٰه أيّام إفادته- و هو أن يقال: ليس المراد بالاحتياط ما هو الشائع في اصطلاحنا الآن، بل معناه الأصلي و هو إصابة الواقع و تعلّمه من المأخذ الصحيح، فيقال: إنّ المفتين المذكورين قد بذلوا وسعهم و سعيهم و اجتهادهم في باب البيع و أصابوا الحكم الواقعي بالطريق الصحيح، و لكن في باب النكاح قنعوا عن الفحص عن الحق و الواقع بأن يقايسوه بالبيع و يستفيدوا حكمه بعد المقايسة بواسطة المساواة و عدمها، فزعموا بعد المقايسة أنّ لوجود العوض في باب البيع مدخل بنحو جزء المؤثّر في الحكم بالصحّة، بمعنى أنّ لخصوصيّة المورد أيضا دخل، فلا يرد لزوم التعدّي إلى كلّ مقام وجد فيه العوض، ثمّ لما رأوا عدم وجود العوض في النكاح حكموا بعدم الصحّة فيه لعدم تماميّة علّتها، فما ذكر من العلّة كان علّة لعدم تسرية الحكم من البيع إلى النكاح، لا أنّ كلّ واحد من جزئي العلّة علّة مستقلّة لواحد من الحكمين في بابي البيع و النكاح كما ربّما يتراءى من ظاهر كلامهم.

و إذن فردّ الإمام- عليه السلام- عليهم يكون في تركهم الفحص عن وجدان الحكم الواقعي في مثل باب النكاح الذي هو باب الفروج، و تخصيصهم البيع الذي هو باب الأموال بالفحص و جعلهم إيّاه أصلا لمعرفة الحكم في النكاح مع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 303

أنّه لو كان هذا المشي أعني العمل بالاستحسانات و القياسات صوابا لكان الصواب العكس بأن يخصّوا جهدهم و احتياطهم و سعيهم بباب النكاح الذي هو أهمّ ثمّ يستفيدوا الحكم في البيع الذي هو المهم بالمقايسة مع باب النكاح.

و حينئذ الرواية أجنبية عن الأولويّة المدّعاة في مسألة الفضولي كما هو واضح،

لكنّك خبير بأنّ ما ذكره- دام ظلّه- و إن كان في نفسه معنى لطيفا يليق أن يكتب بالنور لكن يحتاج تطبيقه على الرواية إلى تمحّل كثير.

[و منها ما ورد في المضاربة]

ثمّ إنّه ربّما يؤيّد صحّة الفضولي بل يستدلّ عليها بروايات كثيرة وردت في مقامات خاصّة، مثل موثّقة جميل عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في رجل دفع إلى رجل مالا ليشتري به ضربا من المتاع مضاربة، فاشترى غير الذي أمره، قال: هو ضامن و الربح بينهما على ما شرط «1»، و نحوها غيرها الواردة في هذا الباب.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إنّها إن بقيت على ظاهرها من عدم توقّف ملك الربح على الإجازة كما نسب إلى ظاهر الأصحاب و عدّ هذا خارجا عن بيع الفضولي بالنصّ كما في المسالك و غيره كان فيها استئناس لحكم المسألة من حيث عدم اعتبار إذن المالك سابقا في نقل مال المالك إلى غيره.

و إن حملناها على صورة رضي المالك بالمعاملة بعد ظهور الربح كما هو الغالب، و بمقتضى الجمع بين هذه الأخبار و بين ما دلّ على اعتبار رضي المالك في نقل ماله و النهي عن أكل المال بالباطل اندرجت المعاملة في الفضولي، و صحّتها في المورد و إن احتمل كونها للنصّ الخاص إلّا أنّها لا تخلو عن تأييد للمطلب، انتهى كلامه رفع مقامه.

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، الباب 1، في أحكام المضاربة، ص 182، ح 9.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 304

و يمكن أن يقال: إنّ مضمون الرواية غير منطبق على القواعد مطلقا لا في فرض الإجازة و لا في فرض عدمها و لا في جانب الربح و لا في طرف الوضعية و الخسران، أمّا في فرض الإجازة فلأنّ المضاربة لم تقع لا

أصالة لعدم انطباق العقد على الواقع، و لا فضولة لأنّ الفرض أنّه لم ينشأ عقد المضاربة فضولة من طرف المالك و إنّما إنشاء البيع و الشراء، فلحوق الإجازة لا بدّ أن يصحّح عقد البيع لا المضاربة، و من المعلوم أنّ مقتضاه رجوع تمام الربح إلى المالك و عود تمام الخسران عليه من دون عود شي ء منهما إلى العاقد.

و أمّا في فرض عدم الإجازة فاشتراك الربح معلوم عدم وفقه مع القواعد و كذلك الخسران، فإنّ ظاهر العبارة أنّ البيع في غير الخسران نافذ و إنّما يتحمّل العاقد مقدار الخسران. و على هذا فالرواية مشتملة على التعبّد المحض لا يمكن الاستئناس و الاستشهاد بها للمقام.

و قد يقال بخروج موردها عن موضوع الفضولي رأسا بدعوى حملها على صورة تعدّد المطلوب بمعنى أنّ المالك قد رضي بمطلق المضاربة وضعا لكنّه شرط المعاملة في الوجه الخاص لأجل ثبوت الضمان على تقدير المخالفة.

و فيه: أنّ ذكر القيد المتخلّف لو كان في العقد الواقع على العين الشخصيّة كأن يقول: بعت هذا الفرس على أن يكون عربيّا، فبان تركيّا أمكن أن يقال بأنّ عدم تحقّق القيد لا يوجب فساد البيع في الأصل بدعوى تعدّد المطلوب عرفا، و أمّا إذا كان مورد العقد المشروط الأمر الكلي- كما هو المفروض في المقام حيث إنّ المالك اشترط على العامل أن لا يرتكب في معاملاته الجهة الكذائية- فحينئذ مورد المضاربة هو المقيّد بغير الجهة الخاصّة و هو مباين مع الواجد لها.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 305

[و منها أخبار الاتجار بمال اليتيم]

و من الأخبار الواردة في المقامات الخاصّة المؤيّد بها صحّة الفضولي الأخبار الواردة في اتّجار غير الولي في مال اليتيم و انّ الربح لليتيم «1».

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إنّها

إن حملت على صورة إجازة الولي كما هو صريح جماعة تبعا للشهيد كان من أفراد المسألة، و إن عمل بإطلاقها كما عن جماعة ممّن تقدّمهم خرجت عن مسألة الفضولي لكن يستأنس بها للمسألة بالتقريب المتقدّم.

و يمكن أن يقال: إنّ هذا الذي ذكره- قدّس سرّه- مبنيّ على ثلاث مقدّمات، الأولى: حمل من بيده مال اليتيم الذي هو الموضوع في تلك الأخبار على المتصرّف على غير الوجه المشروع، أعني: غير الولي بدون إذنه، الثانية: أن يكون الاتّجار بعين مال اليتيم لا بما في الذمّة مع الوفاء بعين ماله، و الثالثة: أن يكون الاتّجار بقصد اليتيم لا بقصد نفس المتّجر.

و كلّ من هذه الأمور خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من عنوان من بيده المال المتصرّف فيه على الوجه المشروع و كذلك الظاهر من الاتّجار بملاحظة غلبة المعاملات بما في الذمّة و كون التأدية بالأعيان الخارجيّة هو الحمل على ذلك، و لا ينافيه عنوان الاتّجار بمال اليتيم، إذ يكفي هذا المقدار في صحّة هذا الإطلاق كما لا يخفى، و لا فرق في ذلك بين النقود و الأعيان، فإنّ المعاملة في الأعيان في الدورة الأولى تقع على العين لكن في الدورة الثانية تقع بما في الذمّة و تكون التأدية بأثمانها، و كذلك الظاهر أنّ المتّجر إنّما يتّجر لنفسه، و من المعلوم أنّه بناء على هذه الظواهر تخرج الرواية عن المساس بمسألة الفضولي كما هو واضح.

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 75، من أبواب ما يكتسب به، ص 191، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 306

ثمّ إنّه بناء على ارتكاب خلاف الظاهر من الجهات الثلاث ربّما احتمل دخولها في المسألة من حيث إنّ الحكم بالمضيّ إجازة الاهيّة لاحقة للمعاملة.

و فيه أوّلا: أنّ

الحكم بالمضيّ ظاهر في التشريع لا في إعمال جهة المالكيّة، و ثانيا: لو أغمضنا عن ذلك فحيث إنّ اللّٰه تعالى عالم بالعواقب فإنّه يرضى من أوّل الأمر و لا يحتاج إلى أن يصبر إلى ما بعد العقد ثمّ يمضيه.

[و ما يؤيد الصحة ما ورد في شراء العبد المأذون]

و ربّما يؤيّد المطلب أيضا برواية ابن أشيم الواردة في العبد المأذون الذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة و يعتقها و يحجّه عن أبيه، فاشترى أباه و أعتقه ثمّ تنازع مولى المأذون و مولى الأدب و ورثة الدافع و ادّعى كلّ منهم أنّه اشتراه بماله، فقال أبو جعفر- عليه السلام-: أمّا الحجّة فقد مضت بما فيها لا تردّ، و أمّا المعتق فهو ردّ في الرقّ الموالي أبيه، و أيّ الفريقين بعد أقاموا البيّنة على أنّه اشترى أباه من أموالهم كان له رقّا «1».

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-:

إنّه لولا كفاية الاشتراء بعين المال في تملّك المبيع بعد إقامة البيّنة المتضمّنة لإجازة البيع لم يكن مجرّد دعوى الشراء بالمال و لا إقامة البيّنة عليها كافية في تملّك المبيع.

و يمكن أن يقال: إنّ من الممكن كون العبد مأذونا من قبل الجميع في التجارة، فيخرج عن مسألتنا، و قول كلّ من الفرق: اشترى بمالنا لا يدلّ على خلاف ذلك، لإمكان أن يكون مقصودهم من ذلك الكناية عن الشراء بقصدهم و بعنوان المأذونيّة من قبلهم، و الحاصل لم يريدوا إثبات تملّكهم بمجرّد الشراء بمالهم بل مع حفظ سائر القواعد، هذا مضافا إلى اشتمال الرواية على تقديم قول

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، الباب 25، من أبواب بيع الحيوان، ص 53، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 307

مدّعي الفساد، أعني: مولى الأب مع أنّ مقتضى القاعدة المقرّرة تقديم مدّعي الصحّة.

[و ما يؤيد الصحة ما ورد في الإقالة بوضيعة]

و ممّا يؤيّد به المطلب صحيحة الحلبي: «عن رجل اشترى ثوبا و لم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثمّ ردّه على صاحبه فأبى أن يقيله إلّا بوضيعة؟ قال: لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من

ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد» «1».

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-:

إنّ الحكم بردّ ما زاد لا ينطبق بظاهره إلّا على صحّة الفضولي لنفسه

و يمكن أن يقال: إن كان المقصود من قوله: فإن جهله فأخذه الأخذ بعنوان الإقالة فحيث إنّ الإقالة ليست إلّا بردّ عين كلّ من المالين أو بدلهما إلى مالكهما و لا يعقل بردّ البعض أمكن انطباقه على البيع الفضولي، و أمّا لو كان المراد البيع المستقلّ و كان المراد من عدم الصلاحيّة هو الكراهة و من ردّ ما زاد هو استحباب ذلك فهو أجنبي عن بحثنا و ليس في الرواية ما يظهر منه أحد الأمرين إلّا كلمة (أن يقيله) و لم يعلم كونه بالياء المثنّاة التحتانيّة و يمكن بالباء الموحّدة.

[و ما يؤيد الصحة ما ورد في شراء السمسار]

و ممّا يؤيّد به أيضا موثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام-: «عن السمسار أ يشتري بالأجر فيدفع إليه الورق و يشترط عليه أنّك تأتي بما تشتري فما شئت أخذته و ما شئت تركته، فيذهب فيشتري ثمّ يأتي بالمتاع فيقول: خذ ما رضيت ودع ما كرهت، قال: لا بأس الخبر» «2».

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 17، من أبواب أحكام العقود، ص 392، ح 1.

(2) المصدر نفسه: الباب 20، من أبواب أحكام العقود، ص 394، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 308

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-:

إنّ الاشتراء من السمسار يحتمل أن يكون لنفسه ليكون الورق عليه قرضا، فيبيع على صاحب الورق ما رضيه من الأمتعة و يوفيه دينه- إلى أن قال:- و يحتمل أن يكون لصاحب الورق بإذنه مع جعل خيار له على بائع الأمتعة فيلتزم بالبيع في ما رضي و يفسخه في ما كره،

و يحتمل أن يكون فضوليّا عن صاحب الورق فيجيز ما يريد و يردّ ما يكره، و ليس في مورد الرواية ظهور في إذن صاحب الورق للسمسار على وجه ينافي كونه فضوليّا كما لا يخفى، فإذا احتمل مورد السؤال لهذه الوجوه و حكم الإمام بعدم البأس من دون استفصال عن المحتملات أفاد ثبوت الحكم على جميع الاحتمالات، انتهى كلامه رفع مقامه.

و الاحتمالان الأوّلان واضحان، و أمّا الأخير فهو أن يأذنه في أصل الإنشاء و إيقاع العقد، و أمّا حقيقة البيع و النقل و الانتقال فلم يقع تحت الإذن بل أوكله إلى أن ينظر في المستقبل فإذا رآه صلاحا أجازه، و ذلك نظير ما قبل الإذن لو التفت إلى أنّ الفضولي اشترى له متاعا ربّما يفرح بهذا القدر لأنّه مورث لأن يبقى المتاع سالما من اشتراء مشتر آخر إمّا لجهل البائع بالفضوليّة، و إمّا للزوم من طرفه، فكذلك يمكن ذلك في حال الإذن فيأذنه أن يوقع سبب انقطاع يد الغير عن المال، و أمّا حقيقة البيعيّة و السبب نحو الانتقال فأوكله إلى النظر المستقبل، و لا يبعد أن يقال بظهور عبارة السائل في هذا الاحتمال الأخير، إذ وصف السمسار بأنّه يشتري بالأجر يبعد احتمال كون أخذه للورق قرضا، و كذلك ظاهر قوله: تأتي بما تشتري فما شئت أخذته و ما شئت تركته، عدم الملزميّة الابتدائية لا الحاصلة بحقّ الخيار.

[و ما يؤيد الصحة التعليل الوارد في نصوص نكاح العبد]

و ربّما يؤيّد المطلب بالأخبار الدالّة على عدم فساد نكاح العبد بدون إذن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 309

مولاه، معلّلا بأنّه «لم يعص اللّٰه و إنّما عصى سيّده» «1»

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: إنّ المانع من صحّة العقد إذا كان لا يرجى زواله فهو الموجب لوقوع العقد

باطلا و هو عصيان اللّٰه تعالى، و أمّا المانع الذي يرجى زواله كعصيان السيّد فبزواله يصح العقد، و رضي المالك من هذا القبيل، فإنّه لا يرضى أوّلا و يرضى ثانيا، بخلاف سخط اللّٰه عزّ و جلّ بفعل، فإنّه يستحيل رضاه.

و فيه أنّ اللازم أن نقول: بأنّ العقد الصادر من غير البالغ أيضا صحيح بالبلوغ، و كذلك نظيره ممّا لا يلتزمون به، فالكلّية لا تستفاد من هذه العبارة، بل يمكن أن يقال: إنّها ناظرة إلى تخطئة العامّة حيث زعموا أنّ النهي متى تعلّق بالمعاملة و لو بالعنوان الثانوي يوجب فسادها، فأبطل الإمام- عليه السلام- هذه الدعوى و قال: إنّ النهي المورث لذلك هو ما كان العصيان بنفس العقد نظير البيع الربوي، دون ما لم يكن بها بل بعنوان آخر كمخالفة السيّد و اذن فليس ناظرا إلّا إلى كيفيّة هذه الكبرى الشخصيّة، أعني: مانعيّة النهي عن الصحّة من دون مساس له بالكلّية المذكورة.

و ربّما يستدلّ أيضا برواية مسمع أبي سيّار، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: إنّي كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه و حلف لي عليه، ثمّ جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه فقال: هذا مالك فخذه، و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك و اجعلني في حلّ، فأخذت المال منه و أبيت أن آخذ الربح، و أوقفت المال الذي كنت استودعته و أتيت حتّى أستطلع رأيك فما ترى؟ قال: قال- عليه السلام-: «خذ الربح و أعطه النصف و أحلّه

______________________________

(1) الوسائل: ج 14، الباب 24، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 523، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 310

إنّ هذا رجل تائب و اللّٰه يجب

التوابين» «1».

قال بعض السادة الأساطين- قدّس سرّهم-: إنّ ظاهر ذيله أنّ تمام الربح له و أنّه- عليه السلام- أمره بإعطائه النصف منه من جهة أنّه تائب و هو لا ينطبق إلّا على صحّة الفضولي، و استدلّ أيضا برواية التجارة بالزكاة حيث حكم أنّ الربح لها و لا وضيعة عليها، فيدلّ على صحّة الفضولي.

أقول: هاتان الروايتان و رواية ابن أشيم المتقدّمة و روايات الاتّجار بمال اليتيم يستفاد منها أنّ البيع أو الشراء لما في الذمّة إذا كان القصد حين المعاملة الدفع من عين مال الغير يكون كالمعاملة الواردة على عين المال ابتداء، فيندرج في الفضولي و يرجع ربحها إلى صاحب العين، و يناسب ذلك مع ارتكاز العرف، ألا ترى أنّ العصاة و الظلمة مع شرائهم و تحصيلهم لما يملكونه غالبا بالثمن في ذمّتهم يقال:

إنّ ما بيدهم مال لغيرهم، فإن لم يكن على خلاف هذا المطلب إجماع نقول به بظاهر هذه الروايات و تكون دالّة على صحّة الفضولي أيضا و إلّا فهي على خلاف القواعد لا يمكن استفادة الكلّية منها.

[المقام الثاني أدلة بطلان بيع الفضولي]
[الدليل الأول الكتاب]

و احتجّ للبطلان بالأدلّة الأربعة أمّا الكتاب فقوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «2».

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: دلّ بمفهوم الحصر أو سياق التحديد على أنّ غير التجارة عن تراض أو التجارة لا عن تراض غير مبيح لأكل مال الغير و إن لحقها الرضى، و من المعلوم أنّ الفضولي غير داخل في المستثنى.

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، الباب 10، في أحكام الوديعة، ص 235، ح 1.

(2) النساء: 29.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 311

و أجاب عنه بأنّ دلالته على الحصر ممنوعة لانقطاع الاستثناء، إلى أن قال:

و أمّا سياق التحديد الموجب لثبوت

مفهوم القيد فهو مع تسليمه مخصوص بما إذا لم يكن للقيد فائدة أخرى لكونه واردا مورد الغالب كما في ما نحن فيه و في قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1».

أقول: العمدة نفي المفهوم للقيد و معه لا يضرّ وجود الحصر، فإنّ المحصور فيه حينئذ مطلق التجارة و ما نحن فيه من أفرادها، كما أنّه مع ثبوت هذا المفهوم لا ينفعنا نفي الحصر، فإنّ المفهوم حينئذ أنّ سبب الأكل الذي يكون من هذا الجنس، أعني: التجارة لا بدّ فيه من مقارنة الرضى، فلا ينفع فرد منه بدونها كما في ما نحن فيه.

و تحقيق حال المستثنى المنقطع أنّ المقصود من إثباته في الكلام استحكام عموم الحكم الثابت للمستثنى منه و أنّه ما خرج منه فرد واحد حتى احتاج في مقام الاستثناء إلى إخراج غير الجنس، كما يقال لم يخرج من أهل البلد خارج البلد أحد، نعم كان غراب يطير في الهواء، و أمّا أنّ الحكم الثابت للمستثنى لغير أفراد المستثنى منه غير ثابت و ليس للمشارك، فليس في مقام البيان من هذه الجهة، فيمكن أن يكون في المثال عصفور مع ذلك الغراب طائرا أو نفر في الصحراء راعيا، ففي الآية يدلّ الاستثناء على عموم النهي لجميع أفراد عنوان الباطل، و أمّا غير الباطل العرفي ينحصر المحلّل منها للأكل في خصوص المستثنى فلا تعرّض من هذه الجهة.

و أمّا تحقيق حال المفهوم الذي هو العمدة فقد يقال بأنّه- و إن قلنا به-

______________________________

(1) النساء: 23.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 312

لا يدلّ على فساد الفضولي من جهة أنّ التجارة عبارة عن العقد و القرار القابلين للبقاء، لا لإيقاعهما الذي هو أمر آنيّ لإقرار له فهو حين الإجازة موجود،

و لم يصرّح في الآية بأنّ المعتبر مقارنة خصوص وجودها الحدوثي للرضى، فيكفي اقتران الوجود البقائي.

فإن قلت: نعم لكن يستفاد من «عن النشويّة» علاوة من الاقتران، الاستناد و التسبّب، و من المعلوم عدم ذلك في الوجود البقائي.

قلت: يلزم من ذلك القول بفساد العقد حتّى في بعض صور اقتران الوجود الحدوثي أيضا إذا لم يكن وقوع العقد بسببيّة الإذن و الرضى، كما لو أوقع الوكيل أو المأذون العقد لا عن استناد إلى الوكالة و الإذن بل عن أغراض موجودة في أنفسهما، و لا يلتزمون بالبطلان في هذا الفرض، فنعلم من ذلك إلغاء قيد الاستثناء فيبقى صرف المقارنة و هي حاصلة في الوجود النفساني.

و لكنّ الإنصاف عدم تماميّة هذا الجواب، إذ الظاهر من إضافة القيد إلى ما هو من قبيل الأفعال كون حدوث ذلك الفعل مقيّدا بذاك القيد، فإذا قيل: الشكّ في ما إذا تجاوز محلّ المشكوك لا يعتنى به، لا يندرج فيه الشك الحادث قبل التجاوز إذا اشتغل الشاكّ بالفعل المترتّب على المشكوك، و هكذا لو قيل: بائع زيدا يوم الجمعة فلا يصدق بالبيعة يوم الخميس و البقاء عليها إلى يوم الجمعة.

فالعمدة الجواب بإنكار أصل المفهوم ببيان أنّ القيد في ما إذا كان غالبيّا يسوغ ذكره في الكلام بمجرّد هذه النكتة، و إذا وجد في البين نكتة أخرى غير تضييق دائرة الموضوع سقط الكلام عن الدلالة.

و ليعلم أنّ الاستدلال غير مبتن على القول بالمفهوم المصطلح، فإنّه ينتزع من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 313

إفادة القيد لعلّية الوصف و انحصار العلّة به أيضا، و مقامنا يكفيه الأوّل و لو منع من الحصر، إذ يدلّ عليه على أنّه متى لم توجد علّة أخرى فالعلّة التي هي من

جنس التجارة لا بدّ في تأثيرها من مقارنة الرضى، و المفروض في مقامنا عدم شي ء آخر سبب للنقل و الانتقال سوى عقد الفضولي، فإذا قيّد سببيته أيضا بالمقارنة المتيقّنة ثبت البطلان لا محالة، فإنكار المفهوم لا يثمر المقام بل العمدة إنكار ظهور التقييد في الدخالة في الحكم، و قد عرفت شيوع إتيان القيد في الكلام بمحض شيوع وجوده في الأفراد، فلا يبقى ظهور في الدخالة، إذ هو مبتن على عدم فائدة أخرى لتصون كلام الحكيم عن اللغوية، و إذ ليس فليس.

[الدليل الثاني السنة]

و أمّا السنّة فأخبار:

منها: النبوي المستفيض و هو قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» «1».

قال شيخنا الأنصاري- طاب ثراه- فإنّ عدم حضوره عنده كناية عن عدم تسلّطه على تسليمه لعدم تملّكه، فيكون مساوقا للنبوي الآخر: «لا بيع إلّا في ما يملك» بعد قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا طلاق إلّا في ما يملك و لا عتق إلّا في ما يملك» «2» و لما ورد في توقيع العسكري- صلوات اللّٰه عليه- إلى الصفّار: «لا يجوز بيع ما ليس يملك» «3».

و محصّل ما يجاب عن المجموع أنّ النهي لا بدّ و أن يتعلّق بالأمر المتعارف

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 7، من أبواب أحكام العقود، ص 374، ح 2.

(2) المصدر نفسه: ج 15، الباب 12، من أبواب مقدّماته و شرائطه ص 286، ح 1، 2، 4، 6، 7، 10 إلخ.

(3) المصدر نفسه: ج 12، الباب 2، من أبواب عقد البيع و شروطه، ص 252، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 314

ليكون ردعا عنه و لا شبهة أنّ بيع مال الغير مثل بيع

مال النفس بأن يترتّب عليه الأثر بلا انتظار رضي المالك لم يكن أمرا متعارفا، فلا يجوز صرف النهي إليه، و إنّما المتعارف أمران، أحدهما: بيع العين الشخصيّة المملوكة للغير عن النفس و يلاحظ ملكيّتها للنفس باعتبار القدرة على تحصيلها، كما يصحّ اعتبار الملكيّة في الكلّي في الملي، باعتبار قدرته على تحصيل مصاديقه الخارجيّة، فهنا ملكيّتان تعلّقتا بعين واحدة في زمان واحد، إحداهما في طول الأخرى و كلتاهما فعليّة لا شأنيّة، فالمالك الأصلي واضح كونه فعلا مالكا، و الأجنبي البائع للنفس أيضا مالك فعلي لنفس تلك العين باعتبار القدرة المذكورة.

و إن شئت فقلت: أحد الشخصين مالك للوجود الخارجي و الآخر للوجود الذمّي فلا يرد أنّ متعلّق القدرة ماذا؟ إن كان هو التملّك بمعنى أنّه يقدر على أن يتملّكه من صاحبه فهذا تحصيل الحاصل، لأنّ المفروض كونه مالكا، و إن كان هو الإقباض لا يصير منشئا لاعتبار الملك، فإنّه يقال: متعلّقه هو الأوّل و لا يلزم تحصيل الحاصل، لأنّه تحصيل مرتبة أخرى من الملكيّة و هي المتعلّقة بالوجود الخارجي، و ما كان حاصلا هي المتعلّقة بالوجود الذمّي.

و الحاصل: البيع في هذا القسم قطعي و تصير العين في عهدة البائع، و في القسم الأوّل ليس بيعا تماما بل كأنّه نصف بيع، لأنّه بعد يحتاج إلى إمضاء الصاحب الأصلي، و ظهور قوله في القسم القطعي لعلّه لا ينكر، فبمعونة هذا الظهور يحمل على القسم الثاني، فلا يرتبط بما نحن فيه، إذ مفاده أنّ هذا القسم من البيع لا يقع، و نحن و إن صحّحنا عين هذا القسم أيضا فضوليّا لمالكه لم يكن منافيا للرواية، إذ هي سالبة للأثر بالنظر إلى إضافته إلى البائع، و بعبارة أخرى ناظرة إلى ما

هو المقصود للطرفين و هو الإلزام و الالتزام بنفس هذا العقد، و أمّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 315

قابلية هذا العقد للصحّة بإضافته إلى المالك الأصلي لو أجاز فلا إثبات من هذه الجهة و لا نفي.

و ليعلم أنّ بيع ما لا يملك بالنحو الذي ذكرنا له فردان، أحدهما: ما كان المبيع العين الشخصيّة المملوكة للغير، و الآخر: ما كان كلّيا في الذمّة في ما لم يكن بيد البائع من مصاديقه شي ء أصلا مع كونه كلّيا، و الإطلاق و إن كان متساويا بالنسبة إلى الفردين لكنّه بالنسبة إلى الثاني مقيّد بالإجماع و النصّ.

[الدليل الثالث حكم العقل على قبح التصرف في مال الغير بلا إذن منه]

و أمّا العقل: فما دلّ على عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه، فإنّ الرضى اللاحق لا ينفع في رفع القبح الثابت حال التصرّف، و من التصرّف بيع مال الغير، و فيه: أنّ مجرّد إنشاء البيع على مال الغير من دون قصد لترتيب الأثر عليه إلّا بعد رضي صاحبه لا يعدّ عرفا تصرّفا فيه، نعم ما يقصد ترتيب الأثر بعده بلا انتظار لا يبعد أن يكون تصرّفا كما في بيع المالك و الغاصب المستقلّ. ثمّ لو فرض كونه تصرّفا،

قال شيخنا المرتضى- طاب ثراه-: فممّا استقلّ العقل بجوازه مثل الاستضاءة و الاصطلاء بنور الغير و ناره.

قال شيخنا الأستاذ- دام عمره-: الظاهر أنّه مع صدق التصرّف، العقل مستقلّ بالقبح، فلو لم يستقل في موضع نكشف عن عدم صدق التصرّف، فالتصرّف في مال الغير عند العقل علّة تامّة للقبح فلا يمكن إنكار هذه المقدّمة بعد تسليم الأولى.

ثمّ قال- قدّس سرّه-: مع أنّ تحريمه لا يدلّ على الفساد

قال شيخنا الأستاذ- دام علاه-: يمكن تقريب الدلالة بناء على ما قرّر من أنّ النهي المتعلّق بعنوان المعاملة

ابتداء قام الإجماع على إفساده و إن لم يستلزم عقلا للفساد بأحد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 316

وجهين:

الأوّل: أنّ النهي عن التصرّف يكون راجعا إلى العناوين الخاصّة و هذا العنوان مرآة صرف نظير هؤلاء، فتعلّق النهي بنفس البيع فيدخل تحت تلك الكبرى.

و الثاني: لو سلّمنا أنّ العنوان مأخوذ موضوعا نقول: فرق بين ما كان متعلّق النهي عنوانا قد يتّفق اجتماعه مع عنوان البيع في المصادق- كما في مخالفة السيّد فلا ربط لهذا النهي المتعلّق بالعنوان المجامع بعنوان البيع- و بين ما كان المتعلّق للنهي عنوانا كان البيع أحد مصاديقه نظير عنوان كلّ تصرّف و كلّ تقليب في مال الغير، فإنّ مصاديقه الأكل و الشرب و البيع حسب الفرض، و بعد ما كان معيار الفساد كون المعاملة ما به يعصى الرب، ففي ما نحن فيه و إن كان العصيان مستندا بالكلّي الموجود في ضمن البيع و هو جامع التصرّف و لم يقع تمام منشأ انتزاع البيع موردا للنهي، لكن يصدق عرفا أنّ هذا المصداق، أعني: البيع شي ء تحقّق به العصيان كما يقال: إنّ هذه النار أحرقت مع أنّ الإحراق مستند إلى الجامع من غير دخل للخصوصيّة.

لكن يخدش في هذا، فإنّه لا يتمّ إلّا على مذهب من يقول بامتناع اجتماع الأمر و النهي، و أمّا على مذهب المجوّزين- كما أنّه دام ظلّه منهم- فلا، فإنّه يقال:

إنّ البائع قد عصى بشي ء و ارتكب المباح بشي ء آخر، كما يقال في الصلاة في الدار المغصوبة: إنّه أطاع و عصى، فإنّ المقام مثل ذلك بلا فرق، و على هذا فلا يصدق أنّه عصى بالبيع، و المفروض أنّه ملاك البطلان فينحصر الوجه في الأوّل و هو أيضا قابل للإنكار.

[المسألة الثالثة في بيع الفضولي لنفسه و فيه تتمة تتضمن أمرين]
[الأمر الأول جريان بيع الفضولي في المعاطاة]
اشارة

الثاني: الظاهر

أنّه لا فرق في صحّة بيع الفضولي بين العقدي و المعاطاة، أمّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 317

بناء على إفادتها الملك فلما اخترنا من صحّتها على القاعدة و أنّها مشمولة للعمومات، و قد مرّ تطبيق صحّة الفضولي أيضا عليها، فلا يلزم من اجتماعهما مخالفة قاعدة لا محالة. نعم بناء على تصحيح المعاطاة من جهة الدليل الخاص- لمّا كان هو السيرة- فالقدر المتيقّن منها غير الفضولي، لكن المبنى ضعيف.

و قد يستشكل في إجراء الفضولي في المعاطاة من جهة أنّ إنشائها يكون بالإقباض و هو في الفضولي لمّا يكون تصرّفا في مال الغير بغير إحراز رضاه محرّم، فيكون فاسدا، لأنّا و إن لم نقل بدلالة النهي على الفساد عقلا و لكن نقول بها في خصوص النواهي المتعلّقة بعنوان المعاملة من جهة الإجماع الذي حكاه الأستاذ عن أستاذه- طاب رمسه- أو من جهة الاستفادة من تعليل رواية صحّة نكاح العبد بغير إذن سيّده في قبال العامّة بأنّه إنّما عصى سيّده و لم يعص اللّٰه.

و بالجملة: فالدليل قائم على أنّه متى صار نفس البيع مصداقا للعصيان فهو فاسد و الإقباض هنا تصرّف في مال الغير، و المفروض أنّ البيع نفس هذا الإقباض، و الحاصل: فرق بين أن يكون نفس منشأ انتزاع البيع معصية و بين أن تكون المعصية عنوانا آخر منطبقا على منشئه كمخالفة السيّد، و مقامنا من الأوّل.

فإن قلت: بناء على القول بجواز الاجتماع هنا عنوانان مجتمعان في الوجود، لكن بحسب موطن تعلّق النهي متغايران و بينهما عموم من وجه، أحدهما: عنوان البيع المنتزع من التصرّف في المال بمبادلته بمال آخر، و الآخر عنوان الغصب المنتزع من التصرّف في مال الغير عدوانا، فإذا كان الثاني معصية لا

يلزم أن يكون الأوّل كذلك، نعم بناء على الامتناع ما ذكرته حقّ.

قلت: ما ذكرته حقّ لو كان متعلّق النهي عنوان التصرّف في مال الغير، و أمّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 318

لو كان هو مرآتا و إشارة إلى العناوين الخاصّة من الأكل و الشرب و البيع و غير ذلك فلا، و نحن نتكلّم على هذا التقدير فالشأن بيان المخلص عليه.

و حينئذ فقد يقال في رفع الإشكال بما حاصله: إنّ النهي المفسد بعد ما لا يرجع إلى المسبّب، أعني: نفس المبادلة الواقعيّة- إذ النهي عنها دليل وقوعها- لا بدّ من إرجاعه إلى السبب و هو الإنشاء، ثمّ يختلف الحال على حسب اختلاف القولين في حقيقة الإنشاء، فعلى قول من يقول بأنّ الإنشاء عبارة عن صفة قلبيّة يكشف عنها اللفظ، و ليس لتلك الصفة حكاية عما وراها سبب المبادلة المعبّر عنه بالعقد، و الإيجاب و القبول عبارة عن عنوان ثانوي منتزع من مرتبة إظهار تلك الصفة القلبيّة و هو منطبق على نفس تلك الصفة، فإنّ العناوين المنتزعة من مرتبة إظهار الشي ء على قسمين، أحدهما: ما ينطبق على الشي ء المظهر بالفتح، و الوجوب من هذا القبيل، و الثاني: ما ينطبق على المظهر بالكسر، و التوهين من هذا القبيل، و لهذا ينتزع من صرف التلفّظ بالألفاظ الدالّة على المعنى المستقبح و لو علم عدم قصد المتكلّم معانيها، و مقامنا من القبيل الأوّل، إذ العقد و إنشاء المبادلة عبارة عن نفس تلك الصفة القائمة بالنفس في مرتبة إظهاره إمّا بالقول أو بالفعل، فما يكون نهيه مفسدا هو هذا المعنى، و لا يوجب حرمة مظهره بالكسر، أعني:- اللفظ أو الفعل- حرمته نفسه.

و أمّا بناء على قول من يقول بأنّ الإنشاء

يقصد به تحقّق المفهوم في الخارج غاية الأمر نظر المتلفّظ طريق إلى الواقع فبنظره يحصل المفهوم في الخارج- و لهذا نقول بحصول الملكيّة باعتباره بعد إنشائه لا أنّه إنشاء المفهوم مقيّدا بكونه باعتباره ثم إذا أمضى الشارع هذه الملكيّة و المبادلة صار ملكيّة واقعية و إلّا يبقى على اعتباريّتها- فالإنشاء و السبب المنقّل و المملّك على هذا القول هو القصد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 319

الجدّي من المتكلّم بإيقاع المضمون في الخارج، و التلفّظ و الإقباض آلة و وسيلة لهذا الإيقاع، فلا يلزم من حرمتهما إلّا حرمة ما هو آلة الإنشاء و الإيجاب و القبول و حرمة الآلة لا يقتضي حرمة ذي الآلة، و ما هو المفسد حرمة ذي الآلة حسب الفرض، و الحاصل: ليس الإنشاء على قوله عبارة عن نفس اللفظ أو القبض بل عبارة عن الأمر القلبي الذي نسبتهما إليه نسبة الآليّة.

فرع لو تخيّل مالك المال أنّ المال لغيره فتصدّى لبيعه إمّا لذلك الغير و إمّا لنفسه لبنائه على تملّكه غصبا

فالكلام من حيث تمشّي قصد البيع هو ما تقدّم بعينه حرفا بحرف، لكن هل يحتاج هذا البيع إلى رضي آخر بعد الالتفات إلى كون المال لنفسه؟ الظاهر ذلك سواء على مبني الشيخ- رحمه اللّٰه- أم على ما قوّاه الأستاذ- دام ظلّه-، أمّا على المبنى الأوّل و إن كان الإيجاب ساكتا عن قيد كونه لنفسه أو لغيره لكن لم يكن الرضى متعلّقا بهذا العنوان بنحو تعدّد المطلوب بل كان بنحو وحدة المطلوب متعلّقا بمال الغير، و ما يعتبر في صحّة العقد هو الرضى بعنوان المالكيّة. و الحاصل: مجرّد رضاه بعنوان الإيجاب المقتضي للنقل من المالك الواقعي بذاته لا بمدلوله مع كونه مالكا واقعيا لا يكفي ظاهرا بعد فرض أنّه غير عالم بانطباق عنوان المالك على نفسه.

و من هذا يعلم الحال على

مذاق الأستاذ- دام ظلّه- فإنّه و إن قال بأنّ موضوع البيع هو المهملة بين الخصوصيّتين إلى الكون للنفس أو الغير لعدم كونهما معدّدين للموضوع بنظر العرف، لكن هذا يكفي لصدق عنوان البيع و لا يتحقّق به رضي المالك بعد فرض العلم بعدم كونه مالكا، فإلغاء الخصوصيّة في صدق العنوان لا يوجب إلغائها في مقام الرضى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 320

[الأمر الثاني] اشتراء الفضولي بعين مال الغير أو في الذمة:
اشارة

قال- قدّس سرّه- «ثمّ إنّه قال في التذكرة: لو اشترى فضوليا، فإن كان بعين مال الغير، فالخلاف في البطلان و الوقف على الإجازة، إلّا أنّ أبا حنيفة قال:

للمشتري بكل حال، و إن كان في الذّمة لغيره و أطلق اللفظ، قال علماؤنا: يقف على الإجازة، فإن أجاز صحّ و لزمه أداء الثمن، و إن ردّ نفذ عن المباشر، و به قال الشافعي في القديم و أحمد، و إنّما يصحّ الشراء لأنّه تصرّف في ذمته لا في مال غيره، و إنّما وقف على الإجازة لأنّه عقد الشراء له، فإن أجازه لزمه، و إن ردّه لزم من اشتراه، و لا فرق بين أن ينفذ من مال الغير أو لا. و قال أبو حنيفة يقع عن المباشر. انتهى».

أقول: إن كان قوله لغيره قيدا لقوله في الذمّة- يعني: اشترى في ذمّة غيره في القصد و لم يصرّح بهذا في اللفظ- فلا وجه للزوم أداء الثمن على المباشر في صورة الرد، و لا يناسبه التعليل بقوله: لأنّه تصرف في ذمته، إذ المفروض أنّه تصرف في ذمّة الغير.

و إن كان خبرا بعد خبر لكان، و يكون المعنى أنّه اشترى في ذمّة نفسه لكن بقصد كون المبيع لغيره، و لم يصرّح بهذا القصد في اللفظ، فالتّعليل و إن كان مناسبا لكن الحكم

حينئذ يبتني على أنّه: هل يعتبر في البيع دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض أو لا؟ فعلى الثاني، يحكم بالصحّة و لزوم أداء الثمن على المشتري و كون المبيع لذلك الغير بلا وقوف على إجازته، لأنّ هذا ليس بيعا فضوليا. و على الأوّل، يحكم بالبطلان من الأصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 321

فالذي يمكن أن يقال في توجيه كلامه: إنّه ناظر إلى مقام الإثبات لا الثبوت، يعني: لو عيّن في النيّة الثمن في ذمّة الغير، و أطلق في الصيغة لفظ الذمّة، الظاهر بإطلاقه في ذمة نفسه، فإن أجاز ذلك الغير فلا نزاع في البين، لأنّ المفروض أنّ البيع قد عقد واقعا لذلك الغير و هو أجازه، فيلزم بدفع الثمن، و إن ردّ فيحكم بحسب ظاهر الصيغة بنفوذ البيع عن المباشر و لزوم دفع الثمن إيّاه، و يكون التعليل لتعميم الحكم بالصحّة هنا لصورة الردّ مع تخصيصه في الفرض المتقدم- أعني: ما إذا وقع الاشتراء على عين مال الغير- بصورة الإجازة، و المقصود أنّه يلزم هناك من الحكم بالصحّة- حتى في صورة الرد- التصرّف في مال الغير بدون رضاه، بخلاف هنا، فلا يلزم من الحكم بالصحّة مطلقا- سواء نفذ من مال الغير كما في صورة الإجازة أو من مال المباشر كما في صورة الرد- التصرف في مال الغير بدون رضاه، بل اللازم في الصورة الثانية التصرّف في ذمّة المباشر.

و يؤيّد هذا الذي ذكرنا- من إرادة مقام الإثبات- نسبة القول بالتفصيل المذكور إلى علمائنا، فإنّ هذا الوجه يمكن نسبته إليهم دون الوجهين السابقين، و من هنا خالفهم أبو حنيفة في صورة الإجازة، فحكم فيها أيضا بالوقوع عن المباشر أخذا بظاهر اللفظ. و عرفت أنّ

الأخذ بالظاهر في هذه الصورة لا وجه له، لعدم النزاع في البين.

و يبقى حينئذ الكلام في أنّ تصرّف المباشر في المبيع مع علمه بتعيينه الثمن في ذمة الغير- المفروض ردّه- ما حكمه؟ فيمكن أن يقال: بجوازه من باب التقاصّ، لتعذّر وصوله إلى حقّه بعد حكم الشرع ظاهرا بدخوله في ملك البائع.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 322

[استدراك الأمر الثاني المتقدم في التتمة]

قال- قدّس سرّه- (الثاني الظاهر أنّه لا فرق فيما ذكرنا من أقسام بيع الفضولي بين العقدي و المعاطاة) إلى آخره.

أقول: الكلام في هذا الأمر في أنّه كما أنّ بيع مال الغير بالصيغة يصحّ بإجازته كذلك بيعه بالقبض و الإقباض أيضا يصحّ بإجازته، أو لا؟

فنقول: إن جعلنا كلّا من صحّة الفضولي و إفادة المعاطاة للملك على طبق القاعدة، فلا محيص عن القول بصحّة البيع الجامع للحيثيتين، لكونه بكلتا حيثيّتيه مشمولا للعمومات، و إلّا بأنّ صححنا الفضولي بالدليل الخاص، أو قلنا بإفادة المعاطاة الإباحة على خلاف القاعدة، فالمتعيّن الحكم بالبطلان، لأنّ المتيقّن من دليل صحة الفضولي ما إذا كان بالصيغة، و من دليل إفادة المعاطاة الإباحة ما إذا كان التقابض بين المالكين.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 323

[القول في الإجازة و الرد]
[القسم الأول في الإجازة و فيها ثلاثة أبحاث]
[البحث الأول من أن الإجازة كاشفة أو ناقلة و فيها ثلاثة مقامات]
[المقام الأول في بيان حكمها]

[الكشف و النقل]

قال- قدّس سرّه- القول في الإجازة و الردّ، أمّا الكلام في الإجازة فيقع تارة في حكمها و شروطها، و أخرى في المجيز، و ثالثة في المجاز.

أمّا حكمها، فقد اختلف القائلون بصحّة الفضولي بعد اتفاقهم على توقفها على الإجازة في كونها كاشفة- بمعنى أنّه يحكم بعد الإجازة بحصول آثار العقد من حين وقوعه حتّى كأنّ الإجازة وقعت مقارنة للعقد، أو ناقلة- بمعنى ترتّب آثار العقد من حينها حتّى كأنّ العقد وقع حال الإجازة- على قولين، فالأكثر على الأوّل).

أقول: يرد على الكشف أنّ الشرط من أجزاء العلّة، فكيف يتأخّر عن المعلول؟

و قد يجاب بمثل ما قاله صاحب الفصول في الواجب التعليقي، و هو أنّ الشرط ليس هو الإجازة المتأخرة، بل وصف كون العقد متعقّبا بالإجازة و ملحوقا بها، و هذا وصف قائم بالعقد، موجود معه.

و فيه: أنّ هذا و إن كان يحصل به التفصّي عن الإشكال إلّا أنّه مخالف

لما هو الظاهر بل المقطوع به من الأدلّة من أنّ الشرط رضا المالك، إذ على هذا ما هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 324

الشرط- أعني: التعقب- ليس برضا، و ما هو الرضا- أعني: الإجازة المتأخّرة- ليس بشرط، بل لا يصلح أن يكون شرطا، لعدم كونه صادرا من المالك، لخروج المال من حين العقد عن ملكه.

و قد يجاب أيضا بأنّ الشرط هو الوجود الدهري الثابت في سجلّ الكون، و بيان ذلك أنّ المتدرّجات في الوجود أعني: الزمانيات- لو قطع النظر عن الزمان- فهي مجتمعة في وعاء الدهر في عرض واحد، و يصحّ على كلّ واحد منها إطلاق اسم الموجود في مقابل المعدوم.

فإن قلت: زيد الذي لم تنعقد نطفته بعد، لا يقال إنّه موجود في الحال، بل يقال إنّه سيوجد بعد هذا.

قلت: البعدية و القبلية و الحاليّة من الزمان، فالكلام المذكور شأن من لم يقطع نظره عن الزمان، لا من جرّد النظر عنه و وضع القدم فوقه، ألا ترى أنّ اللّٰه تعالى، الذي تنزّهت ساحته عن الكون في الزمان، يتعلّق علمه بتمام الموجودات إلى يوم القيامة في آن واحد، مع أنّ تعلّق العلم بالمعدوم محال، و حينئذ فكما يمكن أن يكون السابق علّة للاحق أو لاتصافه بوصف، فكذلك يمكن أن يكون اللاحق مؤثّرا في السابق أو في اتصافه بوصف، و من جملة العناوين- التي يكون الوجود اللاحق دخيلا في تحققها سابقا بحيث لولا هذا الوجود لما تحقّقت- هي عنوان التعقيب المذكور، فإنّ الإجازة المتأخّرة شرط تحققه، لكونها منشأ لانتزاعه.

و منها عنوان الأوّليّة، فإنّ ثبوتها للشي ء يتوقف على وجود الشي ء الثاني، و منها قبلية اليوم الحاضر على الغد مع أنّ الغد لم يجي ء بعد. و منها حسن

المشي إلى فرسخ من البلد و لغويّته، فإنّ المسافر لو قدم في الغد كان هذا المشي حسنا، و لو لم يقدم إلّا بعد مدة طويلة كان لغوا، و كذا يحسن وضع السرداب لوجود الصيف فيما بعد، إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 325

غير ذلك من الأمثلة الكثيرة الواقعة في الخارج.

و أيضا كما يمكن أن يكون سبب وجود الثاني هو الأوّل، كذا يمكن أن يكون سبب وجود الأوّل هو الثاني.

و فيه: أنّ هذا أيضا مخالف لما هو المقطوع به من الأدلّة من كون الشرط هو الإجازة الصادرة من المالك من حيث إنّه مالك، إذ على هذا تكون الإجازة صادرة عن غير المالك، لزوال حيثية المالكية عن المجيز بسبب العقد.

فإن قلت: المالكيّة بلحاظ عالم الدهر موجود مع الإجازة في عرض واحد.

قلت: نعم هما موجودان لكن بوجودين متمايزين لا يرتبط أحدهما بالآخر، و هذا لا يكفي في تحقق عنوان الإجازة المضافة إلى المالك.

و بالجملة: تحقق إضافة فعل إلى عنوان و لو في عالم الدهر، يتوقف على خروج هذا الفعل من قوّة ذلك العنوان و اختياره، فلا يكفي في تحقق ضرب الأسود، مثلا- و لو في عالم الدهر- الضرب الصادر من الأبيض و إن كان في السابق أسود.

و قد يجاب عن أصل الإشكال أيضا: بأنّ الشرط في التكوينيات عبارة عن أمر خارجي أثّر في أمر خارجي آخر، سواء تصوّره أحد أم لا فطلوع الشمس مثلا يؤثّر في وجود النهار، لاحظه أحد أم لا، و ليس الأمر هكذا في المجعولات، فليس الشرط فيها هو الأمر الخارجي، يعني: أنّ الوجود الخارجي ما لم يوجد في اللحاظ و لم يتعقل في الذهن لا يؤثّر في النفس، و لهذا لو جاء زيد

و لم تلتفت لا تصير قاصدا لإكرامه، بل المؤثّر في أفعال النفس- من الجعل و الإرادة و نحوهما- ليس إلّا الوجود الذهني العلمي، يعني: لا دخل للوجود الخارجي فيها أصلا، و لهذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 326

تنقدح إرادة الإكرام في نفس الجاهل المركب بمجي ء زيد.

و حينئذ نقول: لا فرق في اللحاظ بين المتقدّم و المتأخّر و المقارن، يعني: كما أنّ الشي ء بلحاظ مسبوقيته بشي ء آخر يصير شيئا خاصّا، و قد يكون بهذه الخصوصية الطارئة له في اللحاظ ذا مصلحة، كذلك لحاظ ملحوقيته بشي ء آخر أيضا يحدث فيه خصوصية، و قد يكون بهذه الخصوصية ذا مصلحة، مثلا: الصوم بلحاظ مسبوقيته بغسل الجنابة فيه المصلحة و يكون مطلوبا، و بلحاظ ملحوقيته بغسل الاستحاضة أيضا فيه المصلحة و يكون مطلوبا. فالعقد فيما نحن فيه يختلف حاله على حسب اختلاف لحاظ الجاعل و كيفيّة تعقله إيّاه، فتارة يلحظه غير مسبوق برضا المالك و لا ملحوق به، و حينئذ لا جعل له و لا حكم، و أخرى يلحظه مسبوقا برضا المالك، و هذا اللحاظ موجب لجعل الأثر، أعني: الملكية للعقد، و ثالثة يلحظه ملحوقا برضاه، فهذا أيضا يمكن أن يصير موجبا لجعل الأثر، و حينئذ فحيث إنّ العقد الخارجي الذي ستلحقه الإجازة بعينه يكون هو العقد الخاص الذي لحظه الجاعل يكون ذا أثر.

نعم لا يتمّ هذا الوجه فيما لا يكون من قبيل الأحكام و المجعولات، بل يكون من قبيل الموضوعات، كحيضيّة الدم الذي تراه المرأة في اليوم الأوّل من الأيام الثلاثة المتوالية، المشروطة باستمرار الدم إلى آخر جزء من اليوم الثالث، فإنّ الظاهر أنّ الحيضية من الموضوعات لا الأحكام.

و فيه: أنّ هذا أيضا مخالف لما هو القطعي و

المستفاد من الأدلّة من اشتراط إجازة المالك، إذ على هذا أيضا لا تكون الإجازة صادرة من المالك، فإنّه لا بدّ من مالكية المجيز حال الإجازة، و لا يكفي مالكيته حين العقد، فلو فرض أنّ المالك نقل ما باعه الفضولي من شخص إلى آخر غير ملتفت إلى بيع الفضولي، فإجازته

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 327

بعد الالتفات غير مصححة لبيع الفضولي، بل قيل بأنّ إجازة المالك الثاني مصححة له.

و قد يتفصّى عن أصل الإشكال أيضا بالتزام أنّ الشرط أمر مجهول حاصل حين العقد ملازم لحصول الإجازة فيما بعد، بحيث يستكشف من حصولها فيما بعد حصوله حين العقد.

و فيه أيضا ما لا يخفى من المخالفة للأدلّة و القطع بشرطيّة نفس الرضا لا شي ء آخر، فهذه أربعة وجوه لتصوير الكشف الحقيقي، و الظاهر أنّه غير خارج منها. و قد عرفت مخالفة كلّها للأدلّة.

و أمّا الكشف الحكمي فله وجهان: الأوّل: أن تكون الإجازة مؤثّرة فيما قبلها، بمعنى أنّ العقد حين وقوعه غير مؤثّر في الانتقال، بل المال باق على ملك مالكه، و الإجازة الحاصلة فيما بعد تجعل العقد من السابق، أي من حين وقوعه مؤثّرا في الانتقال.

و فيه أنّ تغيير الواقع عمّا وقع عليه غير معقول، فقلب العقد الغير المؤثّر من حين وقوعه مؤثّرا من حين وقوعه ليس إلّا مثل جعل الأبيض في الأمس أسود في الأمس.

الثاني: ما ذكره المصنّف- قدّس سرّه- و هو: أن تكون الإجازة ناقلة، فيكون مبدأ حصول الملكيّة حين الإجازة، لكن تكون آثار الكشف مرتّبة بقدر الإمكان.

و هذا و إن كان ممكنا بحسب التصوير، و لا يرد عليه الإشكال المتقدّم- كما لا يخفى- لكنّه مخالف للقاعدة، إذ لو سلّمنا صحّة الفضولي على طبق القاعدة،

بأن يكون الرضا- المستفاد اشتراطه من الأدلّة- أعم من المقارن و المتأخّر، لكنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 328

القاعدة تقتضي ترتّب الآثار من بعد الإجازة التي هي من تتمّة العلّة، فترتّبها قبلها يحتاج إلى دليل خاص. نعم ثبوتها قبلها يكون على طبق القاعدة في بعض المواضع.

و بيان ذلك: أنّ العقود على قسمين، فبعض منها يكون الزمان مأخوذا قيدا في مضمونه كسائر القيود، و بعض منها يكون الزمان ظرفا لنفسه لا قيدا لمضمونه.

فالأوّل كالإجارة و عقد التمتع، فإنّ مضمون الإجارة تمليك المنفعة المحدودة بقطعة خاصّة من الزمان، و مضمون عقد التمتع إيقاع الزوجية المحدودة بقطعة خاصّة من الزمان.

و الثاني: كالبيع، فإنّ مضمونه النقل المطلق المتعلّق بالعين، لا النقل المقيد بكونه من هذا الحين إلى الأبد أو إلى أجل معيّن، غاية الأمر إنّ الملكيّة بسبب حصول السبب المملّك صار حاصلا، و ما دام لم يثبت السبب المزيل لها يكون باقيا.

و الحاصل أنّ حصول الملكيّة في الزمان المتصل بالبيع من جهة صيرورة علّتها تامّة في هذا الحين، لا من جهة تقييد الملكيّة المدلول عليها بالعقد بكونها من هذا الحين، و لهذا لو كان للأمر المتأخّر الحصول عن البيع مدخل في العلّة- كالقبض في الصرف- كان مبدأ حصول الملكيّة من حين حصول هذا الأمر، و غاية الأمر أن يكون حينئذ ظرف جزء العلّة زمانا، و ظرف جزئها الآخر زمانا آخر، فالإجازة في الفضولي من القسم الأوّل مقتضية لترتّب الآثار من أوّل الزمان الذي جعل في العقد قيدا إلى آخره، و إن كانت حاصلة بعد انقضاء بعض هذا الزمان أو تمامه، مثلا لو أجار الفضولي الدار من حين الإجارة إلى انقضاء عام واحد شمسي، ثمّ أجاز مالك الدار بعد

انقضاء ستة أشهر، فهذه الإجازة تقتضي تملّك المنفعة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 329

للمستأجر من أوّل العام إلى آخره، لا من نصفه إلى آخره، و سرّ ذلك أنّ الإجازة إنفاذ لمضمون العقد و إمضاء لمقتضاه، لا لشي ء آخر، فإذا كان مضمون العقد النقل في الزمان الخاص، كانت الإجازة لا محالة إمضاء للنقل في هذا الزمان الخاص، و لا يلزم من ذلك التناقض بأن تكون المنفعة في الزمان الواحد- أعني: ما قبل الإجازة- ملكا للمستأجر بمقتضى ما ذكر، و غير ملك له بمقتضى ناقلية الإجازة، إذ ذلك مدفوع بأخذ الزمان المتخلّل بين العقد و الإجازة قيدا للمنفعة، و فرض زمان آخر للمجموع منهما، مثلا يقال في المثال المذكور: إنّ سكنى الدار الكائنة في هذه الأشهر الستّة، كانت إلى الآن ملكا للمجيز، و الآن صارت ملكا للمستأجر.

فإن قلت: المنفعة الماضية غير ممكنة الاستيفاء، فلا معنى لتمليكها.

قلت: كيف و لو استوفاها المستأجر أو منع من استيفائها، فلا كلام، و إلّا فله مطالبة الأجرة ممن استوفاها، أو منع من استيفائها.

و أمّا الإجازة في الفضولي من القسم الثاني، فواضح أنّه إمضاء لأصل التمليك لا التمليك المقيّد بزمان خاصّ، فيكون حصول التملّك في هذا الحين لا في غيره من باب تماميّة العلّة فيه، لا في غيره.

هذا و لكن المحشّي الطوسي- قدّس سرّه- بعد ما ذكر أنّ مقتضى القواعد هو النقل، و ذكر في مثل الإجارة و التمتع مثل ما ذكرناه: من كون الإجازة مؤثّرة في الملكية و الزوجية من مبتدأ المدّة إلى منتهاها و إن كانت واقعة في أثناء المدّة إلى آخر ما ذكرنا، قال ما لفظه: و كذا إذا كان- أي العقد- مثل البيع و النكاح الدائم، فإنّ قضيّة

إطلاقهما هو القصد إلى مضمونه مطلقا و مرسلا بلا تحديد في أوّله و لا في آخره، و لم يلحظ فيه تقييد و تحديد بزمان الإرسال و الإطلاق،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 330

و لازمه تحقّقه مقارنا لزمان وجود علّته، و هذا غير الإبهام و الإهمال الذي لا يكاد يصحّ العقد عليه. انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و حاصله: أنّ مفاد البيع مثلا إنشاء الملكيّة المطلقة، لا المقيّدة بالزمان و لا المهملة، و لازمه حصول الملكيّة من حين البيع لو وجد إمضاء الشارع في هذا الحين، لكن لمّا تأخّر وجوده إلى حين الإجازة، وجب الانتزاع من هذا الحين للملكيّة من حين البيع مستمرّا، فالإجازة المتأخّرة المتعلّقة بمضمون العقد تكون لا محالة مؤثّرة في نفوذ الملكيّة من حين البيع.

أقول: ناقليّة الإجازة على وجه يؤثّر في نفوذ مفاد العقد المتقدّم من حين وقوع العقد- على فرض تسليمها في مثل الإجارة- لا يتمّ في مثل البيع، و ذلك لمكان الفرق بينهما.

و بيانه: أنّ الزمان قيد للمنفعة فمنفعة يوم السبت مال و منفعة يوم الأحد مال آخر، فالمنفعة المقيّدة بزمان حالها حال العين، فيمكن أن تكون ملكا لاثنين في زمانين، مثل أن تكون منفعة يوم الأحد ملكا لأحد في يوم السبت، و ملكا لآخر في يوم الأحد، كما أنّ نفس الدار- مثلا- تكون في السبت ملك أحد و في الأحد ملك غيره، و حينئذ فالإجازة كما تنقل منفعة اليوم البعد إلى المستأجر، كذلك يمكن أن تنقل منفعة اليوم القبل الواقع بعد العقد أيضا إليه من دون لزوم اجتماع المالكين المستقلين أو الملكيّة و عدمها في زمان واحد، و ذلك لأنّ قيد المنفعة و إن كان زمانا واحدا و هو اليوم القبل،

لكن ظرف ملكيّة المجيز ما قبل الإجازة، و ظرف ملكيّة المستأجر ما بعدها، كما هو الحال بعينه في منفعة اليوم البعد، و هذا بخلاف العين، فليس الزمان قيدها، فالدار في يوم السبت ليست غير الدار في يوم الأحد، فالزمان هنا لا بدّ و أن يكون ظرفا و قيدا للملكيّة، يعني: يكون الدار ملك أحد في السبت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 331

و ملك غيره في الأحد.

فلنا فيما بين البيع الفضولي و الإجازة ثلاثة أمور: العين و الملكيّة- يعني:

ملكيّة المالك لها- و ظرف هذه الملكيّة و هو الزمان المتخلل، و المفروض أنّ الملكية ليست قابلة لأن تنتقل و تقع متعلّقة لملكيّة أخرى حتّى يقال هنا بمثل ما قيل في السابق، بأن يقال: ملكيّة اليوم القبل المتعلقة بالعين ملك للمالك فيما قبل الإجازة، و ملك للمشتري فيما بعدها، فحينئذ ناقليّة الإجازة بمعنى أن تجعل العين ملكا للمشتري من حين العقد، لا تخلو من حالين: إمّا أن لا تذهب ملكيّة المالك من حين العقد إلى حين الإجازة، و إمّا أن تذهبها، فالأوّل لازمه اجتماع المالكين المستقلّين، و الثاني هو القلب الغير المعقول، بل يمكن منع الناقليّة بالمعنى المذكور في مثل الإجارة أيضا، و ذلك لأنّ الناقليّة بهذا المعنى فرع قابلية المنفعة الماضية المتخلّلة بين العقد و الإجازة للانتقال، و ليست قابلة له، لعدم كونها مالا، و أمّا مالية المنفعة الآتية فإنّما هي لأجل إمكان استيفائها بخلاف المنفعة الماضية، فإنّ المتصرّف فيها بالاستيفاء أو الإتلاف إمّا أن يكون هو المالك، أو يكون هو الغاصب أعمّ من أن يكون الغاصب هو المستأجر أو غيره، فعلى الأوّل لا ضمان لها، لفرض كون المتصرّف مالكا، فالمنفعة التالفة الغير المتداركة بالعوض كيف

تكون مالا؟ و على الثاني و إن كان لها الضمان لكنّ المنفعة التالفة ليست بمال، كيف و إلّا لم تكن مضمونة. نعم ما في ذمّة الغاصب يكون مالا و لهذا يجوز نقله إمّا إليه، و إمّا إلى غيره.

و الحاصل أنّ المنفعة الماضية ليست مثل المنفعة الآتية مالا، كيف و إلّا لزم أن يصحّ تعلّق عقد الإجازة ابتداء بالمنافع التي كان جميعها ماضيا أو كان بعضها ماضيا و بعضها آتيا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 332

فإذن الإجازة في مثل البيع الفضولي مقتضية لترتّب الأثر من حينها، لما مرّ من أنّ العقد ليس مضمونه إلّا إنشاء أصل التمليك من دون نظر إلى الزمان أصلا، فمتى تحقّقت الإجازة كان ابتداء الملكية من هذا الحين، لأنّه زمان تحقق العلّة بتمامها.

فإن قلت: يمكن تقييد مضمون البيع بالزمان الآتي، مثل أن يجعل كون هذا ملكا للمخاطب من الغد- كما يمكن إنشاء الوجوب من الغد- غاية الأمر لا يصحّ هذا البيع بحسب الشرع، فحيث أمكن التقييد أمكن الإطلاق أيضا، بأن ينشأ الملكيّة الغير المخصوصة بزمان دون زمان، بل السّارية في تمام الأزمان.

و حينئذ فحيث لم يكن المنشأ هو الملكية المقيدة- كما هو المفروض في المقام- تعيّن أن يكون هو الملكيّة المطلقة، فإذا كان مضمون عقد الفضولي الملكيّة المطلقة، لزم أن يتحقّق بسبب الإجازة هذه الملكيّة المطلقة المرسلة من حين البيع مستمرّا.

قلت: كون الملكية مطلقة لا يستلزم كون البائع قاصدا لإنشاء الملكية من هذا الحين، لأنّ الإطلاق ليس قيدا زائدا على نفس الطبيعة كسائر القيود، و إلّا لم يمكن الأخذ به في مورد اجتماع مقدّمات الحكمة، لكونه ترجيحا بلا مرجّح، بل إذا أنشأ البائع نفس الملكيّة و لم يقيدها بشي ء اتّصفت الملكيّة بوصف

الإطلاق، فلا مدخل في تحقّق هذا الوصف لقصد شي ء سوى قصد نفس الملكية، فمتى تحقّقت العلّة التامة تحقّقت نفس الملكية، و لازم ذلك تحقّق الملكيّة من حين الإجازة لا من حين البيع.

و أمّا في مثل الإجارة الفضولية فيما إذا تحقّقت الإجازة بعد مضيّ بعض المدّة، فلا بدّ من الالتزام إمّا بعدم تأثيرها أصلا، لعدم إمكان تعلّقها بجميع ما تعلّقت به الإجارة، و إمّا بالتبعيض، بأن لا تؤثّر في البعض الغير القابل- أعني: المنفعة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 333

الماضية- و تؤثّر في البعض القابل- أعني: المنفعة الآتية- نظير ما إذا بيع بصفقة واحدة ما يملك و مالا يملك فضولة، فإنّ الإجازة مصحّحة للبيع فيما يملك، دون غيره.

ثمّ إنّك عرفت أنّ وجوه الكشف ممّا سوى القلب مخالفة لمقتضى القواعد من اشتراط إجازة المالك، و القلب غير معقول.

و استدلّ للكشف بوجوه ضعيفة:

منها: أنّ الإجازة لو لم تكن كاشفة لزم تأثير المعدوم- أعني: العقد- في الموجود- أعني: الملكية- مثلا.

و الجواب: أوّلا بالنقض بالقبض في العقود المشروط به، فإنّ العقد معدوم حال القبض، مع أنّ القبض ناقل باعترافهم، و أيضا الإيجاب معدوم حال القبول، بل يلزم على هذا أن تكون العلّة التامّة للنقل هو التاء من قبلت، لوضوح انعدام كلّ حرف عند التكلّم بلاحقة.

و ثانيا: بالحلّ و هو ما عرفت من أنّ العلّة في المجعولات متقوّمة بملاحظة الجاعل، يعني: أنّ الوجود الخارجي مع قطع النظر عن اللحاظ لا يؤثّر في الجعل، و في عالم اللحاظ ليس في البين تقدّم و تأخّر، بل المتقدّم و المتأخّر في هذا العالم مجتمعان و مقترنان، يعني أنّ الجاعل يلحظ كليهما في آن واحد، و حينئذ فلا مانع من أن يلاحظ الشارع «بعت

و قبلت» السابقين مع الإجازة اللاحقة، و يرى المصلحة في جعل الأثر للمجموع، فيجعله له.

و الحاصل: أنّ العلل الجعلية ليست كالعلل التكوينية مستحيلة الانفكاك عن المعلول.

و منها وجهان آخران، قد عرفت الجواب من أحدهما، و لعلّه يأتي الكلام على الآخر فيما سيجي ء.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 334

فعلم ممّا ذكرنا من أوّل البحث إلى هنا أنّ مقتضى القاعدة هو النقل فيبقى الكلام حينئذ في أنّ ترتيب أثر الكشف بقدر الإمكان مع ذلك- و هو الكشف الحكمي الذي ذكره المصنف قدّس سرّه- هل عليه دليل خاص أو لا؟

قال- قدّس سرّه-:

«و أمّا الأخبار، فالظاهر من صحيحة محمد بن قيس الكشف».

أقول: و ذلك لأنّ ظاهرها إنّه لمّا أجاز مالك الوليدة بيع الابن أخذ المشتري الوليدة مع ولدها.

قال- قدّس سرّه-: (نعم صحيحة أبي عبيدة) إلى قوله: (ظاهره في قول الكشف).

أقول: بعد اعترافه- قدّس سرّه- بعدم معقوليّة الشرط المتأخّر: فلا بدّ أن يكون الخبر الموهم له مطروحا أو مؤوّلا عنده، ثمّ حمل هذه الصحيحة على الكشف الحكمي، و إن كان فيه ما ذكره- قدّس سرّه- من استلزامه للتصرّف في قاعدة التسليط، إلّا أنّ حملها على الكشف الحقيقي أيضا مستلزم للتصرّف في قاعدة أخرى ظاهرية، و هي أصالة عدم الإجازة، فإذا كان التصرّف في قاعدة لا بدّ منه على أيّ حال، فالحمل على الكشف الحكمي أولى، لما في الكشف الحقيقي من المخالفة للأدلّة كما عرفت.

قال- قدّس سرّه-: (اللهمّ إلّا أن يكون مراده بالشرط) إلى آخره.

أقول: هذا مربوط بكلام صاحب الدعوى و هو صاحب الجواهر- قدّس سرّه- يعني هذا الإيراد الذي ذكرنا وارد عليه. إلّا أن يكون المراد بالشرط في كلامه ما يتوقّف تأثير السبب المتقدم في زمانه على لحوقه، بأن يكون

قد جعل الشرط حقيقة وصف التّعقب المقارن للأثر، و أطلق لفظ الشرط على نفس المتأخر- من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 335

الرضا و الغسل و نحوهما- باعتبار توقّف تأثير السبب المتقدم على لحوقها.

و هذا و إن كان سالما من الإيراد المتقدم، لكن يرد عليه إيرادان آخران.

أحدهما: أنّ هذا المعنى لا يطلق عليه اسم الشرط بحسب الاصطلاح.

و الثاني: أنّه غير صادق على الرضا إلى آخر ما ذكره- قدّس سرّه.

و لعمري إنّ هذا معنى واضح لهذه العبارة و إن جعلها مجملة و أطنب الكلام في تفسيرها السيّد المحشي- دام ظلّه.

قال- قدّس سرّه-: و أمّا ثانيا، فلأنّا لو سلّمنا عدم كون الإجازة شرطا اصطلاحيا، إلى قوله: لكن نقول: لم يدلّ دليل على إمضاء الشارع لإجازة المالك على هذا الوجه.

أقول: قد يقال تارة بأنّ مضمون العقد إنشاء نفس الملكية كما ذكرنا.

و أخرى بأنّه إنشاء الملكيّة المطلقة أي من حين البيع.

ثمّ تطبيق صحّة عقد الفضولي على القاعدة إنّما يكون بأحد وجهين، قال بكلّ منهما قائل، أحدهما تعميم العقود في الآية الشريفة لعقود غير المالكين على أموالهم، ثمّ تقييد هذا الصنف من العقود برضا المالك.

و الثاني تخصيصها بعقود المالكين، و القول بأنّ عقد الفضولي يصير مضافا إلى المالك بسبب إجازته إيّاه فيتوجّه التكليف بالوفاء حينئذ إليه، فتمام الملاك في المطلب المقصود في المقام هو الوجهان الأوّلان، من غير أن يكون فرق في هذا المطلب بين الشقّين الأخيرين على كل واحد من ذينك التقديرين، كما يستفاد من عبارة المصنّف- قدّس سرّه- فإنّه إن قلنا بأنّ مضمون العقد إنشاء نفس الملكيّة، فلا فرق بين أن يكون الجزء الأخير من العلّة رضا المالك، أو يكون هو إضافة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 336

العقد إليه و إنفاذه إيّاه، فعلى أيّ حال لا بدّ من الالتزام بحصول الملكيّة من حين الإجازة، لأنّه زمان تمامية العلّة. و إن قلنا بالقول الآخر، فلا فرق أيضا بين كون تتمّة العلّة هو الرضا أو الإنفاذ، فعلى التقديرين لا بدّ من الالتزام بحصول الملكيّة من حين العقد، لأنّ هذا المضمون- أعني: الملكيّة من حين العقد على التقدير الأوّل- قد حصل مقتضية و هو العقد فاقدا للشرط، فإذا وجد الشرط و هو الرضا صار هذا المضمون من هذا الحين موجودا، لتحقّق علّته التامّة. و على التقدير الثاني قد حصل جزء من مقتضيه و هو نفس العقد، و بقي جزؤه الآخر، و هو إضافته إلى المالك، فإذا حصل هو أيضا حصل من هذا الحين هذا المضمون، لوجود علّته.

نعم بين الشقين الأخيرين فرق في مطلب آخر غير مرتبط بالمقام، و هو أنّه هل يعتبر في الإجازة التفات المالك إلى وقوع عقد في السابق على ماله، ثمّ رضاه بمضمون هذا العقد الملتفت إليه، أو يكفي مجرد رضاه بالمضمون و إن لم يلتفت إلى وقوع عقد في السابق أصلا؟ كما يقال له: هل أنت راض بمعاوضة هذا المال بعشرة دراهم؟ فيقول: نعم، فلازم كون الجزء الأخير الإنفاذ هو الأوّل، و لازم كونه الرضا هو الثاني.

ثمّ إنّك عرفت آنفا أنّ الدليل على مقتضى القول الأخير- و هو كون الملكية من حين العقد حاصلا من حين الإجازة- موجود لولا امتناعه.

لكنّك عرفت أيضا سابقا امتناعه، لاستلزامه إمّا القلب و إمّا اجتماع المالكين، فلا بدّ على هذا القول أيضا من المصير إلى حصول الملكيّة من حين الإجازة، لأجل وجود المانع عن حصولها من حين العقد، لا لأجل عدم الدليل عليه كما يستفاد من

عبارة المصنّف في صورة جعل التتمّة هو الإنفاذ.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 337

[المقام الثاني في الثمرة بين أنحاء الكشف و بين و النقل و فيه أمران]
اشارة

قال- قدّس سرّه- (بقي الكلام في بيان الثمرة بين الكشف باحتمالاته و النقل).

أقول: احتمالات الكشف- على ما عرفت- ثلاثة: أحدها: الكشف الحقيقي الحقيقي و هو حصول الانتقال و الملكيّة من أوّل الأمر في علم اللّٰه [جلّ جلاله]. إمّا بجعل الشرط وصف التعقّب، أو الوجود الدهري، أو الأمر المجهول.

و الثاني: الكشف الحقيقي بمعنى الانقلاب، و هو صيرورة الانتقال و الملكيّة من الأوّل منعقدا و موجودا في هذا الحال- أي حال الإجازة- بعد ما لم يكن في السابق بموجود، مع جعل الشرط هو الوجود الخارجي للإجازة.

و الثالث: الكشف الحكمي، و هو عدم وجود الانتقال و الملكيّة من أوّل الأمر في علم اللّٰه و عدم إيجاد الملكيّة من الأوّل في الحال، و لكن ترتّب آثار الملكية من الأوّل بقدر الإمكان مع جعل الشرط هو الوجود الخارجي للإجازة أيضا.

[الأمر الأول في بيان الثمرة بين أنحاء الكشف]

فنقول: تظهر الثمرة بين الكشف الحقيقي الحقيقي و الحكمي فيما لو وطئ المشتري الجارية بين العقد و الإجازة، فعلى الكشف الحقيقي هذا الوطء حلال واقعا، لوقوعه في ملكه، و حرام ظاهرا، لأصالة عدم الإجازة إلّا أن يعلم بحدوث الإجازة فيما بعد، فيكون حلالا واقعا و ظاهرا، و لو حصل الولد صارت أمّ ولد، لحدوث الولد في ملكه، و على الكشف الحكمي هذا الوطء واقع على ملك الغير مع العلم بأنّه ملك للغير، فيكون حراما، فيترتّب على ارتكابه العصيان و استحقاق العقاب، و لا يرتفع هذا العصيان و الاستحقاق بسبب الإجازة.

و سرّ ذلك أنّ الإجازة مؤثّرة بالنسبة إلى الآثار الشرعية- كملكية النماء- دون الآثار العقليّة، فإنّها تابعة لموضوعها وجودا و عدما، و لا يقبل التعبّد لا نفيا و لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 338

إثباتا، فلازم ارتكاب الحرام مع العلم

بالحرمة هو العصيان و استحقاق العقاب بحسب العقل، فلا يعقل رفع هذا الأثر العقلي بحسب الشرع.

و الحاصل أنّ الكشف الحكمي هو القول بالنقل مع ترتيب آثار الكشف الممكنة الترتب، و الآثار العقليّة ليست منها.

و كذا الآثار التي لا يشملها دليل التنزيل، كما فيما لو نذر أن يعطي الفقير دينارا لو ملك الجارية في يوم السبت من الشهر الفلاني مثلا، فاشتراها من الفضولي في هذا اليوم من هذا الشهر، فأجاز المالك بعد أيام، فعلى الكشف الحقيقي يجب الإعطاء، و على الحكمي لا يجب، أمّا الأوّل، فلحصول ملك الجارية حقيقة، و أمّا الثاني، فلأنّ هذا الأثر- أعني: وجوب الإعطاء- ليس من آثار الملك من حيث إنّه ملك، حتّى يحكم على الكشف الحكمي بترتّبه، و إنّما هو أثر للملك الجارية من حيث إنّه متعلّق للنذر المذكور.

و معنى الكشف الحكمي أنّ الشارع نزل عدم الملك منزلة الملك، و عامل معه معاملته، و هذا يفيد ترتّب آثار حيث الملكيّة لا غير، مثلا: ملكيّة النماء و الضمان من آثار الملك بما هو ملك، فينتقلان من المالك الأصلي إلى المشتري بسبب الإجازة.

و لو نقل المالك ما باعه الفضولي من شخص إلى غيره، فإن كان مع التفاته إلى عقد الفضولي كان ظاهرا في الردّ فلا تثمر الإجازة بعده، على ما سيجي ء ان شاء اللّٰه تعالى، و إن كان بدون الالتفات، فلا كلام في عدم كونه ردّا، إنّما الكلام في بقاء المحل للإجازة بعد هذا النقل و عدمه.

فنقول: أمّا على الكشف الحقيقي فيمكن أن يقال ببقاء المحل لها، فإذا أجاز، توقّف النقل المتخلّل بين عقد الفضولي و الإجازة الصادر من المالك الأصلي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 339

على إجازة المشتري من الفضولي، لاستكشاف

كونه فضوليا.

و أمّا على الكشف الحكمي، فيمكن أن يقال بعدم بقاء المحل لها، لأنّ تصرف المالك قبل الإجازة و بعد العقد بمقتضى مالكيته- كما هو المفروض- نافذ، فيفيد نقله تملّك المنقول إليه، و حينئذ و إن لم يكن استحالة في أن يرتّب الشارع على العقد النافذ و المعاملة الصحيحة أثر البطلان في زمان و يعامل معه معاملة الباطل، فيرتّب على نقل المالك الذي كان نافذا صحيحا إلى حين الإجازة أثر البطلان بعدها و يعامل معه معاملة ما لو صدر عقد الفضولي من نفس المالك، إلّا أنّ خروج هذا المال الذي صار ملكا للمنقول إليه بنقل المالك عن ملكه و صيرورته ملكا لآخر- أعني: المشتري من الفضولي- بسبب إجازة المالك الأصلي، مخالف لآية التجارة عن تراض، و قاعدة التسليط، فإنّ مقتضاهما انحصار سبب حلّ أكل المال في التجارة عن تراض و أنّ إخراج المال عن الملك و إبقائه باختيار صاحبه، و على هذا يلزم أكل مال المنقول إليه بدون التجارة عن تراض. و خروج ماله عن ملكه بقول أجزت من المالك الأصلي، و مخالفة القاعدة المذكورة في مورد الخبر المتقدّم الوارد في نكاح الصغيرين- كما عرفت- إنّما هي لأجل الاضطرار و الإلجاء، فإنّ الخبر ناصّ في العزل، و المفروض عدم معقولية الكشف الحقيقي، أو مخالفته للقطع، و هذا بخلاف ما نحن فيه، فالنص هنا مفقود، فيمكن أن يكون الكشف الحكمي مقصورا على ما إذا لم يتصرّف المالك الأصلي التصرف الناقل بين العقد و الإجازة، و لا إطلاق أيضا في دليل الكشف الحكمي حتّى يؤخذ به، و يخصّص به القاعدة، لأنّ دليله صحيحة ابن قيس، و هي قضية في واقعة شخصيّة، خالية عن تصرّف المالك الأصلي في

الجارية بين العقد و الإجازة، تصرّفا ناقلا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 340

هذا، مع إمكان أن يقال على هذا القول: بعدم تأثير الإجازة بعد التصرّف الناقل أصلا، من باب عدم كونها إجازة صادرة من المالك، و هذا بخلاف الكشف الحقيقي، فإنّ الشرط على بعض احتمالاته وصف التعقب و على الآخر الأمر المجهول، و هو حاصل.

و من هنا يظهر فساد وجه آخر لتصحيح العقد الفضولي في هذا الفرع بالإجازة على الكشف الحكمي- ربّما يصطاد من عبارة المصنّف- قدّس سرّه- في مسألة نقل النماء لا العين غير ما ذكرناه من أنّ نقل المالك الأصلي صحيح، و تكون العين ملكا للمنقول إليه إلى حين الإجازة، و من هذا الحين يصير النقل باطلا و العين ملكا للمشتري من الفضولي- و هو الحكم بصحّة نقل المالك إلى الآخر، أي بدون الحكم عليه بالبطلان بعد ذلك، ثمّ تضمين المالك البدل للمشتري من الفضولي، لأنّ ذلك مقتضى الجمع بين صحية نقل المالك حيث إنّه عقد صدر من أهله في محلّه، و بين تنزيل الإجازة من الآن ملك المالك الثابت من حين العقد إلى حين الإجازة منزلة ملك المشتري من الفضولي، فإجازة المالك هنا نظير فسخ ذي الخيار الواقع بعد نقل أحد الطرفين ما انتقل إليه إلى الغير بنقل لازم، حيث إنّه أيضا موجب للرجوع إلى بدل العين المنقولة.

وجه الفساد أنّ هذا الوجه و إن كان سالما عمّا في الوجه المتقدّم من المخالفة لآية التجارة عن تراض و قاعدة التسليط، إلّا أنّ فيه: أنّ ثبوت البدل على المالك بسبب الإجازة لا دليل عليه، لأنّ ذلك فرع كون الإجازة إجازة المالك، و ليست بها.

و أمّا التنظير بالفسخ، ففي غير محلّه، لأنّ حقّ الخيار ليس

متعلّقا بالعين و إلّا لم يجز نقلها، و لا بالعقد ما دام لم ينقل العين، بل متعلّق بنفس العقد، ففي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 341

صورة النقل أركان هذا الحق موجودة و هي الطرفان و نفس العقد، و لازم ذلك أنّه إذا فسخ العقد رجع كلّ إلى عينه إن كانت باقية، و إلّا فإلى بدلها، و هذا بخلاف ما نحن فيه، إذ ليس إجازة المالك موجودة.

و إذن ففي الحكم ببطلان الفضولي و خروجه عن قابليّة الصحّة بعد النقل مع موافقة القواعد المذكورة سلامة عن مخالفة قاعدة صحّة الفضولي مع الإجازة أيضا، و ذلك لعدم إجازة المالك في البين، كما عرفت، هذا.

و لو استولد المشتري الأمة قبل إجازة مالكها فأجاز، فعلى الكشف الحقيقي صارت أمّ ولد، و هذا واضح.

و أمّا على الحكمي فلا إشكال في أنّ هذا الولد بحسب قاعدة باب الميراث لا يرث من أبيه لكونه ولد الزنا فلا بدّ أوّلا من تنزيل هذا الولد منزلة الولد الحادث عن الوطء في ملك المشتري حتّى يترتّب عليه حكم الإرث فتصير أمّه حرة من نصيبه، فلا بدّ أوّلا من التكلّم في أنّ الدليل الذي يفيد أنّه يجب من حين الإجازة ترتيب آثار الملكية من حين العقد للمشتري هل يشمل مثل هذا الأثر، أعني:

إرث هذا الولد أو لا؟

فنقول: هذا الأثر ليس من الآثار المترتّبة على ملكيّة المشتري بلا واسطة، بل لازم ملكيّته عقلا كون الولد حادثا في ملكه، فيتحقّق موضوع الإرث، فهذا الأثر أثر شرعي لملكيّة المشتري بواسطة أثر عقلي، و الذي ذكروه في الأصول في باب الأصول العمليّة و هو التحقيق أنّ لسان التنزيل قاصر عن إثبات اللوازم العقليّة و العادية، و الآثار الشرعية المترتّبة بتوسطها،

و يسمّون الأصل الجاري لإثباتها أصلا مثبتا، مثلا ذكروا فيما لو شك في أنّ الولد قد تولّد حيّا حتّى يرث من أبيه الميّت أو ميّتا حتى لا يرث: أنّه لو كان تاريخ وفاة الأب معلوما و تاريخ ولادة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 342

الابن مجهولا، يستصحب حياة الولد الثابتة له في بطن الأمّ إلى زمان الخروج، فيحكم بإرثه.

فاستشكلوا عليه بأنّ هذا الأصل مثبت، لأنّ موضوع الإرث: من مات عن ولد حيّ، و أحد جزئية و هو الموت وجداني و الآخر و هو حياة الولد مستصحب، لكن عنوان مات عن ولد حيّ عنوان ثالث، و هو لازم عقليّ لحياة الولد عند الخروج، فالاستصحاب قاصر عن إثباته و إثبات أثره، فتبيّن عدم الدليل على إرث الولد في مسألتنا، فيرجع إلى قاعدة عدم إرث ولد الزنا، فلا تصير الجارية أمّ ولد، هذا.

و لو نقل المالك النماء دون العين قبل الإجازة، فأجاز، فحينئذ يجمع بين صحّة هذا النقل و بين الملكية التنزيلية للمشتري بالحكم إمّا بصحة هذا النقل إلى حين الإجازة و ببطلانه من هذا الحين ثمّ انتقال النماء إلى المشتري، أو بصحته إلى الآخر و رجوع المشتري إلى البدل.

و لا يرد هنا ما أوردناه في مسألة نقل العين من عدم كون الإجازة إجازة المالك، لفرض بقاء العين على ملك المالك و عدم الانتقال إلى الغير إلى حين الإجازة، و إنّما نقل النماء.

لكن يمكن أن يقال: إنّه يجب الاقتصار في التنزيل على القدر المتيقن من دليله، و القدر المتيقن منه هنا ما إذا لم يتصرّف المالك في النماء، إذ لا إطلاق لصحيحة ابن قيس، فتبقى الصورة الأخرى تحت القاعدة.

قال- قدّس سرّه-: (و ضابط الكشف الحكمي الحكم بعد الإجازة

بترتّب آثار ملكيّة المشتري من حين العقد).

أقول: قد عرفت ممّا ذكرنا: أنّ التنزيل و فرض الملكيّة من حين العقد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 343

للمشتري واقعا لا يصحّ بالنسبة إلى جميع الآثار، و ذلك لما عرفت من أنّ دليل التنزيل لا يشمل الآثار العقليّة و العاديّة و ما يكون بتوسّطها من الآثار الشرعية، مثل حرّية الأمة من نصيب ولدها، التي هي أثر شرعيّ لحدوث الولد في الملك الذي هو أثر عقليّ للملكيّة الواقعية للمشتري. و كذا عرفت أنّه يجب الاقتصار في التنزيل على القدر المتيقّن من دليله، فلا تنزيل بالنسبة إلى غيره، مثل ملكيّة النماء في صورة نقل المالك إيّاه.

قال- قدّس سرّه-: (و إن نافى الإجازة كإتلاف العين عقلا أو شرعا كالعتق فات محلّها مع احتمال الرجوع إلى البدل).

أقول: لا يخفى التناقض الواضح بين هذا الكلام و الكلام المتقدّم في نقل أمّ الولد، حيث جزم- قدّس سرّه- هناك بالرجوع إلى البدل و هنا بفوات المحل، و ذكر الرجوع إلى البدل على سبيل الاحتمال مع عدم الفرق بين النقل و العتق أصلا، لكن هذا إنّما يرد لو كان الكلام المتقدّم هكذا: و لو نقل المالك أمّ الولد، بإثبات كلمة الأم- كما في بعض النسخ. و أمّا لو كان هكذا: «و لو نقل المالك الولد» بإسقاطها كما في البعض الآخر، فلا.

و لا يخفى أنّ ما في بعض النسخ من إسقاط كلمة الأم لا يستقيم، لأنّ الولد الذي أولده المشتري الأصيل من الجارية حرّ على الكشف الحكمي، و ليس برقّ، غاية الأمر إنّ الجارية مملوكة حتى يموت المولى، و تصير حرّة من نصيب الولد، و أمّا نفس الولد فليس مملوكا و مالا حتّى يرجع المشتري إلى عوضه

لو نقله المالك.

نعم لو استولد العبد الجارية كان الولد رقّا، و على هذا يحمل حكمهم برجوع المالك إلى الغاصب بقيمة الولد لو استولد الجارية المغصوبة، لإتلافه ولدا مملوكا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 344

من المالك، بمعنى أنّه لو كانت الجارية في يد مالكها أمكنه تحصيل ولد مملوك منها، باستيلاد عبده إيّاها، لا بمعنى إمكان تحصيل الولد المملوك باستيلاد نفسه إيّاها.

فإن قلت: يحمل كلام المصنّف- قدّس سرّه- على ما في هذا البعض من النسخ: على ما إذا كان الولد حاصلا من استيلاد عبد المشتري لا من استيلاد نفسه.

قلت: لو كانت العبارة كما في هذا البعض فلا شكّ أنّ الظاهر منها كون الولد من المشتري لا من غيره.

[الأمر الثاني في الثمرة بين الكشف و النقل]
اشارة

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 1، ص: 344

[الثمرة الأولى النماء]

قال- قدّس سرّه- (ثمّ إنّهم ذكروا للثّمرة بين الكشف و النقل مواضع:

منها النماء، فإنّه على الكشف بقول مطلق لمن انتقلت إليه العين، و على النقل لمن انتقلت عنه.

و للشهيد الثاني في الروضة عبارة توجيه المراد منها- كما فعله بعض- أولى من توجيه حكم ظاهرها كما تكلّفه آخر).

أقول: كلام الشهيد الثاني ممتزجا مع كلام اللمعة هكذا: و تظهر الفائدة في النماء، فإن جعلناها كاشفة، فالنماء المنفصل المتخلّل بين العقد و الإجازة الحاصل من المبيع للمشتري، و نماء الثمن المعين للبائع- كما لو اشترى من الفضولي بقرا بحمار مثلا- و إنّما خصّ الثمن بالمعين لعدم النماء للكلي. و لو جعلناها ناقلة فهما للمالك المجيز. انتهى.

و الظاهر أنّ مفروض هذه العبارة صورة فضولية أحد الطرفين من البائع و المشتري لا كليهما، فيرد عليه أنّ ملكيّة المالك المجيز لنماء الثمن المعيّن عند فضوليّة البائع، و نماء المثمن عند فضوليّة المشتري، لا وجه له، فتعيّن صرف هذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 345

الكلام عن ظاهره، تارة بجعل مورده صورة فضوليّة الطرفين معا ثمّ إرادة جنس المالك من المالك المجيز، و أخرى بحمل ملكيّة نماء الثمن على صورة فضوليّة المشتري و حمل ملكيّة نماء المثمن على صورة فضوليّة البائع مع جعل المورد صورة فضوليّة أحد الطرفين فقط، كما هو الظاهر.

و آخر أبقاه على ظاهره من ملكيّة المالك المجيز للنمائين معا مع فرض فضوليّة أحد الطرفين، ثمّ تصدى لتطبيق هذا الظاهر على القواعد بتقريب: أنّ ملكيّته لنماء ملك نفسه ظاهرة، و أمّا ملكيته لنماء ملك الطرف

المقابل، فلإقدام الطرف المقابل على ذلك، فإنّه إذا أقدم على المعاملة عالما بفضولية الطرف الآخر فقد أقدم على إدخال ماله مع النماء في ملك مالك العوض.

و أمّا وجه أولويّة فعل ذلك البعض، من تكلّف هذا الآخر- كما ذكرها المصنّف قدّس سرّه- فهو أجلّية شأن الشهيد الثاني- قدّس سرّه- عن الإفتاء بمثل هذه الفتوى متمسّكا بمثل هذا الوجه الضعيف:

فإنّ فيه أوّلا: أنّ مورد الكلام غير مختصّ بما إذا كان الطرف الأصيل عالما بفضوليّة طرفه، بل يعمّ ما إذا كان معتقدا مالكيته.

و ثانيا: إنّا نمنع الإقدام لو كان الأصيل عالما فضولية الطرف لكن أقدم على المعاملة متوقّعا للحوق إجازة المالك، فإنّ معنى التوقع بقاء مال كلّ من المالكين على ملكه قبل مجي ء الإجازة، و حصول الانتقال و المعاوضة بعد مجيئها.

و ثالثا: لو فرضنا كونه في مورد عالما بالفضوليّة غير متوقّع للإجازة. لكن نقول: ثمرة الإقدام على ما تقرّر في باب الضمان رفع الضمان، لا التمليك، ففيما إذا دفع المالك ماله إلى الغير فأتلفه هذا الغير يحكم بعدم ضمانه، لا أنّه فيما إذا كان المال في يد غير مالكه و لم يتلف يحكم بكون نمائه ملكا للغير.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 346

فإن قلت: كيف لا يكون الإقدام هنا مملّكا و الحال أنّ قول الأصيل:

اشتريت أو بعت، مشتمل على التمليك ضمنا أو صريحا، فهو قد دفع المال إلى الفضولي بانيا و مقدما على ملكية المالك الآخر له و لنمائه.

قلت: أوّلا: لا شكّ في أنّ الأصيل لم يقدم على تمليك ماله مجانا و بلا عوض، بل على وجه المعاملة و المعاوضة، غاية الأمر لم يملك العوض بحسب الشرع، فحاله حال من يشتري بماله الشي ء المغصوب من الغاصب عالما بالغصبية،

فإنّه لم يملك ماله للغاصب مجّانا قطعا.

و ثانيا: إنّ مورد الكلام غير مختصّ بما إذا دفع الأصيل المال إلى الفضولي، بل يشمل ما إذا كان باقيا في يده إلى حين الإجازة.

[الثمرة الثانية جواز فسخ الأصيل بناء على النقل]

قال- قدّس سرّه- (فالأولى في سند المنع دفع احتمال اشتراط عدم تخلّل الفسخ بإطلاقات صحّة العقود و لزومها، و لا يخلو عن إشكال).

أقول: يعني على تقدير عدم الإجماع على اشتراط عدم حصول الفسخ من أحد المتعاقدين قبل تمامية العقد و لو بشرطه، و كون حصوله قبل ذلك موجبا لصيرورة العقد بلا أثر بعد مجي ء التتمّة، فتطبيق الاشتراط أو عدمه على القواعد و العمومات محلّ إشكال.

و الحقّ اشتراط عدم حصول الفسخ بين الإيجاب و القبول، و ذلك لعدم صدق المعاقدة و المعاهدة عرفا مع حصوله، إذ يعتبر في صدق هذا المفهوم عرفا بقاء الموجب على عهده و قراره، و عدم رفع اليد عنه ما دام لم يجئ القبول من الطرف الآخر، فلو رفع اليد عن عهده قبل ذلك، لم يتحقق في الخارج مفهوم المعاهدة التي هي بمعنى إعطاء العهد و أخذه، فلم يتحقق العقد الذي هو موضوع وجوب الوفاء، فلا يمكن دفع احتمال الشرطية بعموم أوفوا، لأنّه فرع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 347

وجود الموضوع و هو مفروض العدم. و هذا بخلاف ما إذا حصل الفسخ بعد الإيجاب و القبول و قبل الشرط، فإن دفع هذا الاحتمال حينئذ ممكن، بتقريب أنّ الموضوع الذي هو العقد قد تحقق بالفرض، غاية الأمر لا يجب الوفاء به ما لم يحصل الشرط، فإذا حصل هو كان إطلاق أوفوا بلا مانع، لحصول العقد و الشرط، فيدفع بهذا الإطلاق احتمال مانعيّة الفسخ المتخلّل و شرطيّة عدمه.

نعم لو جعلنا مبني صحّة

عقد الفضولي على طبق القاعدة، هو: أنّ موضوع الوفاء سببان: العقد أعمّ من أن يكون من المالك أو من غيره و رضا المالك، فدفع احتمال مانعية الفسخ الحاصل قبل الإجازة بإطلاق أَوْفُوا ممكن كما ذكرنا.

و أمّا لو جعلنا المبنى هو أنّ موضوعه عقد المالك، و الإجازة في عقد الفضولي موجبة لصيرورة العقد عقدا للمالك، فحال هذا الفسخ حال الفسخ الحاصل بين الإيجاب و القبول، إذ على هذا لا بدّ من أن يقع المالك بنفسه طرفا للأصيل عوض الفضولي حتّى تقع المعاهدة بين الأصيل و المالك، فيجب بقاء الأصيل على عهده ما دام لم تحصل الإجازة التي هي عهد من جانب المالك، و إلّا لم يبق صدق المعاهدة بين الأصيل و المالك، و ينتفي موضوع الوفاء الذي هو عقد المالك.

[الثمرة الثالثة جواز تصرّف الأصيل فيما انتقل عنه]

قال- قدّس سرّه-: (و منها جواز تصرّف الأصيل فيما انتقل عنه) إلى آخره.

أقول: محصّل الكلام في المقام: أنّه على النقل و الكشف الحكمي يكون للأصيل أن يتصرّف قبل الإجازة تصرّفا موجبا لسقوط المحلّ عن قابلية لحوقها، فيجوز لمن باع الجارية من فضولي بيعها من الغير قطعيّا و وطؤها و استيلادها قبل إجازة المالك الآخر، و كذا لمن زوّجت نفسها من فضولي تزويجها من الغير قبل إجازة الزوج، و ذلك لأنّ موضوع وجوب الوفاء هو المقيّد، فقبل وجود القيد لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 348

يجب الوفاء، فيكون المال باقيا على ملكيّة البائع، و تكون المرأة مختارة على نفسها، و لازم ذلك نفوذ التصرّف و التزويج و حلّيّتهما.

و أمّا على الكشف الحقيقي، فالكلام على أحد احتماليه- و هو أن يكون الشرط نفس الإجازة المتأخرة، و يكون من حينها مؤثّرة في ما قبلها، بأن ترفع ملكية المالك

الأصلي من حين العقد، و تضع في محلّها ملكية المجيز- هو الكلام على النقل بعينه، فيحل التصرّف حتّى مع العلم بحصول الإجازة فيما بعد، و ذلك لأنّ الإجازة و إن كانت توجب سراية الأثر إلى حين العقد إلّا أنّه لا بدّ أن توجد، فتوجب السراية، فلا سراية قبل وجودها.

و أمّا على احتماله الآخر، و هو أن يكون الشرط حاصلا حين العقد، أعمّ من أن يكون هو وصف التعقّب أو الوجود الاستقبالي الدهري، أو ما هو معلوم عند اللّٰه تعالى و مجهول عندنا، فنقول: هنا ثلاث صور: صورة العلم بحصول الإجازة فيما بعد، و صورة العلم بعدمه، و صورة الشك. فلا إشكال في عدم حلّية التصرّف و عدم نفوذه في الصورة الأولى، كما لا إشكال في حليته و نفوذه في الصورة الثانية.

و أمّا صورة الشك، فيمكن الحكم فيها بالحليّة بحسب الظاهر، و وجهه أنّه لا شكّ في أنّ العقد الفضولي ليس بنفسه موضوعا لوجوب الوفاء، بل هو مع قيد آخر، و كاشفيّة الإجازة لا تدلّ على موضوعية نفسه، كيف و معنى الكاشفيّة أنّ للعقد نقصانا، و كشفت الإجازة عن وجود تتمّته، و حينئذ فوجود نفس العقد و إن كان مقطوعا لكن وجود قيده مشكوك، فيقع الشك في موضوع وجوب الوفاء- أعني: المقيّد بما هو مقيّد- فيتمسّك في نفيه بالأصل، فيرتفع وجوب الوفاء بارتفاع موضوعه. ثمّ لو حصلت الإجازة تنكشف الحرمة واقعا، ففي هذه الصورة حال تصرّف البائع من الفضولي فيما انتقل عنه عكس حال تصرّف المشتري من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 349

الفضولي فيما انتقل إليه، حيث حكم- قدّس سرّه- بحرمته ظاهرا و حليته واقعا على تقدير الإجازة.

و من هنا ظهر أنّه لا وجه لما

ذكره- قدّس سرّه- من الحكم بعدم جواز التصرّف على الكشف الحقيقي بالمعنى الثاني مطلقا حتّى مع العلم بعدم حصول الإجازة فيما بعد.

قال- قدّس سرّه-: (و أمّا على المشهور في معنى الكشف من كون نفس الإجازة المتأخرة شرطا لكون العقد السابق بنفسه مؤثّرا تامّا) إلى قوله- قدّس سرّه-: (و من هنا).

أقول: من الواضح فساد القول بكون تمام التأثير لنفس العقد الفضولي، و عدم الدخل للإجازة شرطا و شطرا، المستلزم لعدم الحاجة إليها و كون وجودها و عدمها على السواء، مع أنّه مناقض للقول بأنّ الإجازة دخيلة في كون العقد بنفسه سببا تامّا، فإنّا لا نعني بالشرطية في كل مقام إلّا كون أحد الشّيئين بحيث إذا وجد مع الآخر استقلّ هذا الآخر في الفاعلية، و صار هو بنفسه مؤثّرا تامّا، بمعنى أن يكون الفاعل هذا الشي ء الآخر الخاص بخصوصيّة مصاحبته مع الشي ء الأوّل في مقابل الشطريّة، فإنّ المراد بها كون أحدهما بحيث إذا وجد مع الآخر صارا مشتركين في الفاعليّة.

و بالجملة: إذا سلم كون الإجازة شرطا، الذي مقتضاه كون المؤثّر و الموضوع لوجوب الوفاء هو العقد الخاص بخصوصيّة مجي ء الإجازة، المستلزم لجريان الأصل في نفي هذا الخاص عند الشك في الخصوصية، فلا معنى للحكم بترتّب حكم وجوب الوفاء على نفس العقد من دون تقييد بشي ء أصلا، الذي مقتضاه شمول وجوب الوفاء لصورة القطع بعدم مجي ء الإجازة فضلا عن الشك فيه،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 350

و هذا واضح.

قال- قدّس سرّه-: (و من هنا تبيّن فساد توهم) إلى قوله: (و دعوى).

أقول: حاصل الإيراد أنّه إذا سلّم كون نفس العقد واجب الوفاء من دون مدخلية للإجازة أصلا، لا شرطا و لا شطرا- كما ذكرت- فلا بدّ من الالتزام بأنّه

كما يحرم على البائع الأصيل التصرّف في المثمن قبل الإجازة، كذلك يجوز له التصرّف في الثمن قبلها، و قد قلت في السابق بعدم جوازه.

و حاصل الجواب: أنّ البائع الأصيل- مثلا- قد التزم بملكيّة هذا للمخاطب بإزاء ذاك، فالتزامه مركّب من جزأين: أحدهما عليه و هو خروجه ماله عن ملكه، و الآخر له و هو دخول العوض في ملكه، و حكم وجوب الوفاء مترتّب على الأوّل دون الثاني.

و الإنصاف أنّ الإيراد وارد و الجواب غير نافع، لأنّ الأمر بالوفاء إمّا حكم وضعي مفاده الحكم بحصول مقتضى العقد، و إمّا تكليفي يستكشف منه الحكم الوضعي، و على التقديرين، يلزم ممّا ذكره- قدّس سرّه- من وجوب الوفاء الأصيل بما عليه، أعني: خروجه ماله عن ملكه دون ماله، أعني: دخول العوض في ملكه اجتماع العوض و المعوّض في ملك المالك الآخر.

قال- قدّس سرّه-: (و دعوى أنّ الالتزام المذكور إنّما هو على تقدير الإجازة) إلى قوله: (و لأجل).

أقول: الإنصاف أنّ المطابقة التامّة بين طرفي التنظير و إن كانت منتفية- كما ذكره- إلّا أنّ المطابقة بينهما فيما هو محطّ نظر المدعي حاصلة، و ذلك لأنّ إنشاء الأصيل و إن كان غير مشروط بالإجازة- كما ذكره قدّس سرّه- إلّا أنّ تمليكه مرتبط

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 351

بتملّك العوض، و فرق واضح بين التمليك المطلق الغير المرتبط بشي ء- كالهبة- و بين التمليك بالعوض الذي هو المبادلة، و حينئذ فكما أنّ الناذر المذكور ليس له التزام فعلي بإتيان المنذور، فكذا في المقام ليس للأصيل تمليك فعليّ و لو لم يدخل العوض في ملكه. هذا.

و لعمري إنّ شأن الشيخ المحقّق المصنّف- قدّس سرّه- أجلّ من إرادة ما فهمناه من العبارة من المعنى الوارد

عليه مثل هذه الإشكالات الواضحة! فلعلّه- قدّس سرّه- أراد معنى تقصير أفهامنا عن إدراكه، و اللّٰه تعالى هو العالم بحقائق الأمور.

و ينبغي هنا التعرض لمسألة النّذر التي نظر المدعي المقام بها.

فنقول: النذر المتعلّق بالأضحيّة- أعني: الشاة المخصوصة- يتصوّر على أنحاء: إمّا ينذر أن يذبح هذه الشاة و يعطيها الفقراء، أو ينذر أن تكون هذه الشاة مالا للفقراء، و يسمّى الأوّل بنذر الفعل و الثاني بنذر النتيجة، و على التقديرين، النذر إمّا مطلق و إمّا مشروط بشي ء كشفاء المريض و قدوم المسافر و نحوهما، ففي صورة نذر الفعل مطلقا أو مشروطا مع حصول الشرط، لا إشكال في تنجّز التكليف الإيجابي بفعل الذبح و الإعطاء.

و أمّا بيع هذه الشاة و هبته و سائر أنحاء إخراجها عن الملك، فقد يتوهّم فساد هذه التصرّفات لأحد وجهين:

الأوّل: أنّ العين المنذورة قد تعلّق بها حق للمنذور له، فتصرّف الناذر فيها تصرّف في متعلّق حق الغير، نظير فساد تصرّف الراهن في العين المرهونة لتعلّق حق المرتهن بها، و تصرّف السيّد في أمّ الولد لتعلّق حق لها بنفسها.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 352

و أنت خبير بأنّ نذر الذبح و الإعطاء لا يوجب إلّا وجوبهما على الناذر، و هذا غير ملازم لثبوت الحق للفقراء في هذه الشاة و لم يدلّ على ذلك دليل آخر أيضا.

و الثاني: أنّ الفعل المنذور- أعني: الذبح و الإعطاء- يكون واجبا، فيكون كلّ ما هو مخالف له من الإتلاف و البيع و الهبة و نحوها حراما، قضيّة لاقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن أضداده الخاصة، و حرمته موجبة لفساده.

و فيه:- مضافا إلى منع الاقتضاء كما قرّر في محلّه- أنّ ما هو ضدّ لواجبنا و هو البيع المسبّبي، أعني: التمليك المتعقب

بالتملك، لا يمكن أن يكون النهي التكليفي المتعلّق به موجبا للفساد، و إلّا لزم التكليف بما لا يطاق، لرجوع الأمر على هذا إلى أنّ الناذر لا يقدر على التمليك الحقيقي، فكيف يكون منهيّا عنه بالنهي التكليفي، و ما يمكن أن يكون النهي التكليفي المتعلّق به موجبا للفساد- و هو البيع السببي، أعني: مجرّد قول بعت و قبلت، مع قطع النظر عن حصول النقل و الانتقال- لا يكون ضدا لواجبنا، لوضوح أنّ مجرّد هذا اللفظ بدون الخروج عن الملك لا ضدّية له مع الذبح و الإعطاء الذي هو الواجب أصلا.

و هذا بخلاف الحال في العبادات، فالنهي هناك متعلّق بصلاة الحائض- مثلا- باعتبار الصورة، يعني: أنّ الحائض منهيّ عن صورة الصلاة، لا عن الصلاة الموصوفة بالصحّة و المقرّبية، و إلّا لزم التكليف بما لا يطاق و إن كان عدم القدرة ناشئا من قبل هذا النهي. و من هنا يظهر صحّة هذه التصرّفات قبل حصول الشرط بطريق أولى. هذا بحسب الحكم الوضعي.

و أمّا بحسب الحكم التكليفي، فلا إشكال في حصول العصيان، و حنث النذر بسبب هذه التصرّفات في صورة إطلاق النذر أو اشتراطه مع حصول

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 353

الشرط، و أمّا مع عدم حصوله فكذلك أيضا، لكن مع العلم بحصوله فيما بعد، بناء على ما بنينا عليه في الواجب المشروط خلافا للمشهور، من أنّ حال الواجب المشروط- مع علم المكلف بحصول شرطه في محلّه- في حصول العصيان في الجملة حال الواجب المطلق.

و أمّا مع الشك في حصول الشرط فيما بعد، فيدور الحكم بحسب الواقع مدار الواقع، و أمّا بحسب الظاهر فمقتضى الأصل: الحلّية و عدم العصيان على ما هو الحال في الواجبات المشروطة بالأصالة.

و يمكن

أن يقال هنا بعدم الفرق بين حالي العلم و الشكّ في حصول العصيان، و إن قلنا بالفرق بينهما في سائر الواجبات المشروطة، و ذلك بأن يدّعى أنّه يتبادر عند العرف من النذر المتعلّق بفعل متعلّق بعين المشروط بشرط غير حاصل نذر آخر ضمني، و هو نذر إبقاء العين، ألا ترى أنّ من وعد زيدا بذبح الشاة المعيّنة و طبخها له إن جاءه زيد في الغد فباعها قبل الغد مع عدم العلم بعدم المجي ء في الغد، يعدّ عرفا بيعه خلفا للوعد، و ليس ذلك إلّا للملازمة العرفيّة بين الالتزام المذكور و التزام إبقاء الشاة إلى زمان تبيّن الحال. و حينئذ ففي مسألة النذر التصرّفات المنافية في حال الشك حنث للنذر الضمني المذكور، فيكون حراما من هذه الجهة. هذا كلّه في نذر الفعل.

و أمّا نذر النتيجة، مثل نذر حريّة عبده أو ملكيّة شاته للفقراء، فإن كان مطلقا أو مشروطا و الشرط حاصل، فلا إشكال، لا من حيث الحكم التكليفي، و لا من حيث الحكم الوضعي، فالتصرّف المنافي مثل أكل لحم الشاة حرام، و العقد عليه باطل، لخروجه عن ملكه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 354

و إن كان مشروطا و الشرط غير حاصل، فلا إشكال أيضا في الحكم التكليفي بناء على ادّعاء تبادر النذر الضمني الذي هو نذر الإبقاء، فالتصرّف المنافي حرام، لكونه حنثا لهذا النذر، و أمّا العقد عليه فمقتضى القواعد و العمومات صحته.

فتحصّل حرمة التصرّف المنافي في جميع أقسام النذر و صحّة العقد في نذر الفعل بأقسامه و قسم واحد من نذر النتيجة و هو المشروط الذي لم يحصل شرطه، و بطلانه في قسميه الآخرين هذا.

و يمكن أن يقال ببطلان العقد في جميع أقسام النذر، و

بيانه يحتاج إلى مقدمة، و هي أنّ في كثير من الأخبار أنّ مضمون النذر: نذرت للّه كذا عند كذا، و من هنا توهّم جماعة اعتبار قصد القربة في النذر و كون النذر باطلا بدونه.

و ظني أنّ اللام في كلمة للّه ليس لإفادة القرب، بل هي وصليّة تمليكيّة، فقولك: للّه عليّ ذبح هذه الشاة و إعطاؤها الفقراء، كقولك: لك عليّ دينار، فالكلامان مشتركان في أنّ المتكلّم بهما يصيّر نفسه بسببهما مديونا لغيره، غاية الأمر إنّ المطالب و الدائن في الأوّل هو الخالق، و في الثاني هو المخلوق، و المطالب- بالفتح- في الأوّل: هو العمل، و في الثاني: هو المال.

و الفرق بين العهد و النذر أنّ الأوّل: إشهاده تعالى على القضية، و الثاني:

جعل النفس مديونا له تعالى، و مطالبته تعالى للعمل في الأوّل مطالبة للعمل بما جعله تعالى شاهدا عليه، و في الثاني مطالبة لقضاء الحق و الدين، و هما غير مطالبة العمل المتعلّق للتكاليف و الإلزامات، فإنّها فيها مسبوقة بمجرّد الإلزام، الذي لازمه عقلا الثواب على الموافقة و العقاب على المخالفة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 355

[المقام الثالث في تنبيهات الإجازة]
[التنبيه الأول القول في كاشفية الإجازة:]

القول في كاشفية الإجازة: و لا بدّ أوّلا من تصوّر الوجوه المتصوّرة في المقام لكاشفيّة الإجازة و تصوّر إمكانها العقلي، ثمّ إنّ مقتضى القواعد أيّ منها؟ فنقول مستعينا باللّه تعالى و الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم هيهنا وجوه متصوّرة:

الأوّل: أنّ الشرط هو عنوان التعقّب و هو مقارن للعقد و هذا الوجه علاوة على كونه كرّا على ما فرّ، فإنّه ننقل الكلام إلى نفس هذا العنوان فنقول: هو مشروط بأمر متأخّر استقبالي، أعني: نفس الإجازة الخارجيّة، و القول بأنّه مشروط بلحاظها لا وجودها، و لهذا لو لم

يكن لا حظ في البين لا وجود له أصلا، مدفوع بأنّ اللحاظ أيضا يكون بتبع الملحوظ و مشروطا به، فلو لم يكن ملحوظ لم يكن لحاظ يكون على خلاف الأدلّة، فإنّ المستفاد منها اشتراط الطيب لا التعقّب.

الثاني: أنّ الشرط عبارة عن لحاظ الأمر المتأخّر و توضيح ذلك: أنّ الخارج البحت لا يتصرّف في النفس بل لا بدّ من لحاظه، و حينئذ فكما يمكن أن يلاحظ الملاحظ أمرا مقدّما أو مقارنا و يرى بملاحظته الصلاح، كذلك يمكن أن يناط الصلاح بنظره بملاحظة الوجود الاستقبالي، فيجعل الحكم عند لحاظ وجوده، فكما ينتزع في الوجه المتقدّم عنوان التعقّب بملاحظة الأمر المتأخّر ينتزع هنا الملك عوض التعقّب بملاحظة ذلك الأمر، بمعنى أنّه لما يرى وجود الإجازة في ما بعد يرى الصلاح في جعل الملك في هذا الحال، كما أنّ المريد للفعل قد يحدث في نفسه الإرادة بعد ملاحظة ترتّب الغاية المتأخّرة في الاستقبال فيريد مثلا بناء السرداب بملاحظة مجيئ الصيف في ما يأتي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 356

و الحاصل: أنّ الشرط هو اللحاظ و من المعلوم أنّ المتفرّقات في الخارج مجتمعات في الذهن و لا تقدّم و لا تأخّر فيه بينها، و هذا أيضا- علاوة على ما تقدم في السابق من الإشكال الأوّل- مخالف للقواعد أيضا، فإنّه و إن جعل الشرط هو الطيب لا شيئا آخر لكن جعل تحقّق المشروط بعد لحاظه دون وجوده الخارجي، و الظاهر من الأدلّة أنّ الحلّية و الملكيّة لا يتحقّقان إلّا بالطيب، يعني: إلّا بعد وجوده في الخارج كما هو المنساق من نظائره في العرف.

الثالث: أنّ الشرط نفس الإجازة المتأخّرة بوجودها الخارجي لكنّها تؤثّر في الملكيّة من حين العقد فإنّ الملكيّة أمر اعتباري،

فيمكن اعتبارها بالنسبة إلى العين الشخصية في قطعة واحدة من الزمان لشخص في زمان و لشخص آخر في زمان آخر، و نظير ذلك المنافع في باب الإجارة، ألا ترى أنّك لو ملّكت شخصا منفعة دارك في يوم الجمعة و كان زمان التمليك يوم الأربعاء، فندمت ففسخت الإجارة يوم الخميس فمنفعة يوم الجمعة صارت ملكا لاثنين في زمانين.

و يمكن ذلك في الوجوب أيضا كما هو الحال في الفسخ، فما الفرق في ذلك بين الزمان اللاحق و السابق؟

فإذا فرض أنّ الفضولي ملك منفعة يوم الأربعاء فآجر ذلك يوم الجمعة فما المانع من أن يؤثّر من هذا الحين ملكيّة منفعة يوم الأربعاء؟ و لا يلزم اجتماع الملكيتين، لاختلاف زماني الاعتبار، كما أنّ الحمار مثلا يكون يوما لأحد و يوما آخر لشخص آخر. ثمّ ما الفرق بين المنفعة و نفس العين؟ فيمكن أن يقال: إنّ هذا العين في يوم الأربعاء على نحو الظرفيّة ملكيّتها مضافة إلى زيد يوم الجمعة ثمّ من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 357

يوم الجمعة صارت ملكيّتها الثابتة في يوم الأربعاء منتقلة إلى عمرو، هذا محصّل ما يقال.

و تحقيق الحال إنّا قد نعتبر محلّ النقل و الانتقال و المبادلة نفس العين، غاية الأمر لمّا ليس المبادلة بينهما في الحقيقة و لا في الوجود فلا محالة لا بدّ أن نعتبرها بضرب من المسامحة بلحاظ غرض من أغراضهما أو الأمور المتعلّقة بهما، كما أن يكون في المكان يعني أعطى المكان الذي لولا الإعطاء كان مكان هذا لذاك و بالعكس، و كذا الحال في الملكيّة، يعني صار هذا معروضا لملكيّة ذاك و بالعكس بناء على المسامحة العرفيّة في انتقال العرض و الاكتفاء في أصالة الوجود البقائي للملكيّة إلى

المعوّض بصرف وجود المقتضي، فيقال: هذا صار واجد ملكيّة ذاك و بالعكس، فالمبادلة بين المالين بلحاظ الملكيّة.

و حينئذ فيلزم ممّا ذكر اجتماع النقيضين و اجتماع الملكيّتين في زمان واحد، فإنّ العين الواحدة فرضناها في يوم الجمعة مثلا ملكا لزيد و لا ملكا له و كذلك ملكا لعمرو و لا ملكا له، و نحن و إن قلنا: إنّ الملكيّة أمر اعتباري، لكن لها النفس الأمريّة و الصدق و الكذب و إلّا فلو كان من قبيل التخيّل المحض و أنياب الأغوال لأمكن مع اتّحاد زمان الاعتبار أيضا.

و قياس المقام بباب الإجارة في غير المحلّ، لأنّ الزمان هناك قيد للمال، فالمنفعة الكائنة في يوم الجمعة بمنزلة الحمار يكون ملك أحد يوما و ملك غيره يوما آخر فاختلف الملكيتان في المال الواحد، و هذا بخلاف المقام فإنّ الزمان أخذ هنا ظرفا للملكيّة، فالعين ملك في يوم الجمعة لأحد و ملك في هذا اليوم أيضا لآخر، غاية الأمر: أنّ زمان اعتبار الملكيّة الأولى يوم و زمان اعتبار الأخيرة غيره، فهذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 358

نظير أن تتّصف العين بالبياض في يوم الجمعة في يوم السبت ثمّ يوم الأحد ينقلب الواقع و يتّصف بالسواد في يوم الجمعة.

و قد نعتبر محلّ النقل و الانتقال نفس الملكيّة فنقول: قد انتقلت الملكيّة الكائنة في يوم الجمعة في يوم السبت إلى أحد و انتقلت هذه الملكيّة في يوم الأحد إلى غيره، فحينئذ يكون القياس بباب المنفعة في محلّه، لكنّ المبنى خلاف الواقع، فإنّه لا يتعلّق التمليك و التملّك و النقل و الانتقال بالملكيّة و لا يصير الإنسان مالكا للملكيّة بل يصير مالكا للمال، و هذا واضح.

فقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ وجوه الكشف بين

ما يكون على خلاف القواعد و ما لا يعقل، لكن ظاهر صحيحة محمّد بن قيس المتقدّمة بل صريحها هو الكشف فلا بدّ من رفع اليد عن ظاهر الأدلّة لذلك، و لا يبقى مرجّح لأحد الوجهين المعقولين، و ما ذكره شيخنا المرتضى- طاب ثراه- من الكشف الحكمي بمعنى النقل الحقيقي من حين الإجازة و ترتيب آثار الملك من حين العقد فإنّ كلّا من الوجوه الثلاثة مشتركة في مخالفة الأدلّة، فإنّ الكشف الحكمي أيضا خلاف قاعدة تبعيّة النماء للأصل، و حينئذ فلو كان للرواية ظهور في أحد الوجوه كان متّبعا، و لا يبعد دعوى ظهور الرواية في الكشف الحقيقي.

و حينئذ فنقول: إمّا نختار مذهب من يقول بأنّ وصف الإطلاق عبارة عن لحاظ الإرسال و الشيوع، ففي المقام حيث إنّ التقييد بزمان خاص ممكن بأن يملكه في قطعة خاصّة فملاحظة الإرسال بحسب الزمان أيضا ممكن، فيحمل إطلاق إنشاء المعاملة على إيجاد الملك بطريق الإرسال، و الإجازة المتأخّرة معناه إنفاذ ما جعله و أنشأه المنشئ، و على هذا كما كان من جعله نفس الملك كذلك وصف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 359

إرساله و بدية من حين العقد، فتتعلّق به الإجازة أيضا، فيلزم تعلّق إمضاء الشرع لذلك أيضا.

و إمّا نختار مذهب من يقول: ليس وصف الإطلاق إلّا عدم لحاظ التقييد في عالم تعلّق الحكم و لا يحتاج إلى لحاظ أمر زائد، فالمجعول على هذا إنّما هو نفس الملكيّة و كونها في زمان العقد من لوازم تماميّة علّته فيه، فإن تمّت العلّة فيه اقتضت وجوده فيه قهرا لا من قبل الجعل و إلّا فعند تمامها في أيّ زمان كان كما هو الشأن في سائر المعلولات، فالإجازة على هذا تتعلّق بنفس

الملكيّة، و الإمضاء محقّق لها، و لازم ذلك تحقّق الملك حين الإجازة.

فإن اخترنا الثاني فالأمر واضح ممّا قرّرنا، و إن اخترنا الأوّل فلا بدّ أن نقول بلغويّة الإجازة، فإنّ مفادها على ما عرفت لا يعقل أن تتحقّق في الخارج، فلا يمكن أن يشمله أَوْفُوا فهو كما لو تعلّق العقد بالملكيّة السابقة، لأنّ ما قصده العاقد غير ممكن التحقّق و ما يمكن غير مقصود للعاقد، هذا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ قضيّة القواعد هو النقل، و الكشف الحقيقي غير مطابق للقواعد أو غير معقول، و أمّا الكشف الحكمي بمعنى النقل من حين الإجازة و التنزيل منزلة الملك من حين العقد بالنسبة إلى الآثار الممكنة فهو أيضا على خلاف القواعد كما هو واضح، لأنّه خلاف قاعدة السلطنة و قاعدة تبعية النماء للأصل و نحوهما، فيتّضح من هذا أنّه لو قام الدليل الخاص كما هو الواقع على الكشف على خلاف القواعد فلا مرجّح للكشف الحكمي على الحقيقي، إذ ليس فيه حفظ للقواعد حتّى يكون طريق الجمع، فلو كان لذاك الدليل ظهور في الكشف الحقيقي فلا بدّ من اتّباعه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 360

و الإنصاف عدم ظهور صحيحة محمّد بن قيس في أحد القسمين، فإنّ قوله:

«الحكم أن يأخذ الوليدة و ابنها» ظاهر في الحكم الواقعي، فيطابق الكشف الحكمي، و على الكشف الحقيقي لا يتمّ ذلك إلّا على الحكم الظاهري و قوله- عليه السلام- في مقام تعليم العلاج: «خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتّى ينفذ البيع لك» ظاهر في الإنفاذ الحقيقي دون التنزيلي.

و لا ظهور في أحد الجانبين في صحيحة أبي عبيدة أيضا الواردة في تزويج الصغيرين فضولا الآمرة بعزل الميراث من الزوج المدرك الذي أجاز فمات للزوجة الغير

المدركة حتّى تدرك و تحلف، و إن قال شيخنا المرتضى- طاب ثراه- أنّه ظاهر في قول الكشف، إذ لو كان مال الميت قبل إجازة الزوجة باقية على ملك سائر الورثة كان العزل مخالفا لقاعدة تسلّط الناس على أموالهم.

و ظاهره أنّه على الكشف الحقيقي يمكن حفظ هذه القاعدة و أنت خبير بأنّه أيضا مخالف لهذه القاعدة فإنّه كيف يبقى للمالك سلطنة بعد انتقال المال عنه من حين العقد مع عدم التفاته و عدم شعوره بل و صغارته.

[التنبيه الثالث من شروط الإجازة أن لا يسبقها الردّ]

الثالث من شروط الإجازة: أن لا يسبقها الردّ،

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إذ مع الرد ينفسخ العقد فلا يبقى ما تلحقه الإجازة، و الدليل عليه بعد ظهور الإجماع بل التصريح به في كلام بعض مشايخنا- طاب ثراهم- أنّ الإجازة إنّما تجعل المجيز أحد طرفي العقد و إلّا لم يكن مكلّفا بالوفاء بالعقد لما عرفت من أنّ وجوب الوفاء إنّما هو في حقّ العاقدين أو من قام مقامهما، و قد تقرّر أنّ من شروط الصيغة أن لا يحصل بين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 361

طرفي العقد ما يسقطهما عن صدق العقد الذي هو في معنى المعاهدة.

أقول: أوّلا: جعل وجوب الوفاء مخصوصا بالعاقدين ينافي ما سبق منه- طاب ثراه- من أنّه لا يعتبر سوى صدق العقد و رضي المالك فلا يعتبر استناد العقد إلى المالك، و ثانيا: لو سلّمنا اعتبار الإضافة المذكورة نقول: ليس ردّ المالك مفنيا للعقد الذي أوقعه الأصيل و الفضولي و معدما لموضوعه، غاية الأمر السلامة معه عن الأثر فإذا لحقه الإجازة بعد ذلك تمّ السبب و كان بعينه كما قبل الرد و ليس هذا كموضوع نفس المنشئ عن إنشائه، يعني: لو رجع الموجب عن إيجابه و بعد

ذلك لحق القبول يضرّ بصدق المعاهدة، و أمّا ردّ القابل لإيجاب الموجب مع بقاء الموجب على إيجابه ثمّ ندم الآخر و قبل بعد الردّ فلا مانع عرفا من صدق التعاهد من دون حاجة إلى تجديد إنشاء من طرف الموجب، و سرّ ذلك أنّ شخصا آخر لا ولاية له على تخريب الإنشاء الصادر من غيره، و جعله كالعدم فظهر أنّ المقيس عليه أيضا، أعني: عدم تخلّل الردّ من القابل بين الإيجاب و القبول ليس واضحا غير قابل للإنكار.

هذا كلّه مع لزوم صدق العقد، مع أنّ لنا أن نمنع ذلك و نكتفي بصدق البيع عرفا، و كما يصدق البيع مع الإجازة قبل الرد فكذلك معها بعده بلا فرق فراجع، و من ذلك يظهر أنّ المنع السابق على العقد أيضا لا يؤثّر بعد لحوق الإجازة في اللاحق.

نعم لو شككنا في صدق العقد المضاف إلى المالك أو صدق البيع فلا محيص عن القول بعدم الانتقال لأنّه مقتضى الأصل، و على فرضه فلا يمكن الشك برواية الوليدة، وجه ذلك أنّ تصرّف المالك في المنتقل عنه ليس كتصرّفه في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 362

المال المنتقل إليه، فالثاني يدلّ على الإمضاء و الرضى بالعقد و لكنّ الأوّل لا دلالة فيه على الكراهة و الرد، لأنّه أعمّ إذ من الممكن أن يكون إثبات اليد على ماله من جهة ملاحظة أن لا يخلو يده عن البدل و المبدل معا إذا كان العوض في يد الفضولي كما هو الظاهر في رواية الوليدة حيث إنّ ثمنها قد أخذه ابن المولى، و تعليله أخذ الوليدة بأنّه «باعها ابني بغير إذني» أيضا لا يدلّ على الكراهة، إذ من الممكن أن يكون ذلك مصحّحا لأخذه الوليدة حتّى

يتّضح مآل الحال، لا لردّه المبيع.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 363

البحث الثاني في التكلّم في المجيز
اشارة

و فيه مقامات:

المقام الأوّل: يشترط في المجيز أن يكون حال الإجازة جامعا لشرائط نفوذ التصرّف

فكما يشترط كونه مالكا كذلك يعتبر كونه بالغا عاقلا رشيدا، فلا يصحّ من الصغير و المجنون و السفيه من غير فرق بين القول بالكشف و النقل، و لو كان محجورا عليه بالمرض و قلنا بأنّ تصرّفات المريض في الزائد على الثلث يحتاج إلى إمضاء الوارث، أو بالفلس فلا إشكال في عدم النفوذ أيضا على النقل و كذا على الكشف بمعنى دخل الإجازة الخارجيّة في التأثير، إذ يصدق على الإجازة حينئذ عنوان التصرّف فيشمله أدلّة الحجر، و أمّا على الكشف الحقيقي بمعنى كشف الإجازة عن تحقّق عنوان إمّا منتزع منها من التعقّب أو الوجود اللحاظي، و إمّا مجهول عندنا.

فقد يستشكل بأنّه ليس على هذا في البين تصرّف حتّى يمنع منه، و إنّما الدخيل و المؤثّر أمر آخر ملازم مع ما هو فعل الشخص المحجور و هذا الملازم ليس وجوده و عدمه تحت اختياره و إرادته، كيف و هو موجود قبل وجوده فضلا عن اختياره؟ هذا.

و لكنّه مدفوع بأنّ عين ما يقتضي القول بالنقل اعتبار كون من يصدر عنه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 364

الإجازة واجدا لشرائط التصرّف كوجدانه للمالكيّة يقتضيه على القول بالكشف، فإنّه ليس الداعي على عدم تماميّة العقد بنفسه في التأثير إلّا الأدلّة النقليّة أو الارتكازية الدالّة على أنّ مال أحد لا يمكن أن يخرج عن ملكه بلا اطّلاعه و رضاه، غاية ما في الباب أنّ القائل بالنقل استظهر من الأدلّة اعتبار هذا المعنى على نحو يتعقبه الأثر في الزمان، و القائل بالكشف استظهر اعتبار هذا المعنى بطريق وجود الأثر قبل هذا المعنى.

و بعبارة أخرى: كلا القائلين يتنازعان في معنى واحد و هو ما اجتمع جميع شرائط التأثير، فلا يقال:

إنّه على القول بالكشف بالمعنى المتقدّم لا تأثير للإجازة فلا وجه لاعتباره شرائط التأثير. فإنّه يقال: الملازمة مع العنوان المؤثّر التي هي مبني الكشف إنّما هي في المستجمع للشرائط، و غيره غير ملازم فلا يستكشف منه تتمّة السبب.

المقام الثاني: هل يشترط وجود مجيز حال العقد؟

فلو بيع مال اليتيم لغير مصلحة لم ينفعه إجازته بعد البلوغ و لا إجازة وليّه عند حدوث المصلحة.

تحقيق المقام يبتني على ذكر مقدّمتين:

الأولى: أنّ تصحيح عقد الفضولي بعد الإجازة يكون من باب القاعدة من جهة صدق عنوان البيع و الصلح و الهبة و النكاح و غير ذلك عليه عند العرف و أنّه لا فرق في صدق هذه العناوين بين وجود الرضى قبل العقد أو بعده، و هذا بعد لحوق أدلّة الإمضاء من قبيل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» و «الصلح جائز» «2» و «النكاح

______________________________

(1) البقرة/ 275.

(2) الوسائل: ج 13، الباب 3، في أحكام الصلح، ص 164، ح 1 و 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 365

سنّتي» و غير ذلك يصير حجّة و دليلا، لكن مقتضى هذا إنّما هو حصول الأثر من حين الإجازة لأنّه حين صدق الاسم.

الثانية: أنّ صحيحة محمّد بن قيس السابقة قد خصّصت هذه القاعدة المؤمى إليها من جهة صراحة دلالتها في الكشف و ترتّب الآثار من حين العقد لا حين الإجازة، و بعد كون كلّ من الكشف الحقيقي و التعبّدي على خلاف القاعدة لا ترجيح لأحدهما على الآخر إلّا إذا كان أحدهما ظاهرا من الصحيحة، فنقول:

الظاهر من الصحيحة هو الكشف التعبّدي، فإنّ الظاهر منها أنّ الإجازة بنفسها منشأ للأثر و بها يناط الأثر، لا أنّه بها يعلم ما به يناط الأثر من عنوان التعقّب أو نحوه، فإنّه خلاف الظاهر من مفادها، فإذا استقرّ ظهورها

في ذلك يتعيّن الأمر في الكشف التعبّدي.

و حينئذ فنقول: كلّ شرط و قيد احتملنا شرطيته و قيديّته في صحّة الفضولي بهذا النحو من الكشف لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن و الرجوع في فاقد ذلك القيد و الشرط إلى القاعدة المذكورة، من الصحّة على وجه النقل، اللّهمّ إلّا أن نصحّح الكشف فيه أيضا بواسطة عدم الفصل إمّا بينه و بين سائر أفراد هذا العقد ممّا يكون واجدا للقيد و الشرط، و إمّا بين هذا العقد و بين عقد النكاح، فإنّ الإطلاق الرافع لاحتمال القيود المحتملة يكون فيه موجودا و هو دليل صحّة تزويج الصغار عند إجازتهم بعد الكبر من حيث ترك الاستفصال فيه بين وجود الصلاح و عدمه، و وجود الوليّ و عدمه، و لكن لا يخفى أنّ صحّة هذه الطريقة موقوفة على إحراز الإجماع على البسيط، أعني: نفي الثالث، و إلّا فالمتّبع ما ذكرنا من القاعدة.

ثمّ إنّه لو جعل العنوان في هذا المقام اشتراط وجود ذات من له أهليّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 366

الإجازة و لو كان ممنوعا من الإجازة فعلا- غاية الأمر مع قيد التمكّن من الوصول إليه لئلّا يرد الإيراد بأنّه موجود دائما على مذهب الإمامية من وجود الإمام في كلّ عصر- فحينئذ لا ينطبق على التمثيل للمقام ببيع مال اليتيم لغير مصلحة، فإنّ قيد كونه لغير مصلحة يناسب مع إرادة المجيز الجائز الإجازة فعلا لا ذات المجيز.

و إن جعل العنوان هذا الأخير، أعني: جائز الإجازة، لم يبق فرق بينه و بين بعض فروع المقام الآتي، فإنّ من فروعه ما إذا كان المجيز ممنوعا حال العقد من التصرّف بفلس و رهن و نحوهما فيشمل الولي على الصغير مع عدم الصرفة

في إجازة العقد الواقع على ماله، و الأولى أن يقرّر عنوان هذا المقام اشتراط المجيز الجائز الإجازة ليصحّ التمثيل ببيع اليتيم مع القيد المذكور، و تقرير عنوان المقام الآتي أنّه سواء أقلنا باعتبار وجود المجيز أم بعدم اعتباره هل يعتبر كون المجيز للعقد هو المالك للمال حال العقد و لو كان حال العقد ممنوعا من التصرّف، فإنّه على هذا يصير العنوانان غير مبتن أحدهما على الآخر، و يناسب العنوان الثاني أيضا مع التمثيل له بما إذا باع ثمّ ملك، هذا.

و لكنّ الظاهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّه جعل العنوان الأوّل اشتراط المجيز الجائز الإجازة، و العنوان الثاني أنّه على فرض هذا الاشتراط هل يشترط كون الشخص المجيز للعقد عين من كان حال العقد جائز التصرّف و الإجازة، أو يكفي التعدّد؟

و هذا يشمل بعض الفروع الذي ليس محلّا للكلام و بعض فروعه ليس مبتنيا على العنوان المتقدّم، فإنّ بيع الفضولي مال اليتيم مع الاقتران بالصرفة و وجود الولي لكن لم يجز حتّى صار اليتيم كبيرا، فأجاز في حال الكبر، داخل في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 367

هذا العنوان و ليس في صحّته كلام، و مسألة من باع ثمّ ملك يكون من فروع المقام و ليست مبتنية على العنوان المتقدّم، فإنّه مع القول بعدم اعتبار المجيز حال العقد أيضا يمكن التكلّم في أنّه هل يعتبر كون المجيز هو الملك حال العقد أو يكفي كون المالك غيره؟

[المقام الثالث اعتبار كون المجيز جائز التصرف حال العقد و عدمه و فيه مسائل]
[المسألة الأولى إذا باع شيئا ثم ملكه]

و على كلّ حال فالمهمّ التعرّض للمسألة المذكورة، فنقول: إذا باع الفضولي ثمّ ملك فهل يقع البيع الأوّل أو توجب هذه الملكيّة فساده؟ ثمّ على تقدير الصحّة هل يحتاج إلى إجازة هذا المالك الجديد أو يكفي نفس ملكيّته في

صحّته؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: الأقوى الصحّة للأصل و العمومات،

و مراده أنّ العقد قد تحقّق و رضي المالك أيضا لحقه، فيبقى احتمال أنّ المعتبر رضي من هو المالك حال العقد فندفعه بالإطلاقات و هذا على النقل واضح و أمّا على الكشف الحقيقي فلا يتم لأنّ مقتضى صحّة البيع الأوّل من حينه و هي مقتضية لفساد البيع الثاني الذي قد شمله عمومات صحّة العقود، و حينئذ فإمّا نقول بأنّا لم نلتزم بالكشف في جميع الموارد ففي هذا المورد نقول بالنقل، و إمّا نقول بالكشف لكن بالقدر الممكن و هو من حين العقد الثاني، قال- قدّس سرّه-: و ربّما نسلّم هنا عن بعض الإشكالات الجارية في مسألة من باع مال الغير لنفسه فأجاز ذلك الغير مثل مخالفة الإجازة لما قصده المتعاقدان، هذا.

و لكن ربّما يستشكل في هذا بأنّ الأمر بالعكس و أنّ الإجازة في تلك مطابقة لمقصود المتبايعين دون المقام، بتقريب أنّ البيع عبارة عن المبادلة، و المبادلة مقتضية للمحلّ الذي ينتقل منه و المحلّ الذي ينتقل إليه كما هو الحال في المبادلة الخارجيّة المكانية، ثمّ إمّا أن يجعل هذان المحلّان عنوان المالك للمال، غاية الأمر أنّه منطبق على شخص لكنّ الخصوصيّة الشخصيّة خارجة في الطرفين عن طرفية المبادلة،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 368

و إمّا أن يجعل نفس الشخصين الحاصلين المالكين للعوضين في حال وقوع المبادلة، و إمّا أن يجعل عنوانا جامعا لهذا الشخص و لمن يملك المال بعد ذلك مثل عنوان ابن عمرو، لا سبيل إلى الأخير لأنّ هذا الجامع غير مرتبط بالإضافة الماليّة، و لا إلى الأوّل، فإنّ عنوان المالك منتزع عن نفس الإضافة المتحقّقة بين ذات الشخص و ذات المال فيكون متأخّرا في

الرتبة عن هذه الإضافة فكيف يكون هو طرفا لها؟ فيلزم تقدم الشي ء على نفسه، فتعيّن أن يكون طرفا المبادلة ذات الشخصين المتّصفين بالمالكيّة حال وقوع المبادلة، و الفرض أنّ هذا الشخص مغاير في مسألتنا مع المجيز و المالك حال الإجازة بخلاف المسألة السابقة، حيث إنّ المالك في الحالين فيها متّحد فتتحقّق المطابقة بين الإجازة و مضمون العقد فيها دون المقام.

تحقيق المقام على وجه يرفع غاشية الأوهام يقتضي بسط الكلام فنقول و باللّه الاستعانة: قد نقول: إنّ مفهوم البيع عبارة عن مبادلة المال بالمال و من المعلوم أنّ البدليّة ليست في الحقيقة و الذات، فلا يتبدّل حقيقة الكتاب درهما و لا العكس، و إنّما هي في الإضافة الملكيّة يعني يتبدّل إضافة الكتاب إلى صاحبه بإضافة الدرهم إلى صاحبه، فيصير الكتاب مضافا إلى صاحب الدرهم و الدرهم إلى صاحب الكتاب. و بالجملة: قصد النقل من المالك و الانتقال إلى المالك مأخوذ في حقيقة البيع، و لا بدّ من وقوعه في حيّز الإنشاء. كما في التزويج فإنّه غير متعرض لنقل العلاقة من النفس لعدم ثبوتها لها و إنّما المتعرض نفس الإثبات للغير و كما في بيع الكلّي مع عدم تملك الشخص فإنّه لا يسلب عن نفسه شيئا لفرض عدمه، و إنّما يدخل في ملك الغير مالا.

و تارة نقول: إنّ مفهوم البيع ليس إلّا تمليك المال للغير بالعوض و لو كان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 369

خروج المال من شخص و دخول العوض في ملك آخر، غاية الأمر أنّه عند الإطلاق يحمل على كونه خارجا ممّن يدخل في كيسه العوض، لكن حقيقته غير آبية عن التقييد بغير ذلك، و على هذا فيصير ما زاد عن هذا المفهوم العام

خارجا عن تحت الإنشاء البيعي.

فإن قلنا بالأوّل و قد فرضنا تمشّي قصد ذلك المعنى من الفضولي البائع للنفس فنقول: إنّه علاوة على اعتبار المالكين في البيع يعتبر كونهما مشخّصين، لأنّ اعتبار النقل من عنوان المالك لا معنى له، و كذلك من الجامع الآخر، و إنّما من شخص زيد مثلا، فبعد تحليل العقد الفضولي المذكور على مذاق الشيخ إلى أصل البيع و ادّعاء المالكية، أو على ما ذكرنا من أنّه على خلاف الواقع- لأنّ الفرض وحدة المطلوب- فالعلاج أنّ القصد متى تعلّق بمهملة البيع يؤثّر في وجوده و مهملة البيع يصدق تعلّق القصد بها عند تعلّق القصد بالمقيّدة، فلو كان المصداق الواقعي من المهملة غير ما وقع تحت الإنشاء فوجود المهملة لا محالة يكون في ضمن ذلك المصداق الواقعي، فإنّ قصد خصوصيّة المصداق الغير الواقعي، أعني الإخراج من النفس و. فيه غير مؤثّر، و إنّما المؤثّر القصد إلى المهملة، فالمؤثّر يؤثّر أثره و ما لا أثر له و هو قصد الخصوصيّة يصير لغوا.

و بالجملة على كلا المبنيين لا بدّ من صحّة البيع في المسألة المتقدّمة و فسادها في المقام، و وجه أنّه بعد ما تحقّق القصد إلى البيع فلا بدّ من تأثيره، وقوعه خارجا، كما لو أوقعه المالك الحقيقي غاية الأمر أنّ الموجود بقصد الفضولي يكون كالجسم بلا روح، و محلّ وقوعه و لو بهذا النحو، أعني: كالجسم بلا روح و في مرتبة خارج الإنشاء ينحصر في المالكين الحقيقين، إذ غيرهما غير قابل للاتّصاف بالبيعيّة، و إذا كان قصد المهملة موجبا لوقوعه فلا محالة يوقعه في الفرد الممكن، فالقصد و إن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 370

تعلّق بها في ضمن الغير الممكن لكن وقوعه لا

يمكن و لو بالوقوع الإنشائي إلّا في الفرد الممكن، فالإجازة المتأخّرة التي هي مرقبة (كذا) لپيكرة البيع و منفخ للروح فيه إن تعلّقت بنفس هذا الواقع فهو و إلّا فلا پيكرة في غير هذا المحلّ حتّى يصير ذا روح بالإجازة، ففي المسألة المتقدّمة يتعلّق بنفسه و في مقامنا ليس كذلك.

و من هنا علم أنّه لا فرق بين القول بأنّ البيع عبارة عن نقل عن محلّ ما و تعيين المحلّ في الشخص، أو نقول بأنّ من الأوّل ينقدح في الذهن النقل الخاصّ، كما أنّ القائل في «ضرب زيد» لا ينقدح النسبة إلى فاعل ما ثم تعيين فاعل ما في زيد، بل من الأوّل يسند الضرب إلى زيد. و بالجملة وجوده الذهني وجود وحداني بسيط لا وجودان مترتّبان: إجمالي و تفصيلي، و لا فرق أيضا بين القول بأنّ سهم حقيقة البيع، إنّما هو نفس المبادلة المالية و الخصوصيّات الأخر تكون بدال آخر كما في المعنى الحرفي، أو قلنا بأنّ الخصوصيات مأخوذة في مفهوم البيع، فإنّ جميع هذه الصورة مشتركة في أنّه بعد تلبّس مهملة البيع بالقصد يتّصف بالوقوع و هو غير ممكن إلّا في المحلّ القابل و هو شخص المالكين.

و من هنا ينقدح أنّ عدم كون خصوصيّات الملاك المتعدّدة معدّدة للبيع الوارد على المال بالنظر العرفي كتخلّف وصف العربية من الفرس المبيع- حيث لا يوجب تعدّد المبيع بنظر العرف- لا ينفع في المقام، فإنّ هذه الوحدة العرفيّة لا ينفع بعد الوقوع و قرار الإنشاء على المحلّ الخاص، فكما أنّ إنشاء الملك يوجب استقرار البيع على نفسه في اعتبار المنشئ و نظر الشارع معا فكذلك في مقامنا يورث استقراره في نظر المنشئ.

و يؤيّد ما ذكرنا أنه يلزم على

تقدير صحّة البيع في مسألتنا في ما إذا باع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 371

الفضولي مال زيد مثلا فباع زيد هذا المال من عمرو و عمرو من بكر و هكذا ترتبت الأيدي إلى ستّين سنة مثلا، فالمالك على رأس الستّين كان له أن يجيز ذلك البيع الفضولي.

لا يقال: يلزم عليك أيضا ذلك في ما إذا عاد الملك بعد الستّين إلى المالك الأوّل و هو زيد في المثال.

لأنّا نقول: مدّعانا اعتبار وحدة الإضافة الحاصلة حال العقد مع الحاصلة حال الإجازة، و في ما ذكرت، الشخص و إن كان واحدا لكن إضافته الثابتة حال العقد قد زالت، و الموجودة حال الإجازة إضافة متجدّدة مغايرة للأولى.

فإن قلت: فما تقول في الورثة بحيث يجيزون العقد الفضولي الواقع على ملك مورّثهم؟

قلت: الوارث وجود تنزيلي لمورّثه، فكأنّ المورّث موجود و حيّ ببدنه التنزيلي فإضافته باقية، و لعلّ سرّ أشدّية حبّ الإنسان ولده من نفسه و ولد ولده من ولده، هو أنّ النسبة بينهما هو النسبة بين الفاني و الباقي، فكأنّ له بدنين أحدهما بدن نفسه و هو فان و الآخر بدن ولده و هو باق، و هكذا الملاك في الولد و ولد الولد.

و بالجملة: يعتبر العرف وجود الوارث وجود مورّثه، فلا يرون العلاقة متجدّدة.

هذا تمام الكلام في أصل الصحّة.

و أمّا حال الإجازة من حيث الكشف و النقل على تقدير الفراغ من الصحّة- حيث إنّ الكشف من حين العقد الفضولي غير ممكن- فنقول: قد يكون المدرك في القول بالكشف هو كون الإجازة إنفاذا لما هو مضمون العقد و مضمون العقد هو النقل من حينه، و من المعلوم أنّه إذا لم يمكن إنفاد هذا المضمون، فالقول

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 372

بالتبعيض بمعنى الكشف بالقدر الممكن لا وجه له، إذ ما هو المضمون غير ممكن الإنفاذ و ما هو ممكن الإنفاذ غير مضمون العقد، فلا محيص عن بطلان الإجازة.

و قد يكون المدرك العموم و حينئذ أيضا قد نقول بأنّ لنا عمومين، أحدهما:

«كلّ إجازة كاشفة من حين العقد»، و الثاني: «ليس شي ء من الإجازة بناقلة» فيكون جملة ما في المقام بضميمة عمومات صحّة العقود عمومات ثلاثة لا يمكن الأخذ بجميعها، لكنّ العام الأخير غير مزاحم بالأوّلين لأنّه موجد للموضوع بالنسبة إليهما فيكون مقدّما في الرتبة عليهما فيكون الأمر دائرا بينهما، و حينئذ فإن قلنا بناقليّة الإجازة يكون خلاف عموم لا شي ء من الإجازة بناقلة، و إن قلنا بالكشف من حين القابليّة يكون تخصيصا في عموم كلّ إجازة كاشفة من حين العقد، غاية الأمر بالنسبة إلى قيد الكشف لا أصله، و حيث لا مرجّح في البين نرجع إلى عمومات الفوق و قضيتها النقل. و قد نقول: العموم قد انعقد على أنّ كلّ إجازة كاشفة من حين العقد، و أمّا أنّ الإجازة ليست بناقلة فمستفاد من الإجماع القطعي و لو الحاصل من القولين، أعني: النقل في كلّ مورد و الكشف كذلك، فعلى هذا يرتفع احتمال النقل بواسطة الإجماع، فيتعيّن التخصيص في العموم المذكور.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى إجماع آخر و هو أنّه إمّا تكون الإجازة كاشفة من حين العقد أو ناقلة من حينها، و أمّا التبعيض فمجمع على بطلانه فيتعيّن حينئذ البطلان، لكن هذه المقدّمات كلّها فرضيّة لا واقع لها، و الواقع أنّ العمومات مقتضية للنقل و الدليل الخاص الدال على الكشف تعبّدا يكون مورده غير ما نحن فيه و لا إطلاق فيه يشمله، فلا بدّ من المشي فيه على

القاعدة من النقل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 373

هذا كلّه حال المسألة بحسب القواعد و العمومات، و أمّا بملاحظة الأخبار الخاصّة الناهية عن بيع غير المملوك، مثل النبوي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا تبع ما ليس عندك» «1»، فالكلام في محتملات هذه القضيّة و أنّ الظاهر ماذا؟ و ليعلم أوّلا أنّ الظاهر من مثل هذا التركيب عند العرف عدم خصوصيّة الإضافة إلى العاقد، فلو قيل: لا تبع المجهول، يفهمون أنّ بيع المجهول لا يقع مطلقا، فلو فرض العاقد فضوليّا و كان جاهلا و المالك عالما، يحكمون ببطلانه حتّى بالنسبة إلى المالك العالم. فلو حملت القضيّة على معنى دخل فيه عقد الفضولي، فلا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر بواسطة الدليل على صحّة الفضولي الذي كان صريحا فيها.

و حينئذ نقول: محتملات هذه القضيّة أمور:

أحدها: أن يقصد كلّ من البائع و المشتري ترتيب آثار الصحّة من ملكيّة الثمن للبائع و المثمن للمشتري، بمحض إنشاء البيع بدون حالة انتظارية. و هذا خلاف الظاهر. من جهة أنّ فساد هذا واضح عند العرف و أنّ مال شخص لا يحلّ لغيره بلا رضاه.

الثاني: أن يكون قصدهما الإنشاء بانتظار الاشتراء فقط أو مع الإجازة و هذا ينطبق على مسألتنا.

الثالث: أن يكون القصد نقل العين الخارجية المملوكة للغير لكن على أن تصير مملوكة في ذمّة البائع و عهدته، فالمملوك هو العين الخارجيّة، و الملكيّة مقيّدة بكونها في العهدة، بمعنى أنّ المشتري ملك العين على عهدة البائع، لا أنه ملك العين في الخارج، فالملكيّة قسمان، أحدهما: ما يكون ظرف اعتباره الخارج و هذا

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 12، من أبواب عقد البيع و شروطه، ص 266، ح 12.

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 1، ص: 374

القسم ثابت لمالكها الأصلي، و الآخر: ما يكون ظرف اعتباره العهدة. و ملاك القسم الأوّل: السلطنة الخارجيّة و الاستيلاء الخارجي. و ملاك القسم الثاني:

الاقتدار على تحصيل السلطنة الخارجيّة بالاشتراء من المالك و نحوه، و هذا القسم كما في ملكيّة الكلّي في الذمّة، فإنّ معنى ملك الكلّي ليس الملك الخارجي، إذ ربّما يكون الملك الخارجي ثابتا لغيره، بل معناه الاقتدار على تحصيل الكلّي بتحصيل مصاديقه.

لكن قد يستشكل بالفرق بين الكلّي و الشخصي، فإنّه في الأوّل يكون متعلّق العهدة التسليم، غاية الأمر تسليمه يتوقّف على تسليم الفرد و تمليكه. و أمّا في الشخصي، فإن كان متعلّق العهدة التسليم مع حصول الملك قبله يلزم أن لا يكون ملكا لمالكه و إلّا يلزم اجتماع الملكيّتين في العين الشخصيّة. و إن كان المتعلّق هو التمليك، فمعناه أنّه لم يحصل بعد ملكه العين و إلّا يلزم تحصيل الحاصل.

و لكن يجاب بأنّ متعلّق العهدة التمليك للعين في الخارج، و ما حصل بالعقد هو الملكيّة في العهدة، و على كلّ حال، المعاملة على هذا الوجه الثالث إن كانت صحيحة فمعنى صحّتها دخول الثمن في كيس البائع بمجرّد العقد و حدوث حقّ مطالبة تسليم عين المبيع للمشتري من البائع مع محفوظيّة ملك المالك الأصلي لها في الخارج، و يكون على هذا تمليك العين بعد تملّكها إيفاء بمضمون العقد لا تتمّة للسبب، كما أنّ صحية العقد على الوجه الأوّل معناها دخول الثمن في كيس البائع و خروج المبيع من كيس المالك و دخوله في كيس المشتري بمجرّد العقد، و على الوجه الثاني تكون المبادلة بين المالك و المشتري.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 375

فعلم من هذا: أنّ ما يمكن مساسه بالمالك

إنّما هو الأخير و الثاني (أي الوجه الثاني و الأوّل) بناء على إلغاء الخصوصيّة، و أمّا الأوّل- أي الوجه الثالث-:

فالمعاملة واقعة بين الأصيلين،، فإن كانت صحيحة لم يحتج إلى إجازة المالك، لأنّك قد عرفت أنّه ليس هذا منافيا لملكه و أنّ ملكه محفوظ معه، و إن لم تكن صحيحة لم تنفعه الإجازة لما ذكرنا من كون نفعها فرع المساس به، و المفروض عدمه.

فنقول: الظاهر من الأخبار بقرينة قوله: «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟» «1» و قوله: «لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها» «2» هو الاحتمال الأخير.

و عليه فلا دخل لها بمسألتنا، فلو أغمضنا عن جهة تعدّد الإضافتين في مسألتنا لكان الحكم فيها هو الصحّة بمقتضى العمومات. و العجب من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حيث يظهر من مطاوي كلامه استظهار هذا الذي استظهرناه من الأخبار، حيث سمّى تمليك المبيع بعد التملّك تسليما، و قد عرفت أنّه لا يتمّ إلّا عليه، و مع هذا قال: لا منافاة بين عدم صحّته بالنسبة إلى العاقد و صحّته للمالك إذا أجاز.

و محصّل ما ذكرنا في مفاد الأخبار: أنّها متعرّضة لصورة نقل الملكيّة الشأنية الثابتة في العهدة إلى الغير، و تحصيل المبيع و تسليمه يكون حاله حال تحصيل الشخص في بيع الكلّي و تسليمه في كونه وفاء بالعقد بعد تماميّته و ليس كحال إجازة المالك و رضاه في كونه من تتمة المؤثّر، فلهذا يكون ملزما بالتحصيل كما في الكلّي.

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 8، من أبواب أحكام العقود، ص 376، ح 4.

(2) المصدر نفسه: ص 378، ح 13.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 376

و على هذا فالخارج من الأخبار صورتان: صورة بيع مال الغير بترقّب إجازة الغير

و هو واضح. و صورة نقل مال الغير بلا ترقّب إجازته، لكن لا على سبيل نقل العهدة بل نقل نفس المال الخارجي أمّا باعتقاد ماليّة نفسه، أو عدوانا و غصبا، فإنّها أيضا غير مشمولة للأخبار المانعة بالمعنى الذي ذكرنا و إن كان الظاهر من عبارة شيخنا شمولها و أنّ الخارج منحصر في الأولى، و الوجه ما ذكرنا من أنّها ناظرة إلى نقل مال الغير بانيا على أنّه مال الغير بلا ترقّب الإجازة بنحو نقل العهدة كبيع الكلّي على تفصيل ذكرنا، فيبقى غيره خارجا. فلو كان مقتضى العمومات الصحّة كما ذكرنا في كلتا الصورتين، لم تكن هذه الأخبار مانعة.

و لو تبايعا على أن يكون اللزوم موقوفا على تملّك البائع دون إجازته، فهذا له صورتان، إحداهما: أن يملكه لا مطلقا، بل في ظرف ملكيّة الملحوظة وجودها في المستقبل و هذا باطل للتعليق الموجود.

و الثانية: أن ينشأ التمليك على وجه الإطلاق و التنجيز لكن كان الداعي له إنفاذه بعد تملّك نفسه ليدخل التعليق في غرضه لا إنشائه، و هذا صحيح بمقتضى القواعد، و الأخبار لا تنافيه، فكما أنّ المالك الأصلي لو اطّلع فأجاز، تشمله العمومات، كذلك لو ملك البائع و أجاز و قلنا بعدم مضرّية تعدّد الإضافة، لا مانع من صحّته أيضا. و مجرّد خيال أنه إذا تملّك أجاز البيع، وجوده و عدمه سيّان، فالخيال المذكور لا يوجب شموله تحت الأخبار كما توهّم.

[المسألة الثانية لو باع ملك الغير فتملكه فالظاهر البطلان]

مسألة لو باع مال الغير فملك و لم يجز فهل يجب عليه الوفاء أو لا؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: لا، لوجوه، الأوّل: الأخبار الخاصّة الناهية عن بيع ما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 377

ليس عنده. الثاني: قاعدة سلطنة الناس على أموالهم و عدم الحلّ

بدون طيب نفسهم و الالتزام السابق تعلّق بملك الغير ثمّ قال: اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه و إن كان حين العقد أجنبيا غير مأمور بالوفاء لكن بعد التملّك لا مانع من عموم أَوْفُوا، فيشمله بمجرّد التملّك. و أجاب عنه بأنّه قبل الملك لم يكن مأمورا بالوفاء فكذا بعده بالاستصحاب، و المقام مقام استصحاب حكم الخاص لا الرجوع إلى العام ثمّ أمر بالتأمّل.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- دام بقاه- بناء على مبناه من استفادة اختصاص مورد النهي في الأخبار بالبيع في العهدة، و استفادته من كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أيضا، بأنّا لو أغمضنا عن تلك الأخبار لكان مقتضى القواعد صحّة البيع العهدي المذكور بلا حاجة إلى الإجازة. و شي ء ممّا ذكره غير مانع، أمّا حديث السلطنة فإذا ألزمناه بمقتضى عقده الذي أقدم عليه و دخل تحت أَوْفُوا فهذه سلطنة قد فوّتها على نفسه كما في كلّ معاملة، فإنّ إعمال السلطنة لا ينافي السلطنة.

و أمّا عموم أَوْفُوا فلا مانع من شموله من أوّل الأمر، بمعنى ملزميّته على التحصيل كما في بيع الكليّ، حيث إنّه ملزم على تحصيل الفرد، و على فرض الإغماض عن هذا و القول بأنّ شمول دليل الوفاء متأخّر إلى زمان حصول الملك، نقول: حاله حال تبدّل عنوان المسافر بعنوان الحاضر، بالنسبة إلى عمومات وجوب الصلاة الرباعيّة، فإذا فرضنا أنّ عنوان المالك دخيل في حكم لزوم الوفاء كدخل عنوان الحاضر في وجوب الرباعيّة و كان فرد من العقد من أوّل وجوده عقد الغير المالك ثمّ صار عقدا للمالك فهو كما لو صار الشخص المسافر حاضرا، و لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 378

شبهة في دخوله تحت العموم و لو لم نقل بالعموم الأزماني،

و ما يبتني على العموم الأزماني ما إذا خرج الفرد في زمان من غير نظر إلى عنوان، كما لو قام الإجماع على خروجه زيد في يوم الجمعة من «أكرم العلماء».

و الحاصل: أنّ للبيع صورتين، إحداهما: صورة الفضوليّة بأن يبيع عن ثالث أو عن المالك أو عن نفسه اعتقادا أو عدوانا بناء على إرجاع ذلك إلى البيع عن المالك.

و الثانية: صورة البيع على وجه العهدة. و كلمات شيخنا مضطربة، فمن بعضها يستظهر الأولى و من بعضها الثانية و على كلتيهما يخدش كلامه هنا، فإنّه في الصورة الثانية يكون عموم أَوْفُوا شاملا من الأوّل فليس مرتفعا حتى يرجع إلى استصحاب حكم الخاص، و في الصورة الأولى و إن كان لم يشمله العموم، لكنّه من جهة عدم تماميّة الموضوع لعدم لحوق إجازة المالك، فمتى لحقت تمّت المعاملة و دخلت تحت أَوْفُوا كما في القبض في الصرف و السلم، و الحاصل: أنّ هذا من باب التقييد لا التخصيص و الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص في ما كان من باب التخصيص، فالرجوع إلى الاستصحاب لا يتمّ على كلّ حال، و يمكن أن يكون أمره بالتأمّل إشارة إلى هذا.

و لسيّدنا المحقّق المحشّي- طاب ثراه- هيهنا في وجه التأمّل ثلاثة أوجه:

الأوّل: أن يكون إشارة إلى ما تقدّم من أنّه يجب على الأصيل و الفضولي الوفاء بمعنى عدم النقض و الفسخ و إن لم يجز بمعنى ترتيب آثار الملكيّة- كما مرّ منه قدّس سرّه- فلم يكن عن العموم خارجا من الأوّل حتّى يرجع إلى استصحاب حكم الخاص. لكنّك خبير بأنّه ما تقدّم هذا الكلام منه- قدّس سرّه- إلّا بالنسبة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 379

إلى الأصيل لا الفضولي، و مقامنا مبتن على

جريانه في الفضولي و لم يتقدّم منه ذلك.

الثاني: أن يكون إشارة إلى أنّ العموم الزماني قد يكون بالتصريح باللفظ كما في «أكرم العلماء في كلّ زمان»، و قد يكون بالإطلاق و مقدّمات الحكمة، فإذا خرج فرد في القسم الأوّل في زمان، لا وجه لخروجه في الزمان الثاني، لأنّه تخصيص زائد، فنرجع مع إجمال المخصص إلى العموم، و أمّا في القسم الثاني- حيث لا لسان للعام بالنسبة إلى الزمان الثاني- فإذا خرج لا دليل على دخوله ثانيا في العام.

و بعبارة أخرى دخوله ليس حفظا للعموم و خروجه ليس تخصيصا زائدا.

فإن قلت: الأمر دائر بين التخصيص و التقييد و الثاني أرجح.

قلنا: الكلام مفروض في ما لم يكن في البين احتمال التقييد و كان من باب التخصيص و لا محالة حينئذ خروج الفرد دائما أو في بعض الزمان سيّان بالنسبة إلى العموم، فيكون دخوله في الزمان الثاني بلا دليل، و مقامنا من هذا القبيل، فلو لم يكن في البين استصحاب لما كان للرجوع إلى العموم وجه، فليس المقام مقام الرجوع إلى العموم حتى يقال بتقدّم الاستصحاب عليه من جهة أنّه استصحاب حكم الخاص.

و فيه: أنّ عين هذا البيان بيان الرجوع إلى الاستصحاب، و توجيهه كما بيّنه في خيار الغبن و في باب الاستصحاب من الفرائد، فلا يمكن أن يكون وجه التوجيه وجها للخدشة، اللّهمّ إلّا أن يكون الغرض إيهام العبارة جعل الاستصحاب معارضا للعموم و مقدّما عليه، فكان الغرض التنبيه على دفع هذا التوهّم لا النظر إلى أصل المطلب.

الثالث: أن يكون إشارة إلى أنّ الاستصحاب لا يعمل به في مقابل العموم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 380

إلّا في ما إذا كان جاريا في موضوع الخاص و إلّا

فاستصحاب الحكم في مقابل العام غير جائز، لأنّه تقديم الأصل على الدليل الاجتهادي، ثمّ مثّل بثلاثة أمثلة:

الأوّل: الكلب إذا وقع في الملح و صار ملحا فلا يجوز في قبال عموم كلّ ملح طاهر أن يعمل باستصحاب نجاسته الثابتة حال الكلبيّة، بأن يشير إلى الجسم و يجعل هو الموضوع.

الثاني: أن يقول: أكرم العلماء في كلّ يوم، ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، و كان المتيقّن من هذا الأخير اليوم الأوّل، ففي ما بعده لا مساغ لاستصحاب حكم هذا الخاص في مقابل عموم أكرم العلماء في كلّ يوم.

الثالث: أن يقول: أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق، و كان زيد فاسقا ثمّ شكّ في خروجه عن الفسق و بقائه، فهنا مقام استصحاب الفسق، و ليس مقام الرجوع إلى العموم، لأنّه تمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، و في الأخير أيضا في الحقيقة يكون المخصّص للعموم هو الدليل الاجتهادي، و الأصل إنّما أثبت موضوعه، فلم يلزم تخصيص الدليل الاجتهادي بالأصل.

و فيه: أنّ معنى ذلك أن يكون الشيخ- قدّس سرّه- بعد أن أسّس هذا الأساس و بنى هذا البنيان، أعني: الفرق بين العموم و العموم عدل عنه هنا و رفع اليد عن ذلك التحقيق و ذهب إلى أنّ العام بقول مطلق لا يمكن في مقابله العمل بالاستصحاب.

[المسألة الثالثة لو باع معتقدا لعدم جواز التصرّف فبان جوازه و الصور ستة]
اشارة

المقام الرابع: ما لو باع معتقدا لعدم جواز التصرّف فبان كونه جائز التصرّف و عدم جواز التصرّف المستكشف خلافه قد يكون لأجل عدم كونه وليّا على البيع مع كونه وليّا عليه بالولاية أو الوكالة أو المأذونيّة، و هذا على قسمين: قد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 381

لا يعلم أصل الولاية و الوكالة و المأذونيّة، و قد يعلم ذلك و لا يعلم أنّ المال مال

المولّى عليه أو الموكّل أو الآذن، بل يعتقد كونه مال الأجنبي، و قد يكون لأجل عدم كونه مالكا. و على كلّ من التقادير الثلاثة إمّا يبيع عن المالك أو عن نفسه، فهذه ستّ صور:

الأولى: أن يبيع عن زيد اليتيم مثلا معتقدا أنّه غير وليّ عليه ثمّ علم كونه وليّا، أو يبيع مال عمرو معتقدا أنّه غير وكيل من طرفه فبان كونه وكيله.

فنقول: الولاية إمّا نفس جواز التصرّف أو مساوق معه، و لا يمكن أن يؤخذ في موضوعه العلم بنفسه، فإنّ الشي ء لا يمكن أن يتوقّف تحقّقه و وجوده على العلم به، و هذا واضح. و هكذا الحال في الوكالة، فإنّه عبارة عن القيام مقام المالك في نفوذ التصرّف و مالكيّة الأمر. و هذا المعنى لا يمكن أن يتوقّف على العلم به.

و على هذا فأدلّة إثبات الولاية للأب و الجد و نفوذ تصرّفات الوكيل بعد كون مفادها جعل نفس الولاية و مالكيّة الأمر و المختاريّة في ذات الولي و الوكيل، لا يعقل انصرافها إلى حال العلم بالولاية و الوكالة كما ادّعاه بعض الأساطين في حاشيته على هذا المقام من مكاسب شيخنا المرتضى- قدّس سرّهما- نعم لو فرضنا وجود الدليل على أنّ تصرّف الولي و الوكيل في حال الشك في الولاية و الوكالة أو العلم بالخلاف غير نافذ، لكنّا ملجئين إلى حمل أدلّة إثبات الولاية الواقعيّة و الوكالة كذلك على مرتبة شأنيّتهما، فيقال: إنّ العلم بتلك المرتبة مولّد للمرتبة الفعليّة، و لكن بعد عدم هذا الدليل و انحصار الأمر في أدلّة واقع الوكالة و الولاية لا يمكن دعوى انصرافها مع ظهورها في المعين الذي هو عين جواز التصرّف أو يساوقه إلى حالة العلم. و دعوى ظهورها من

الأوّل في الثانية

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 382

خلاف الواقع.

و أمّا الفرق بين هذين العنوانين و عنوان المالكيّة حيث نقول: بأنّ نفوذ تصرّف المالك موقوف على علمه بعنوان مالكيّته هو أنّ المالكيّة أمر وراء السلطنة و نفوذ التصرّف، و لهذا المحجور مالك مع عدم نفوذ تصرّفه، فيمكن أخذ العلم بهذا العنوان في موضوع الأثر المترتّب عليه، فيقال: المالك إذا علم بأنّه مالك فطيب نفسه مؤثّر، و لكن لا يمكن أن يقال: المختار إذا علم بأنّه مختار يكون مختارا كما لا يمكن في عنوان المالك أيضا أن يقال: إنّ المالك إن علم بأنّ طيب نفسه مؤثّر فطيب نفسه مؤثّر.

و على هذا فلا بدّ أن يقال في الفرع المذكور- أعني: بيع الولي و الوكيل مع علمهما بأنّ هذا المال مال لشخص هما في الواقع وليّا أمره، غاية الأمر لا يعلمان بالولاية و الوكالة- أنّ البيع صحيح نافذ بلا حاجة إلى إجازة منهما بعد العلم.

و هذا بخلاف الصورة الثانية، أعني: أن يبيع الولي و الوكيل عن زيد مثلا مع علمهما بكونهما وليّي أمره ماله لكن معتقدين أنّ المال مال لعمرو الذي هما أجنبيّان عنه، فإنّ من المعلوم أنّ حالهما حينئذ حال نفس المالك، فكما أنّ طيب نفس المالك وجب أن يتعلّق بمال نفسه بعنوان أنّه مال نفسه، فكذلك طيب نفس الولي و الوكيل أيضا لا بدّ و أن يتعلّق بمال المولّى عليه و الموكّل، أعني:

شخصيّتهما بعنوان شخصيهما.

الصورة الثالثة: أن يبيع المال عن نفسه معتقدا بأنّ المال لهذا الصغير بأن غصبه منه و تملكه و باعه لنفسه مع جهله بكونه وليّا، فنقول: أمّا صحّة بيعه، فهو ككلّ من باع مال غيره عن نفسه، حيث قلنا بأنّ خصوصية كونه

عن نفسه تصير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 383

ملغى فيقع البيع الإنشائي عن غيره، و أمّا صحّته الفعليّة، فالكلام في مانعيّة جهله بالولاية ما تقدّم من عدم مانعيته، نعم المانع عدم تعلّق طيب نفسه بوقوع البيع عن الصغير، فإنّه لا يرضى بكونه أصل ماليّة المال للصغير فكيف يرضى بتبعاته من البيع و نحوه؟ فيقوى كون البيع محتاجا في اللزوم إلى الإجازة المستأنفة من هذا الولي بأن يجيز العقد للصغير، لكن ليعلم أنّ جعل الولي بالولاية و علمه بها سيّان في ما ذكرنا، لاشتراكهما في الملاك الذي ذكرناه من الانحلال و عدم الطيب بإضافة البيع إلى الصغير.

الصورة الرابعة: أن يبيع مال الصغير الذي يعلم بولايته عليه باعتقاد أنّه مال زيد و يوقع البيع عن نفسه بأن يغصبه عن هذا المالك التخيّلي و يبيعه عن نفسه، فالكلام في أصل الصحّة ما تقدم، و في اللزوم من جهة عدم طيب النفس يعلم حاله من المسألة الآتية و هي ما إذا باع الإنسان مال نفسه باعتقاد أنّه مال زيد عن زيد، فأصل الصحّة بواسطة ملغائيّة قيد عن الغير كملغائيّة الخصوصية في عكسه لا إشكال فيه.

و إنّما الإشكال في أنّه لو اخترنا في أصل الصحّة مذهب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حيث يقول: بأنّ البيع منحلّ إلى بيع عن المالك الواقعيّ و ادعاء أنّ نفسه المالك، إذ يقال: لا إشكال في أنّ كلّ معنى جعلناه مضمونا للعقد فلا دليل على تعلّق الطيب بأزيد منه، إذ الدليل دلّ على أنّ البيع مثلا متوقف على رضي المالك، و قد فرضنا أنّ المالك أنشأ مضمون البيع أعني النقل عن عنوان المالك، و لا محالة كان هذا الإنشاء منه صادرا عن طيب نفسه.

و بعبارة

أخرى: المعتبر هو رضي المالك ببيع ماله و إن كان على وجه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 384

الإجمال، مثلا لو باع المال عن مالكه كائنا من كان و لو كان نفسه، فقد قصد بيع مال نفسه بعنوان مال نفسه إن كان المال ماله، غاية الأمر بنحو الإجمال، و لا دليل على وقوع عنوان مال نفسه تحت القصد و الاختيار و الرضى بهذا العنوان التفصيلي.

و حينئذ فنقول: إذا فرضنا أنّ بيعه عن أبيه انحلّ إلى قصدين، قصد للبيع عن المالك و في هذا القصد عنوان المالك تمام الموضوع فمعناه أنّه قاصد للبيع عن المالك مع جميع الحالات المتصوّرة في هذا العنوان التي منها كونه منطبقا على نفسه أو على غيره، فجميع هذه الخصوصيات وقع تحت قصده إجمالا، إذ معنى تعدّد المقصود هو عدم دخالة القيد في المقصود الأوّلي، و هو معنى الإطلاق، و إلّا فذات المهملة بحدّ الإهمال موجود في المقيّد على وجه وحدة المقصود أيضا، و إذن فيبقى دعوى أنّ المنصرف من الأدلّة هو رضي المالك ببيع ماله بهذا العنوان التفصيلي، و أنّى لأحد بإثبات ذلك؟

هذا على ما اختاره شيخنا في مسألة بيع الغاصب لنفسه الذي يجري بعينه في مسألتنا، و أمّا على طريق اخترناه في تصحيحه الذي يجري أيضا في المقام و حاصله بعد منع ما ادّعاه شيخنا من إرجاع القصد إلى البيع عن المالك و تعيين أنّه المالك لوضوح أنّا نرى عدم تعلّق الغرض في البيع عن عنوان المالك.

فإن قلت: إنّ ما هو المعتبر في صحة البيع هي خصوصيّة المالكيّة، و أمّا خصوصيّة كونه زيد بن عمرو، و طويلا و عالما، إلى غير ذلك من سائر الخصوصيات الموجودة، فهي من باب ضمّ

الحجر في هذا المقصود الذي هو البيع، و لو فرض تعلّق غرض بواحد منها كان أجنبيّا عن المقصود البيعي و لا يدعو هذا المقصود إلّا إلى البيع عن المالك، و من الممكن أن يوجد الطبيعة بداع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 385

و الخصوصيّات بداع آخر، و لهذا قلنا: إنّه لو أتى بالطبيعة المأمور بها بداعي الأمر و اختار من بين الخصوصيات إحداها بداع شهواني، كفى في العباديّة.

قلت: عدم اعتبار الخصوصيّات الأخر غير المالكيّة، إنّما هو في الحكم الشرعي فلا يقدح تخلّفها في الحكم الشرعي، و لا ينافي ذلك تقييد القصد إلى البيع بداع شهواني بالخصوصيات الأخر، بحيث كان الداعي إلى الطبيعة و الخصوصيّة أمرا واحدا شهوانيّا يكون للخصوصيّة مدخلا في حصول هذا الغرض، فلا محالة يقصد الخاص بخصوصيته.

و إذن فتصحيح البيع في مقامنا و في بيع الغاصب لنفسه و في بيع الموصوف المتخلّف وصفه بطريق تعدّد المقصود غير واقع، و ما يمكن أن يكون طريق التصحيح في الجميع أن يقال: القصد و إن تعلّق بالمقيّد بنحو الوحدة و لكنّ المهملة كما يوجد بوجود المقيّد يقصد أيضا ضرورة بمقصوديّة المقيّد، و هذا لا شبهة فيه و إلّا يلزم تخلّف المقسم عن القسم و العام عن الخاص، و المهملة مشتركة بين الخاص الذي وقع تحت القصد و الخاص الذي لم يقع تحته.

فإن قلت: المهملة التي في ضمن المقيّد لا إطلاق فيه و لا تقييد و لكنّه لا ينطبق إلّا على المقيّد، و لهذا لو تعلّق حبّك بزيد فقد أحببت الإنسان، و مع ذلك لا يسري إلى عمرو حتّى بالعنوان الإجمالي، فإذا قصدت الطبيعة بقيد الخصوصيّة لا يسري القصد إلى فاقدها حتّى مهملته.

قلت: فرق بين المهملة و

المهملة، فكلّما كانت الخصوصيّة المقصودة مع الخصوصيّة المفقودة معدّدتين للموضوع بنظر العرف مثل الفرسيّة و الحجريّة في الجسم المشار إليه، فهنا ما ذكرته حقّ، فإذا أشير إلى الجسم بعنوان الفرس و أنشأ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 386

بيعه لما يقال: إنّ هذا الحجر قد بيع، و كلّما كانت الخصوصيّتان غير معدّدتين و كانت الوحدة الشخصيّة الفردية محفوظة بنظر العرف مثل العربيّة و العجميّة في الفرس فهنا القول بالصحّة قويّ، فإنّ القصد و إن تعلّق بالمقيد بنحو الوحدة و لكن المقيّد بالقيد المقصود، و المقيّد بالقيد المفقود في عالم القصد واحد بنظر العرف شخصا، فيقال: هذا الفرس العجمي قد بيع.

و على هذا فنقول: من الخصوصيات الغير المعدّدة خصوصيّة كون المبادلة الواقعة بين المالين بين المالكين الحقيقيين، أم بين المالكين المقصودين، فيمكن الإشارة إلى المالين و يقال: إنّهما بيع أحدهما بالآخر و هذا بيع واحد شخصي لا تنثلم وحدته الشخصيّة باختلاف المالك، و على هذا فيحكم بالصحّة في مقابل الفساد و لكنّه محتاج إلى إجازة المالك.

وجه ذلك: أنّ الخصوصيتين و إن كانتا غير معدّدتين و قضيّة ذلك صدق إضافة القصد إلى فاقد الخصوصيّة المقصودة كما يضاف بقاء النجاسة إلى الماء بعد تغيّر الماء و زواله من قبل نفسه، و لكن قضيّة ذلك ليس بأزيد من تعلّق القصد و طيب النفس أيضا بالمهملة، و لكنّ الشرع حكم بدخل نفس الخصوصيّة المقصودة هنا.

توضيح المقام: أنّ الدليل دلّ على عدم حلّية مال الغير بدون طيبه، يعني بدون طيبه بالتصرّف المتعلّق بماله و ظاهر عنوان المال الموضوعيّة لا المعرفية إلى العناوين الخاصّة الأوّليّة من الخبز و الكتاب و الفرس و نحوها و عنوان الطيب كعنوان الاختيار إذا أضيف إلى عنوان،

فالعلم بهذا العنوان مأخوذ في مفهومه، فكما أنّ ضرب زيد إنّما يصير اختياريا إذا علم الضارب بأنّ مضروبه زيد، كذلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 387

إنّما يصير ممّا طيب به النفس إذا علم الشخص الذي طاب نفسه بكونه زيدا، فهنا قد وقع بيع مال الإنسان متعلّقا لطيب نفسه فلا بدّ من التفاته و علمه بأنّ المبيع مال له، فإذا فقد هذا الالتفات بل علم بأنّه مال الغير كما هو مفروض مقامنا و هما الخصوصيّتان الموجودة إحداهما و المفقودة أخراهما فهذا مساوق لفقدان وصف الطيب الذي اعتبره الدليل هذا، و الطيب المتعلّق بالمهملة حيث كان بالسراية من الخاص لم يسر إلى خاص آخر حتّى يقال بأنّ هذا الفرد وقع تحت الطيب بعنوان إجمالي، بخلاف الحال على مبني شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-، فإنّ الطيب أوّلا و بالذات كان منسوبا إلى المهملة، و ما هذا شأنه يسري إلى جميع أفرادها فلا محالة يصير هذا الفرد الفاقد للخصوصيّة المقصودة تحت الطيب بعنوان إجمالي.

فرع لو غرّ الغاصب المالك، بأن أظهر عبده المغصوب منه عبدا لنفس الغاصب فقال له بع عبدي هذا عنك

فباع فهل يحكم بالاحتياج إلى الإجازة بعد وضوح الأمر أو يحكم باللزوم بدونها؟ الحقّ أنّه يختلف الحال بناء على ثبوت الدلالة الاقتضائية التي ادّعاها بعض في عكس هذا الفرع، و هو ما لو قال: أعتق عبدك عنّي، و تلقّاها شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أيضا بالقبول.

و على عدم تسليمها، فإن قيل بعدم الدلالة المذكورة و أنّ الكلام إمّا محمول على هذه الصورة من بيع مال الغير عن نفسه، أو محمول على البيع عن المالك و إباحة التصرّف في ثمنه، فالكلام عين الكلام في المسألة المتقدمة فإنّ المالك الحقيقي باع مال نفسه معتقدا أنّه لغيره موقعا للإنشاء عن ذلك الغير و هو عين المسألة الماضية، فلا وجه

لما يظهر من شيخنا من امتيازها عنها حيث قال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 388

فالأقوى أيضا عدم النفوذ.

و إن قيل بثبوت تلك الدلالة، فالكلام الصادر من الغاصب يكون بمنزلة «ملّكته إيّاك و اشترطت عليك بيعه» و قول بعت الصادر بعد ذلك من المالك، له أثران طوليان: تملّك و بيع، كما أنّ بيع ذي الخيار فسخ و بيع، و لا دليل على ثبوت الملك قبل إنشاء البيع بل لا بدّ من ثبوته قبل تأثيره و هنا ذلك حاصل، فإنّ هذا الإنشاء له تأثيران: الأوّل في حصول الملك و الثاني في البيع، فعلى هذا المالك الحقيقي للمال قد باع المال الذي اعتقد ماليّته لنفسه لكن أخطأ في سبب ملكيّته فزعم أنّه صار ملكا بهذا القبول و الحال أنّه كان ملكا له بالإرث مثلا، و هذا لا ضير في تخلّفه، و الطيب المعتبر صدوره من المالك في موضوع ماله قد تحقّق، و لا فرق بين كون تسبّب الملكيّة من السبب الخاص بنحو التقييد أو بنحو التطبيق، فإنّه على فرض الأوّل أيضا يكون من باب تقييد الغرض و الداعي الذي لا شبهة في عدم قدح تخلّفه، كمن تخيّل أنّ المال الفلاني قد انتقل إليه مجانا و بلا عوض فأقدم على بيعه ثمّ بان أنّه انتقل إليه من طريق الشراء، فلا يلتزمون بأنّه مختلّ الشرط من جهة فقدان طيب المالك.

تنبيه

نقل شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عن بعض من قارب عصره و بعض من عاصره أنّهما ذهبا إلى أنّ البيع في المقام متزلزل البقاء كالبيع الخياري، معلّلا ذلك بقاعدة نفي الضرر، و ردّه شيخنا و اختار أنّه متزلزل الحدوث، و استدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: دليل «لا يحلّ» حيث دلّ على أنّ

الملكية متوقّفة على حصول الطيب فلو حصل الملك، و لو فقد وصف اللزوم لصار المال حلالا بلا طيب مالكه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 389

و الثاني: قاعدة نفي الضرر، ففرّق- قدّس سرّه- بين الضرر في باب الغبن و الضرر هنا بما حاصله: أنّ الضرر تارة راجع إلى العوضين بمعنى أنّ العوض لا يساوي ماليّة المعوّض كما لو عوّض ما يساوي المائة بخمسين، فهذا ضرر مالي، و قضيّة «لا ضرر» نفي وصف اللزوم.

و أخرى غير راجع إليهما فإنّ المال عوّض بما يساوي ماليّته فليس في البين ضرر مالي و إنّما الضرر انتقال ماله بلا علمه و التفاته، فإنّ ذلك نقص في سلطنته و ضرر في شأنه و اعتباره، بناء على شمول القاعدة للضرر الغرضي و الاعتباري و عدم اختصاصه بالمالي، و قضيّة «لا ضرر» حينئذ نفي أصل الانتقال و الملك لا نفي وصفه، و محصّل ما أفاده، أنّه لو لم يكن لنا دليل «لا يحلّ» لكفانا دليل لا ضرر لإثبات موقوفيّة الملك في الفضولي على إجازة المالك.

و ربّما يستشكل عليه- قدّس سرّه- بأنّه ما الفرق بين المقامين؟ إذ لنا أن نقول في باب الغبن أيضا أنّ نفس انتقال المال عن ملكه بأدون من قيمته ضرر عليه، فلا بدّ أن يرتفع، فإن قيل لا ضرر بعد تداركه بالخيار، قلنا في المقام أيضا لا ضرر في انتقال المال عن ملك المالك بلا اختياره بعد أنّ بقاء ذلك بيده و منوط بإجازته و عدم ردّه.

و لكن يمكن أن ينتصر له- رحمه اللّٰه- بالمقايسة بإذهاب المال الخارجي، فإذا أخرج ظالم فرس زيد من اصطبله و أذهبه إلى داره فنفس هذا الإخراج توهين لزيد و ضرر شأني شرفي عليه، و بقاء

المال في يد الظالم أيضا ضرر مالي عليه، فسدّ هذا الضرر المالي كما يحصل بالمنع من أصل الإخراج يحصل بالإعادة بعده أيضا.

و أمّا الضرر الشرفي، فلو وقع الإخراج فهو واقع و لا يمكن جبرانه، فسدّه منحصر بالمنع من أصل الإخراج، هذا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 390

الصورة السادسة: (كذا) أن يبيع مال نفسه معتقدا أنّه لغيره لكن مع إيقاع البيع لنفسه عدوانا، فالحكم بالصحّة كما تقدّم، و أمّا الحاجة إلى الإجازة فهي مبتنية على الخلاف في مبني صحّة بيع الغاصب لنفسه، فإن قلنا إنّ مصحّح قصده للبيع هو ادّعاء المالكيّة نظير المجاز السكاكي حيث إنّ المتكلّم استعمل لفظ الأسد في معناه و المصحّح لتطبيقه على زيد ادّعاء أنّه زيد، فالطيب قد حصل معلّقا على هذا الملك الادّعائي و المعتبر حصوله في الملك الحقيقي فيحتاج إلى الإجازة المستأنفة.

و إن قلنا: إنّ الملكيّة أمر واقعي له نفس أمريّة و الانظار طريق و كاشفة عنها لا أن يكون واقعها بصرف النظر، و حينئذ فنقول: يمكن اختلاف الانظار فيها بحسب الشرع و العرف بل و المنشئ و غيره، أمّا الأوّل: فكما في بيع الخمر حيث يقصد البائع عين ما يقصده في البيوع الصحيحة من نقل المال بالمال بل ربّما يعدّها من أنفس المال و ربّما يعجب المشتري بزعمه أنّه قد غبن البائع، و الحاصل:

العرف يراه مالا و الشرع يراه لا مال.

و أمّا الثاني: فكما في إيجاب كلّ موجب للبيع، فإنّ البيع بنظره الإنشائي قد تمّ بلا حالة منتظرة، فهو بنظره الإنشائي يرى المثمن ملكا للمشتري و الثمن للبائع و إن كان العرف و الشرع يحكمان ببقائهما على ملك مالكهما الأصلي، و لا منافاة بين الحكمين إذا كان الشخص متشرّعا

و من أهل العرف، و منشئا للبيع، فإنّه يمكن اختلاف الحكم من الحكم الواحد باختلاف الحيثيّات، كما قلنا نظيره في الأصول في الجميع بين التكليف الواقعي الموجود في أطراف العلم الإجمالي مع الترخيص في بعض الأطراف بأنّ الحكم التكليفي صادر من الشارع بحيث شارعيّته، و الترخيص صادر بحيث كونه حائزا لكرسي الفصل و قائماً مقام عقل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 391

المكلّف.

و بالجملة فنقول: في مقام تصحيح القصد الجدّي للبائع الغاصب بأنّه بنظره يرى نفسه مالكا واقعيا كما يرى بائع الخمر و مشتريها، الخمر ملكا واقعيا، فيصدر منه القصد الجدّي إلى البيع، و هذا بخلاف ما لو قلنا بأنّه يرى الملك الحقيقي للمغصوب منه، و لكنّه يدّعي كونه مالكا نظير الأسد الادّعائي، فإنّ هذا لا يصحّح القصد الجدّي نحو الإيقاع الذي موضوعه المصداق الحقيقي، مثلا لو كان من آثار الأسد الحقيقي أنّك تقصد جدّا لضربه، فلا يتمشّى هذا منك بالنسبة إلى زيد، و هكذا من آثار الملك الواقعي أنّك تقصد جدّا مبادلته بمال آخر، فلا يتمشّى منك في الملك التنزيلي الادّعائي.

و بالجملة: فعلى ما ذكرنا لا حاجة إلى الإجازة لأنّ المالك الحقيقي قد طاب نفسه في ما رآه ملكا حقيقيّا له و كان كذلك أيضا واقعا، غاية الأمر أخطأ في سبب حصولها فكان سببها الواقعي مثلا الإرث و هو زعم أنّه الغصب و قد تقدّم عدم مضريّة ذلك، هذا.

و هنا مبني آخر يتوجّه عليه الحاجة إلى الإجازة و هو أنّ الملكيّة لا واقع لها سوى اعتبار المعتبر و ليس وراء الاعتبار لها واقع محفوظ، فإذا كان كذلك فهو خفيف المؤنة، فإنّ الاعتبار لا مؤنة له كما في التشريع، فيمكن اعتبار الإنسان غير الملك ملكا

و غير الوجوب وجوبا، و كما في إيجاب السائل بل و إيجاب البيع، و على هذا فيمكن دعوى أنّ الشارع إذا حكم بحكم في موضوع الملك فهو إنّما تعلّقه بمصاديقه الذي يعتبره نفسه دون ما يعتبره العرف كما قد يدّعي في عنوان المأكول اللحم و غيره و المكيل و الموزون و غيرهما، إذ على هذا إنّما حصل الطيب في الملك باعتبار الغاصب و قد كان المعتبر الطيب في الملك باعتبار الشارع.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 392

[البحث الثالث] القول في المجاز
اشارة

و استقصائه ببيان أمور:

الأمر الأوّل [اعتبار كون العقد جامعا للشروط]
اشارة

لا إشكال أنّ الكلام في الفضولي في ما إذا كان جميع الشرائط على نحو اعتبارها موجودة إلا رضي المالك، و هذا بحسب الكبرى لا يقبل الإنكار، و أمّا بحسب الصغرى ففي مقام الثبوت هنا أنحاء متصوّرة:

الأوّل: أن نعتبر الشرائط في المنشئ للعقد و لو لم يسمّ عاقدا عرفا و لا بائعا كما في الوكيل في محض إجراء الصيغة، فهو أيضا يعتبر استجماعه لمثل هذا الشرط و لو لم يكن الموكّل كذلك، بل لا يجدي اتّصاف الموكّل مع عدم اتّصاف الوكيل.

الثاني: أن نعتبر الشروط في العاقد و هو في مورد الوكالة في صرف الإنشاء الموكّل، و في مورد الوكالة في كلّي المعاملة هو الوكيل، و الفرق بين الإنشاء و العقد أنّ الأوّل لا يقبل البقاء و الثاني يقبله، و على هذين يعتبر اتّصاف الفضولي بالشروط و المالك المجيز و إن كان يصير عاقدا بالإجازة لكن المعتبر الاتّصاف حال صدور العقد مع كون الشخص عاقدا، اللهمّ إلّا أن نعتبر الشرط في العاقد في أيّ زمان صار عاقدا و لو بعد صدور العقد.

الثالث: أن نعتبر الشروط في البائع يعني من انتسب إليه البيع المنشئ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 393

الدائر بين الوجود و العدم، أعني: المبادلة الواقعيّة، و هذا أيضا يمكن أن يعتبر طرف الاتصاف فيه زمان صدور العقد و يمكن زمان صيرورته بائعا، فعلى الأوّل يعتبر اتّصاف الفضولي، و على الثاني يكفي اتّصاف كلّ منهما، هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات فالظاهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّ الشروط المعتبرة في عنوان البيع ظاهرة في اعتبارها في إنشاء النقل و الانتقال بالعقد، فيرد عليه- قدّس سرّه- أنّه ما الفرق بين المقام

و بين الأخبار الناهية عن البيع في غير الملك؟ حيث ما قلتم باعتبار الملك في أصل إنشاء العقد حتّى تحكمون بالبطلان من رأس عند عدم كون العاقد مالكا، و قلتم: الظاهر أنّ النهي يكون باعتبار الأثر الذي يترقّبه الناس و يريدون ترتيبه و هو المبادلة الواقعيّة الفعليّة بلا حالة منتظرة، فالمعنى أنّ هذا الذي يترقّبونه لا يفيده، فلا ينافي إفادته لغيره و عدم سقوط العقد من رأس، فيشمله العمومات، فإنّه على هذا نقول في مثل قوله- عليه السلام-: «نهى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن بيع الغرر» «1» إنّ الظاهر من اللفظ لولا الصرف بقرينة التعبّد من الخارج أنّ الأثر المبادلي لا يتحقّق في البيع مع الغرر فلا ينافي كون أصل العقد باقيا على قابليّة الصحّة بارتفاع الغرر بعد ذلك.

و بالجملة: فلا وجه لقولكم: إنّ الظاهر من اللفظ كون الشرط معتبرا في إنشاء العقد الذي يفيد تخلّفه البطلان من رأس لا في ترتّب الأثر.

ثمّ على فرض اعتبار الشروط في المتعاقدين فهل يعتبر بقاؤهما على هذه الشروط إلى حال الإجازة أو لا؟

قال شيخنا المرتضى قدّس سرّه: لا ينبغي

______________________________

(1) الوسائل: ج 12، الباب 40، من أبواب آداب التجارة، ص 330، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 394

الإشكال في عدم الاعتبار حتّى على القول بالنقل

. و ظاهر كلامه الإطلاق بالنسبة إلى جميع الشروط مع أنّ من جملتها شرط الحياة، و لا يمكن القول بأنّه لا ينبغي الإشكال بعدم اعتبار بقائها في طرف الأصيل إلى حال الإجازة بناء على النقل و إن كان يقبل التصوّر بأن يقال: كما نتصوّر فسخ ذي الخيار في حال موت الطرف فينتقل المال إليه و يتلقى الورثة منه، فكذلك هنا

أيضا لكنّه ليس بمثابة لا ينبغي الإشكال فيه.

ثمّ قال: نعم على القول بكون الإجازة بيعا مستأنفا يقوى الاشتراط.

و فيه: أنّه لا وجه لبقاء الفضولي أصلا، لأنّه خارج من طرفي هذا البيع الجديد، لأنّه بين الأصيل و المالك، غاية الأمر أنّ قبول الأصيل يقدّم على إيجاب المالك الذي هو إجازته و وقع بينهما فصل طويل، و أمّا الأصيل فإنّ من لا يقدح عنده هذا الفصل الطويل لا يقدح قطعا عنده كون الأصيل عاقلا حال الإجازة أو مجنونا، ألا ترى أنّهم لا يلتزمون بأنّ المالك متى أراد أن يجيز يجب عليه إعلام الأصيل حتّى يلتفت ثمّ يجيز في حال التفاته.

[مسألة هل يعتبر بقاء شروط العوضين إلى زمان الإجازة أم لا؟]

ثمّ قال- قدّس سرّه- و أمّا شروط العوضين فالظاهر اعتبار بقائها بناء على النقل

ثمّ لم يستبعد ذلك بناء على الكشف أيضا.

و فيه: أنّ الظاهر منهم أنّهم يجعلون المعلوميّة شرطا في العوضين و لا يمكن الالتزام بأنّه لو كان العوضان معلومين عند الفضولي و طرفه حال العقد ثمّ نسياه ثمّ أجاز المالك في حال نسيانهما أنّ هذه الإجازة غير مثمرة، اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ العلم بالمقدار من شروط المتعاقدين فيدخل تحت ما حكم بأنّه لا ينبغي الإشكال في اعتبار بقائه.

الأمر الثاني [هل يعتبر علم المجيز بالمجاز تفصيلا أم لا؟]

هل يشترط في المجاز كونه معلوما بالتفصيل لدى المجيز بحسب العوضين جنسا و كمّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 395

، و بحسب أصل العقد بأن يعلم أنّه بيع أو صلح أو إجازة أو يكفي أن يعلّق إجازته بالمردد ما بين هذه الأمور؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: وجهان من أنّ الإجازة اللاحقة كالإذن السابق

فكما لا بأس قطعا بأن يأذن المالك غيره بأن يتصرّف في ماله ببيع أو صلح أو إجازة بأن أحال تعيين ذلك إلى ذلك الغير، فكذلك الإجازة اللاحقة أيضا لا مانع من أن يتعلّق بما وقع كيفما كان، و أيّا ما كان.

و من أنّ الإجازة إمّا بمنزلة القبول الذي تقدّم إيجابه من الأصيل أو بمنزلة الإيجاب الذي تقدّم قبوله منه، و كما لا يجوز جهل القابل بأصل الإيجاب و خصوصياته فكذلك هنا.

ثمّ قال- قدّس سرّه-: و من هنا يظهر أنّه لو لم يعلم بأصل وجود العقد

و كان عنده محتملا، فلا يجوز له الإجازة في حال الترديد، لأنّه في معنى التعليق، فكأنّه قال: لو بيع مالي فقد أجزته، فإنّ الإجازة و إن لم تكن من العقود حتى يشمله معاقد إجماعاتهم على بطلان العقود بالتعليق

لكنّه بمنزلته و يفيد فائدته، ثمّ استشهد على كون الإجازة بمنزلة العقد بأنّ المجيز يخاطب بالوفاء بالعقد السابق و لا يجب الوفاء إلّا على العاقد،

ثمّ أمر بالتأمّل.

و في كلامه- قدّس سرّه- مواقع للنظر، أمّا أوّلا: فلأنّ الإجازة لا إشكال في كونها شرطا لنفوذ العقد و ليست ركنا له، و كما أنّ الإذن السابق كاف مع الترديد على القواعد فكذلك الإجازة فإنّهما يستفاد اعتبارهما من الأدلّة بنحو واحد فلا وجه لاحتمال التفريق، و من هنا يظهر النظر في منع التعليق في الإجازة.

و أمّا ثانيا: فسلّمنا اعتبار عدم التعليق في الإجازة، لكنّ التعليق على أمر يكون نفس العقد معلّقا عليه مثل: (إن كان هذا لي فقد بعته) لم يعلم دخوله تحت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 396

إجماعهم، و المقام من هذا القبيل، سلّمنا اعتبار عدم مثله أيضا لكن نقول:

الشخص الشاكّ لا مانع من أن يقصد الإنشاء بصورة التنجيز برجاء ثبوت الواقع كما في الطلاق الاحتياطي، فإنّ الرجاء داع عقلائي لتمشّي القصد الجدّي نحو الإنشاء بنحو التنجيز.

و أمّا ثالثا: فاستدلاله على كون المجيز عاقدا لم يعلم المراد منه، فإن أريد أنّه محدث للعقد، فقد اتّضح عدم كونه كذلك. و إن أريد أنّه ينسب العقد السابق إليه، فاللازم اعتبار عدم التعليق في العقد السابق، فما وجه اعتباره في الإجازة؟ و مجرّد كونها سببا لإضافة العقد لا يجدي بعد اشتراكها مع الإذن في ذلك.

[الأمر الثالث: حكم العقود المترتبة على العوض أو المعوض]

الأمر الثالث: العقود المترتّبة إمّا تترتّب على نفس مال المالك و إمّا على عوضه و على كلّ منهما إمّا أن يكون ورود العقود المترتّبة على شخص المال أو على أبداله، و على كلّ منهما إمّا أن يكون المجاز أوّل العقود أو آخرها أو وسطا بين

الواردين على شخص المال أو بدله أو بالاختلاف، فلو باع عبد الملك بفرس و باعه المشتري بكتاب و باعه الثالث بدينار، فاجازة المالك بيعه بالكتاب فسخ منه لما قبله و ملزمة لما بعده بناء على الكشف، و أمّا بناء على النقل فيبتني لزوم ما بعده على مسألة اشتراط ملك المجيز حال العقد و عدمه، و لو باع عبد المالك بفرس و باع الفرس بدرهم و باع الدرهم برغيف و باع الرغيف بعسل، فاجازة بيع الفرس بالدرهم مصحّحة لما قبله و مبطلة لما بعده.

و ضابط المسألة: أنّ كلّما ترتبت عقود على مال المجيز فأجاز عقدا من العقود المتوسّطة، فالعقود المترتّبة على المعوّض في هذا العقد المجاز سابقا عليه، إن كانت على شخصه يبطل بإجازة هذا العقد، و إن كانت على أبداله يصحّ، و العقود المترتّبة على العوض في هذا العقد الذي صار للمجيز يبطل لاحقه مطلقا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 397

سواء وقعت على شخصه أم على أبداله و العقود المترتّبة على المعوض في العقد المجاز لاحقة، فعلى الكشف يلزم بلزوم هذا العقد و على النقل يبتني على مسألة من باع ثمّ ملك من غير فرق بين ما وقعت على شخصه أم على أبداله، و يعلم من هذا حال ما إذا كان المجاز أوّل القعود أو آخرها.

و من هنا يظهر أنّ ما جعله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ضابطا للمسألة من الفرق بين ما إذا تعدّدت الأشخاص في العقود فالإجازة فسخ من المجيز لما قبله و ملزم لما بعده، و بين ما إذا اتّحد فبالعكس ينتقض بما إذا ترتّبت العقود في اللاحق على المعوّض في العقد المجاز فإنّها تلزم من غير فرق بين صورة التعدد و

الوحدة، و كذا في العقود المترتّبة في اللاحق على عوضه، فإنّها تبطل على كلّ من التقديرين كما ذكرنا.

نعم ما ذكره حقّ بالنسبة إلى العقود المترتّبة على المعوّض في السابق فإنّها لو كانت من أشخاص- و لا محالة يكون على شخصه- يبطل و لو كانت من شخص- و لا محالة يكون على أبداله- يصحّ.

و المثال الجامع لما ذكرنا: ما إذا باع عبد المالك بفرس و باعه المشتري بكتاب و باعه الثالث بدينار، ثمّ باع الثالث الدينار بجارية و باع الجارية بدرهم، ثمّ باع مشتري الجارية إيّاها بحمار و باعها المشتري الثاني بناقة، ثمّ باع المشتري الثاني الناقة ببقرة و باع البقرة بالحنطة و باع الحنطة بالسمن.

ثمّ باع بائع الجارية بدرهم، الدرهم برغيف و باعه المشتري بعسل و باعه المشتري الثاني بالدبس، ثمّ باع المشتري الثاني الدبس بالجبن و باع الجبن بالمخيض و باع المخيض باللبن «1».

______________________________

(1) هذا المثال ليس للأستاذ- دام ظلّه- فان كان فيه خلل فمنيّ. منه دام ظلّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 398

فأجاز المالك بيع الجارية بدرهم فما كان من العقود السابقة جارية على ابدال الجارية و هو اثنان- بيع العبد بالدينار و بيع الدينار بجارية- يصح بهذه الإجازة، و ما كان جاريا على شخص العبد الذي هو بدل الجارية و هو اثنان- بيع العبد بالفرس و بيعه بالكتاب يبطل بسببها.

و أمّا العقود اللاحقة فما جرت على الجارية و هي ما وقعت بين قولنا: ثمّ باع مشتري الجارية- إلى قولنا:- ثمّ باع بائع الجارية، تصحّ كلا، و ما جرت على الدرهم و هي من قولنا: ثمّ باع بائع الجارية إلى أخر الأمثلة، تبطل كلا.

ثمّ إنّ الإشكال الذي نقله شيخنا- قدّس سرّه- في هذا

المقام عن بعض الأعلام من الإشكال في صحّة تتبع العقود فيما إذا علم المشتري بغصب البائع و أقبضه الثمن و أنّ إقباضه تسليط مجاني منه فلو اشترى الغاصب به شيئا فقد وقعت المعاملة له، فليس للمالك إجازة هذه المعاملة، بناء على مذهب الأصحاب من أنّه ليس للمشتري الرجوع إلى الغاصب مع تلف الثمن في يده. لم يعلم ما وجه هذا الإشكال، ثمّ على تسليمه أيّ اختصاص له بمسألة التتبع بل لا بدّ من أسرائه إلى أصل إنشاء العقد الأوّلي.

أمّا الأوّل فإنّا قد تصوّرنا حصول القصد الجدّي إلى البيع و الشراء من الغاصب و من يعلم بحاله و يعامل معه و هو البناء على المالكية على ما ذكرنا و التنزيل منزلة المالك الحقيقي على ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-، و على كلّ حال فقد صدر من كلّ من المتعاملين قصد المعاوضة جدا. هذا بحسب مقام الإنشاء.

و أمّا بحسب ترتيب الأثر في الخارج، فعين ما ذكرنا في إنشائهما يجري فيه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 399

أيضا فإنّهما بعد انعقاد أصل الإنشاء يصيران بصدد الوفاء لما أنشأه، فكما كانا بقصد المعاوضة في أصل الإنشاء فكذلك في مقام القبض و الإقباض أيضا بلا فرق، فأين التسليط المجاني.

و من هنا ظهر وجه السؤال الثاني فإنّه بعد كون المقامين من واد واحد فلا بدّ إمّا من قبول ما ذكرنا من تحقق قصد المعاوضة و عدم المجانية في كلا المقامين و إمّا من عدمه، و القول بعدم تمشي القصد المذكور من العالم بعدم المالكية في كلا المقامين أيضا فلا وجه للتفكيك، فلا بدّ للقائل المذكور أن يقول ببطلان أصل البيع الواقع من الفضولي و المشتري العالم بغاصبيّته و لو لم

يكن في البين إقباض، فما قاله من صحّة البيع و إذا حصل الإقباض حدث الإشكال، لم يعلم وجهه، و أمّا الإجماع المدّعى من الأصحاب على عدم الرجوع فإن كان إجماعا فمسلّم و إن كانوا حكموا على القاعدة فقد عرفت مقتضاها.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 400

[القسم الثاني القول في الردّ و فيه بحثان]
اشارة

القول في الردّ

[البحث الأول الكلام في الرد القولي]

لا إشكال في تحقّق الردّ بمعنى سقوط عقد الفضولي من قابلية لحوق الإجازة بالقول الصريح مثل رددت و فسخت و نحوهما، و هل يتحقّق ذلك بالفعل و بالقول، الظاهر أيضا كما نكتفي بهما في باب الفسخ في العقد الخياري الكلام فيه مبني على أنّه هل سقوط قابليّة العقد عن لحوق الإجازة بعد الردّ أمر تعبّدي دليله الإجماع، أو هو على طبق القواعد؟

فإن قيل بالأوّل: بتقريب أنّ العقد في أنظار العرف بعد اطّلاع المالك و ترديده أو جزمه بالردّ لو بدئ له الإجازة قابل للارتباط بالمالك و ليس الردّ معدما لموضوع العقد الواقع بين أجنبيّين عنه بعد بقائهما على عقدهما و لا مانعا عن التصاق إجازته بهذا الموجود و إنّما تعبّدنا الشرع في مورد القول الصريح بعدم الصحّة فلا بدّ من الاقتصار في خلاف الأصل على مقدار اليقين و في غيره المشي على قواعد صحة العقود بعد طيب المالك.

و إن قيل بأنّه لا يتحقّق الارتباط و الإضافة بعد الردّ عند العرف لا بالتعبّد فحينئذ كما يتحقّق الردّ عرفا باللفظ الصريح فكذا بما له ظاهر عرفي و كذا بالفعل كما يكفي ذلك عندهم في باب العقد.

و كذا الحال لو قلنا بالمبنى الأوّل لكن قلنا: إنّ المستند في التعبّد الشرعي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 401

ليس هو الإجماع حتّى يقال: إنّ له قدرا متيقّنا بل المستند هو الدليل اللفظي، بيانه أنّه كما ذكروا في باب الفسخ في العقود الخياريّة هنا أيضا احتمالين.

الأوّل: أن يكون التخيير الثابت للمالك بين الإجازة و عدمها كما يقال في ذلك الباب أنّ التخيير الثابت لذي الخيار واقع بين الفسخ و عدمه فحينئذ يمكن أن يقال: إنّه ما لم تصدر

منه الإجازة، و لو صدر منه الردّ تخيير باق.

و الاحتمال الثاني: أن يكون التخيير بين أمرين وجوديّين، أعني: بين الإمضاء و الفسخ في ذلك الباب، و بين الإجازة و الردّ فيما نحن فيه فكلّما عمل المخيّر بأحد طرفي التخيير فقد عمل بمقتضاه و سقط التخيير، فكما لو أجاز هنا ليس له الردّ بعد ذلك، فكذا لو ردّ أيضا ليس له الإجازة.

ثمّ نقول: يمكن استظهار الثاني من الأخبار الواردة في النكاح الفضولي، حيث إنّ في بعضها أنّ «ذلك إلى سيّده إن شاء أجاز و إن شاء ردّ».

فإنّ الظاهر كون التخيير بين ما ذكر من الإجازة و الردّ، ثمّ بضميمة أنّ سنخ اعتبار الطيب و الرضا في عقد النكاح و سائر العقود نحو واحد نقطع بكون الحكم في البقيّة أيضا كذلك.

و هذا المعنى و إن لم يتعرّض له شيخنا المرتضى و لا من تعرّض له من المتأخّرين عنه في باب الخيار فيما نحن فيه، و لكن أظنّ أنّه وجه وجيه لإسقاط الردّ لقابليّة العقد عن لحوق الإجازة فعلى هذا المبنى المتبع إطلاق ذلك الدليل الوارد في باب النكاح و هو في مقام البيان من هذه الجهة.

ثمّ لو شككنا و تردّد الأمر بين المباني الثلاث فالعمومات محكّمة لكون الشبهة مفهوميّة و المخصّص منفصلا و لا مجرى لاستصحاب بقاء القابلية إمّا ذاتا لأنّه بالنسبة إلى إحراز الإضافة إلى المالك على القول بها مثبت و إمّا لوجود

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 402

العمومات المذكورة بناء على عدم الحاجة إلى إحراز الإضافة.

فإن كان المراد من الأصل المذكور في كلام شيخنا المرتضى في هذا المقام هو الأصل اللفظي و قلنا باعتبار الإضافة كما يظهر من بعض كلماته- قدّس سرّه- الميل إليه،

فيرد عليه: أنّه مع الشك في الصدق كيف يمكن التمسّك بالعموم و إن أراد مع هذا الفرض الأصل العملي، فيرد عليه: أنّ الأصل لا يثبت قيد الإضافة فالمتعيّن هو الرجوع إلى أصالة عدم تحقّق العقد المؤثّر بعد تحقّق الردّ بغير اللفظ الصريح.

نعم يتمّ كلامه- قدّس سرّه- على القول بعدم اعتبار الإضافة كما يظهر من بعض كلماته الأخر، و أراد بالأصل الأصل اللفظي إذ لو أراد العملي فيرد عليه كما تقدّم أنّه لا مساغ له مع وجود اللفظي.

و أمّا تصرّف المجيز قبل الإجازة في العين بما يخرجها عن ملكه كالبيع و الهبة و الإتلاف فيختلف الحال في بقاء القابلية للحوق الإجازة و عدمه بناء على القول بالنقل و الكشف و على الكشف أيضا بين وجوهه.

أمّا على النقل فمعلوم أنّ العلّة التامّة لملكيّة الغير قد تحقّقت و عقد الفضولي كانت علّة ناقصة و معلوم أنّ العلّة التامّة لشي ء لا تزاحم بالعلّة الناقصة لضدّه و هذا واضح.

و أمّا على الكشف فكذلك لو قلنا بأنّ الكشف بأيّ معنى أريد منه يكون على خلاف القاعدة و لا بدّ من الاقتصار على ما تيقّن من وجود الدليل عليه، إذ لا شكّ أنّ المتيقّن من الدليل ما إذا كان قابلية المحلّ إلى حين الإجازة محفوظة.

و بعبارة أخرى في مورد يصحّ أن تقع الإجازة ناقلة، فالقائل بالكشف في هذا المورد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 403

يقول بأنّ طيب المالك لا بوجوده الخارجي بل بوجوده التعقّبي أو اللحاظي أو بنحو تأثير الوجود المتأخّر حقيقة فيما تقدّم يكون مؤثّرا.

نعم يمكن ادّعاء أنّ الأدلّة شاملة لما إذا كانت العين تالفة في يد غير المالك على وجه يورث الضمان للمالك، فإنّ العين حينئذ باعتبار الماليّة باقية

فيصحّ إجازة العقد الواقع عليه حين وجودها عند تلفها، فيرجع المشتري إلى المتلف بالمثل أو القيمة و تصحّ حينئذ الإجازة حتى على النقل أيضا.

و أمّا بناء على القول بأنّ الكشف على وفق القاعدة و أنّ الإجازة إنفاذ مضمون العقد و هو إيجاب الملكيّة في الزمان الأوّل و قلنا بأنّ الواقع بعد ما وقع يمكن أن يؤثّر اللاحق فيه و يغيّره عمّا وقع عليه فالمال إلى حال الإجازة كان واقعا ملكا للمجيز، و مع هذا الحال نحكم بأنّه ملك من أوّل العقد للمشتري من الفضولي واقعا، فالظاهر من كلام شيخنا أنّ التصرّف البيعي على هذا أيضا مفوّت للمحلّ حيث خصّ- قدّس سرّه- استثناء القول بالكشف بالتصرّفات الغير المنافية للملك.

و حينئذ فربّما يستشكل عليه أنّه بناء على هذا القسم من الكشف غاية ما يتوهّم كونه مانعا عن شمول «أَوْفُوا» لعقد الفضولي هو جريان هذا العموم في العقد الثاني المقتضي لملكيّة المشتري من المالك، فإنّهما متنافيان، و حيث إنّ الأوّل قد أشغل المحلّ سابقا كان له التقدّم فإنّ مجيئ «أَوْفُوا» على هذا في عقد الفضولي يتأخّر إلى زمان الإجازة، و المفروض أنّ العقد الثاني كان مشمول هذا العموم من أوّل وجوده، لكن هذا لا يمنع عن جريان «أَوْفُوا»، فإنّا بعد ما فرضنا أنّ شأن الإجازة هو إسراء الأثر إلى الزمان المتقدّم و فرضنا ذلك معقولا و كون ملك في زمان واحد ملكا لاثنين أيضا معقولا، فليس هذا أعني: إعدام العقد الثاني بأصعب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 404

و أكثر مئونة من ملك نفس المالك الثابت فيما بين الإجازة و العقد فإنّه أيضا كان ثابتا إمّا بأدلّة الإرث أو بأدلّة البيع أو الهبة أو سائر المعاملات، فكما قال

هذا القائل بتقدّم عموم الوفاء بالنسبة إلى العقد الفضولي و إن تأخّر زمانه على تلك الأدلّة مع تقدّمها زمانا و تأثيرها في قطعة من الزمان فلا غرو في أن نقول ذلك بالنسبة إلى العقد الثاني، و كما استقرّ ظهور «أَوْفُوا» في العقد الثاني قبل الإجازة فكذلك استقرّ ظهور تلك الأدلّة قبلها أيضا.

و إن شئت قلت: الأمر دائر بين التخصيص و التخصّص فإنّ جريان «أَوْفُوا» في العقد الثاني مرتّب على كون ما ورد عليه العقد ملكا للعاقد، فإذا دلّ الدليل على إبطال ملكيّة العاقد حين ما ورد عليه العقد و لو كان هذا التأثير من اللاحق فإنّ الفرض معقوليّته فلا يعقل مزاحمة هذا الدليل بدليل صحة هذا العقد المبتني على ملكيّة العاقد، فلو قيل بخروج عقد الفضولي عن وجوب الوفاء يلزم التخصيص، بخلاف ما لو قيل ببقائه و خروجه العقد الثاني، فإنّه خروجه عن الحكم بتبع لخروجه الموضوعي و قد تفصّى عن هذا الإشكال بعض الأساطين- قدّس سرّه- في حاشيته على هذا المقام من مكاسب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- مصدّرا بقوله و التحقيق في الجواب.

و حاصل ما ذكره: أنّ الأمر بالوفاء على فرض المجي ء بالنسبة إلى عقد الفضولي نسلّم أنّ أثره إذهاب الملكيّة السابقة للمالك التي كان صحة العقد الثاني متفرّعة عليها لكن نقول هذا فرع أصل مجيئ هذا الأمر، و نحن ندّعي وجود المانع عن مجيئه و هو العقد الثاني فإنّه متقدّم زمانا على الإجازة فالأمر بالوفاء المتعلّق به متقدّم زمانا على الأمر بالوفاء المترتّب على الإجازة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 405

و الحاصل: أنتم أردتم دفع مزاحمة العقد الثاني بواسطة الملكيّة السابقة المنتزعة من الأمر بالوفاء الحادث بالإجازة و قد فرض أنّ نفس هذا

الأمر مزاحم بالأمر المتعلّق بالعقد الثاني فدفع المزاحم بالمنكشف، أعني: الملكيّة السابقة ثمّ اجراء الكاشف ليثبت به المنكشف دور ظاهر هذا محصّل ما ذكره- قدّس سرّه- بطوله.

و فيه نظر فإنّه مبنيّ على أنّ الملكيّة أمر مسبّب عن أمر الشارع بالوفاء و لكنّا نقول: إنّ أمر الشارع يستكشف منه بطريق الإنّ عن ثبوت الملكيّة في مورده، و على هذا فدليل الأمر بالوفاء بالعقد المجاز يكون بمنزلة دليل كان مفاده الأوّلي هو الحكم بأنّ هذا المال كان من ذلك الزمان حقيقة ملكا للمشتري من الفضولي و هذا المعنى بعد فرض إمكانه ذاتا كما هو مبني القائل بهذا القسم من الكشف و فرض أنّ هذا الدليل على فرض التأثير يكون شأنه الهدم و الإبطال لما سبقه، فلا يعقل مزاحمته بالدليل الذي أريد هدم أثره و إلّا فلا بدّ من الالتزام بالإشكال بالنسبة إلى ملك المالك الثابت بين العقد و الإجازة فإنّه أيضا كان بمقتضى الوفاء بعقد من العقود، فمن أين حكمتم بتقدّم تأثير دليل «أَوْفُوا» الجاري في عقد الفضولي بسبب الإجازة و أبطلتم بسببه ما اقتضاه العقد السابق؟ فعين ما أجبتم به عن الإشكال هناك نحن أجبناكم به هنا فإنّ المقامين من واد واحد.

هذا كلّه على القول بهذا القسم من الكشف و أمّا على القول بمدخليّة الصفة الانتزاعيّة أو الوجود اللحاظي فالأمر واضح غايته، إذ يتعيّن القول بصحّة العقد المجاز لتقدّم سبب نفوذه.

هذا كلّه في التصرفات المخرجة لرقبة المال عن الملكيّة، و أمّا التصرّف الغير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 406

المخرج للرقبة كإجارة الدار فقد حكم فيه شيخنا المرتضى أيضا بعدم صحّة الإجازة، فإنّ صحة الإجارة و صحّة الإجازة متنافيان فإنّ معنى صحّة الإجازة على الكشف كون

الإجارة واقعة في ملك الغير و حيث فرضنا صحّة الإجارة يتعيّن القول ببطلان الإجازة.

و فيه أنّه يمكن العكس فإنّه بعد فرض عموم دليل الصحة للإجازة لا يبقى مجال لصحّة الإجارة بل لا بدّ من القول بذلك على ما تقدّم آنفا في التصرّف المخرج، فإن كان هناك إجماع فلا بدّ من الالتزام بصحّة الإجارة و تضمين المالك أجرة المنافع، فإن كان هنا إجماع آخر على عدم التضمين فغايته عدم إمكان صحّة الإجازة على نحو الكشف، فما المانع من صحّته حينئذ على وجه النقل، هذا كلّه على الكشف، و أمّا على النقل فالمتعيّن القول بأنّ الإجازة تؤثّر في انتقال المال مسلوب المنافع إلى المشتري من الفضولي.

هذا و لكنّ الذي يقتضيه النظر في هذا القسم من الكشف، أعني: القول بتأثير الشرط المتأخّر أنّه لا نقول بقلب ما وقع عمّا هو عليه فإنّ ذلك لا يعقل صدوره من عاقل بل كلامه يرجع بالحقيقة إلى النقل، غاية الأمر ظهور الثمرة بينهما في النماء.

توضيح ذلك: أنّ غاية التوجيه للشرط المتأخّر أن يقال: كما أنّه في ملك المنافع يتصوّر كون منفعة المال من يوم السبت الآتي إلى الخميس الآتي مالا للمالك ثمّ في زمان آخر انتقلت الملكيّة في هذه القطعة الخاصّة إلى غيره و لا يلزم اجتماع المالكين لاختلاف زمان الاعتبار فكذلك في ملك العين أيضا يمكن تقطيع الملكيّة بحسب قطعات الزمان، ثمّ ملاحظة إضافة الملكيّة في القطعة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 407

الخاصّة إلى شخصين في زمانين من هذه العين من السبت الماضي إلى هذا الخميس الحاضر كانت ملكيتها مضافة إلى مالكها الأصلي، و من هذا الخميس صارت هذه الملكية الكائنة في القطعة المزبورة مضافة إلى المشتري من الفضولي، فالإضافة

متجدّدة في الزمان الحاضر و لكن المضاف هو الملكيّة المتقدّمة.

و أنت خبير بأنّ مدّعي الكشف على هذا مع القائل بالنقل شريك في أنّ الإجازة لا تقلب التصرّفات الماضية عمّا وقعت عليه بمعنى أنّ العقد الصادر من المالك في القطعة الواقعة بين عقد الفضولي و الإجازة حدث في حال كون الملك مضافا إلى المالك المجيز و الآن أيضا كما كان و لا يقلب هذه الحالة عنه أبدا، و كذا كلّ تصرّف صدر من المالك حدث في حال الإضافة إليه فاتّصف بالحليّة و لم يسلب عنه هذا الوصف أبدا لأنّه فرع أن تؤثّر الإجازة اللاحقة في أن يجعل العقد و التصرّف الواقعين في حال الإضافة إلى العاقد واقعين في زمان صدورهما في حال الإضافة إلى غير العاقد و لم يكن هذا لازم القائل على ما وجّهنا كلامه به.

نعم من حين الإجازة تصير الملكيّة السابقة مضافة إلى المشتري، و هذا لا يضرّ بالعقد الذي كان زمان صدوره قبل حدوث هذه الإضافة إلى العاقد فإنّ المعتبر في صحّة العقد حال صدوره فإذا صدر في وقت ثبوت فلا يضرّ انتفائها بعد ذلك لأنّه عقد صدر عن أهله في محلّه و لا ينقلب عمّا هو عليه أبدا، و على هذا فما تقدّم من أنّ «أَوْفُوا» في العقد الصادر من الفضولي لم يوجب التخصّص قد ظهر فساده، و أنّه في عرض هذا العموم في العقد الصادر من المالك و حيث لا يجتمعان فلا بدّ من تأثير أسبقهما و هو بالنسبة إلى عقد المالك.

نعم يمكن إلزام القائل بهذا المبنى بأنّه لا مانع من تأثير «أَوْفُوا» في عقد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 408

الفضولي بالنسبة إلى الزمان المتوسّط بين العقدين إذ على هذا

يصير حال ملكيّة العين حال المنفعة في التقيّد بالزمان و التقطيع حسب قطعاته.

كما أنّه في مسألة تتبّع العقود أيضا حال هذا الكشف يصير حال النقل فإنّ العقد الصادر من المشتري عن الفضولي حسب الفرض لم يتغيّر عمّا هو عليه من كون صدوره في حال ثبوت إضافة الملك إلى المجيز و عدم انسلاخها عنه.

نعم فيما بعد ذلك تضاف ملكيّة ذلك الوقت إلى المشتري العاقد. و بالجملة فتبتني صحّة عقده على صحّة البيع أوّلا ثمّ التملّك كما على النقل.

و أمّا ظهور الثمر بينه و بين النقل في النماء الموجود فلأنّه يمكن أن يقال كما أنّ ملكيّة الأصل الثابتة في الزمان الثاني صارت مضافة من هذا الحين إلى المشتري، فالنماء الحادث في تلك القطعة أيضا حالها حال العين، و تصير ملكيّتها بتبع ملكيّة العين مضافة إلى المشتري.

نعم لا يمكن ذلك في النماءات التالفة تحت يد المجيز و لا يمكنه تضمينه اجرة المثل بالنسبة إليها و ذلك لما ذكرنا في العقد من أنّ التصرّف لم ينقلب عن حاله التي وقع عليها و المعيار حال الصدور أيضا، فإذا كان حال الإتلاف ملكيّة المتلف مضافة إلى المتلف كفى في عدم الضمان و لو صارت بعد ذلك مضافة إلى الغير.

و يمكن الذبّ عمّا ذكرنا من إمكان إلزام القائل المذكور بعدم المانع من تأثير «أَوْفُوا» في عقد الفضولي بالنسبة إلى الزمان المتوسط بأنّا و إن قلنا بأنّ المنشأ في العقد هو الملكيّة الممتدّة و لكن لا يلزمنا الالتزام بتقطيع الملكية حسب قطعات فإنّها في ذلك تابع لاعتبار العرف فهو مساعد للملك الممتد، أعني: ما كان مبدوّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 409

من حين العقد مثلا و كان منتهاه إمّا تلف العين أو

نقل المشتري إلى الغير، و أمّا الملك المحدود بيوم أو يومين مثلا فلا يساعده الاعتبار العرفي بمعنى أنّهم لا يساعدون على انتقال عين واحدة مرّتين متواليتين من شخص واحد من غير توسط انتقال جديد إلى المنتقل عنه.

و على هذا فيتحقّق التنافي بين مقتضى العقدين فيما نحن فيه فإنّ مقتضى الأوّل انتقال العين من المالك إلى زيد، و مقتضى الثاني انتقالها منه إلى عمرو، و هو ما ذكرنا من عدم إمكانه من جهة عدم مساعدة العرف فلا محيص عن سقوط أحد العقدين عن الأثر، و المتعيّن لذلك هو الأوّل لتماميّة العلّة في الثاني قبل مجيئ تتمّة الأوّل.

و أمّا الإشكال الثاني على المبنى المذكور من أنّه على هذا كما أنّ التصرّف المعنون في الماضي بعنوان كونه من المالك في ماله و هو العقد الثاني في مسألتنا لا يتغيّر عن عنوانه، كذلك التصرّف المعنون في الماضي بكونه من الأجنبيّ في ملك غيره أيضا و هو تصرّف المشتري من الفضولي في مسألة تتبع العقود لا يتغيّر عن عنوانه فيندرج هذا التصرّف بعد الإجازة في مسألة من باع ثمّ ملك فلا بدّ إمّا من البطلان أو الاحتياج إلى الإجازة المستأنفة، و الحال أنّهم جعلوا ذلك من موارد ظهور الثمر بين النقل و الكشف، و أنّه على الأوّل يصير من المسألة المذكورة و على [الثاني] تصير الإجازة ملزمة له.

فيمكن الذبّ عنه أيضا بأنّ عنوان كون التصرّف من الأجنبي في ملك غيره ليس مانعا عن الصحّة بل إنّما هو غير مقتض لها فإذا حصل و لو في المستقبل عنوان كون التصرّف من المالك في ماله كان هو مقتضيا للصحّة و لا معارضة بين المقتضي و اللامقتضي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 410

توضيح

ذلك: أنّه على هذا تصير بالإجازة نفس الملكيّة الماضية التي صادفها عقد المشتري، من الفضولي مضافة من حين الإجازة إلى المشتري و قد قلنا في السابق: إنّ معيار مسألة من باع ثمّ ملك تعدّد الملكيّة و لو مع وحدة الشخص، فلو اتّحد الملك و لو تعدّد الشخص كما في ملك الورثة كانت الصحّة متّجهة، ففي مسألة التتبع يصدق على المشتري العاقد عنوانان في زمانين: كونه مالكا بالملك الموجود حال العقد و كونه غير مالك بذلك الملك، فالثاني لا مقتضى للصحّة و الأوّل مقتض لها.

و بمثل ذلك يجاب عن الإشكال الثالث و هو عدم إمكان تضمين المالك اجرة المنافع فيما إذا تلفت تحت يده أو أجرها، فإنّه يقال: ليس ملكيّة المنافع بمقتضى العقد و إنّما مقتضاه ملكيّة الرقبة و ملكيّة النماء يكون بتبع ملكيّة الرقبة فلا يمكن القول في الإجارة بمثل ما قلنا في البيع من التنافي بين مقتضى الإجازة و مقتضاه، فإنّ مقتضى الإجازة ملكية زيد للرقبة و مقتضى الإجارة ملكيّة عمرو للمنافع و لا ينافي هذه مع مقتضى الإجازة فلا مانع من صحّتهما معا.

ثمّ بعد صحّة الإجارة نقول فيها و في الإتلاف و التلف الحقيقيّين: أنّ هنا عنوانين:

أحدهما: صدور الإتلاف الشرعي كما في الإجارة أو الحقيقي من المالك، و هذا ليس إلّا لا مقتض للضمان لا أنّه مقتضى لعدم الضمان.

و الآخر: صدور ذلك من الأجنبي في ملك الغير، و هذا مقتضى للضمان، هذا في الإجارة.

و أمّا الاستيلاد فهو كالبيع في خروج المحلّ عن قابليّة الانتقال و كان الواجب جعله رديفا للبيع لا كما فعله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من جعله

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 411

رديدا للإجارة كما أنّ تزويج الأمة من هذا

القبيل فإنّه مفوّت للمحلّ بالنسبة إلى إجازة التزويج الصادر من الفضولي في مورد الأمة.

هذا كلّه على الكشف المشهوري، و أمّا على الكشف بمعنى اشتراط وصف اللحوق و التعقّب أو الوجود الدهري أو الوجود اللحاظي، فجميع التصرّفات مبنية على الظاهر و بعد الإجازة يحكم ببطلان الكلّ، لكنّ القائلين بالكشف لا يمكن حمل كلامهم على شي ء من ذلك، لأنّه مستلزم لما لا يلتزمون به من جواز تصرّفات الأصيل في ما انتقل لو علم بلحوق الإجازة فيما بعد، كما قلنا بعدم معقولية الكشف بمعنى قلب الماضي عمّا هو عليه، فالذي يسلم عن عدم المعقوليّة و عمّا لا يلتزمون به هو ما ذكرنا من التوجيه للكشف بمعنى تأثير الوجود المتأخّر و الكشف التعبّدي، فإنّهما في الحقيقة شأنهما النقل، و لا يرد إشكال القلب الغير المعقول في التعبّدي فإنّه بمعنى ترتيب آثار غير الواقع في المستقبل لا جعل الواقع غير الواقع حقيقة كما هو واضح، و قد عرفت الكلام على القسم الأوّل، و أمّا على القسم الثاني أعني: التعبّدي، فللإجازة على هذا أثران أحدهما التعبّد بآثار الملك في الماضي، و الثاني النقل الحقيقي في المستقبل.

فمن حيث الأثر الأوّل و إن كان يقتضي التقدّم على البيع الصادر من المالك تقدّم النافي لشرط الموضوع على مثبت الحكم للموضوع، غاية الأمر لا على وجه الحقيقة حتى يكون ورودا بل على وجه التعبّد فيصير حكومة، فإنّ الإجازة على هذا تقتضي إعدام ملكيّة المالك التي هي شرط للعقد الصادر منه قبل الإجازة، غاية الأمر بلسان التعبّد، فكيف يزاحمها وجوب الوفاء المتعلّق بذلك العقد المشروط بالملكيّة؟ و لو لا ذلك لزم سدّ باب الحكومة.

و لكنّ المانع إنّما هو من حيث الأثر الثاني، أعني: النقل الحقيقي فإنّه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 412

يمتنع، لأنّ المال بعد انتقاله إلى غير المالك بالسبب الذي تمّ قبل ذلك يمتنع نقله من المالك ثانيا بالسبب المتأخّر و هو عين ما ذكرنا على القول بالنقل.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا إلى هنا انفساخ عقد الفضولي بالرد القولي الصريح و بتفويت المحل

[البحث الثاني الكلام في الرد الفعلي]
اشارة

و بقي الكلام في الردّ الفعلي بدون التفويت كما في التعريض للبيع و البيع الفاسد، و ينبغي الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: على حسب القاعدة.

و المقام الثاني: على حسب النصوص الخارجية.

أمّا الأوّل: فلا إشكال لو أحرزنا أنّ البيع الذي ردّه المالك في زمان ينحلّ بنظر العرف و لا تقبل الإجازة فيما بعد فإنّه لو أحرز ذلك علم بوحدة المناط في القولي و الفعلي و عدم الفرق بينهما فيكون سقوط الإجازة الواقعة عقيب الردّ من باب عدم شمول العمومات، و كذلك لو أحرزنا عكس ذلك و أنّه يبقى بحاله من غير انحلال ففي كلّ وقت لحقه الإجازة شملته العمومات، فحينئذ يكون سقوط الإجازة المتأخّرة عن الردّ التعبّد على خلاف العمومات و بواسطة الإجماع فكلّما تيقّن دخوله تحت الإجماع و إلّا يرجع في حكمه إلى العمومات، فإذا كان المتيقّن من الإجماع غير الفعلي بقي الفعلي على القاعدة.

و لكن لو بقينا على الشكّ و ما جزمنا بشي ء من هذين فالتمسّك بالعمومات غير جابر للشك في الموضوع، و أمّا الاستصحاب فيتصوّر على وجوه:

أحدها: استصحاب بقاء القابليّة للإجازة الثابتة سابقا على الردّ و هذا بالنسبة إلى إثبات أنّ العقد بالإجازة يكون ذا مساس بالمالك مثبت.

و الثاني: استصحاب أنّ العقد كان قبل الردّ بحيث لو لحقته الإجازة صار

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 413

ماسّا بالمالك، و هذا استصحاب تعليقي في الموضوع

و هو محلّ إشكال من جهة أخرى تحقّقت في الأصول فينحصر في الأصل الجاري في المسبّب، أعني: أصالة عدم انتقال المال عن المالك الثابت قبل الإجازة.

المقام الثاني: في التكلّم في النص الوارد في المقام و هو ما ورد فيمن زوّجته أمّه و هو غائب من قوله- عليه السلام-: «إن شاء الزوج قبل و إن شاء ترك» بناء على ظهور الترك في الرد فإنّ الترك في مقابل الوجود كان ثابتا من أوّل الأمر و ليس سببا متجدّدا رديدا للقبول، و ما ورد في نكاح العبد بغير إذن سيّده من أنّ ذاك إلى سيّده إن شاء أجاز و إن شاء فرّق بينهما»، تقريب الاستدلال بهما على المدّعى من سقوط الإجازة عن التأثير بعد الردّ أنّه لا فرق في الحكم الثبوتي المتعلّق بالطبيعة بين كونه تعيينيّا أو تخييريّا في كونه ظاهرا في تعلّقه بصرف الوجود غير القابل للتكرار.

فكما إذا قيل: اضرب زيدا، فبالضرب الأوّل يحصل الامتثال و يسقط الأمر.

فكذلك لو قيل: أضرب إمّا زيدا و إمّا عمرا، فبضرب كلّ منهما في الدفعة الأولى يسقط الأمر التخييري، و هذا بخلاف الحكم السلبي المتعلّق بالطبيعة فإنّه ظاهر في التعلّق بوجودها الساري، فإذا قيل: لا تضرب زيدا، كان ظاهرا في ممنوعيّة ضربه في جميع الأزمان، فإذا قيل: أمّا اضرب زيدا و إمّا لا تضرب عمرا، فحصول ضرب زيد في الدفعة الأولى مسقط للتخيير، و أمّا عدم حصول ضرب عمرو في اليوم الأوّل مثلا لا يوجب سقوط الاختيار عن ضرب زيد و إنّما يسقط بعدمه في جميع الأزمان و الأيّام، هذا في التكليفيات.

و هكذا الكلام في الوضعيات ففي مقامنا لو كان مفاد الدليل أنّ للمالك الإجازة و عدمها فبعدم الإجازة في الزمان

الأوّل لم يسقط اختياره عن الإجازة لأنّ الفرض أنّ عدم الإجازة في تمام الأزمان صار عدلا للإجازة في زمان فلا بدّ في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 414

سقوط التخيير إمّا من الإجازة في زمان و إمّا من عدمها في تمام الأزمان فمع عدم الأمرين، كما لو صدر منه الرد كان التخيير بحاله لعدم صدور شي ء من طرفيه.

و أمّا لو كان المفاد أنّ للمالك أحد أمرين وجوديّين إمّا الإجازة و إمّا التفريق و الرد فكلّ من الأمرين حصل في زمان أوجب سقوط الاختيار بالنسبة إلى الأمر الآخر، و قد عرفت ظهور الرواية في كونه من التخيير بين الوجوديين هذا.

و لا يعارض بقاعدة السلطنة، لأنّه مضافا إلى أنّ النسبة عموم و خصوص مطلق قد تقرّر في محلّه عدم كون القاعدة مشرعة، و على هذا فالمتّبع إطلاق هذه الرواية بالنسبة إلى الردّ الفعلي و عدم إطلاقها، فلو كان لها إطلاق لم يبق إشكال.

ثمّ لا بدّ من تنقيح مطلب آخر و هو أنّه هل يعتبر في مفهوم الرّد عرفا الإنشاء أم يكفي في صدقه الإخبار عن عدم الرضى؟ الظاهر الثاني، فإنّ الظاهر أنّه لو قال المالك بعد اطّلاعه على وقوع العقد من الفضولي على ماله: اعلموا أنّي غير راض بهذا العقد- بحيث كان مقصوده صرف الإخبار و الكشف دون الإنشاء- يصدق عرفا أنّه رادّ لعقد الفضولي، و على هذا فالبيع الفاسد و التعريض الغير المقصود به الإخبار يصحّ عدّهما مثالا للمقام، و أمّا على القول بأنّه و إن لم يعتبر في الإجازة الإنشاء لكنّه معتبر في الردّ و الحلّ يخرجان عن كونهما مثالا، فإنّ غاية الأمر كشفهما عن عدم الرضى و هو غير الإنشاء.

فإن قلت: بل هما خارجان

حتّى على بناء على عدم اعتبار الإنشاء و ذلك لما تقرّر من أنّ الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن الضدّ، فتعلّق الإرادة بالبيع الذي هو ضدّ لإنفاذ عقد الفضولي لا يدلّ أيضا على كراهة إنفاذ عقد الفضولي، غاية الأمر الدلالة على عدم إرادته.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 415

قلت: المدّعى في المقام أنّ المريد لأحد الضدّين إذا كان ملتفتا إلى الضدّ الآخر فلا محالة ينصرف ذهنه عن هذا الضد الملتفت إليه و هو معنى الردّ، بخلاف حال الغفلة و عدم الالتفات، و أمّا الكراهة فهي منتفية في كلتا الحالتين و لا يعتبر في الرد الكراهة و إنّما المعتبر صرف الذهن عنه، و لو كان عن لحاظ الصلاح الأسدّ في الضد.

ثمّ إنّه قد يستشكل في ظهور الرواية في التخيير بين وجوديين، و ذلك لأنّ هنا مطلبين:

أحدهما: سلطنة المالك على ماله و اقتداره على التصرّفات فيه فكما أنّ له البيع و معناه كون كلّ من طرفي وجوده و عدمه تحت اختياره فإنّه يكفي في اختياريّة العدم اختياريّة بقائه و عدم نقضه بالوجود، فكذلك لو وقع بيع من غير المالك و كانت الحالة المنتظرة من جهة عدم إجازة المالك فيصح أن يقال له الإجازة و عدمها، و ليس هذا بأزيد من أنّ لإجازته مدخلا في تأثير العقد فلو لا الإجازة لا نفوذ للعقد، و هذا لا كلام فيه، و المقصود هو إسقاط العقد بسبب الرد عن قابلية الإجازة.

و الثاني: أن يكون للإنسان حق متعلّق بالعقد بين سببين إنفاذه و إسقاطه عن قابلية النفوذ، فعلى هذا لو اختار الرد فقد أخذ بالحق و استوفاه، لأنّ حقّه كان ذا نسبة إلى الأمرين على السواء بخلاف الحال على الأوّل فإنّ له

حق متعلّق بالإجازة و مع تركها لا يقال قد استوفى الحقّ، بل يقال ترك استبقاء الحق نظير ما يقال في باب حق الخيار بأنّ الحقّ له نسبة واحدة بالفسخ، فالإجازة قد تكون إسقاطا لهذا الحقّ و قد لا تكون، كما لو صدرت في حال الغفلة عن ذلك الحق، أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 416

مع البناء على عدم رفع اليد عنه، و أمّا لو كان الحق ذا نسبتين إلى الفسخ و إلى الإجازة فهو قد استوفى حقّه و لا يقال: إنّه أسقط حقّه و رفع اليد عنه.

و الحاصل: يتصوّر هنا أيضا أمران:

أحدهما: أنّه لمّا يكون مالكا و رضاه جزء أخير للعلّة فله حقّ تثبيت العقد بأن يرضى بمضمونه و له أن يمنع من تأثير ما تحقّق من سائر أجزاء العلّة بأن يمسك عن رضاه الذي هو جزء أخير حتى ينفكّ الباقي عن التأثير، و في هذا المقام يصحّ أن يقال في حق الولي على النكاح أنّ له الإجازة و له التفريق بين الزوجين، يعني: أنّ رضاه لمّا يكون دخيلا فمع عدمه فالفرقة بوجودها البقائي مسبّب عن اختياره، و إلّا فسائر مقدّمات الوصلة قد فرض وجودها، و لكن هذا لا ينافي ثبوت حقّه بمعنى أنّه متى رضي يحصل الأثر.

و الثاني: أن يدّعى علاوة على هذا و هو أنّه مضافا إلى حقّ تثبيت سائر الأجزاء بإيجاد الجزء الأخير، له حقّ إسقاطها عن قابلية التأثير.

و بعبارة أخرى عن مرتبة الاقتضاء و التأثير التأهّلي فبأي الأمرين أخذ أخذ بالحقّ و إذا لائم العبارة المذكورة مع المعنى الأوّل فلا يبقى لها دلالة على الثاني.

و الجواب: أنّ هذا أمر راجع إلى الاستظهار و أمره موكول إلى العرف و المقصود أنّ

العرف يفهم من العبارة كون الحقّ ذا طرفين.

و الحاصل: إن استفيد من الرواية ما ذكرنا مع تتميمه في غير باب النكاح بضميمة عدم الفصل في حكم الفضولي بينه و بين سائر الأبواب، و إلّا فما ذكره في عرض ذلك شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من الوجهين لا يتم شي ء منهما، أمّا خروج العقد بعد الرد عن الانتساب إلى المالك فقد ذكرنا عدم استبعاد خلافه عرفا حتّى في الرد القولي، غاية الأمر ثبوت الإجماع فيه على عدم صحة الإجازة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 417

و أمّا الإجماع في العقود المتزلزلة بالخيار على حصول الفسخ بالفعل بضميمة أنّ العقد الثابت المؤثّر فعلا إذا ارتفع أثره بالفعل الدال على الفسخ فما نحن فيه الذي هو متزلزل من حيث الحدوث، اندفاع أثره أهون قطعا، ففيه: أنّ الأهونية مسلّمة بعد إحراز مقدّمة و هي كون المالك ذا اختيار بالنسبة إلى العقد بحيث كان بيده زمام عقده و حلّه و إثباته في الأثر و إسقاطه كما هو الحال في ذي الخيار في العقود الخيارية.

و أمّا على ما هو الفرض من عدم إحراز ذلك من الخارج لفرض الإغماض عن الرواية و الثابت إنّما هو ولاية المالكية الثابتة على المال الغير القاضية بأزيد من موقوفيّة تأثير العقد و فعليّة أثره بلحوق رضاه و أين هو من مختاريّته على العقد فلا يثبت الأهونية لوضوح أنّه ثبت بالإجماع هناك أنّ من له اختيار أمر العقد المستقرّ الحدوث المتزلزل البقاء يمكن له حلّ العقد و إسقاطه عن التأثير بمطلق الرد الشامل للفعلي، فيثبت بذلك أنّ المالك لأمر العقد المتزلزل من حيث الحدوث بطريق أولى يمكنه حلّ ذلك العقد بذلك، و لكن أنّى لنا بإثبات الصغرى و هو

أنّ المالك في مقامنا علاوة على مالكيّته للمال مالك للعقد أيضا فالعمدة في المقام هو التمسّك بالرواية.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى بعد أن استشكل في كفاية تصدّي الفعل المنافي مع عدم الالتفات إلى العقد الفضولي قال:

بل الإشكال في كفاية سابقة أيضا (يعني صورة الالتفات) فإنّ بعض المعاصرين يظهر منهم دعوى الاتفاق على اعتبار اللفظ في الفسخ كالإجازة، و لذا استشكل في القواعد في بطلان الوكالة بإيقاع العقد الفاسد على متعلّقها جاهلا بفساده و قرّره في الإيضاح و جامع المقاصد على الإشكال.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 418

أقول: أمّا الإجماع فيمكن دعوى القطع بعدمه و أمّا المال المذكور فيمكن إبداء الفارق بينه و بين المقام، و حاصل الفرق أنّ التصدي للفعل المنافي في المال تارة يلاحظ بالإضافة إلى العقد الوارد على هذا المال الذي مضمونه مثلا انتقاله إلى زيد مع كون مضمون المتصدّي به انتقاله إلى عمرو، فحينئذ يمكن أن [يقال] بقضيّة التضاد و التنافي بين المضمونين أنّ التصدّي و الإقدام بأحدهما ردّ و دفع للآخر.

و اخرى يلاحظ بالإضافة إلى الولاية الثابتة لشخص آخر على المال، و في هذا يمكن القول بأنّ التصدّي المذكور حتى مع الالتفات أيضا ليس دفعا و نقضا للولاية المزبورة، ألا ترى أنّ المال الذي له وليّان مثل الأب و الجد تصدّى أحدهما بمقتضى ولايته لبيعه ليس نقضا لولاية الآخر.

نعم هو تفويت للمحل بالإضافة إلى الولاية الأخرى لأنّ مقتضى نفوذ الولاية المعمولة خروج المال عن ملك المالك فلا يبقى موضوع للولاية الأخرى، و هذا المعنى في الشخص الواحد أيضا موجود فإنّ المالك إذا باع ماله انقطع يده عن ذلك المال، و ليس هذا نقضا لسلطنته بل هو مقتضى سلطنته و إعمال لها، فنقول

باب الوكالة من هذا القبيل الثاني فإنّ الموكل جعله قائماً مقام نفسه فكأن له بدنين و يصير للمال وليّان فإعمال أحدهما اختياره و ولايته ليس نقضا و دفعا و حلًّا لولاية الآخر.

نعم بعد إعمال هذه الولاية و ترتّب الأثر عليه تنحلّ تلك الولاية و تنتفي قهرا بواسطة انتفاء الموضوع، فإذا فرض انفكاك هذا الإعمال عن الأثر كما في فرض بطلان العقد كما في المثال لم يرد اختلال في الولاية الأخرى، و هذا بخلاف المقام فإنّ الإقدام على العقد المقتضي لانتقال المال إلى عمرو دفع و حلّ لا محالة لما يقتضي بمفاده انتقاله إلى زيد مع التفات المقدم إليه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 419

فروع
الأوّل: لو انتقل المال من المالك إلى غيره

فبناء على ثبوت اختيار أمر العقد الفضولي في يد المالك و سقوطه عن الأثر برده لا تثمر إجازة هذا المالك الجديد أيضا مع ردّ المالك القديم، و أمّا بناء على عدم تماميّة ذلك بالرواية و التمسّك بعدم اعتبار العرف انتساب العقد إليه، فحال الرد حينئذ حال تفويت المحلّ في كون المحلّ للإجازة بالنسبة إلى المالك الجديد باقيا فإنّ الخروج عن الانتساب إلى المالك الأوّل لا يلازم ذلك بالنسبة إلى الثاني، فالفرق بين الرد و التفويت مبنيّ على المبنى الأوّل.

الثاني: لو ردّ الفضولي قبل إجازة المالك فهل لردّه أثر أم لا؟

يمكن القول بتأثيره بالإضافة إلى إجازة نفسه لو ملك بعد ذلك و قلنا بصحّة من باع ثمّ ملك، بل يمكن ذلك بالنسبة إلى المالك أيضا، و ذلك لأنّ الاعتبار العرفي مساعد بأنّ المحدث للشي ء قادر على إعدامه و العقد و إن كان متعلّقا بمال الغير لكن لمّا كان حدوثه باختيار الفضولي فإعدامه أيضا مقدور له فلا يبقى لإجازة المالك أيضا أثر، هذا بناء على الاستناد في الردّ لعدم الانتساب عرفا، و أمّا لو استندنا إلى الرواية فإطلاقه يشمل المالك في هذه الصورة أيضا.

الثالث: و هذا لا يرتبط بالمقام و إنّما يناسب باب الخيارات

و هو أنّهم ذكروا في باب الفسخ للعقود الخياريّة بحصوله بالفعل المنافي لملكيّة المشتري و عدّوا من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 420

الأمثلة الوطي للجارية المشتراة.

و فيه: أنّ حلية هذا الوطء موقوفة على سلب ملكية المشتري أوّلا و إثباتها للبائع الواطئ حتى يقع الوطء في ملكه و يخرج عن الزنا، و المفروض أنّ القصد الخالي عن المظهر لا يكفي في هذا المطلب بل لوجود المظهر أيضا دخل و هو حسب الفرض نفس الوطء فالملكيّة غير مقارنة للوطي فيكون الوطء زنا و حراما، و بعد وقوعه حراما لا يبقى كشفه عن الفسخ، فإنّا بأدلّة حمل فعل المسلم على الصحة تمسّكنا لحليّة الوطء و بتركها استكشفنا الفسخ، و بعد ما فرضنا من وقوعه حراما على كلّ تقدير فأين الكشف عن الفسخ؟

نعم هذا المعنى يتم في البيع إذ يمكن أن ينشأ به أمران: أحدهما في طول الآخر، التملّك ثمّ النقل إلى الغير و إذا كان هذا ممكنا فدليل الحمل على الوجه الصحيح يقتضيه.

توضيح المقام يقتضي بسط الكلام فنقول: قد تحقّق ممّا تقدّم أنّ الانفساخ في العقد الفضولي يحصل بأمرين: أحدهما: الفسخ و الرد، و

الآخر: تفويت المحل و إعدام الموضوع فهل العقود الخيارية أيضا يجري فيها الأمران، لا إشكال في جريان الأوّل و أمّا الثاني بمعنى أن يقال: إنّ تصدّي ذي الخيار للتصرّفات الموقوفة على الملك يعدم المحلّ بالنسبة إلى تلك العقود، فلا إشكال أيضا في عدم جريانه فإنّ التصدّي لذلك ينتج في ذلك عكس ما ينتج في الباب فإنّ ملك المتصرّف في مقامنا محفوظ، فلا محالة توجب صحّة هذه التصرّفات بتماميّة علّتها قبل تمام العلّة للعقد الفضولي انعدام الموضوع بالنسبة إليه، و أمّا في تلك العقود فالمال صار بسببها ملكا للمشتري، فالعلّة التامّة من طرفها تحقّقت قبل تحقّق العلّة لتلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 421

التصرّفات، فلا بدّ من الحكم ببطلان تلك التصرّفات، فلا بدّ في انفساخ تلك العقود بإرجاع هذه التصرّفات إلى الفسخ بمعنى أنّها تكشف عن قصد التصرّف للفسخ أوّلا ثم التصرّف فيكون القصد فقط أو مع مظهرية هذا التصرّف فسخا.

و حينئذ نقول: قد يفرض الكلام في التصرّفات التي أثرها حدوث الوضع كالبيع و العتق و قد يفرض فيما يكون أثرها التكليف كالوطي و شبهه.

أمّا الأوّل: فإنّما يحصل الإشكال فيه بعدم معقولية دخل المظهر في تحصيل الملك الذي هو شرط لصحة المظهر إذا قلنا باشتراط البيع بالمعنى السببي، أعني:

نفس إنشاء الإيجاب و القبول بالملكية، فلو انفك جزء من الإنشاء عنها حكم بالفساد، و أمّا إذا منعنا عن ذلك و قلنا: إنّ قوله «لا بيع إلّا في ملك و لا عتق إلّا في ملك» ظاهر في المعنى المسبّبي، أعني: المبادلة المنشأة الحاصلة عقيب الإنشاء حتى في مثل عقد الفضولي فاشتراط هذا المعنى المتوقّف حصوله على تمام السبب المتوقّف على انقضاء تاء بعت بل من قبلت لا

يقتضي إلّا حصول الملك قبل التاء، فلا ينافي عدم حصولها حين التلفّظ بلفظة بع من بعت.

هذا في أثر الوضعي المترقب منه. و أمّا تأثيره في الفسخ فيحصل بمحض الشروع في بعت حتى لو فرض موته قبل تتميم هذه الكلمة يحكم بالفسخ كما في البيع الفاسد فإنّ الإقدام الخارجي بفعل ما هو مضادّ لبقاء العقد الخياري يحصل بذلك فيتحصّل أنّ عود الملك إليه يحصل بلفظة بع من بعت، و الملكية المنشأة منتظرة لمجي ء التاء و حين ما تجي ء قد فرض كونه مالكا.

و أمّا الثاني: أعني التصرّفات المستتبعة للتكليف، فإن بنينا على مذهب شيخ الطائفة- قدّس سرّه- من أنّ حصول الملك في العقود الخيارية بعد انقضاء زمن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 422

الخيار فلا إشكال أيضا، إذ يصير الحال على هذا في تلك العقود هو الحال في العقد الفضولي من وقوعها في حال الملك و تقدمها في التأثير على ما لم يجئ تمام علّته فيكون الوطء حلالا، لوقوعه في ملكه و سببا لانحلال العقد لتفويت موضوعه.

و كذلك الحال لو قلنا في باب الخيار بمثل ما قاله بعض في الرجوع إلى المطلّقة رجعيا بأنّها لم تنقطع علاقة الزوجية بالتمام، غاية الأمر أنّها ضعفت، فجواز الوطي يكون بحاله لبقاء موضوعه، فكذلك نقول في باب الخيار: إنّ علاقة الملك لم تنقطع من ذي الخيار عن المال رأسا و إنّما ضعفت، فجواز التصرّفات باق بحاله فعلى هذين المبنيين لا كلام و يتحقّق الانفساخ مع الجواز الوضعي و التكليفي في عامّة تلك التصرّفات.

و كذلك لا كلام لو قلنا بسلب العلاقة كليّا عن المالك من دون انتظار لانقضاء الخيار و لكن قلنا: إنّه يكفي في الفسخ نفس القصد الباطني و لو لم

يلحقه الإظهار فإنّه أيضا يشترك مع الأوّلين في وقوع التصريف في حال الملك، غاية الأمر حصول الانفساخ بالتفويت على الأوّلين و بالفسخ على الأخير.

إنّما الكلام في ما استقرّ البناء الآن عليه من حصول الملك بنفس العقد لا بانقضاء الخيار و احتياج الفسخ إلى المظهر و عدم كفاية الرد الباطني.

فحينئذ أيضا لو كان دليل خاص قائماً بصحّة هذه التصرّفات كان ذلك تخصيصا للقواعد المقتضية لتوقّف صحّتها على الملك.

و أمّا على ما هو المفروض من عدم ذلك و إنّما نريد إتمامه على القواعد كما عن العلّامة أنّه علّل ذلك بأنّه لأجل صيانة فعل المسلم عن الفساد و هو مع قطع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 423

النظر عن أنّه عندهم من الأصول فلا تثبت به الحواشي من اللوازم و الملازمات و الملزومات حتى يثبت به قصد الرد، يرد عليه: أنّه كيف يصحّ ذلك مع فرض دخالة الإظهار في حصول الملك؟ فيكون وقوع ملك التصرّفات في غير الملك.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الشرط ليس هو الإظهار بخارجه بل بما ينتزع منه من وصف التعقّب، يعني: أنّ المؤثّر هو القصد الذي يتعقبه متّصلا و بلا فصل الإظهار الخارجي، لكن هذا موقوف على ملاحظة أنّ مفهوم الرد عرفا بم يتحقّق، و نحن إذا راجعنا الوجدان نراه حاكما بأنّ مفهوم الردّ سواء قلنا باختيار الإظهار على نحو الإيقاع و الإنشاء أم باعتباره و لو على نحو الإخبار و الكشف أمر متولّد عقيب خارج الإظهار إذ حال الحلّ في ذلك حال العقد فكما أنّ العقد يحتاج إلى الإظهار الخارجي فكذلك الحلّ.

و حينئذ فنقول في طريق التفصّي عن الإشكال.

أمّا في مثل البيع ممّا يكون المطلوب منه الأثر الوضعي فيما مرّ من أنّ شرطيّة

الملك لم تلحظ في الأدلّة بالإضافة إلى الإنشاء و إنّما لوحظت بالإضافة إلى المسبّب، فمع حصوله حالة لا ضير في عدم حصوله قبله فبباء بعت يحصل الفسخ و بتائه يحصل البيع المسبّب.

و أمّا في مثل الوطي ممّا المطلوب فيه الحلّية التكليفيّة. فنقول: لا نحتاج في تحقّق الفسخ إلى إثبات الحلّية، إذ من الممكن تحقّقه بالوطي الحرام و بعد ذلك نقول: يمكن إثبات الحليّة بأحد أمرين:

الأوّل: أنّ الدليل الدال على حرمة الوطي في غير الملك من قوله تعالى:

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ إِلّٰا عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 424

مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ* منصرف عن الوطي الذي به يتحقّق الملك فتكون حليّته على مقتضى الأصل.

و الثاني: أن يقال: إنّ الدليل دلّ على أنّ كلّ نحو من أنحاء الردّ جائز و الوطي أيضا نحو منها فيشمله ذلك الدليل، غاية ما في المقام الإشكال على ذلك بأحد وجهين.

الوجه الأوّل: أنّ الدليل المذكور ليس مفاده بأزيد من إثبات الجواز الوضعي فمعنى قوله- عليه السلام- للمالك الإجازة و له الرد أنّه لو أجاز يؤثّر ذلك في تنفيذ العقد و لو ردّ يؤثّر في إهماله عن الأثر و ليس فيه دلالة على الجواز التكليفي.

و يمكن الجواب عن ذلك بأنّ المستفاد من ذلك الدليل ليس صرف ثبوت حكم وضعي بل يستفاد كون ذلك حقّا للمالك و أنّ له حقّ أن يجيز و حق أن يردّ و ما وقع متعلّقا للحقّ بطبعه مقتضى للحليّة إذ لا معنى لكون الإنسان ذا حقّ في إتيان فعل و كون ذلك الفعل محرّما عليه، نعم لا منافاة لذلك مع حرمته ببعض الجهات الطارئة مثل ما لو

نذر ترك العمل بحقّه فيصير بهذا العنوان الثانوي حراما.

فإن قلت: سلّمنا ذلك لكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى العنوان المتولّد في طول الوطي، و الوطي سبب له و حلية المسبّب و هو الرد لا يلازم حلية السبب و هو الوطي.

قلت: عنوان الرد منطبق على نفس الوطي و لا منافاة بين أن يكون منشأ انتزاع العنوان هو الأثر المتولّد عن الشي ء المتأخّر عنه لا محالة بين أن يكون هذا العنوان المنتزع منطبقا على نفس ذلك الشي ء المتولّد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 425

و بعبارة أخرى: يمكن أن ينطبق على الشي ء بلحاظ ترتّب أثر كذائي عليه عنوان كما هو الحال في تحريك المفتاح و فتح الباب المنطبقين على حركة اليد، فكذلك في المقام أيضا ينطبق على نفس الوطء بلحاظ أثره الذي هو الانفساخ عنوان الفسخ أو الحلّ، و الفرض أنّه وقع محلا للحقّ فيصير حلالا إلى أن يعرضه عنوان آخر تأثّري كالنذر و شبهه.

و الوجه الثاني: أنّ هذا الدليل سلّمنا تكفّله للحكم التكليفي علاوة على الوضعي لكنّه حكم اقتضائي مثل حلية الغنم فلا ينافي الحرمة من جهة أخرى، فهذا الفعل الخاص من حيث إنّه فسخ و ردّ حلال و من حيث إنّه وطي في ملك الغير حرام و لا ينفي حليّته بالجهة الأولى حرمته بالجهة الثانية.

و يمكن أن يجاب عنه أيضا بأنّ عنوان الزنا منتزع من الوطي في ملك الغير، و هذه الخصوصية، أعني: الكون في ملك الغير هو المصيّر للوطي فسخا، إذ لولاه لما تحقّق الفسخ و الخصوصيّة التي منها يتحقّق مصداق الردّ الذي فرض جوازه، فلا محالة يزاحمه عدم جواز تلك الخصوصية.

و حينئذ نقول: عموم دليل الردّ يقضي بجواز هذا الفرد المشتمل على هذه الخصوصية

و عموم دليل حرمة وطي غير الزوجة و المملوكة يقضي بحرمة هذا الفرد من الوطء، و نحن نحتمل أن لا يكون في هذا المصداق من الوطء مقتضى الحرمة و كان فيه مقتضى الجواز فقط، كما يحتمل العكس، و الإطلاق من كلّ من الجانبين يدفع هذا الاحتمال، فيحصل التعارض.

نعم لو فرض العلم بتحقّق كلا المقتضيين في هذا الفرد و وصل الأمر إلى العقل لكان حكم العقل بترجيح جانب الحرمة لأنّه مقتض بالنسبة إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 426

الخصوصية و لا يقتضي جهة الحليّة إلّا صرف الوجود كما هو الحال في باب مقدّمة الواجب حيث نحكم باختصاص الوجوب بالفرد الغير المحرّم، و مع كون الملاك و هو المقدّمية موجودا في هذا الفرد أيضا.

و الحاصل: أنّ هنا عنوانين بينهما عموم من وجه أحدهما موضوع الحرمة و الآخر موضوع الجواز، و لكن كلّ واحد من الموضوعين يوجد في مفهومه خصوصيّة واحدة و هي خصوصيّة كون الفعل في ملك الغير، فالرد و الوطء المحرّم كلاهما ينتزعان من هذا، فحينئذ قد يقال الحكم المعلّق بالردّ حكم اقتضائي فلا يزاحمه الحكم الفعلي من جهة الوطء.

و الجواب: أنّه إنّما لا يزاحم الاقتضائي بالفعلي إذا كان الاقتضائي معلّقا بعنوان و الفعلي بعنوان طار على ذلك العنوان، و أمّا في مثل المقام فلا فإنّ الاقتضائي ناظر إلى عنوان الفعلي، فيجتمعان في حيثيّة واحدة، و إنّما يجوز اجتماعهما في حيثيتين، فلهذا لا يعقل اجتماع الحيثي و الفعلي في هذا الفرد، ثمّ قلنا إنّا إن كنّا عالمين بوجود الملاك في صرف وجود الفسخ مع تحقّقه في تمام أشخاص الوطء لكنّا جازمين باختصاص حكم الحليّة بغير هذا الفرد و عدمه فيه لا حيثيّة و لا فعلا،

و قد فرض عدم جزمنا بذلك فيبقى الكلام في إطلاق الدليلين و كل من الدليلين ينظر بإطلاقه إلى الحيثيّة المذكورة.

أمّا دليل الوطء فهو المفروض فيه، و أمّا دليل الفسخ فلأنّه إذا جعل الشارع اختيار الرد بيد المكلّف و الفرض أنّ له قسمين متعارفين أحدهما قول رددت و شبهه، و الآخر التصرّف المالكي و لم يتقيد كلامه يقيد، فالإطلاق في كلامه يقتضي تساوي هذين القسمين في هذه الرخصة فإنّ الإطلاق و إن كان ليس بمعنى لحاظ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 427

التسوية لكنّه بحكمه، بمعنى أنّه يحرز من المتكلّم حال لو سئل عنه عن الإفراد لأجاب بالتسوية، و حينئذ فكلّ من الإطلاقين ناظر إلى هذا الفرد بما اشتمل هو عليه من الخصوصية فأحدهما يحكم عليه بالحلّ و الآخر بالحرمة، و هذا معنى التعارض.

و حينئذ فلو لم يكن بين الدليلين أظهر لتساقطا و يرجع إلى الأصل و هو في المقام [الاحتياط] حيث إنّه باب الفروج و هو مورد الاهتمام في جانب الحرمة و لكن لنا حينئذ دعوى أنّ دليل الوطء الذي كان حال ظهوره في شمول هذا الفرد الخفي من الوطء الذي يحصل بمجرده و في الآن المتّصل به الملك بمثابة أمكن ادّعاء انصرافه عن هذا الفرد، غاية الأمر بالتسليم منه ذلك لا يبقى له ظهور بعد ملاحظة معارضته بدليل الرد الذي هذا الفرد فرد جلي بالنسبة إليه كما ذكرنا أنّه أحد قسميه المتعارفين بدعوى أظهرية دليل الردّ بالنسبة إلى ذاك يصير سهلا.

هذا كلّه إذا علم أنّ مقصود الواطئ هو الرد، و أمّا مع الشك في ذلك فهل لنا في مقام الإثبات أصل أو امارة يحرز بسببه الحال أو لا؟ قد عرفت أنّ بعضهم- رضوان اللّٰه

عليهم- تمسّك لإثبات الحليّة بأصالة الصحّة و صيانة فعل المسلم عن الفساد.

و فيه: أنّ المدرك لهذا الأصل إنّما هو السيرة و لا يستفاد منها أزيد من الأصلية و استفادة كون الوطء مقرونا بالقصد للرد موقوف على الأمارية حتى يثبت بها اللوازم و لا يمكن الالتزام بذلك، فإنّا لو علمنا أنّ شخصا إمّا سلّم و إمّا تكلّم بالفحش فأصالة الصحّة تقضي بعدم فسقه و لكنّها لا تثبت السلام حتى نحكم بوجوب الجواب، و كذا لو أحرز عنوان العقدية و شكّ في أنّه من القسم الصحيح

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 428

أو الفاسد فأصالة الصحّة تقتضي بأنّه من الصحيح ليترتب عليه آثار الصحيح، و لكن لو نذرت عند صدور العقد المشتمل على العربية مثلا التصدّق ما وجب عليك ذلك و هكذا.

نعم ظاهر حال المسلم هو اشتمال فعله على الشرائط و لكن لا دليل على حجية هذا الظاهر إلّا إذا كان مستندا إلى اللفظ، فلو تصدّى للرد بإنشاء البيع و لم يعلم أنّه يقصد الرد أو أوقع نحو بيع الفضولي لنفسه فظاهر كلامه عند الإطلاق عدم الأخير و أنّه باع بنحو بيع المالك مال نفسه.

[البحث الثالث حكم المالك مع المشتري لو لم يجز]

مسألة ليس جواز ارتجاع العين من آثار الرد بل للمالك ما دام عدم الإجازة أن يرتجع العين مع بقائها في يد من وجدها عنده و مع التلف يرجع بعوضها نعم هنا كلام بناء على القول بأنّ الرجوع في باب الضمانات يكون إلى أعلى القيم فهل يرجع هنا لو ترتبت الأيدي بتمام الزيادات الحاصلة في القيمة أو العين حتى ما كان حصوله في اليد السابقة على المرجوع إليه و انتفى قبل الوصول إليه؟ أو يختص الرجوع بما حصل تحت يده أو يد من

ترتبت يده على يده؟ و الظاهر على المبنى المذكور هو الثاني، لاختصاص موجب الضمان بالزيادات المتأخّرة دون المتقدّمة، هذا هو الكلام في رجوع المالك إلى المشتري.

و أمّا رجوع المشتري إلى البائع، فقد يقع الكلام في رجوعه بالثمن الذي أقبضه للبائع، و قد يقع في رجوعه بما يغترمه للمالك فهنا مسألتان:

الأولى: في رجوع المشتري إلى البائع بثمنه الذي دفعه إليه فإن كان جاهلا بأنّه فضولي فالظاهر جواز رجوعه سواء كان باقيا أم تالفا، و اعترافه بأنّه مالك إن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 429

كان مبتنيا على ظاهر اليد لا يضرّ بعد انكشاف الخلاف، نعم لو كان اعترافه مبتنيا على الواقع كما اعترف بعد قيام البيّنة على أنّه ملك المالك، فحينئذ ليس له الرجوع، و أمّا مع عدم معلوميّة الحال فهل يوجد لظاهر الحال من كون الإقرار مبنيا على ظاهر اليد أو بظاهر اللفظ من الدلالة على الواقع وجهان.

و إن كان عالما بأنّه فضولي و كانت العين باقية فالظاهر جواز الرجوع أيضا لأنّه لم يحصل منه ما يوجب انتقال العين منه إلى البائع شرعا غاية ما حصل تسليطه على العين مع العلم بعدم ملكيّته للمبيع، و هذا ليس تمليكا له و إلّا لزم في البيع الفاسد أيضا ذلك لأنّ كلّا من المتبايعين هنا قد سلّط صاحبه على ماله مع علمه بأنّ المعاملة فاسدة و أنّه لا يتملّك منه العوض شرعا.

و كذا يلزم أن لا يصحّ البيع بإجازة المالك لأنّ البائع صار مالكا للثمن قبله فقد فات بسببه محلّ الإجازة فتأمّل.

و أمّا إن كانت العين تالفة فالظاهر المحكي من بعضهم- قدّس أسرارهم- الاتّفاق على عدم الرجوع، و وجهه على ما يظهر أيضا منهم أنّه سلّطه على ماله

بلا عوض.

و توضيح ذلك: أنّ الضمان إمّا لعموم على اليد ما أخذت، و إمّا لقاعدة الإقدام على الضمان التي جعلها الشيخ مدركا لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، أمّا الأوّل فمخصّص بفحوى ما دلّ على عدم ضمان من استأمنه المالك و دفع إليه المال إمّا لحفظه كما في الوديعة أو للانتفاع به كما في العارية أو لاستبقاء المنفعة منه كما في العين المستأجرة و إذا كان الدفع على هذا الوجه غير موجب للضمان فالتسليط على عامّة التصرّفات حتّى الإتلاف غير موجب بطريق أولى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 430

و دعوى أنّه لم يسلّطه مجانا و بلا عوض حتى يكون حاله كالهبة الفاسدة بل في مقابل العوض، مندفعة بأنّ العوض مال غيره ففي الحقيقة لم يضمنه بشي ء من كيسه، فحاله حال الهبة الفاسدة، و البيع بلا ثمن و الإجارة بلا أجرة التي قالوا فيها بعدم الضمان، و من هنا ظهر عدم جريان الوجه الثاني للضمان أعني قاعدة الإقدام فإنّ البائع لم يقدم إلّا على الضمان بشي ء يعلم المشتري بعدم كونه ملكا له.

فإن قلت: التسليط على الثمن إنّما هو لثباته على ملكيّة البائع للمثمن و لولا ذلك لم يتحقق مفهوم المعاوضة كما تقدم في بيع الغاصب لنفسه، فالتسليط وقع على وجه الضمان بماله لا بمال الغير إلّا أنّهما لما قطعا النظر عن حكم الشرع بعدم ملكيّة البائع للمثمن و تعاقدا معرضين عن ذلك فالتسليط ليس مجانيا، و التضمين للبائع بما يقابل الثمن من ماله حقيقي، و إن كان ملكيّته للمثمن ادعائية فحاله حال ما إذا ظهر المثمن المعيّن ملكا للغير فإنّ رجوع المشتري إلى البائع بعوض الثمن لو كان تالفا اتّفاقي مع أنّه إنّما ضمنه الثمن بإزاء

هذا الشي ء الذي كان مالا لغيره، فكما أنّ التضمين هنا حقيقي و كون المثمن مالا له اعتقادي لا يقدح تخلّفه في التضمين، فكذلك هنا تضمين المشتري البائع للثمن حقيقي و كونه مالكا للثمن ادّعائي و لا يقدح في ذلك التضمين.

قلت: معنى الضمان كون الشي ء على عهدة الإنسان و ورود خسارته عليه و مع كون المضمون به ملكا و كون المشتري عالما بذلك أيضا لا يتحقّق هذا المعنى بالنسبة إلى البائع حقيقة، و بناء المتعاقدين على ملكية البائع للمثمن إنّما تصحّح عقد التمليك و التملّك بينهما ادعاء لا حقيقة، و إلّا فأصل المعاوضة الحقيقية تكون بين المالكين و الضمان و التضمين يكون بينهما، و لهذا يدخل الثمن في ملك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 431

المالك إذا أجاز و يدخل في ضمانه بذلك، و الحاصل لا تضمين حقيقي في تسليط المشتري البائع على الثمن.

و أمّا رجوع المشتري مع اعتقاد المتبايعين لكون المبيع ملكا للبائع عند انكشاف الخطاء مع أنّ التضمين حقيقة يكون بتملّك الغير، فلأجل عدم طيب نفس المشتري بالتصرّف في الثمن من دون ضمان، و إن كان المضمون به غير ملك له و لا يتحقق به التضمين لأنّ طيب نفسه بالتصرّف مبنيّ على اعتقاد المالكيّة، و هذا بخلاف الحال فيما نحن فيه فإنّ طيب النفس بالتصرّف بالمال من دون ضمان له بما له حاصل.

هذا و ربّما يستشكل «1» على الشقّ الأوّل من هذا الكلام أعني رجوع المشتري بالثمن في صورة الجهل بالفضولية التي فصّلنا بين صورة الإقرار بكون المبيع للبائع في الواقع فلا يجوز الرجوع، و بين صورة الإقرار مبتنيا على ظاهر اليد فيجوز، و بين صورة عدم معلوميّة الحال، ففيه وجهان بأنّه لا وجه لهذا

التفصيل بل الوجه أن يقال: قد يتكلّم في واقع المسألة و قد يتكلّم في مقام الظاهر إمّا قبل المرافعة و إمّا بعدها، أمّا في الأوّل فمتى اتّضح أنّ البائع غير مالك للمثمن فالوجه جواز رجوع المشتري و إن أقرّ حين الشراء و صرّح حتى بعد قيام البيّنة بكون المال للمالك أيضا بأنّه للبائع فإنّه بعد وضوح الأمر و انكشاف الخلاف لم يعهد من أحد أن يقول بأنّه مأخوذ على حسب إقرار مع فرض حصول العلم التفصيلي بخلاف المقرّ به.

نعم مع مخالفة الإقرار للعلم الإجمالي حكموا باتّباعه كما لو أقرّ بأنّ هذا

______________________________

(1) ورد في الحاشية اشكال شيخنا الأستاذ- دام ظله على شيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 432

المال لزيد ثمّ لعمرو فحكموا بأنّه ينتزع العين من يده و يدفع إلى المقرّ له الأوّل و يدفع ثمنه إلى المقرّ له الثاني مع أنّه يعلم إجمالا بمخالفة أحد هذين الإقرارين للواقع لكن مع العلم التفصيلي لم يعهد القول بالاتباع هذا حال الواقع.

و أمّا مقام الظاهر و المشي على القواعد الظاهرية فنقول: إمّا يفرض طرح الدعوى بين المالك و المشتري و إمّا بينه و بين البائع فإن فرض بينه و بين المشتري فطريق أخذ العين من المشتري على أنحاء:

الأوّل: الإقرار بدون المرافعة، و الثاني: إقامة البيّنة كذلك، و الثالث: المرافعة لدى الحاكم و فصله الخصومة بينهما بإقرار المشتري، و الرابع: فصله بإقامة البيّنة، و الخامس: فصله باليمين المردودة، و السادس: فصلها بالنكول.

فإن كان الأوّل: أعني، أخذ المالك عينه من يد المشتري بواسطة إقراره بأنّ المال له فبأيّ قاعدة يجوز له أن يرجع إلى البائع بالثمن بعد دفعه المثمن إلى المالك بمقتضى إقراره فإنّ قضيّة يد

البائع و أصالة الصحّة صحّة المعاملة و تملّك البائع للثمن من غير فرق بين إقرار المشتري بمالكيّة البائع و عدمه و يحتاج الرجوع إلى البائع إلى مرافعة مستقلّة معه فهو مدّع بالنسبة إلى البائع.

و إن كان الثاني: أعني: أخذ المالك المال بواسطة إقامة البيّنة عند نفس المشتري بدون رفع الأمر إلى الحاكم، فالبيّنة و إن كانت حجّة في الملازمات أيضا فيثبت بها فساد المعاملة و استحقاق المشتري الثمن من البائع، لكنّها حجّة في حقّ الشاك، و أمّا من ادّعى العلم بالقضية مثل البائع المدّعي بأنّه عالم بأنّ المبيع كان لنفسه فلا، فكيف يكون ملزما بدفع الثمن إلى المشتري بدون المرافعة معه.

و إن كان الثالث، أعني: الترافع إلى الحاكم و ختم الأمر بالبيّنة فحكم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 433

الحاكم ليس حاله حال الأمارة حتّى يكون حجّة في الملازمات، فلازم كون المبيع للمالك فساد المعاملة الواقعة بين المشتري و البائع لكن لم يصدر من الحاكم إنشاء الحكم بالفساد، نعم تحقّق البيّنة عنده يوجب أن يحكم على تقدير الترافع إليه بالفساد.

و بالجملة فحكم الحاكم و إن وجب قبوله و ترتيب الأثر عليه على كلّ أحد و يحرم نقضه على كلّ من البائع و المشتري، لكن إنشاء الحكم بكون المبيع في يد المشتري لزيد غير الحكم بأنّ المعاملة الواقعة بين المشتري و عمرو في هذا المال باطلة، فيحتاج الرجوع إلى البائع أيضا إلى المرافعة الجديدة معه من غير فرق بين الإقرار بمالكيّته و عدمه.

و إن كان الرابع و الخامس و السادس فقد اتّضح الكلام فيه من الكلام في الثالث، و إن فرض طرح الدعوى بين المالك و البائع فيجي ء فيه الأقسام المذكورة أيضا أعني أنّه: قد يقرّ

بالدعوى بلا رفع إلى الحاكم. و قد يلزم بالبينة القائمة عنده لا عند الحاكم و قد يترافعان إلى الحاكم، و منشأ حكم الحاكم أيضا قد يكون إقراره، و قد يكون البيّنة أو اليمين المردودة أو النكول.

فإن أقرّ بلا رفع إلى الحاكم فهو بمقتضى إقراره مأخوذ، فيجب عليه دفع بدل المبيع إلى المالك، و أمّا رجوعه إلى المشتري بالعين الموجودة في يده فلا وجه له لأنّ العين جاء في يده على حسب القواعد الشرعية و مقتضى الإقرار ليس إلّا ترتيب ما على المقرّ من الآثار دون ما كان له، و فساد المعاملة من هذا القبيل.

و إن قامت البيّنة عند البائع على أنّ المال الذي باعه كان للمالك فهو أيضا غير مثمر بحال المشتري إذا ادّعى العلم بخطاء البيّنة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 434

و إن رفع الأمر إلى الحاكم و حكم بأنّ المال الذي في يد المشتري يكون للمالك فهذا الحكم أيضا متعلّق بالمال الشخصي من حيث انتسابه إلى البائع لا من حيث انتسابه إلى المشتري، فالبايع على حسب حكم الحاكم يجب عليه الإنفاذ، و كذا يجب على المشتري أيضا إنفاذ هذا الحكم لكن إنفاذه ليس بأزيد من أنّه في صورة التمكّن من العين شرعا و عقلا يجب على المحكوم عليه و هو البائع دفع نفسها، و في صورة عدم التمكّن منها إمّا عقلا كما في صورة التلف أو شرعا كما في صورة النقل على القواعد الشرعية يجب عليه دفع البدل، فالمشتري يقول قد انتقل هذا المال إليّ بالعقد الصحيح الشرعي و قد وجب عليك بحكم الحاكم ردّ هذا العين إلى المدّعي، و أثر هذا الحكم مع فرض تحقّق هذا النقل الصحيح ليس إلّا دفع البدل.

و

قد يجاب عن الإشكال بأنّ الحاكم فيما إذا كان مستند حكمه غير الإقرار و إن كان يفصل الخصومة بين المترافعين و هما المدّعي و المشتري مثلا، لكن ما به يفصل حكمه بأنّ هذا المال للمدّعي، و هذا الحكم يستتبع حكما ظاهريا من الشارع مثله في المضمون بلا تفاوت، فكما أنّ مضمون حكم الحاكم كون هذا المال للمدّعي بطريق الإطلاق يعني لا بالإضافة إلى خصوص المدّعى عليه- و لهذا لسائر الناس ترتيب آثار المالية للمدعي- كذلك مضمون حكم الشارع أيضا هو أنّ هذا المال للمدّعي.

ثمّ إنّ ظاهر يد البائع هو كونه مالكا فالمعاملة الصادرة صحيحة و الثمن الواقعة في يده عوض لهذا المال، و هذا الظاهر أيضا مستتبع لحكم ظاهري آخر من الشارع على طبقه بلا تفاوت، مضمونه: أنّ هذا الثمن عوض لمال البائع الذي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 435

في يد المشتري، و لا شكّ أنّ لازم الحكم الأوّل نفي عوضيّة هذا المال لثمنه الذي في يد البائع، و لازم نفي عوضيّة هذا المال صيرورة الثمن مجّانا و بلا عوض، و هذا لازم نفس الحكم بما هو حكم بمعنى أنّ نفس هذا الحكم لا يجامع مع ضد ذلك اللازم، نظير ما يقال في باب الاستصحاب من أنّ اللوازم العقليّة المرتّبة على نفس الحكم الظاهري يجب ترتّبها و ما لا يرتّب لوازم الواقع.

و على هذا فالحكم الظاهري المثبت بعوضيّة الثمن و عدم مجانيته مضاد مع الحكم الأوّل في عالم الحكم الظاهري بمعنى عدم إمكان اجتماع الانشائين لهذين الحكمين، و من المعلوم أنّه عند المضادّة في نفس الحكم الظاهري لا بدّ من رفع اليد عن أحدهما، و هذا غير التنافي الواقعي بين الحكمين الظاهريّين بمعنى العلم

بعدم مطابقة كليهما للواقع فإنّه يمكن حفظهما مع عدم لزوم المخالفة العلمية، و من الواضح أنّه لا حجّية و أماريّة لليد في قبال حكم الحاكم بمعنى أنّه كلّما اقتضى حكم الحاكم سببا و اقتضى اليد و لو في غير مورد المدّعى عليه كما في مقامنا سببا مضادّا لنفس ذلك الحكم في مرحلة الظاهر يجب طرح اليد، لأنّ صاحبها أيضا ممّن يجب عليه إنفاذ حكم الحاكم و يحرم عليه نقضه.

و إذا صار الثمن في يد البائع بمقتضى حكم الشارع المطابق لحكم الحاكم مجانيّا في يده كانت المرافعة فيما بينه و بين المشتري قهرا مفصولة و لا حقّ للبائع في المرافعة الثانية مع المشتري. نعم له حقّ المناقشة في جهات المرافعة الأولى، هذا كلّه في فصل المرافعة الأولى و عدم إقرار المشتري بعد قيام بيّنة المدّعي و حكم الحاكم على طبقها بأنّ المال للبائع، و أمّا مع هذا الإقرار فمقتضى الحكم كما عرفت عدم ملكيّة البائع للثمن، و مقتضى هذا الإقرار عدم جواز رجوع المشتري

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 436

بالثمن و عدم ملكيّته له فيصير الثمن مجهول المالك، و ليس حال الإقرار حال اليد في مطروحيّته في قبال حكم الحاكم بل البناء على العمل به، و لهذا لو أقرّ المحكوم له بعد الحكم بحقانيّة طرفه ليس له أخذ الحقّ، و إن كان ليس للطرف أيضا بمقتضى الحكم التصرّف فيه.

و أمّا إقرار المشتري المستند إلى ظاهر يد البائع فلا يضرّ، و إذا اشتبه الحال و شكّ في أنّ إقراره من القسم الأوّل المضرّ أو الثاني حتى لا يضرّ. قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: ظاهر الحال من عدم معلوميّة الأموال غالبا إلّا بطريقيّة اليد يقتضي كونه من

القسم الثاني، و ظاهر اللفظ أنّه إخبار عن الواقع، و فيه أنّه بعد ما ثبت برواية حفص بن غياث أنّ المشهود و لو كان منشأ ثبوته أصلا أو أمارة ظاهريّة تجوز الشهادة الواقعية به فيجوز حينئذ التصريح أيضا بأن هذا المال واقعا للبائع مع فرض استناده إلى اليد، فظهور الكلام في الشهادة عن الواقع على هذا ساكت عن المدرك و أنّه العلم أو التعبّد، نعم يبقى ظاهر الحال باقيا بلا معارض من طرف اللفظ فإن كان متّبعا فهو.

فإن قلت: ما ذكرت في أصل رجوع المشتري من التنافي بين الحكمين في مرحلة الظاهر ممنوع و لقائل أن يقول: إنّما وجب على المحكوم عليه و هو المشتري المعاملة مع العين معاملة ملك المدّعي، و أنّه ليس بعوض للثمن الذي في يد البائع، و بعبارة أخرى كان الحكم الظاهري بفساد البيع و سلب العوضيّة متوجّها إلى خصوص المشتري، و البائع أيضا يجب عليه إنفاذ حكم الحاكم بهذا المقدار، و العوضيّة في حق البائع كانت محفوظة و ثابتة بحكم ظاهري أخرى.

و الحاصل: يمكن الحكم على البائع شرعا بجواز معاملة العوضيّة مع الثمن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 437

و يحكم على المشتري بمعاملة عدم العوضيّة مع المثمن، فحكم الحاكم إنّما قطع المرافعة من الحيثية الراجعة إلى المديعي و أمّا من الحيثيّة الراجعة إلى البائع فالمرافعة باقية لم تفصل.

قلت: محصّل ما ذكرت التفكيك في مقام التعبّد بين عوضيّة الثمن و عوضيّة المثمن كما في صورة اختلاف المتبايعين اجتهادا أو تقليدا في أحد شروط المعاملة فكانت فاسدة بمذاق واحد و صحيحة بمذاق الآخر، فهنا نقول: صدور الحكمين من الشارع إمّا غير ممكن فإنّ جعل العوضية لهذا المناقض مع سلب العوضية عن

ذاك الذي عد له، و ليس هذا قابلًا للتفكيك بأن يجعل العوضية في حق واحد دون صاحبه و يسلب في حق صاحبه دون ذلك الواحد، و إن أبيت إلّا عن إمكان ذلك و أنّه ليس جعلا حقيقيّا للعوضيّة و عدمها و إنّما هو التعبّد بآثارهما، فنقول: لا أقلّ من عدم التفكيك بينهما في مقام التعبّد فهو من قبيل جلاء الواسطة الذي قرر في الأصول بأنّه يصحّح لإثبات ذيها فكما أنّ العرف يفهم من التعبّد بالأبوّة لشخص بالنسبة إلى آخر التعبّد بالبنوّة لهذا الآخر و لا يرى التفكيك، فكذلك هنا.

لا يقال: فما تقول في باب الإقرار حيث حكموا بأنّه لو أقرّ الزوج بالزوجية و أنكرت الزوجة يجب على الزوج ترتيب الآثار من قبيل النفقة و غيره و يجب على الزوجة عدم الترتيب فقد وقع التفكيك.

لأنّا نقول: يمكن الالتزام في ذلك الباب بالموضوعية بمعنى أنّ نفس الإقرار له موضوعيّة لإلزام المقرّ بما التزم من دون أن يكون بلحاظ الطريقية إلى الواقع، غاية الأمر اختصاص ذلك بمورد الشك فلا يجري مع القطع التفصيلي بالخلاف.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 438

ثمّ إنّ السيّد المحقّق المحشّي بعد ما سلّم في هذا المقام كلام شيخنا برجوع المشتري بالثمن إلى البائع و حمله على صورة المرافعة- نعم في صورة اشتباه الحال في الإقرار رجّح جانب الإقرار.

قال ما حاصله: و أمّا فيما بينه و بين اللّٰه فإن كان عالما بالحال فلا إشكال، و إن كان شاكّا و البائع مدّعيا لكذب المدعى فهل يجوز له الرجوع مطلقا أو لا كذلك، أو هنا تفصيل بين ما إذا كان مستند الحاكم هو البينة فيجوز و ما إذا لم يكن فلا؟ ثمّ رجّح الاحتمال الأخير.

فنقول: لا يخلو

الأمر من حالين إمّا نقول: إنّ حكم الحاكم بماليّة العين للمدّعي أثبت المجانيّة للثمن في يد البائع و إمّا لا نقول، فإن قلنا به فما وجه التوقّف في صورة الشك و عدم جواز الرجوع في بعض الصور فيما بينه و بين اللّٰه؟

بل الحقّ حينئذ جواز الرجوع و رفع الشكّ بواسطة حكم الشارع بملكيّة المثمن للمدّعي الرافع للشكّ في الثمن، و إن قلنا بالثاني فما وجه القول في صورة المرافعة بطيّ المرافعة بالحكم في المرافعة الأولى، بل الحق بقائها بحالها حتى في صورة استناد حكم الحاكم إلى البيّنة، إذ لعل المشتري لم يحرز عدالتهما فلم يكن قولهما حجّة شرعيّة في حقّه فكيف يجوز له الرجوع. نعم مع إحراز ذلك يجوز.

هذا كلّه هو الكلام في صورة جهل المشتري، و أمّا مع علمه بالفضوليّة و بقاء العين فلم يحصل منه مملّك و مجرّد التسليط لا يفيد الملك إلّا أن يقال كما يقال نظيره في المعاطاة على تقدير قصد الإباحة المطلقة أنّ التسليط المطلق على مطلق التصرّفات حتى الإتلاف يساوق التمليك.

و كيف كان فالعمدة التكلّم في حال تلف الثمن، فنقول: عمدة ما يستند

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 439

إليه في الحكم بالضمان قاعدة اليد في صورة التلف السماوي و هي مع قاعدة من أتلف في صورة الإتلاف و أنّ المقام ليس من باب هتك المالك حرمة ماله، فالعمدة التكلّم في أنّه من هذا الباب أو لا.

فنقول: ما يحتجّ به للعدم أنّ الفرض قصدهما للإنشاء الجدّي للمعاملة الحقيقيّة، و أنّهما لم يصدر منهما إلّا إنشاء واحد فيحصل من هاتين المقدّمتين أنّ البائع الغاصب قصد جدّا بيع هذا المال عن نفسه و شخصه و ذاته بإزاء ذلك الثمن لينقل هو

من المشتري إلى نفس البائع و شخصه، و المشتري أيضا قبل هذا المعنى، و ليس في البين إنشاءان أحدهما إنشاء النقل و الانتقال بالنسبة إلى عنوان المالك، و الثاني إنشاء آخر راجع إلى تطبيق عنوان للمالك على نفسه.

أمّا أوّلا: فلأنّه غير معقول من وجهين:

أحدهما: أنّه حيث إنّ تطبيق العنوان يكون بالبناء و الادّعاء مع عدم الواقعيّة فكيف يمكن أن يصير موجبا للقصد الجدّي إلى المعاملة؟ مع أنّ الفرد الغير الحقيقي للعنوان لا يصير فردا حقيقيّا له بمحض الادّعاء، و تمشّي قصد البيع جدا فرع المالكية الحقيقيّة ليتحقّق قصد الإدخال و الإخراج الحقيقيّين، و أمّا ادّعاء المالكيّة فلا يوجب إلّا ادّعاء الإدخال و الإخراج لا حقيقتهما كما أنّه لا يتمشّى من الإنسان قصد الأكل جدّا بادّعاء كون الحجر خبزا، و لا يصح قياس المقام بالمجاز السكّاكي بتقريب أنّه كما صار هناك ادّعاء كون زيد أسدا مصحّحا للقصد الجدّي إلى استعمال لفظ الأسد في معناه الحقيقي حقيقة جاز في المقام أيضا أن يصير ادّعاء المالكيّة مصحّحا للقصد الجدي إلى استعمال صيغة إنشاء البيع في حقيقة معناه الإنشائي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 440

وجه عدم الصحّة أنّ الاستعمال هناك لا مؤنة له إلّا تصوّر المفهوم الحقيقي للفظ و هو بمكان من الإمكان و هو غير الاستعمال في باب الإنشاء فإنّه عبارة عن الإيقاع و ترتيب الأثر الخارجي فإن فك الملك و إدخال عوضه في الملك ترتيب أثر الملك، و هذا المعنى لا يتمشّى بمحض الادّعاء.

و ثانيهما: أنّ الملكية إضافة بين الأموال و أعيان الأشخاص و ليس عنوان المالك إلّا كعنوان العليّة، فكما أنّه غير مأخوذ في موضوع نفسها بل العلية نسبة بين نفس السببين و ذاتهما كذلك هنا

أيضا عنوان المالكيّة و المملوكيّة حادثان في الرتبة المتأخّرة من ملاحظة تحقق النسبة بين الذاتين و نفس الشخص و المال، فمحل فك الملك و إيراد الملك ليس هو العنوان بل نفس الشخص و عينه و ذاته.

و أمّا ثانيا: فلو سلّمنا إمكان ذلك فهو خلاف الواقع إذ ليس المعهود من السرّاق و العصاة و الظلمة عند تصدّيهم للبيع و الشراء بما في أيديهم من أموال الناس البناء و الادّعاء للمالكيّة.

و أمّا ثالثا: فلو سلّمنا كونه الشائع فلا نسلّم كون هذا البناء داعيا لهم إلى إنشاء البيع للعنوان بل لنفس شخصهم و ذاتهم، و بالجملة: فليس الصادر منهم إلّا قصد واحد و إنشاء واحد و هما متعلّقان بشخصهم و ذاتهم و ليس ذلك سببا لايقاعهم البيع أوّلا لعنوان المالك الادعائي ثمّ بتبعه لأنفسهم و إن شئت فقل إنّ الجهة تعليلية لا تقييديّة.

و أمّا رابعا: فلو سلمنا أنّ الجهة تقييديّة بمعنى أنّ إيقاع البيع وارد على نفسهم باعتبار تحيّثها بحيثيّة المالكيّة، و لكن لا نسلّم أنّ تعلّق الحكم على هذا النحو قابل للإطلاق و التعدّي من موضوعه إلى موضوع آخر، ألا ترى أنّه لو قيل

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 1، ص: 441

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 441

لزيد مثلا ادخل داري من حيث إنّك صديقي ليس هذا إذنا لمطلق الصديق، و كذا لو قيل أكرمت زيدا لصداقته لا يقتضي إكرام مطلق الصديق.

و أما خامسا: فلو سلّمنا جميع ذلك فما وجه الفرق في المقام بين ما نحن فيه و العقد الفاسد مع علم المشتري بالفساد، فكما قلتم إنّ علم المضمن بعدم

كون المضمون به ملكا للضامن ينافي القصد الجدي لتضمين الضامن و إنّما ينصرف إلى المالك الواقعي، فكذلك نقول نحن: علم المضمن بعدم صحّة التضمين و عدم تأثيره في خروجه المضمون به عن ملك الضامن ينافي مع قصد التضمين الحقيقي و يرجع إلى قصد عدم التضمين، إذ لا فرق في ذلك بين عدم كون المضمون به مالا للضامن و بين كونه مالا له و لكن لم يتّصف بالمضمون بهيّة فكلّ منهما مشترك في عدم تحقّق الضمان.

فإن قلتم: بالنظر إلى العرف قد تحقّق التضمين و إنّما ننفيه بملاحظة عدم إمضاء الشرع.

قلنا: في ما نحن فيه أيضا بنظر العرف أموال الظلمة و السرّاق تعدّ أموالا لهم و إنّما تسلب المالية بالنظر إلى عدم إمضاء الشرع فكما أثّر التضمين العرفي هناك في الحكم بالضمان فلم ما حكمتم بتأثيره فيما نحن فيه، و بالجملة إن قلنا إنّ الملكيّة ممّا يختلف باختلاف الأنظار فإثباته بنظر لا ينافي سلبه بنظر آخر من الحكم بالضمان في كلا المقامين، و إن قلنا: إنّه غير قابل لاختلاف النظر و بعد التدّين بالشرع ليس إلّا النظر الشرعي و ينتفي النظر العرفي لعدم إمكان اجتماع الاعتقاد بالنقيضين فلا بدّ في كليهما من الحكم بعدم الضمان، فإنّ المشتري فيما نحن فيه قد ضمن البائع بما ليس مالا له و في البيع الفاسد بما لم يخرج بالتضمين عن ملكه فالتفرقة بين المقامين تحكّم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 442

و يمكن الجواب عن الكلّ أمّا الأوّل: فبالفرق بين مقام الإيقاع الإنشائي و الإيقاع الخارجي، فنرى من وجداننا قلّة المؤنة في الأوّل و أنّه في الفرد الغير الحقيقي بدون ادّعاء أصلا لا يتمشّى و لكن بعد الادّعاء ممكن، ألا ترى أنّ

القضيّة الخبرية أيضا محتاجة إلى إيقاع النسبة التجزّميّة بين الموضوع و المحمول، فإذا ادّعينا غير فرد الموضوع فردا له يكفي ذلك في انقداح النسبة التجزّميّة.

الحقيقيّة في حمل المحمول المختصّ بذلك الموضوع على هذا الفرد الادّعائي فكذلك الإيقاع في باب الإنشاء ليس بأزيد من هذا، فكما صار ادّعاء أسديّة زيد مصحّحا لتمشّي هذه النسبة التجزّميّة الإيقاعيّة في النفس في قولك: هذا أسد، كذلك لا مانع من أن يصير ادّعاء كون النفس مالكا مصحّحا لتمشّي النسبة الإنشائيّة البيعية في النفس في قولك بعتك هذا المال مشيرا إلى مال غيرك.

و أمّا الثاني: فما يستحيل إنّما هو دخل المالكيّة الحادثة من إضافة نفس هذا المال في مالكيّته فلا يكون المال ملكا لمالكه بما هو مالك بل بشخصه و أين هذا من المدّعى من جعل موضوع ملك الثمن هو مالك المثمن بعنوان المالكيّة، و ان أبيت عن ذلك بملاحظة أنّه لا يصح في فكّ المثمن عن النفس فإنّه بعد عدم الإضافة للمثمن بعنوان مالكه كيف يعقل الفكّ عنه؟ قلنا: الموضوع هو الحصّة الملازمة من الذات في اللحاظ مع عنوان المالكيّة على نحو تصوّر في المقدّمة الموصولة في قصر الوجوب عليها مع عدم لزوم دخالة قيد الإيصال لا في المطلوب و لا في الطلب لا عنوانا و لا خارجا فنقول الذات الملحوظ في لحاظ المالكية معروض للتمليك و التملك و هي منطبقة على المالك الواقعي.

و أمّا الإشكال الثاني فبدعوى أنّ الخارج على خلاف ما قلت، فإنّ الادّعاء و البناء ليس له كثير مؤنة بل أمر موجود في الارتكاز غير منفكّ عن بيع الغاصب.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 443

و أمّا الثالث: فالمدّعى أنّ الملحوظ و لو بنحو الارتكاز مثل ارتكازيّة قصد

القربة في أثناء الاشتغال بالعبادة مع عدم الاستحضار التفصيلي حيث المالكية فالشخص مقصود جدا للنقل و الانتقال لكنّه متحيّث بهذه الحيثيّة و متلوّن بهذا اللون فالتمليك و التملّك يثبت للحيثيّة و اللون أوّلا و بالذات، و للمتحيّث و المتلوّن ثانيا و بالعرض وهما، أعني: تعلّق التمليك بالحيثيّة ثمّ بالمتحيّث أمران، أحدهما مطوي و مندمج في الآخر، و صورتهما في النظرة الأولى صورة وحدانية بسيطة فلا تنافي ذلك مع وحدة القصد و الإنشاء و التعدّد و التفكيك إنّما هو في النظرة الثانية التحليلية.

و أما الرابع: و هو منع التعدّي عن المحلّ إلى المالك الواقعي، مع فرض تسليم تقييديّة الجهة ففيه أنّ هذه الكبرى، أعني: أنّ الثابت للشي ء بحيثية تقييدية ثابت لنفس تلك الحيثيّة عقلية غير قابل للتخصيص، و ما ترى من الأمثلة الموهمة للخلاف فإنّما هو من جهة سبق الجهة التعليليّة إلى الذهن أو لأجل دخل خصوصيّة أخرى غير الجهة المذكورة في عروض الحكم، و إلّا فلو فرض كون الجهة تقييدية و كونها تمام الموضوع لا جزأه فلازم ذلك عقلا السراية من المحلّ الغير المتّصف إلى المتّصف.

و حاصل الكلام أنّ البائع فيما نحن فيه ذو عنوانين أحدهما: مالك ادّعاء، و الثاني: غير مالك حقيقة، و المفروض أنّ العنوان الثاني أيضا ملتفت إليه و حيث إنّ التمليك و التملّك قد تعلّقا بالمالك الواقعي النفس الأمري في نظر مدّعي المالكيّة لا بالمالك الادّعائي، و كون هذه الجهة تقييدية أن يرجعا إلى من اتّصف واقعا بالمالكية و تسلبا عن هذا الشخص فالتضمين الموجود في ضمن التمليك و التملّك أيضا ما يكون راجعا إليه، و أمّا التسليط الخارجي فهو أيضا معنون بكونه تسليط

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 444

المالك

الواقعي بحيث القصد لأنّه وفاء لذلك الإنشاء، و لكن المعنون و هو نفس التسليط الخارجي البحت لا يمكن صرفه إلى المالك الحقيقي فلم يتسلّط هو و لم يقع المال في جارحته فليس حاله حال الإنشاء و القصد الذهني حيث رجعا إلى المالك الحقيقي.

ثمّ إنّه مع تسليطه هذا الشخص و هذا الجسم عالم و ملتفت بأنّه لا استحقاق له و ليس المثمن المضمن به مالا له و لم يصر هذا العلم و الالتفات مانعا و رادعا له عن الدفع بل دفعه عمدا و اختيارا مع طيب النفس لعدم ضمان له بماله.

و أمّا الخامس: و حاصله أنّه و إن لم يكن مالا شرعا لكنّه لا مانع من كونه مالا بنظر العرف كما قلتم في البيع الفاسد أنّه مملّك عرفا و مجرّد هذا يكفي في التضمين إذ المناط صدق ذلك عرفا فيمكن الجواب بمنع ذلك فيما نحن فيه، فإنّ عين أموال الناس الموجودة في أيدي السراق و الظلمة لا نسلّم أنّها بنظر العرف أيضا معدود مالا لهم، كيف و الدهريّة و غير القائلين بالشرعية أيضا يسلبون المالكيّة عنهم و يقولون إنّ هذا مال الغير في يدهم لا أنّه مال لهم حصوله بالسرقة، و إن أطلقوا ذلك أحيانا كان على ضرب من المسامحة و التجوّز، هذا عند محفوظية عين المال كما هو محلّ البحث.

و أمّا بعد التقليب و التقلّب فيه فحيث إنّ الأعيان التي يحصلها الغاصب من أثمان تلك الأموال تكون منتقلة إليهم بالثمن الكلّي في ذمّتهم فلهذا يحكمون بأنّ هذه الدار و البستان و الفرس مالهم، غاية الأمر أنّهم مديونون لصاحبي الأموال، و أمّا عند غصبهم أوّلا نفس الدار و البستان و الفرس فلا نسلّم أنّهم

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 1، ص: 445

يحكمون بماليتها لهم و لو بقي في أيديهم مدّة مديدة، و هذا بخلاف البيع الفاسد بحكم الشرع لأجل الاختلال بشرط من الشروط المعتبرة فيه التي لا يدخل في أذهان العرف احتمال اشتراطها فإنّهم لا يرون الفرق بين بيع الصرف أو السلم المشتملين على القبض في المجلس و غيره في الحكم بالصحّة و كذلك بين الغرري و غيره. و بالجملة فيمكن دعوى الفرق بين المقامين بتحقّق التضمين الحقيقي العرفي في أحدهما و عدمه في الآخر.

هذا غاية تقريب مرام الشيخ الأجل- قدّس سرّه- و لكنّه مع ذلك فيه نظر، لأنّا لا نخلو إمّا أن نقول بأنّ المال عرفا و في نظر العامّة يعدّ مالا للغاصب و هو مالكا له حقيقة فلا إشكال أنّه حينئذ يتحقّق بالنسبة إلى شخص الغاصب المدفوع إليه الثمن تضمين بما هو مال له و لم يتحقّق في حقّه تسليط مجاني بل تحقّق منه الإقدام على الضمان بماله و من المشتري تضمينه بماله، و إمّا أن نقول بمقالة الشيخ من عدم الماليّة العرفيّة و تصحيح قصد البيع بالبناء، فحينئذ لو كان المدرك للضمان هو هاتين القاعدتين فقط، أعني: الإقدام على الضمان و التضمين تمّ الكلام، فإنّ الفرض أنّه غير مالك واقعا لا شرعا و لا عرفا و حقيقة التضمين و الإقدام إنّما تعلّقا بمال الغير لا بمال نفس المدفوع إليه، و لكن ليس الحال على هذا المنوال، بل المدارك هو قاعدتا على اليد و من أتلف ليس إلّا، و ليس الخارج من تحتهما إلّا صورة هتك المالك و إسقاطه المال عن الاحترام، و لا يصدق في مقامنا ذلك و إن كان يصدق عدم الإقدام و عدم التضمين، و ذلك لأنّه

كما قلتم في مقام أصل إنشاء البيع أنّ علم المنشئ بعدم المالكيّة غير مضر في تمشّي القصد الجدّي نحو حقيقة البيع الذي هو ملازم لحفظ حرمة المال و عدم بذله بلا عوض.

و بعبارة أخرى هو رأي نفسه بنظر المالكيّة و أنشأ نقل المثمن من كيسه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 446

بعوض الثمن و رآه المشتري أيضا بهذا النظر و أنشأ نقل الثمن إليه بعوض المثمن فهو في إنشائه هذا غير هاتك من باب روية المالكيّة، فكذا الحال بعينه في التسليم الخارجي فإنّه بلا شبهة يكون يقصد أنّه المالك و ينطبق عليه عنوان الوفاء فهو في هذا الفعل أيضا واجد لهذه الرؤية و بعد رؤيته بلون المالكية، و في هذا التقدير يرفع التسليط الخارجي فيكون التسليط مبنيا على التقدير الذي حصل الفراغ منه بحسب بيانه و نظره و لا يوجب مجرّد علمه بعدم وجود اللون واقعا لصيرورة هذا التسليط مطلقا غير مشروط كما لا يوجب في مقام الإنشاء.

و بالجملة التسليط و إن كان طرف اضافة هذا الشخص الخارجي و لا يصير المالك الحقيقي أيضا مسلّطا بتسلّطه و لكنّه مقيّد و مبنيّ على لحاظ المالكية نظير ابتناء الوجوب في الواجب المشروط على لحاظ الشرط، و إن كان الموضوع مقطوعا عدم تلبّسه بالشرط واقعا، و هذا يكفي في صدق أنّ المالك، أعني: المشتري، لم يصر بصدد هتك ماله جدّا، إذ كما قلتم إنّ القصد الجدي نحو البيع متمشّ منه جدّا مع هذا العلم و هو ينافي مع عنوان الهتك، كذلك عنوان الوفاء بذلك البيع أيضا يمكن قصده جدّا بهذا التسليط الخارجي و هو ينافي مع عنوان الهتك و إذ لا هتك فمقتضى عموم القاعدتين، أعني: اليد و

الإتلاف هو الضمان.

و من هنا تظهر الخدشة في كلامه- قدّس سرّه- في الحكم بعدم الضمان في مثل بيع الخمر و الخنزير و الحرّ فإنّه قد يكون ما أريد بيعه من مثل الديدان و الخنفساء ممّا لا ماليّة له عرفا أيضا و يعدّ بذل المال بحذائه عبثا و سفها، ففي مثل هذا لا يتمشّى البيع أيضا فيصدق الهتك فلا ضمان من هذه الجهة، كذلك في بعض أقسام الحرّ كما إذا كان غير داخل تحت قدرة البائع مثل بيع السلطان، و أمّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 447

في مثل ما ذكره من الخمر و الخنزير و بعض أقسام الحرّ و هو من كان تحت استيلاء البائع و إسارته مثل حال العبيد فقصد البيع متحقّق جدّا و معه لا يصدق الهتك بل ربّما يرونه من باب البذل في مقابل العوض الأحسن فكيف يمكن مع ذلك الحكم بعدم الضمان و لو قلنا بانحصار المدرك فيما ذكره من قاعدتي الإقدام و الضمان.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- استثنى من الحكم بعدم الضمان موارد، منها: ما إذا باع الفضولي غير بائع لنفسه بل عن المالك و دفع المشتري الثمن إليه لكونه واسطة في إيصاله إلى المالك.

أقول: هذا له صورتان:

الأولى: أن يكون البيع بترقّب الإجازة و دفع الثمن ليكون عنده أمانة فإن أجاز دفعه إليه و إلّا ردّه فحينئذ يده يد أماني و لا وجه لضمان عند التلف كما هو محل الكلام.

و الأخرى: أن لا يكون بترقّبها بل بالبناء على كون البائع وليّا على العقد و صاحب اختيار على المالك مع عدمه واقعا فحينئذ و إن كان مقتضى ما قرّرناه هو الضمان لكن مقتضى ما قرّره- قدّس سرّه- عدمه، إذ كما أنّ في

صورة البناء على المالكيّة مع العلم بعدمها حكم بالتسليط المجاني ففي صورة البناء على الولاية البنائية مع العلم بعدمها لا بدّ من الحكم بالأمانية.

و منها: ما لو اشتراط على البائع الرجوع بالثمن لو أخذ المالك العين، و الظاهر أنّه ليس وجه الحكم بالضمان حينئذ دليل الوفاء بالشرط فإنّ هذا الشرط بعد بطلان البيع شرط ابتدائي غير نافذ بل الوجه أنّه معه يخرج عن عنوان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 448

التسليط المجاني و الهتك. و بعبارة أخرى التسليط المجاني حاصل على تقدير عدم الأخذ و غير حاصل على تقديره.

المسألة في رجوع المشتري على البائع فيما اعتزم للمالك و هو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: زيادة القيمة على الثمن.

الثاني: ما دفعه في مقابل ما استوفاه.

و الثالث: ما دفعه من غير أن يصل إليه في مقابله شي ء مثل الخسارة الواردة من جهة قلع غرسه و خراب عمارته الحادثين في ملك المالك. و الكلام فيها إمّا مع العلم بالفضولية واضح و إمّا مع الجهل، ففي القسم الأخير فحكم شيخنا المرتضى بالرجوع مستظهرا نفي الخلاف فيه مستدلّا بقاعدة الغرور و قاعدة الضرر و ظاهر أو فحوى رواية جميل، و أمّا السكوت في روايتي زرارة و زريق فليستا و لا يكونا في مقام البيان، و ثانيا لا يعارض السكوت فيه مع الدليل مع احتمال كون السكوت لأجل عدم التمكّن من البائع في رواية زرارة، و لأجل العلم بعدم استحقاق البائع في رواية زريق هذا حاصل ما أفاده.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 449

[البحث الرابع] [قاعدتا الغرور و الضرر]

أقول: لا بدّ من التكلّم في قاعدة الغرور مأخذا و مفادا ثمّ قاعدة الضرر فنقول:

أمّا مأخذ القاعدة فأمران: الأوّل: النبوي: «المغرور يرجع إلى من غرّه» و هو نقل باللفظ

أو بالمعنى و ضعفه بواسطة الإرسال منجبر بعمل الأصحاب على وجه يعلم عدم ركونهم إلّا إليه.

و الثاني: الأخبار الخاصّة الواردة في باب التزويج و أنّ من زوّج امرأة ذات عيب فالمهر على الذي زوّجها و لم يبيّن عيبها، و أكثرها غير معلّل و في بعضها التعليل: «هو له لأنّه دلّسه» و في آخر: «كما غرّ الرجل و خدعه».

و أمّا المفاد فنتكلّم من جهتين:

الأولى: مقتضى عموم لفظ القاعدة الضمان في مثل ما إذا أجبر أحد أحدا أنّ في المكان الفلاني يهبون المال مجّانا فأنفق السامع في طريق المسافرة مبلغا كثيرا فلمّا وصل تبيّن الكذب، و كذا فيما إذا أخبر بمأمونيّة الطريق فانكشف خطريته و سرق السراق أموالا كثيرة من المغرور، إذ في الموردين لا نقض في صدق شي ء من ألفاظ القاعدة مع ظهور عدم التزامهم بالضمان إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة و الالتزام بالتخصيص يستلزم التخصيص بالأكثر و جابريّة العمل إن تعلّقت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 450

بالسند فالمضمون مأخوذ، و إن كان ما فهمناه غير ما فهموه، نعم قد يكون مع الفراغ عن السند بجبر الدلالة بالعمل و هو ما إذا كان بحيث لو عمل بظاهر اللفظ يلزم التخصيص بالأكثر كما في قاعدة القرعة فينكشف منه إنّه كان مع الكلام قرينة فحينئذ يحتاج إلى العمل لاستكشاف كون المورد مشمولا بتلك القرينة المخفيّة.

هذا و من الممكن أن يقال في معنى القاعدة ما لا يشمل تلك الموارد بأن يقال إنّ قوله يرجع قرينة على ما إذا كان أخذ المال على وجه الاستحقاق الشرعي ليكون طريق الرجوع إليه منسدّا شرعا فيرجع إلى الغارّ، و أمّا في مثل مثال السارق الذي ليس له استحقاق فهو شرعا محكوم

بالرجوع إلى نفس المتلف.

و يقال: إنّ الاخبار الخاصّة المعلّلة أمرها بهذا الحمل أسهل و ذلك لأنّ المعلّل فيها هو الحكم بأنّ المهر الذي أخذته المرأة على نحو الاستحقاق يرجع إلى الغارّ، و هذا الحكم يتعدّى من مورده و هو المهر و المرأة إلى غيره.

و أمّا نفس الحكم بما له من القيود محفوظ عند أسرائه إلى موضوع آخر لكن فيه عدم الجزم بالظهور في جانب القاعدة و لذا ترى صدقه في مثال السارق مع أنّه منقوض بما إذا أوقعه الغير في بيع المال مع عدم الصرفة له فيه و أمثاله ممّا لا يلتزمون غير عزيز، و خصوصية المورد في أخبار التزويج أيضا ملغاة بعد عموم الوارد، فيدور في الحكم بالضمان على العلّة و ما ذكر نظير ما إذا قيل في لا تشرب الخمر لأنّه مسكر يتعدى الحكم إلى خصوص المتّخذ من العنب أو المائع و إذن فالحقّ هو الاحتياج إلى العمل في الجابريّة لكلا المقامين، أعني: السند و الدلالة، و في مقامنا موجود.

الجهة الثانية: الظاهر أنّ معنى الغرور هو الخدعة كما يظهر من جعله رديفا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 451

لقوله: «و خدعه» في الخبر المتقدّم، و من الظاهر عدم صدق الخدعة في صورة علم المشتري بعدم المالكيّة، و كذا لا يصدق مع جهل البائع و اعتقاده أنّه المالك، و كذا لا يصدق لو علم البائع و جهل المشتري و علم البائع بعلم المشتري.

نعم لو فسّر الغرور بالإيقاع في الخطر يسهّل صورة جهل البائع لكن لا مطلقا بل يفصل بين ما إذا جاء المشتري إليه و أقدمه على البيع فلا يصدق و بين ما إذا جاء البائع إلى المشتري و أقدمه على الشراء فيصدق.

و أمّا

الكلام في قاعدة لا ضرر فلو كان دليل الضمان غير قطعي لوجب تخصيص القاعدة أيضا أو يلزم طرحه رأسا من حكومة القاعدة فبعد تخصيصها به فالحكم بعدم قرار الضمان و لزوم تداركه على الغارّ ضرر آخر و تخصيص آخر بلا مخصّص، و إن قيل قرار الضمان ضرر آخر في مقابل تزلزله قلنا فيدور الأمر بين الضررين.

و يمكن أن يقال في توجيه «1» الاستدلال أنّ معنى القاعدة أنّ الشارع أراد إعدام أصل الضرر في الدنيا كما في لا فسوق و لا جدال في الحج. و المراد بالضرر هو الإضرار بالغير و كما كان في مورد قاعدة الغرور يصدق أنّ البائع غارّ و المشتري مغرور كذلك في مكان الغارّ هنا يصدق أنّ البائع ضارّ و المشتري مضرور و لا يصدق العكس.

تقرير الكلام في قاعدتي الغرور و الضرر ببيان آخر:

أمّا إشكال تخصيص الأكثر في قاعدة الغرور فقد قلنا إنّ لها مدركين:

______________________________

(1) لا يخفى مغايرة هذا مع ما اختاره بعض الأساطين في أصوله فإنّه حمله على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فهو مع ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- متحد نتيجة و ما ذكرنا راجع إلى جعل النفي مصداقا للتحريم مثل لا جدال و لا فسوق في الحج فتدبر. منه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 452

النبوي و التعليل في أخبار التزويج.

أمّا النبوي فيمكن أن يقال بقرينة «يرجع» حيث إنّه ظاهر في أنّه دفع المال و لم يجئ في مكانه عوض فيرجع في ترميم هذا المكان الخالي إلى الغارّ، فلا يشمل ما إذا وجد العوض و جاء في مكانه ما يرمّمه بحسب الأسباب الشرعية، أعني: ما إذا حدث في البين سبب ضمان شرعي كما في مثال السارق، فإنّه محكوم شرعا

بقاعدة اليد و الإتلاف بالخروج عن عهدة عوض المال و صار مشغول الذمّة بالعوض فكان المسروق منه قد عاد إليه ما ذهب منه فلا رجوع له هنا إلى غارّه، و أمّا فيما إذا كان الأخذ للمال مستحقا شرعيّا كما في أخذ المالك في المقام فلا ضمان لا محالة، فيكون المال قد ذهب بلا مجيئ عوضه في مكانه، فهنا يصدق أنّه يرجع في هذا الضرر الخالي محلّه إلى الغارّ، أمّا عدم صدق الرجوع في الفرض الأوّل فلعدم حصول التلف في الحقيقة، و أما صدقه في الفرض الثاني فلحصوله مع كونه مستندا إلى الغارّ، فكما نشأ منه يعود إليه.

فإن قلت: أمّا تلف العين الشخصية، أعني: ما فوّته المشتري من أوصاف المبيع أو أجزائه، فالمباشر فيها هو المشتري و هو الأقوى في نسبة الإتلاف من السبب الذي هو البائع، و أمّا تلف ما يشتغل ذمّة المشتري به من عوض هذا الجزء و الوصف فقد جاء من قبل حكم الشارع بالضمان على موضوع الإتلاف الذي باشره المشتري فلا ربط للبائع في حدوث هذا الضمان.

قلت: بعد ما يكون دواعي صرف المال مجّانا حاصلا في نفس المشتري و حكم الشارع أيضا كبروي منتظر لوجود الصغرى. فالحاصل المعلول مستند إلى الجزء الأخير، فإنّ الصارف للمشتري عنوان ماليّة الغير، فإذا رفع البائع هذا الصارف بواسطة إظهاره أنّه مال نفسه فقد أوجد هو هذا الضمان و إن كان ذات

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 453

العمل الخارجي الذي هو موضوع الضمان يسند إلى المشتري لكنّه غافل عن السببية و البائع ملتفت إليها.

و أمّا التعليل فنحن و إن خالفنا السيد المرتضى- قدّس سرّه الشريف- في قوله بعدم جواز التعدي في القياس المنصوص العلّة- لاحتمال مدخليّة

خصوصيّة المورد، و وجه عدم القبول أنّ ظاهر اللفظ في مثل «الخمر حرام لأنّه مسكر» إلغاء خصوصيّة المورد و كون الضمير في «لأنّه» لصرف تطبيق المسكر و حمله عليه.

و بالجملة الدفع مستند إلى ظهور اللفظ و بهذا البيان أيضا نتعدّى في التعليل الوارد في باب عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك في الحدث بقوله: «و لا ينقض اليقين بالشك أبدا» فيرفع احتمال عهدية اللازم في اليقين و الشك بواسطة ظهور الكلام و نعدّي الحكم إلى كلّ يقين و شكّ في كلّ باب من أبواب الفقه- و لكن هذا الظهور يمكن الخدشة فيه في المقام، إذ مع ملاحظة احتمال أن يكون الحكم بالرجوع إلى الغارّ و المدلّس منوطا بكون المال المدفوع بغروره و تدليسه مدفوعا على وجه الاستحقاق الشرعي الغير الموجب لضمان العوض. و بعبارة أخرى على وجه المجانيّة لا يبقى وثوق و ظهور تطمئن به النفس في العموم. نعم خصوص المهر و الزوج و الزوجة يمكن رفع احتمال خصوصيّتها بعموم التعليل.

و أمّا الكلام في القاعدة من حيث مدخليّة علم الغارّ و جهل المغرور فمضافا إلى إمكان دعوى مأخوذية ذلك في مادّة لفظ الغرور لأنّه مرادف للخدعة لغة كما أنّ العلم دخيل في مادة الظلم و التعدّي يمكن القول في بعض المواضع مع عموم المادة بتضييق النسبة فلاحظ مادّة الإتلاف.

و أمّا الكلام في قاعدة لا ضرر و عدّه دليلا مستقلّا للمقام و هو رجوع المشتري بعد اعترافه للمالك ما لم يصل إليه نفع في مقابله أو إنفاقه النفقة كذلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 454

إلى البائع فمحصّل الكلام فيه أنّه إمّا أن يحمل الكلام على ما حمله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من نفي الحكم الضرري و

إمّا أن يحمل على نفي أصل الضرر و نقضه، مثل لا جدال و لا فسوق في الحج.

فعلى الأوّل قد ورد و جعل الحكم الضرري في المقام بواسطة حكم الشارع بضمان المشتري لما أتلفه من مال المالك أو حكم الشارع بأخذ المالك ماله من يد المشتري الملازم لصيرورة نفقاته ضررا عليه و ذاهبة من كيسه، و بعد هذا التخصيص في القاعدة يبقى هنا مطلبان:

أحدهما: أن يقال: حكم الشارع بتغريم المشتري إن كان على وجه الإطلاق يكون ضرريّا و إن كان على وجه التقييد بالضمان للبائع لا يكون ضرريّا. و بعبارة أخرى الحكم بالتغريم على وجه لا يضمن البائع ضرري و على وجه يكون البائع ضامنا ليس بضرري، فمقتضى القاعدة عدم جعل القسم الأوّل فيتعيّن في الثاني.

و فيه: أنّ التقييد انّ لوحظ في العمل، يعني: يجب الدفع إن دفع البائع، كما في الوفاء المعاملي حيث إنّ الدفع يكون مشروطا بالدفع فلو امتنع أحدهما فلا وجوب على الآخر كان مقيّدا و موجبا لعدم حدوث الضرر أصلا، و أمّا إن لوحظ في الحكم، يعني: أنّ الشارع قد علّق إيجابه على وجه الإطلاق على دفع المشتري سواء دفع البائع أم لا، غاية الأمر أنّه جعل هنا إيجابا آخر متعلّقا بعمل البائع و هذا لا يوجب عدم ضررية ذلك الحكم، و ليس هنا من قبيل أفراد متعدّدة علم بخروجه البعض و شكّ في الباقي، حيث يقتصر على المتيقّن و يرجع في المشكوك إلى عموم العام فإنّ الحكم بإيجاب الدفع مطلقا في مقام العمل على المشتري فرد واحد من الحكم الضرري و ليس استمراره إلّا تخصيصا واحدا و خروجا واحدا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 455

و ثانيهما: أنّ القاعدة تشمل العدميات فعدم

الحكم بضمان البائع ضرري و لا يعارض بكونه ضررا على البائع لأنّه وارد في مقام الامتنان بقرينة قوله: «في الإسلام» و كما أنّ القصاص منفعة بالنسبة إلى القائل أيضا لأنّه حافظ للحياة و مانع عن القتل، كذلك الحكم بضمان البائع هنا و إن كان ضررا عليه لكنّه ليس على خلاف المنّة بل جعله امتنان.

و فيه: أنّه بمجرّد كونه موافقا للامتنان لا يوجب جعله فإنّ القاعدة متصدّ لجعل ما لولاه حدث الضرر، و هنا لو لم يجعل ضمان البائع لم يصل النفع إلى المشتري لا أنّه يصل الضرر إليه فإنّ الضرر الواصل إليه من قبل الحكم الضماني غير مرفوع بالفرض و لا منقلب عن عنوان كونه ضرريّا كما تقدم.

و على الثاني، أعني: حمل الكلام على نفي موضوع الضرر فحينئذ حكم الشارع بالضمان في مورد الإتلاف كشف عن السبب الواقعي أو جعله مثل تكوين النار الحارّة ثم نهى عباده عن إيقاع بعضهم بعضا، فهذا الذي أحدث هو سببيته للضمان. و بالجملة فموضوع الضرر حينئذ لم يصر غير مبغوض للشرع فلا تخصيص في القاعدة و إنّما عصيت بواسطة إقدام البائع على إيصال هذا الضرر ثمّ مبغوضات الشارع بل كل ناه على قسمين.

قسم يكون بعد وقوعه لازما غير ممكن التدارك، و ترميم ما فسد من ناحيته محال كما في شرب الخمر و القتل و نحو ذلك فلا يمكن منع وجود هذا المبغوض الواقعي في الآن الثاني بل حزنه في غير الشارع دائم و جرحه في غيره أيضا أبدا غير ملتئم و مندمل.

و قسم يكون بعد الوقوع قابلًا لجعله كالعدم، و رفع تفويت الغرض الحاصل من ناحيته في الآن الثاني ممكن، و بعبارة أخرى و إن كان وجوده الحدوثي غير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 456

ممكن الزوال لكن وجوده البقائي قابل له و حينئذ فلا حاجة لنا إلى دليل آخر لإثبات وجوب هذا الأمر في الآن الثاني، بل يكفينا الدليل على مبغوضيّة أصل العمل الأوّل، فإنّ لازم مبغوضيّته و كون هذا تداركا عند العرف له وجوب إيجاب الشارع له بحكم العقل، و حينئذ نقول: المقام من هذا القبيل فإنّ من أضرّ أحدا ثمّ في الآن الثاني دفع إليه ما يجبر ضرره فقد تصدّى لإعدام الإضرار. و بعبارة أخرى ليس في البين بعد ذلك فوت غرض فالدليل الدال على متعرضيّة الإضرار واف فإثبات وجوب هذا الدفع عقلا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: عين هذا يجري على التقريب الأوّل أيضا فإنّ إيجاب الشرع مع قطع النظر عن تضمين البائع إضرار منه، و بعده يكون الإضرار من ناحية الحكم الأوّل منجبرا. و بالجملة: إيجاب الشارع هناك بمنزلة عمل البائع هنا، فكما أنّ العمل الثاني هنا جابر فالحكم الثاني هناك جابر فتأمّل.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى بعد التمسّك بقاعدة الغرور مثّل المقام و شبّهه بشاهد الزور، و إدراجه تحت القاعدة مبنيّ على الحكم بضمان الحاكم للمحكوم عليه ثمّ رجوعه إلى الشاهد فإنّ المغرور هناك إنّما هو الحاكم دون المحكوم عليه، و أمّا على ما هو الواقع من عدم ضمان الحاكم فالذي تلف منه المال غير مغرور و الذي هو مغرور لم يتلف منه المال، فهنا يحتاج إلى استنباط كليّة أخرى منطبقة على ضمان شاهد الزور و هو الحكم بضمان كلّ من حدث من ناحية الضرر على الغير و أسند إليه ذلك و لو على نحو التسبيب مع عدم وجود مباشر محكوم بالضمان في البين فهو ضامن، و إنّما قلنا إنّ الحاكم

غير ضامن لأنّه يأخذ المال بحكم الشرع و هو مضطرّ فيه فالضرر في الحقيقة مستند إلى حكم الشارع فهو خارج عن عنوان من أتلف لأقوائية السبب هنا من المباشر.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 457

و محصّل ما ذكرنا أنّه بعد تسليم كون البائع مضرّا هل يقتضي قاعدة نفي الضرر لزوم التدارك عليه أو لا؟

فنقول: إن بنينا على حمل القاعدة على تحريم الإضرار بالغير فمقتضاه على ما مرّ ذلك لما قرّرنا من أنّ كلّما صار شي ء مبغوضا للشارع فلا محالة يسخط بوجوده، فإذا فرض شي ء يرفع سخطه فيحكم العقل بعين الملاك في مبغوضيّته بوجوب هذا الشي ء من غير فرق بين صورة علم الفاعل و جهله فإنّه إذا كان مهتوكيّة شخص مبغوضا للشارع و وقع من شخص ذلك معذورا فبعد التفاته لازم مبغوضيّة هذا الهتك الواقع و كون أمر جابرا له و مخرجا عن المهتوكية وجوب ذلك عقلا لاتّحاد الملاك.

فإن قلت: وجه عدم قبول الملازمة العقلية بين حكم العقل و الشرع و هو إمكان كون نفس الجعل ذا مفسدة جار بعينه هنا فإنّ الملاك في نفس عمل التدارك و إن كان محرزا و لكن يمكن كون جعل الوجوب ذا مفسدة و إذا جاء هذا الاحتمال يصير التكليف الفعلي مشكوكا فيدفع بأصل البراءة.

قلت: هذا ممّا يستقلّ بلزوم المتابعة فيه العقل فإنّه من قبيل ما إذا رأى العبد ابن المولى في البئر و كان المولى نائما و سامح في إخراجه معتذرا بأنّه لعلّ المولى لو كان ملتفتا ما كان المصلحة في أمره فلا إشكال في أنّه يعدّ هذا الاعتذار منه مستهجنا لا أن ينسبوه إلى الكذب و أنّك ما كنت تحتمل ذلك و إلّا كنت معذورا، و بالجملة فمحرزيّة

الملاك علّة تامّة عند العقل لتمامية الحجّة و الشك في المانع عن البعث الفعلي لا يحسب عذرا مع معلوميّة أصل المحبوبيّة، و لا ينافي هذا مع منع الملازمة فإنّ المقام مقام تماميّة الحجيّة عند العقل و هو غير مقام القطع بتحقّق الإنشاء الفعلي من المولى فإنّه مشكوك، لكن لازم هذا الكلام الحكم بالضمان في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 458

مسألة الإخبار كاذبا ببذل المال في المكان الفلاني فذهب و تحمّل المخارج الكثيرة فإنّ الإضرار صادق عرفا، و القول بأنّ عدم وصول المال عدم النفع و مخارج الطريق كلّها ممّا وصل عوضه إليه مثل أجرة ركوب الدابّة و نحوها كما ترى، فيلزم على هذا البيان الحكم بضمان المخبر هذا على ما قلنا.

و أمّا على ما قاله شيخنا المرتضى من نفي الحكم الضرري. فالظاهر منه- قدّس سرّه- الفراغ عن صدق الضرر في المقام و إنّما نتكلّم فيه في المقام الآتي، أعني: ما يغرمه في مقابل النفع الواصل إليه، فهل على هذا المبنى كيف يكون مقتضى القاعدة تدارك البائع، فنقول: يمكن تقريبه بأن يقال: إنّ هنا حكمين تكليفيّ و وضعي و القاعدة شاملة لهما و لهذا يستندون إليها في البيع الغبني لنفي اللزوم الذي هو الوضع.

أمّا الحكم الوضعي و هو مديونيّة المشتري لعوض ما استوفاه و مهدوريّة ما ذهب منه بلا استيفاء شي ء في قباله، فقد قلنا إنّ القاعدة قد خصّصت به و لكن هنا حكما تكليفيا و هو تجويزه الشارع و ترخيصه للغارّ أن يلقى المغرور في هذا الضرر، فإنّه ضرري فإنّ الدواعي بالنسبة إلى إضرار الغير متوفّرة فيلزم من عدم منع الشارع وقوعه في الخارج بخلاف إضرار النفس فإنّ الدواعي مصروفة و لا يحتاج إلى

المنع الشرعي، و بالجملة لا إشكال في كون الأوّل حكما ضرريا فلا بدّ من نفيه بقاعدة لا ضرر و إذ انتفت الإباحة مع القطع بعدم غير الحرمة تثبت الحرمة.

فإن قلت: نمنع الملازمة، و لهذا في الضد المزاحم بالأهم لا يقولون بالحرمة و لا بالوجوب و لا بالإباحة بل يبقى بلا حكم فما المانع من صيرورته في المقام بلا حكم، لا يقال: نفس عدم الحكم ضرري إذ يكفي دي عدم ارتداع النفوس عدم تحريم الشرع، لأنّا نقول: الكلام إنّما هو على تقدير عدم شمول القاعدة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 459

للعدميّات.

قلت: لا شبهة في عدم خلوّ الأشياء بعناوينها الأوّليّة عن جميع الأحكام الخمسة و لا ينافي ذلك خلوّها بواسطة بعض العناوين الطارئة و مقامنا من الأوّل فإنّ نفس الإضرار بالغير نتكلّم فيه و نقول: لو كان حكم الشارع فيه الإباحة يلزم الضرر فيتعيّن أن يكون التحريم، و إذا ثبت التحريم يرجع الأمر إلى الكبرى العقلية المتقدّمة و أنّه متى كان شي ء مبغوضا و كان له تدارك فالعقل حاكم بنفس مبغوضيّة المتدارك بالفتح لوجوب المتدارك بالكسر من غير فرق بين حالتي العلم و الجهل، و بعبارة أخرى بين العصيان و المعذوريّة.

فتحصّل من مجموع ما ذكرنا إلى هنا التكلّم في ثلاث قواعد كليّة إحداها:

قاعدة الغرور، و الثانية: قاعدة لا ضرر، و الثالثة: قاعدة السببية و التسبيب، كما في شاهدي الزور فلا بدّ حينئذ من التكلّم في تطبيقها على المقام.

أمّا الأولى: فقد عرفت أنّها مختصّة بقضيّة مرادفة الغرور مع الخدعة بحال علم الغارّ فلا ينطبق في مقامنا إلّا على صورة علم البائع و مع جهله غير شاملة للمقام.

أمّا الثانية: فقد يناقش في صدق الإضرار على البائع الغارّ و

ذلك لأنّ العقد أمر قائم بالطرفين نسبته إليهما على حدّ سواء فلا خصوصيّة و امتياز للبائع حتى يوجب ذلك إسناد الضرر المترتب على العقد إليه.

و بالجملة الذي يأتي من ناحيته الضرر إنّما هو العقد و هو متساوي النسبة إلى الموجب و القابل و ليس القبول متفرّعا على الإيجاب حتّى يصير الإيجاب علّة العلّة، بل هما في عرض واحد و لهذا يصحّ تقديم الإيجاب و لا فرق بين علم البائع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 460

و جهله و كذا المشتري.

و لكن يمكن أن يصحّح الإسناد بواسطة تفرّع قبض المشتري على إقباض البائع فإنّهما من مقولة الفعل و الانفعال و الثاني مترتّب على الأوّل و في طوله فيكون إسناد الضرر بالآخرة إلى فعل البائع، نعم لا يتمّ هذا فيما إذا لم يترتب قبض المشتري على إقباض البائع أو إذنه بل قبض هو بدون إذنه، لا يقال: إنّ القبض مستند إلى اختيار المشتري فإنّه يقال: نعم لكن على معنى أنّ لاختياره أيضا دخلا في وجود المال تحت يده و لا ينافي ذلك مع كون الإقباض سببا فهو كما إذا مكّن المضروب نفسه لوقوع الضرب عليه فإنّ السبب و الفاعل ليس إلّا الموجد للضرب و هذا التمكين شرط تأثيره.

و بالجملة: المعدّ و الشرط و عدم المانع كلّ ذلك ذو دخل و لكنّ السبب أمر غيرها هذا كلّه هو الكلام حسب القواعد.

و أمّا بحسب الأخبار الخاصّة فرواية جميل دالة إمّا منطوقا و إمّا بالأولويّة و لكن روايتا زرارة و زريق خاليتان عن هذا الحكم، فأجاب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

أوّلا: بأنّهما في مقام بيان حكم المشتري مع المالك و ليستا بمقام بيان حكمه مع البائع.

و ثانيا: أنّ السكوت في مقام

البيان لا يعارض الدليل، و في الوجه الثاني نظر، فإنّ السكوت في الدليل الخاص مع كونه في مقام البيان كما هو الفرض يوجب انعقاد ظهور الخاص فيقدّم على القواعد الثلاث المتقدّمة لأنّها عمومات و هاتان الروايتان تخصصانها.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 461

نعم لا يجري هذا بالنسبة إلى رواية جميل لأنّها أيضا خاصّة و هي ناصّة في الحكم فلا يعارضها ما هو ظاهر في الخلاف، و حينئذ فلا بدّ من فهم أنّ سنخ ما تعرضته رواية جميل ماذا؟ فإن كانت حريّة الولد ممّا يعدّ نفعا عائدا إلى الوالد كانت شاهدة لما نحن فيه بطريق أولى، و إلّا فلا بدّ من التفصيل بين القسمين فالغرامة بلا وصول النفع حكمه الرجوع و الغرامة معه حكمها عدم الرجوع بقضيّة تينك الروايتين بل مقتضى رواية زريق تثليث الأقسام، أحدها: الغرامات التي يجبر بها ضرر المالك و هذا مقسّم إلى قسمين: ما كان بإزائه نفع و ما ليس كذلك، فهذه تجري فيها التفصيل المذكور بين قسميه على تقدير و الحكم بالجروع مطلقا على تقدير آخر.

و القسم الأخير ما خرج من كيس المشتري في إصلاح المبيع و صرف النوائب عنه الذي يصير بعد عود المبيع إلى المالك خسرانا على المشتري و نفعا للمالك فهذا مقتضى صريح رواية زريق الرجوع فيه إلى المالك و معه لا معنى للرجوع إلى البائع، و شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- مع تعميمه القسم الثالث من الأقسام الثلاثة التي ذكرها في كلامه لما شمل هذا القسم.

و ما ليس في مقابله نفع بل بعض أمثلته صريح في هذا القسم و هو النفقة و ما صرفه في العمارة استشهد بالأدلة المتقدّمة و ذكر أنّ رواية زريق لا تنافيها لأنّها ساكتة.

فيرد

عليه- قدّس سرّه- أنّ سكوتها في القسم الذي يتدارك ضرر المالك صحيح، و أمّا في القسم الذي ذهب من كيس المشتري و دخل نفعه في كيس المالك فصريح الرواية الرجوع بها إلى المالك، و لا يمكن معه الرجوع إلى البائع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 462

و الفقرة الدالة على ذلك،

منها:

قوله في آخرها: «يجب على صاحب الأرض أن يرد عليه» (يعني: على المشتري) كلّما خرج منه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة و دفع النوائب عنها كلّ ذلك مردود إليه. إلخ

، و كذلك حكمه في زرع زرعه المشتري و غرس غرسه و بناء بناه بأنّ له إمّا قيمة الزرع و إمّا أن يصبر المالك إلى وقت الحصاد، فإن لم يفعل كان ذلك له و ردّ القيمة و كان الزرع له و كذلك له إمّا قيمة الغرس و البناء، أو يكون ذلك المحدث بعينه يقلعه و يأخذه حيث ما حكم- عليه السلام- بأنّ للمالك قلع الزرع و الغرس و هدم البناء و ذلك لأنّ في كلّ ذلك أربعة أنحاء:

الأوّل: التراضي على النقل إلى المالك بالقيمة.

و الثاني: التراضي على إعطاء كري الأرض إلى وقت الحصاد في الزرع و إلى ما توافقا عليه من الزمان في الغرس و البناء.

و الثالث: اختيار المشتري قلع الزرع و الغرس و هدم البناء.

و الرابع: اختيار المالك تخليص أرضه عن ملك الغير و الرواية متعرّضة في الزرع للقسمين الأوّلين و في الغرس و البناء للأوّل و الثالث، و الظاهر أنّ عدم تعرّضها للثالث في الزرع، أعني: اختيار الزراع قلع الزرع، و عدم تعرّضها للثاني في الغرس و البناء من باب مصروفيّة الدواعي النوعية عن ذلك لا

أنّه ليس له ذلك شرعا و لا أقلّ من احتمال ذلك، المسقط للاستدلال، فيبقى مقتضى قواعد السلطنة و غيرها في ذلك على حالها.

و ليس هكذا حال سكوت الرواية عن القسم الرابع في الجميع فإنّ الظاهر أنّه لأجل عدم القدرة شرعا و أنّه لا يعامل مع من كان عمله في ملك الغير على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 463

طبق ظاهر الشرع معاملة الغاصب فلا يجبر على قلع ما غرسه و زرعه و هدم ما بناه و إن كان الغاصب يؤخذ بذلك لأنّه «لا حق لعرق ظالم».

و بالجملة يعلم منها أنّ الشارع راعى جانب المشتري سواء في ما أحدثه من قبيل الغرس و نحوه، أم فيما أعطاه من كيسه في مصلحة المال و دفع المضار عنه، أم في عمل عمل فيه كان له ماليّة عرفا، فجميع ذلك لم يحكم عليه بالمهدوريّة بل أبقاه على صفة الاحترام، فإنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه و يؤيّد هذا ما تسالموا عليه من غير نصّ خاص في البين في باب المفلّس عند رجوع الغريم إلى عين ماله لو وجده حيث حكموا بأنّه لو أحدث فيه المفلّس قبل الحجر شيئا كان له ماليّة عرفا رجع بقيمته إلى ذلك الغريم.

و دعوى الفرق بينه و بين المقام بكون الأحداث هناك في ملك نفس المحدث و هنا في ملك غيره واقعا، مدفوعة بأنّ ملك الغير بعد المحكومية ظاهرا بملكيّته للنفس بالنهي الواقعي الغير المنجّز لا يؤثّر في رفع الاحترام عن مال المسلم و عمله.

نعم عند تنجّز هذا النهي و معلوميّة ملكيّة الغير كما في الغاصب فالشارع ألغى احترام العمل و جعله مهتوكا و بلا أجر، و إلّا فبحسب القاعدة النهي المعلوم أيضا لا ينافي

مع بقاء احترام العمل كما في الوجوب كذلك من غير فرق بين ما إذا أحدث العمل هيئة في المال صارت سببا لزيادة المالية في العين كنسج الغزل، و ما إذا لم يحدث ذلك و إن فرض ثبوت الإجماع على خلافه في الثاني حيث لا يلتزمون في مثل ما إذا سقي أرض الغير بمائه بخيال أنّه أرضه بضمان صاحب الأرض لقيمة الماء و عمل السقي خصّصناه بصورة حدوث الهيئة مثل حفر القنوات

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 464

و تشقيق الأرض للزراعة الذي يسمّى في الفارسية (بشيار و شخم).

ثمّ إنّ رواية زريق سالمة في هذه الغرامات عن معارضة رواية جميل لما عرفت من اختصاصها إمّا بما في مقابلة نفع فيثبت فيما ليس بقبالة نفع بالأولويّة أو بالقسم الثاني، و على كلّ حال تبقى المخارج المصروفة لأجل انتفاع المال أو صرف العوارض عنه خارجة عنها، و كذلك خارجة عن القواعد المتقدمة إذ قد عرفت عدم شمولها لما كان هنا ضامن غير الغارّ فإنّه لا يصدق الغرور و الضرر و السببية معه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الحق مع صاحب الحدائق حيث ذهب إلى عدم سكوت الرواية عن حكم المشتري مع غير المالك فإنّ «غيره» في مورد الرواية عبارة عن القاضي و الشاهد و الورثة فإنّ في إيراد الخسارات الواردة على مشتري المعيشة التي يغرمها للمالك لكلّ من المذكورين دخلا بنحو السببية فيصدق على كلّ منهم أنّه السبب لإتلاف هذا المال المغروم على الغارم و هو المضرّ و هو الغارّ، غاية الأمر اختصاص الأخير بصورة علمهم و لكنّ القاضي و الشاهد لا يغرمان ما يلزم بواسطة عملهما بما هو تكليفهما شرعا، فإنّ القاضي عند تحقّق موازين القضاء عنده يجب عليه

القضاء، و كذا الشاهد إذا تحمّل الشهادة يجب عليه إقامة ما عنده و لا ينافيه أخبار ضمان الشاهد لاختصاصها بمورد اشتباه الشاهد أو تعمّده الكذب، مضافا إلى إمكان عدم استناد الضرر في مورد الرواية إلى الشاهد.

و على كلّ حال ينحصر من يقبل لقرار الضمان عليه في الورثة و قد تعرضت الرواية للرجوع عليهم بالثمن فيعلم أنّه كان بمقام بيان حكم المشتري معهم، و مع ذلك سكت عن تغريمهم هذه الخسارات فيكون شاهدا على العدم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 465

ثمّ إنّ هنا مطلبا ينبغي التنبيه عليه و هو أنّهم- رضوان اللّٰه عليهم- كثيرا ما في باب الإتلاف يبحثون عن أقوائية السبب و المباشر ثمّ يرتّبون حكم الضمان على الأقوى منهما و يحكمون ببراءة الآخر، و منه يعلم مغايرة ذلك الباب مع ما نحن بصدده من إثبات الضمان على المشتري و إثبات قراره على البائع.

و بالجملة فيفرقون بين ما إذا كانت الواسطة فاعلا غير ذي شعور مثل ما إذا أجّج نارا في محلّ هبوب الريح فوصل إلى بيدر الغير فأحرقه، أو ألقى اللحم إلى السبع فأكله، أو أعطى الطعام للصبي فأكله، أو وضع الإناء بمحل سقط جنب النائم عليه فكسره مع التفاته إلى ذلك، فحكموا في مثل ذلك بضمان السبب دون المباشر و بين ما إذا كان المباشر أقوى أو لم يكن في البين سبب كما في أكل نفس الصبي بدون عطاء أحد إيّاه أو سقوط جنب النائم بدون وضع أحد، فحكموا فيها بضمان المباشر و مثّلوا للقسم الأوّل بما إذا أكره أحد أحدا على الإتلاف فأتلفه فحكموا بضمان المكره- بالكسر- دون المكره- بالفتح.

هذا و يشكل ما ذكروه فإنّه إذا كان الحكم دائرا مدار صدق المتلف

فلا شبهة في صدق هذا العنوان في حق المكره إذ لو اعتبر في صدقه اختيار الفاعل فلا بدّ من القول بعدم صدقه في النائم و الغافل و الساهي و لا يلتزمون به بل إسناد الإتلاف إلى المكره لكونه متصدّيا بمباشرة جوارحه يكون بالأولى من إسناده إلى مكرهه فإنّه إنّما يصير متلفا بالتوسّط و الأوّل بلا توسّط، فلو كنّا نحن و قاعدة من أتلف لا بدّ من الحكم بتخيير المالك في الرجوع إلى أيّ منهما شاء.

فإن قلت: نعم و لكن حديث الرفع بالنسبة إلى المكره- بالفتح- حاكم لشموله للوضعيات لا يقال: كيف المقال في النائم و الساهي و الناسي حيث لا يقولون بعدم ضمانهم بواسطة الحديث.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 466

لأنّا نقول: يمكن الفرق بأنّ رفع الضمان عن المذكورين و إن كان فيه المنّة بالنسبة إليهم و لكنّه خلاف الامتنان على صاحب المال و هذا بخلاف الحال في المكره فإنّ رفعه موافق الامتنان بالنسبة إلى المكره و لا يخالفه بالنسبة إلى المالك لثبوت الضمان على المكره بالكسر، و بالجملة فحال مقامنا حال بيع المكره و بيع المضطرّ حيث إنّ وجه الفرق فيهما مع شمول الحديث لهما كون الرفع في الأوّل على وفق المنّة و في الثاني على خلافه.

قلت: نعم ما ذكرت تامّ لولا الإشكال في شمول الحديث للآثار الوضعية، فإنّه قابل للإنكار، فإنّ الظاهر من الحديث في حدّ نفسه الاختصاص بالتكليفيّات لظهور الرفع في رفع العقوبة.

و ما تمسّك به للتعميم من استشهاد الإمام في بعض الأخبار بالحديث لنفي أثر الحلف بالطلاق و العتاق عند الإكراه عليه. فيه: عدم ظهور الرواية في كون السؤال راجعا إلى الأثر الوضعي، و أنّ العتاق و الطلاق المذكورين يقعان أوّلا،

بل من الممكن كون نفس اليمين بالطلاق و العتاق من المحرّمات النفسيّة، فسأل السائل عن صورة وقوعه عن إكراه، و قوله: أ يلزمه ذلك؟ يعني أ يلزمه عقوبة ما فعله و ارتكبه بواسطة إكراه الظالم و وقع في العصيان أو أنّه غير عاص، و مع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للاستدلال.

إلّا أن نمنع ذلك بكونه خلاف الظاهر من عبارة السؤال و أنّ الظاهر من السؤال بمثل هذه العبارة عقيب ذكر الاستكراه على الحلف بالطلاق و العتاق هو الرجوع إلى جهة الوضع.

هذا و يمكن أن يختار مسلك آخر لتوجيه كلام المشهور في الحكم بعدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 467

ضمان المكره دون المكره. و هو: أنّ ما اشتهر من أنّ «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ليس عبارة رواية و إنّما هو معقد الإجماع، و نحن إذا راجعنا المجمعين رأيناهم يبحثون في تعيين أنّ المتلف من ذا؟ مع أنّه لا شبهة في صدقه لغة و عرفا على كلّ من المباشر و السبب، غاية الأمر أنّ في موارد كون أحدهما غير ذي شعور لا يصدق كلمة «من» الموضوعة لذوي العقول، و أمّا صدق الإتلاف فلا فرق بينهما فيه في جميع الموارد، فإذا رأينا ذلك نفهم أنّ مراد قائلي هذه العبارة أخصّ ممّا هو ظاهره، و أنّه ما يستفاد من كلماتهم في موارد عديدة من أنّه كلّما كان في البين سبب و مباشر فلا بدّ في الحكم بضمان المباشر من كونه بحيث يقبل لتوجيه النهي بترك الإتلاف و المباشرة نحوه، فلو لم يقبل التكليف أصلا إمّا لعدم الشعور كما في الريح و الشمس و إمّا لأنّ اختياره كالعدم كما في الصبيّ و النائم و المكره فلا

ضمان حينئذ على المباشر، و إن كان مع عدم السبب لم يكن لهذا القيد دخل في الحكم، و لعلّ من هذا القبيل الحكم بعدم ضمان الحاكم فإنّه مكلّف بالقضاء عند تحقّق موازينه بنظره، فلا يكلّف بعدم الحكم و القضاء.

فإن قلت: فما تقول في الشاهد و المغرور حيث هما ضامنان مع عدم قابليتهما للنهي عن التصرّف و الشهادة؟

قلت: و إن كانا غير قابلين ظاهرا و لكنّهما ممنوعا واقعا و لا يجري هذا في الحاكم فإنّه في الواقع و الظاهر مكلّف بالحكم لا أنّ خطابه في الظاهر أحكم و في الواقع لا تحكم. و الحاصل المراد بأقوائية المباشر من السبب كونه قابلًا للتكليف و بأقوائية السبب كونه غير قابل له.

[البحث الخامس في قاعدة ضمان اليد]

بقي هنا شي ء و هو أنّ ضمان اليد مع هذا لا يرتفع عن المكره فنقول

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 468

للمسألة صور:

الاولى: أن يكون للمكره يد سابقة موجبة للضمان.

و الثانية: أن يكون يده مستندة إلى المكره- بالكسر- و لكن كان مختارا في الأخذ و مكرها في الإتلاف.

و الثالثة: هذه مع كونه مكرها في الأمر الأوّل دون الثاني.

و الرابعة: هذه مع الإكراه في الأمرين.

ففي الصورة الأولى: قد أتلف المكره- بالكسر- على المكره لأنّه أوقعه في تنجّز ضمان يده لأنّه كان معلّقا على التلف و هو أوجد المعلّق عليه بسبب إكراهه فيستند ذهاب البدل من كيس المكره- بالفتح- إليه فحينئذ يجوز له الرجوع إلى المكره- بالكسر- لو رجع إليه المالك فيكون القرار على المكره مع جواز الرجوع ابتداء كما تقدّم.

كما أنّ في الصورة الثانية أيضا مقتضى القاعدة قرار الضمان على المكره فإنّ المكره- بالفتح- وقع بواسطة يده في ضمان المالك و المكره بالكسر على ما حقّقه شيخنا المرتضى.

ثمّ

المكره- بالكسر- هو السبب لتنجّز هذين الضمانين، فلا بدّ أن لا يرجع هو إلى المكره- بالفتح-، لأنّه أتلف على نفسه، و إن رجع المالك إليه يجب عليه التدارك، لأنّه أيضا من قبله، كما يجوز للمالك الرجوع إلى المكره- بالكسر- ابتداء كما تقدّم.

نعم مقتضى القاعدة في الثالثة كون القرار على المكره- بالفتح-، لأنّه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 469

باختياره أوقع نفسه و المكره في الضمان، فلو رجع المالك إلى المكره بالكسر يجب عليه التدارك، و إن رجع المالك إليه لا يجوز له الرجوع إلى المكره بالكسر لأنّه لم يجبره على الإتلاف.

و أمّا الرابعة: فيمكن منع صدق اليد للمكره بالفتح، فإنّه بمعنى الاستيلاء كما هو المراد في اليد التي أمارة الملك و لا يصدق عرفا على من أمره قاهر بأخذ مال غيره و إتلافه، أنّه ذو يد عليه، فمقتضى القاعدة فيها عدم الضمان أصلا.

و لو تلف في يده بعد الإكراه على الأخذ و صدق الاستيلاء و اليد فالظاهر قرار الضمان على المكره لأنّه السبب لدخول المكره في ضمان اليد، و لا يقال بتعارض مقتضى السببيّة و اليد حيث إنّ مقتضى اليد قراره على المكره- بالفتح- كما احتمله شيخنا الأستاذ دام بقاه في الدرس- و لا بدّ من تقديم الثاني و إلّا يلزم كون السببيّة لقرار الضمان على المكره سببا لعدم القرار و هو خلف، و ذلك لأنّ دليل السببيّة ناظر إلى ما أثبته دليل اليد، و لا يعقل كون الثاني ناظرا إلى الأوّل المتأخّر عنه رتبة.

القسم الثالث: زيادة القيمة عن الثمن هل يغرم البائع تمام القيمة حتى ما قابل الثمن، أو لا يغرم شيئا منها حتى الزيادة عن الثمن، أو يغرم ما قابل الثمن دون الزيادة؟

الظاهر الأخير، لعدم الغرور بالنسبة إلى ما قابل، لأنّه أقدم عليه و لو كان البائع صادقا و صدقه فيما زاد لأنّه وقع في ضمانه بكذبه بحيث لولاه لما وقع فيه، و على هذا لا بدّ من التفصيل في الأجزاء أيضا فإنّ الثمن مقسط عليها في ضمن الكل، و أميا الأوصاف فقد فرّق شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بين ما لم يقسّط الثمن عليه كما عدا وصف الصحّة و بينه، فحكم في الرجوع في التمام في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 470

الأوّل و بالتفصيل في الثاني على ما هو مفهوم كلامه.

و فيه: أوّلا: سؤال الفرق بين وصف الصحّة و وصف الكمال، فإنّ الثمن لا يقسّط في كليهما إلّا بإزاء العين بلحاظ الصفة، فالصفة مزيّدة لماليّة العين لا أنّها مال و لا شهادة في ثبوت الأرش في فقدان وصف الصحّة دون وصف الكمال.

أمّا أوّلا: لأنّ جواز الإمضاء مع العيب ينافي هذا.

و أمّا ثانيا: فمقتضى ذلك رجوع مقدار من عين الثمن بقسطه، و الحال جواز دفع الأرش من مال آخر، فهذا يدلّ على عدم التقسيط.

و ثانيا: سؤال الفرق بين الأجزاء و الأوصاف، إذ لا فرق في صدق الغرور بين القبالية في مقام الإنشاء المعاوضي و بين عدمها مع المنشئية لتفاوت المالية و القيمة، فكما يلتفت المشتري في شراء عشرة أذرع من الكرباس بعشرة بأنّ كلّ درهم يقع بقبال ذرع، كذلك يلتفت المشتري للعبد الكاتب بعشرة دراهم مع كون غير الكاتب بتسعة، فإنّ الواحد يكون لأجل الكتابة، فمقتضى القاعدة التفصيل في الوصف أيضا مطلقا، نعم في الوصف الحادث لدى المشتري الزائل عنده لا يجري هذا فيرجع فيه بكلّ القيمة.

ثمّ لو باع الفضولي بيعا فاسدا فالتغرير في مورد صدقه لم

يوجب التغريم بالاستقلال بل مع الفساد، فإن اعتبرنا في تأثير التغرير الاستقلال، فهنا لا بدّ أن لا يرجع إلى البائع لأنّ فساد البيع غير مقتضى لرجوع، و التغرير فاقد للاستقلال، لكن هنا سؤال الفرق بين المقام و البيع الفاسد، لأنّه مع علم البائع بالفساد هو السبب لوقوع المشتري في الضمان و مغرّر له، و مع الجهل أيضا هو السبب لاستناد قبض المشتري إلى إقباضه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 471

و بالجملة: حال علم البائع فيه كحال علمه في مقامنا و حال جهله فيه حال جهله في المقام، فلا بدّ من التفصيل بين الثمن فيرجع به على المشتري، و أمّا سائر الغرامات فليس له الرجوع بها إمّا لقاعدة الغرور و السببيّة، و إمّا للثانية فقط، فما وجه حكم القوم هناك بجواز الرجوع في الكل مطلقا مع حكمهم هنا برجوع المشتري إلى الغارّ و السبب؟ و مقتضاه عدم رجوع البائع الغارّ و السبب، إذا كان هو المالك و على هذا فإذا كان الفضولي البائع فاسدا مدّعيا للملكيّة فهو غارّ من جهتين، عند علمه بالفساد، و من جهة، عند جهله.

نعم لو ثبت الفرق بين المقامين فعند الاجتماع يتوجّه بناء على اعتبار الاستقلال في الغرور عدم الرجوع لما تقدّم من أنّ الغرور غير متحقق الحكم أو الموضوع لأجل انتفاء الاستقلال و الفساد غير مقتض للرجوع حسب الفرض.

ثمّ إنّ كلّما يرجع المشتري به على البائع لو رجع إليه لا يرجع البائع إلى المشتري لو رجع عليه، بخلاف ما لا يرجع به المشتري على البائع مثل زيادة القيمة على الثمن فإنّه يرجع البائع بها على المشتري.

فإن قلت: ما وجه ذلك مع اشتراكهما في مقتضى الضمان و هو اليد؟ نعم مع الإتلاف

يتمّ ذلك لأنّ اللاحق هو الذي أوجب تنجز الضمان على السابق باتخاذه ما علّق عليه الضمان فتشمله قاعدة التسبيب، و أمّا مع التلف فلا.

قلت: هذا من جزئيات مسألة تعاقب الأيدي الضامنة و الكلام فيها في مقامين:

الأوّل: في تصوير كيفية اشتغال الذمم المتعددة بالشي ء الواحد و هو البدل عند التلف، مع أنّ الشي ء الواحد لا يقبل الاستقرار إلّا في ذمّة واحدة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 472

و الثاني: في تصوير أنّه لم يرجع اليد السابقة على اللاحقة عند غرامتها للمالك.

و محصّل الكلام في الأوّل أنّ المراد بكون المال في عهدة الإنسان الذي هو المستفاد من كلمة على الواقعة في حيّز الأعيان كون الإنسان هو المسؤول و المؤاخذ بتبعاته، فيكون على رقبته تدارك ما ورد على المالك و غيره من الخسارات من ناحية هذا المال، و هذا المعنى الذي يعبّر عنه بالفارسيّة ب (گرفتارى) أمر وراء استقرار مال في الذمّة بل هو في الحقيقة استقرار العمل، أعني: تدارك الدرك و الخسارة على العهدة، و هذا أمر يتعقل تعلّقه في العمل المتعلّق بعين واحدة بالنسبة إلى أشخاص متعدّدة.

نظيره في العرفيّات وقوع العبيد المتعدّدين في عهدة وجدان ابن مولاهم المفقود، و في الشرعيّات الواجب الكفائي. لا نقول إنّه صرف تكليف بل هو أمر وضعي واقعي يكون الإنسان في ضرر التدارك في مقامنا و المتحصّل منه ثبوت حقّ للمالك في أخذ معادل ماله من أيّ من الأيادي شاء، لا ثبوت الملك له في ذمّة كلّ لمعادل ماله فإنّه لا ينفك إمّا من ثبوت المعادل المتعدّد بعدد الذمّة أو توزيع المعادل الواحد على الذمم، و لا معنى للذمّة المردّدة التي لازمها عدم الاقتدار على الأشخاص، و إن وقع التعبير في كلام

شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بما يوهم ذلك فهو من باب ضيق العبارة.

و الحاصل التعهّد بالمال غير ثبوت البدل في الذمّة، و الثاني لا يتحقّق إلّا بعد التلف، و الأوّل يتحقّق بمحض ثبوت اليد و من لوازمه استحقاق المالك إخراج البدل عند التلف من مال المتعهّد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 473

و محصّل الكلام في الثاني أنّه يتمّ بثلاث مقدّمات:

الاولى: أنّ مفاد على اليد ليس أمرا تعليقيّا بمعنى أنّ العهدة إنّما تحدث بحدوث التلف بحيث كان اليد جزء علّة لحصول هذا المعنى و الجزء الأخير كان هو التلف إذ على هذا جميع الأيادي المتعاقبة متساوية في عدم عهدة لأحدها قبل التلف، و بعده يحصل للجميع في مرتبة واحدة بدون سبق لأحدها على الآخر، لتساوي الجزء الأخير من العلّة بالنسبة إليهم و إن اختلف الجزء الأوّل تقدّما و تأخّرا.

و بالجملة يصدق على كلّ من الأيادي أنّه قد أثبت على مال له بدل في عهدة آخر فلازمه رجوع كلّ إلى آخر حتّى اللاحق إلى السابق، لكنّ بعد ما فرض أنّه يحدث هنا أمر تنجيزي غير معلّق عقيب اليد يعبّر عنه بالفارسيّة ب (گرفتارى) فاليد علّة تامّة لحصوله بدون انتظار حصول التلف فيصدق على اليد السابقة أنّه قد أثبت على مال لا يقع في خسارته إلّا شخص واحد و هو المالك، و أمّا اليد اللاحقة فيصدق أنّها قد أثبتت على مال يقع أحد شخصين على البدل في ضرره و خسارته و هما المالك و الضامن الأوّل.

المقدمة الثانية: أنّ المال الذي له بدل في عهدة شخص لمالكه إذا ضمنه شخص آخر و لم يعيّن المضمون له و أنّه المالك أو غيره أو كلاهما فلازم البدليّة هو التوسعة و إطلاق البدليّة،

فإنّ معنى كون المال على عهدة الثاني بدون ذكر المضمون له أنّ من يتضرّر من قبله أيّا من كان في العالم فله الأخذ برقبة هذا الضامن و إخراج تدارك ضرره من كيسه فإنّ معنى البدليّة أنّ من عليه البدل يقع في خسارة تلف المبدل كالمالك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 474

فإذا قيل خسارات هذا العين على عهدة فلان فهو عند الإطلاق يشمل هذه الخسارة لأنّه من خساراته و لا يخرج عن كونه بدلا له كما في صورة تعيين المضمون له، كما في ضمان العهدة في العوضين في البيع، فإنّ ضامن العهدة ليس ضامنا إلّا للمالك دون من تلف عنده المال من المشتري أو البائع فلا يرجعان إليه عند رجوع المالك إليهما فيكشف ذلك عن قصور البدليّة و عدم شمولها حتى بالنسبة لهذا الحكم.

المقدّمة الثالثة: أنّ الخسارة الواردة على اليد اللاحقة لا فرق فيه بين أسبابها فلو فرض تحقّقها من ناحية اليد أيضا لا مانع من شمول الحكم له إمّا بشمول اللفظ له إن قلنا بالقضية الطبيعية، و إمّا بتنقيح المناط، لوضوح عدم الفرق بين الأسباب إن لم نقل بها.

و أمّا استظهار هذه المقدّمات: أمّا الأولى فهي مقتضى سوق حكم العهدة المستفادة من كلمة «على» على الإطلاق و عدم تعليقه بشي ء. و أمّا الثانية فقد يتوهّم شهادة العامّة في تعيين المضمون له في المالك فلا وجه له، إذ لا ملازمة بين كون الغاية الأداء إلى المالك و كون المتعهّد به خسارة كلّ من يتخسّر من ناحية هذا المال، و قد يستشكل في صدق خسارة هذا المال بالنسبة إلى اليد السابقة فإنّ المتحقّق في حقّه خسارة البدل دون العين.

و الجواب: أنّه لا شبهة في صدق أنّ بتلف

هذا المال يقع شخصان في الضرر على التبادل إمّا المالك و إمّا المتعهّد به، و لذا يغتم كلاهما عند ثبوت اليد الثانية على العين، أحدهما لخوفه على ماله و الآخر على مال وضع على عهدته.

و أمّا الثالثة: فعلى القضية الطبيعية لا إشكال فيها و كذا على تنقيح المناط

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 475

لوضوح عدم الفرق بين الأسباب.

لا يقال: ينتقض على هذا ما أبرمته سابقا فيما إذا أكره اليد السابقة اللاحقة على الأخذ فتلف في يد الثاني، حيث قلت: قرار الضمان على الأوّل و لا يمكن جعل هذا الضمان المسبّب عن السببيّة الحاصلة من حكم اليد الثانية مشمولا لحكم اليد الثانية فإنّه لا مانع من شموله على نحو القضيّة الطبيعيّة أو تنقيح المناط.

فإنّه يقال: فرق بين مقامنا هذا و تلك المسألة، فإنّ المدّعى أنّ المستفاد من القاعدة أنّ كلّ ضمان حصل أسباب حدوثه في اليد السابقة مع قطع النظر عن حدوث هذه اليد اللاحقة و لو كان جائيا من هذه القاعدة، فبمقتضى القاعدة يحمل على الثانية، و أين هذا من ضمان ليس له عين و لا أثر مع قطع النظر عن هذه اليد فإنّ السببية إنّما يتحقّق موضوعها بواسطة اليد و مثل هذا لا تنفعه القضيّة الطبيعيّة أو تنقيح المناط، فتدبّر.

و بالجملة بعد وضوح المقدّمات الثلاثة لا مجال للإشكال تارة: بأنّ التقريب يجي ء في حقّ السابق أيضا لصدق أنّه وضع اليد على ماله بدل، و جوابه ظهر من المقدّمة الاولى و أنّه مبتن على استفادة العهدة التعليقيّة، و أمّا على التنجيزيّة فلا مجال له كما هو واضح.

و اخرى: بأنّ ضمان العين التي لها بدل لا يقتضي ضمان بدله مع أنّه لم يحصل موجب للضمان

بالنسبة إلى البدل، و دعوى كونه من توابع العين و شئونه كما ترى و جوابه ظهر من المقدّمة الثانية.

و ثالثة: بأنّه لو سلّم ذلك اقتضى ضمان البدل للمالك لا لمن عليه البدل،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 476

و جوابه ظهر أيضا من تلك المقدّمة فإنّ غير من عليه البدل لم يتخسّر حتى يجبر خسارته و قضيّة القاعدة أنّه ما لم يصل إلى مالكه فكلّ من يتخسّر منه لا بدّ أن يجبر ذو اليد خسارته.

و رابعة: بالنقض بضمان الاثنين لواحد و ضمان العهدة و ضمان المال عند العامّة و ضمان الأعيان المضمونة بصدق ضمان شي ء له بدل مع عدم ضمان البدل، و جوابه أيضا علم من تلك المقدّمة. و حاصله: أنّا لم نعلّق الحكم على صرف كون الضمان ضمان شي ء له بدل- كما توهمه صورة عبارة شيخنا المرتضى قدّس سرّه- بل قيّدناه بعدم تعيين المضمون له و قد عيّن في تلك الموارد دون المقام، فاستكشف البدليّة المقيّدة في تلك الموارد المطلقة في المقام.

و خامسة: بأنّه إذا رجعت العين من اليد اللاحقة إلى السابقة فتلفت فلازم البيان المتقدّم قرار الضمان على اللاحقة مع أنّ القاعدة تقتضي قراره على السابقة و ذلك لأنّ الضمان إنّما حدث باليد الأولى للسابقة فاليد الثانية لها لم تحدث شيئا حتى يقال إنّها في هذا الحين- أعني: حين إثبات اليد الثانية- ضمن شيئا له بدل، و الجواب أنّه إنّما لا تحدث اليد الثانية أصل ضمان العين لصاحبها لفرض حدوثه باليد الأولى و ما حدث لا يحدث ثانيا، و أمّا بالنسبة إلى ضمان اليد اللاحقة فلا مانع من تأثيرها فضمان اللاحق للمالك يستقر على السابق فضمانه للسابق يسقط.

و سادسة: بأنّ لازم ما ذكر جواز

رجوع السابق إلى اللاحق بعد التلف و لو قبل رجوع المالك عليه، و الجواب: أنّه لم يتخسّر بعد و إذا كان مفاد القاعدة تحميل الخسارة فلا تحميل مع عدم الخسارة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 477

فإن قلت: قد ذكرت أنّ هنا ابتلاء فعليّا يحصل عقيب اليد بلا انتظار شي ء فلازم هذا لزوم تداركه.

قلت: نعم و لكن ليس تدارك هذا دفع العين إلى السابق في حال بقائها أو بدلها في حال التلف إذ ذلك لا يرفع ضمان السابق و إنّما يرتفع بالدفع إلى المالك، فغاية الأمر أنّ للسابق حقّ مؤاخذة اللاحق بأن يدفع العين أو البدل إلى المالك و نحن نلتزم بذلك و لا نتحاشى عنه.

و سابعة: بأنّ لازم ما ذكر مع الالتزام بأنّ الخسارات اللاحقة كلّها من كيس الضامن ثبوت الضمان للسابق بالنّسبة إلى اللاحق، إذ من جملة الخسارات هذه الخسارة الواردة على اللاحق و بعد عدم تعيين المضمون له كما تقدم لا بد من تحميل هذه الخسارة أيضا على السابق و جعلها من كيسه.

و الجواب أنّ كل خسارة فرضت للعين مع قطع النظر عن اليد نحكم بضمان ذي اليد لها و العين مع قطع النظر عن اليد السابقة لها خسارات من التلف و فوات الجزء أو الوصف الموجودين فعلا أو بعد الخروج عن اليد قبل الوصول إلى المالك فإنّ فواتها أيضا من خسارات هذا العين مع قطع النظر عن ثبوت هذا اليد و ليس هكذا خسارة اللاحق، إلا أن يقال انّا نفرض كون يد اللاحق غير مستند إلى اليد السابقة، بل صرف كونه متأخرا في الزمان فان قطع النظر عن اليد السابقة يوجب قطع النظر عمّا هو معلوله لا ما هو متأخر عنه زمانا،

فهذا القسم يدخل تحت النظر فلا فرق بينه و بين السمن الحادث فيما بعد المتبدل بالهزال قبل الوصول إلى المالك فكما نحكم بضمان الثاني على اليد السابقة لا بدّ أن نحكم بضمان الأوّل أيضا عليها.

و يمكن أن يقال: إنّه لا بد من فرض العين على الحال التي كانت عليها

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 478

حين وقوع اليد عليها و هي حال وقوع اليد السابقة كونها غير مضمونة لأحد فالخسارات التي نحكم بها على الضامن لا بد أن ترجع إلى خسارات العين الغير المضمونة لأحد، و خسارة اليد الثانية خسارة العين المضمونة، و هذا بخلاف الهزال في السمن الذي لم يحدث بعد فإنّه من الخسارات الفعلية للعين على هذه الحالة التي كانت لها قبل ثبوت اليد فإنّه كما أنّ من خساراتها زوال سمنها الموجود كذلك من غصصها و ابتلاءاتها زوال السمن الذي يحدث بعد ذلك أو اللبن كذلك.

ثمّ إنّ لصاحب الجواهر- قدّس سرّه- هنا كلاما و هو أنّ الخطاب بالنسبة إلى من تلف في يده ذمي و بالنسبة إلى من تقدّم عليه شرعي، و ذلك لعدم الدليل على شغل الذمم المتعدّدة بالمال الواحد و وجه رجوع غير من تلف عنده إلى من تلف عنده لو رجع إليه انّه يملك بواسطة دفع البدل ما في ذمّة الأخير فهذا معاوضة قهرية فكما يمكن المعاوضة الجعلية بين المالك و غيره على هذا المال الذمي فهنا دفعت بتصرّف الشرع بواسطة حكمه بإعطاء البدل، و يرد عليه:

أوّلا: أنّه ما وجه التفرقة في مفاد على اليد إذا الفرض عدم الدليل غيره، فإن كان الوجه عدم معقولية شغل الذمم المتعددة بالمال الواحد فأي فرق بين الخطاب التكليفي و بين الذمي، فكما قلتم

أنّ كون تدارك المال الواحد في العهدات الوضعية المتعدّدة غير معقول، فكذلك كون العمل الواحد أيضا في العهدات التكليفية المتعدّدة غير معقول، و هذا مراد شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و شأنه أجل من حمل كلامه على ما لا يخفى فساده على فاضل، فكيف على من هو مؤسّس.

و ثانيا: أنّ ما ذكر من المعاوضة القهرية إنّما يسلم إذا كان بدل المال من باب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 479

المعاوضة الشرعية و ليس هكذا بل هو من باب الغرامة فإنّه عوض لوجود العين لا لنفس العين كما يقال نظيره في بدل الحيلولة انّه بدل السلطنة الفائتة لا نفس العين.

و ثالثا: أنّه على هذا لا بدّ أن لا يجوز لمن اغترم للمالك أن يرجع إلى الأيدي المتوسّطة، لا يقال كما ذكرتم أنّ ضمان المبدل يلازم ضمان البدل و إلّا خرج البدل عن البدلية فالتزموا هنا أيضا بأنّ ملك البدل حاله حال ملك المبدل في جواز الرجوع إلى الأيدي المتوسطة.

قلت: الوجه فيما تقدم إرجاع خسارة البدل إلى خسارة العين، و أمّا هنا فالحكم بجواز الرجوع إلى الأيدي المتعاقبة لأجل ثبوت اليد على المبدل لا يقتضي الحكم بذلك في ملك البدل الذي لم يثبت عليه يد هؤلاء.

ثمّ إنّ سيّدنا المحشي لكلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّهما- ذكر في المقام وجها آخر و هو أنّ ما يدفعه الدافع عوض لنفس العين التالفة لا للعوض الثابت في ذمة الأخير فيقوم مقام المالك في الرجوع إلى الأيدي الأخر و العين التالفة باعتبار الضمان له اعتبار المالية عرفا كما في باب الفسخ، نعم يشكل على هذا أنّه يجوز عليه رجوعه إلى السّابقين عليه لأنّه قام مقام المالك.

و يمكن دفع ذلك بأنّ وجه عدم رجوعه

على خلاف المالك أنّه السّبب لاستقرار الضّمان على السابقين لأجل إثبات يده على العين التي في عهدتهم و حيلولته بينها و بينهم.

قلت: يمكن منع السّببية في بعض الموارد و هو ما إذا كان إرجاع العين إلى صاحبها متوقّفة على طيّ مسافة لا يمكن عادة إلّا بمضيّ ساعة، فصارت من أوّل الساعة في اليد الثانية و مكثت خمس دقائق ثمّ تلفت بالتّلف السّماوي، فكيف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 480

يمكن الحكم في هذه الصّورة بأنّ الثاني صار سببا لاستقرار ضمان الأوّل. نعم لو أراد الأوّل الإرجاع فأخذها الثاني من يده بالقهر و مضت مدّة تسع الإرجاع ثمّ تلفت يصحّ القول بالسّببية حينئذ، فدعوى سببيّة الثاني على وجه الإطلاق في محلّ المنع.

و لو أبرأ المالك واحدا منهم فهل له مطالبة غيره؟ الحق هو التّفصيل فإن قلنا بأنّ الثابت في الذّمم هو المال الواحد الشخصي فلا محالة بإسقاط ما في ذمّة واحد يسقط هذا الواحد الشّخصي، و إسقاط الإضافة أو حقّ المطالبة لا معنى له، إذ المجعول له حقّ مطالبة المال، و أمّا إبقاء المال و إسقاط حقّ المطالبة أو إضافته بالشّخص فهو تصرّف في حكم الشّرع، و أمّا إسقاط الواجب الكفائي عن بعض المكلّفين فهو إخراج الآمر بعضهم عن تحت الأمر، لا إسقاط للمكلّف به مع إبقاء الأمر. و هنا أيضا هذا التصرّف يكون للشّارع و أمّا المالك فلا.

و إن قلنا: بأنّ الثابت عهدة التدارك و للمالك حقوق متعدّدة فإذا أسقط بعضها يبقى الباقي بحاله.

و لو رجع بعد ذلك إلى من تقدّم على من أسقط عهدته هل للمرجوع إليه الرجوع إليه؟ الظاهر نعم، لأنّه إنّما أسقط حقّه لا حقّ غيره.

ثمّ هذا كلّه حال تلف المبيع في

يد المشتري، و أمّا مع بقائه فكلّ من الأيدي الجارية على العين مكلّف بالإرجاع و للمالك مطالبة كلّ واحد بذلك، فيكون حال البقاء حال التّلف بعينه، فيرجع المالك إلى الأوّل مثلا، فيرجع هو إلى الثاني و هكذا إلى أن يستقر على من عنده، و وجه ذلك أنّه يصدق على الثاني مثلا أنّه أثبت اليد على عين ينوح عليها شخصان، فعليه إسكات نوحتهما بدفع العين إلى مالكها.

هذا ما ربّما يستفاد من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و لعلّه من دلالة على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 481

اليد، فإنّه كما يستفاد منه ضمان الخسارة عند الفوات، يستفاد منه كون الردّ على العهدة عند بقاء العين، و أمّا «المغصوب مردود» فلا يستفاد منه ذلك، لأنّه يزول هذا الاسم بزوال اليد، فلا يكلّف إلّا من في يده العين و حينئذ نقول: معنى «على» هو العهدة و لفظة «ما» يراد بها نفس العين و لها حالتان من الوجود و العدم، و عهدة حال الوجود هو لزوم الردّ، و عهدة حال التّلف دفع البدل، لكن يمنع عن تعميم العهدة الغاية المذكورة في الذيل من قوله «حتى تؤدّي» فإنّه يصير بمثابة جعل لزوم الأداء مغيّى بالأداء و هو ركيك، فلا بدّ من إخراج هذا القسم من العهدة المستفادة من «على». و بعد الغضّ عنه يبقى ما يصلح للإرادة عهدة الخسارة، و جعل عهدة الخسارة مغيّى بالأداء لا ركاكة فيها، و هي و إن كانت قضيّة تعليقيّة معلّقة على التّلف لكنّ الغاية غاية لتمام القضيّة من المعلّق و المعلّق عليه لا لخصوص الأوّل حتّى يرد أنّ جعل الغاية للحكم هو الأداء في ظرف فرض التّلف غلط. و إذن فوجوب الأداء لا يستفاد من

كلمة «على».

و حينئذ نقول: يمكن أن يقال: إنّ العرف يفهم من مثل هذه العبارة بملاحظة الغاية- أعني «حتّى تؤدّي»- أنّ القائل يحبّ أداء المأخوذ إلى مالكه، فهي نظير الغايات التي يراد بها التعليل، مثل «لازمه حتّى يؤدّي مالك» فالغاية هنا و إن لم يجي ء لأجل التعليل لكنّه يستفاد منه عرفا، و حينئذ فالمستفاد صرف الوجوب التكليفي، و على هذا فلا يجوز لنفس الأيدي رجوع بعضها على بعض لأنّه فرع استفادة حكم وضعيّ من كلمة «على» و لم يستفد. فكلّ يد مكلّف بالأداء من دون رجوعه إلى لاحقه.

هذا هو الكلام في استفادة أصل حكم وجوب الردّ و أمّا الكلام في نسبة القاعدة مع قاعدة لا ضرر بملاحظة استلزام الردّ للمئونة فنقول: حيث إنّ الأداء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 482

الواجب في تمام زمان العهدة و هو يشمل زمان الكون في اليد و زمان الخروج عنها و قبل الوصول إلى المالك فهو غالبا لا ينفك عن صرف مئونة في طريق الردّ، إذ ربّما يكون من في يده المال غائبا و انّه ربّما يكون المالك غائبا و ربّما يكون كلاهما غائبين و لا يخلو ردّ المال مع هذا غالبا عن صرف المال، نعم يمكن حضور كليهما بحيث لم يحتج إلى المئونة أصلا لكنّه فرض نادر، فلا يمكن تخصيص وجوب الأداء بهذا الفرض للزوم التقييد بالنادر و إخراج الأكثر، فلا بدّ من القول بأنّ المقدار المتعارف الغير المجحف بحسب المال و الحال يجب بوجوب الأداء و يخصّص قاعدة لا ضرر. مع إمكان أن يقال إنّ صرف المال فيما يقابله من العمل مثل حمل المال و غيره من لوازم الأداء ليس من الضرر بعد احتياج الإنسان إلى العمل المذكور

فأيّ فرق بين إعطاء العوض بإزاء الماء لأجل رفع العطش و بين صرفه لأجل الوضوء، و كذلك هنا أيضا لا فرق بين إعطاء أجرة الحمّال لأجل حاجة نفسانية و إعطائها لأجل حاجة شرعية، غاية الأمر إنّ الموجد للحاجة و المدخل في عنوان صاحب الحاجة هو الشارع لكن مع هذا أيضا لا بد من إخراج البذل بإزاء العمل ما يقابله إذا كان خارجا عن المتعارف من حيثية أخرى، مثل كون المالك في بلد بعيد من بلاد الإفرنج لا يتعارف وقوع مثله في مثل ذلك البلد، فإنّ مئونة الحمل إليه و إن كان بحسب الأجرة المتعارفة الغير المجحفة هو المائة مثلا، لكن يجب إخراجه عن وجوب الأداء بقاعدة لا ضرر، فالأوجه ما ذكرنا في الوجه الأوّل.

فإن قلت: الوجوب أعم من سلب الاحترام أ لا ترى أنّ الدابة المستأجرة تكون نفقتها على المستأجر، و كذا الوديعة يكون حفظها و لو توقّف على المئونة على الودعي، و كذا الوصي لو توقف عمله بالوصية على بذل مال يجب عليه، و مع ذلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 483

يرجع الكل إلى من وقع العمل لأجله من الموجر و المستودع و الميت، فهنا أيضا لا نقول بكون الوجوب مقيدا بحال عدم الحاجة إلى المئونة حتى يرد الاشكال، و لكن قاعدتا لا ضرر و الاحترام العمل و المال مع وجوب الأداء جميعا لا بد من مراعاتها و هو وجوب البذل على الضامن ثمّ الرجوع إلى المالك.

قلت: في كل مورد حكم برجوع العالم و باذل المال إلى من انتفع بعمله و ماله لا بد إمّا من كونه بإذن ذلك الذي انتفع و تحميله كما في عقد الوديعة و الوصية و الإجارة فإنّ نفس

هذه العقود دالة و لو التزاما على الاذن في البذل، و إمّا من وجود النص الخاص على الرجوع، كما في باب اللقطة لو بذل لأجلها الملتقط على ما نقل من وجود النص على رجوعه على المالك، و مع عدم الأمرين فلا وجه يقتضي تحميل ذلك على المالك إذا لم يكن مطالبا للبذل، و إنّما يطالب المال و القاعدتان لا تقتضيان حمله عليه، و مجرّد وصول النفع إليه لا يقتضي كون الأجرة و البدل على ذمته، و لهذا لو سقى زرع الغير بمائه بتخيّل أنّه زرعه لم يستحق الأجرة و البدل على ذلك الغير، و النص أيضا مفقود، هذا هو الكلام في المقدار الغير المجحف.

و أمّا الكلام في المجحف: فإن كان البائع معذورا، لجهله و زعمه كون المال لنفسه فلا إشكال في جريان دليل لا ضرر و لا حرج في حقّه لرفع المقدار المجحف سواء الإجحاف المالي و الحالي.

و أمّا إن كان عالما بحيث تنجّز عليه التكليف بالرد بمقدار لا يلزم ضرر و حرج فعصى و أخّر، فالظاهر عدم جريان الدليلين في حقّه و لزوم بذل المال عليه و إن بلغ ما بلغ.

توضيح ذلك: أنّ من دخل الدار الغصبية مثلا عالما بغصبيتها فهو قبل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 484

الدخول كان قادرا على ترك جميع أنحاء الغصب و أفراده فتوجه إليه الخطاب بترك جميعها فإن بقيت قدرته بعد الدخول فلا كلام في تنجّز العقوبة عليه، و إن انسلخت القدرة عنه و عجز عن الخروج، فكذلك لأنّ حاله حال من ألقى نفسه من شاهق في عدم بقاء القدرة على ترك إهلاك النفس و سقوط تكليفه و بقاء عقوبته، بل لو بقيت القدرة على ترك الغصب الزائد

لكن زاحمه واجب أهم، كما لو توقّف بعد الدخول حفظ نفسه على عدم الخروج لا يعاد ظالم قتله لو خرج يجب عليه البقاء للحفظ، و عقوبة الغصب باقية بحالها، لأنّه قبل الدخول كان قادرا على ترك الغصب مع حفظ نفسه بعدم الدخول، و لا فرق بين علمه باتفاق ذلك بعد الدخول و جهله، لأنّه مع الجهل يدور أمره بين بقاء قدرته في الزمان المستقبل لعدم طروّ العجز و لا الابتلاء بالمزاحم الأهم و بين عدمه لطرو أحدهما، فعلى الأوّل يتنجز عليه العقاب لقدرته المستقبلة، و على الثاني لقدرته السابقة فنتيجة الأمرين تنجز العقوبة، هذا حال العجز و المزاحمة بالأهم.

و أمّا صيرورة الخروج حرجيا و ضرريا، كما لو أوعده ظالم بأخذ مال خطير منه لو خرج فليس حاله بأقوى من حال العجز، فإذا لم يؤثّر العجز في رفع العقوبة، و كفت القدرة السابقة في تسجيلها، فلزوم الضرر و الحرج لا يؤثّر بطريق أولى، و حينئذ فدليل نفي الضرر و الحرج غير جار هنا، لأنّه بعد عدم ارتفاع العقوبة بسقوط التكليف فلا منّة في إسقاطه، و قد كان مساقه المنّة، و لا فرق أيضا بين علمه باتفاق ذلك و جهله كما تقدّم، نعم لو قام عنده طريق شرعي أو عقلائي ممضى للشرع، كالاطمئنان على عدم اتفاق ذلك و بقاء قدرته بلا مزاحمة أهم و لا لزوم ضرر و حرج فاتفق حصول ذلك لا نضايق من معذوريته حينئذ و شمول لا ضرر إيّاه، و اذن فلا بدّ في العالم أيضا من التفصيل بين هاتين الصورتين.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 485

و حينئذ نقول في المقام إنّه بعد ثبوت اليد على مال الغير إن اعتقد كونه لنفسه فلا إشكال

في تقييد دليل الأداء في حقّه بغير صورة الإجحاف، و إن اعتقد أنّه مال الغير، ففي أوّل زمان ثبوت يده كان متمكّنا من رفع الحيلولة بين المال و صاحبه بجميع أفرادها و وجوداتها في الأزمنة الآتية بلا ضرر و حرج، فإن أخّر و لم يؤدّ فإن قام عنده أمارة شرعية على بقاء قدرته فيما بعد فاتفق حصول الضرر المجحف فدليل لا ضرر جار في حقّه، و إن لم يقم فاتفاقه في الأزمنة المستقبلة لا يجدي شيئا بعد تنجز العقوبة عليه بالقدرة السابقة، فالأمر دائر بين أشدية العقوبة الأخروية و دفع تمام مال الدنيا، و من المعلوم تقدم الثاني عقلا، هذا. نعم لو فرض كون الرد من أوّل ثبوت يده مستلزما للضرر المجحف فيقيّد الخطاب به حينئذ لا محالة.

ثمّ إنّه لو باشر المالك الرد بالأجرة فلا مانع لكون عمله محترما.

و لو لم يقدر على الرد سواه و امتنع فهل يجب على الغاصب بدل الحيلولة، الظاهر لا، و ذلك لأنّ الاحتمالات في بدل الحيلولة ثلاثة:

الأوّل: كونه بدلا لنفس الحيلولة بناء على أنّها شي ء يتدارك بالمال.

و الثاني: كونه بدلا عن تمكّن الغاصب.

و الثالث: الدوران مدار صدق التلف عرفا، فإنّ غرق المال الغير المرجو عادة خروجه تلف عرفا، و كذلك سرقته بيد من لا يرجى وجدانه، و الاستيلاء عليه و قد بنينا في محلّه على صحّة الأخير. لأجل أنّ نفس الحيلولة بعد ردّ نفس العين كما لو اتفق وجدانه، و «1» ردّ عوض منافعه الفائتة ليس شيئا يتدارك بالعوض، و قد أجاد جامع المقاصد حيث قال: و جعله بدلا للحيلولة لم يتّضح معناه.

______________________________

(1) عطف على «ردّ» لا على «وجدانه». منه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 486

و الثاني أيضا مستلزم

لرجوع البدل إلى الغاصب بمجرّد عود تمكّنه و إن لم يصل المال إلى صاحبه، بل كان تالفا في حقّه.

و الثالث مقتضى القواعد و حال رجوع العين على خلاف العادة كحال رجوع العين التالفة الحقيقية على خلاف العادة.

و حينئذ نقول: لا يخفى عدم صدق التلف في مقامنا بعد تمكّن المالك من الاسترداد و مسامحته فيه، فلا وجه لأخذه البدل مع اختصاصه بصورة التلف.

فصل [في بيع الفضولي مال نفسه مع مال غيره]
اشارة

لو باع مال نفسه مع مال غيره، فعلى القول بصحّة الفضولي و إجازة المالك في حصته فلا إشكال إنّما الكلام في صورتين: إحداهما: القول ببطلان الفضولي، و الأخرى: القول بصحّته، و لكن رد المالك في حصته فيقع الكلام على هذين في مقامين:

الأوّل: هل يمكن القول بالصحّة في البعض المملوك للبائع مع فرض البطلان في الكل أو لا ينفك البطلان في الكل عن بطلان البعض.

و الثاني: بعد تسليم إمكان صحّة البعض منفكّا عن الكل هل هنا سبيل إلى إثبات الخيار الذي شاع التعبير في لسانهم- رضوان اللّٰه عليهم- عنه بخيار تبعّض الصفقة أو لا و ينبغي التكلم أولا على حسب مقتضى القواعد ثمّ على حسب مقتضى النص الخاص.

فنقول: يمكن تقريب الصحّة بأنّ الإنشاء و إن تعلّق بالكل بالصورة الوحدانية، و لكنّه نظير العام الاستغراقي في باب الأمر، فكما أنّه ينحلّ إلى إيجابات، فقول المولى أدّ دينك و إن كان مضمونه إيجابا واحدا متعلّقا بالكل، لكن أخذ هذه الصورة الكلية مرآة لما يحويه من الأجزاء، فيحصل بعددها هنا إيجابات

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 487

فقس حال إنشاء النقل في مقامنا بحال الإيجاب هناك، فالتمليك البيعي الإنشائي، و إن تعلّق بالشاتين مثلا بالصورة الوحدانية لكنّه ينحل إلى تمليكين، و إن شئت فقس حال النقل الإنشائي

بالنقل الخارجي، فكما أنّك لو حرّكت جسمين من بين يديك كان هذا التحريك الواحد سببا لانتقال ما كان منهما خاليا عن المانع، فلو أمسك أحدهما ممسك فلا مانع من انتقال الآخر فكذا النقل الإنشائي هذا.

و لكن يرد على هذا أنّه إن كان الإنشاء متعلّقا بالكل كما ذكرت على نحو تعلّق الحكم بالعام الاستغراقي، فالصحّة في البعض ممكن الانفكاك عن الكل لأنّها بيوع عديدة غير مرتبطة بعضها ببعض، و لكن لا يصحّ القول بالخيار، إذ مجرّد بطلان بيع لا يوجب الخيار في بيع آخر صحيح، و مجرّد كون الداعي متعلّقا بهما مرتبطين و قد تخلف، موجود في البيعين المستقلّين.

و إن كان الإنشاء متعلّقا بالكل المرتبط فهنا إنشاء واحد مرتبط فكيف يمكن التفكيك في الصحّة، بمعنى أنّه بعد بطلان هذا الإنشاء الواحد فعلى حسب الفرض من عدم الانحلال لا إنشاء آخر متعلّقا بالبعض حتى يحكم بصحّته، فالقول بصحّة البعض بعد بطلان الكل لا وجه له، فالجمع بين القول بالصحّة في البعض مع القول بالخيار لا يصحّ على أيّ تقدير.

و يمكن الجواب بأنّا نختار الشق الثاني، قولكم فكيف يمكن التفكيك في الصحّة بين البعض و الكل مع عدم وجود المقتضي إلّا بالنسبة إلى الثاني و قد بطل، مدفوع بأنّ القصد الإنشائي البيعي سبب لوجود الملكية في تمام الأجزاء، ضرورة أنّ القصد الإنشائي في عامة الإنشاءات موجد و سبب لتحقّق المنشأ في الخارج، فإذا تحقّق المانع عن تأثير هذا السبب في بعض المسبب، لا مانع من تأثيره في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 488

الباقي. مثال ذلك لو تعلّق غرضك بمشي خمسين قدما بحيث لا يفي بشي ء منه مشي الأربعين، بل كان مضرّا، فقصدت المشي المحدود بخمسين و مشيت

أربعين فقهرك مانع عن إيجاد البقية، فلا إشكال في أنّ ذات الأربعين قدما مستندة إلى قصدك و اختيارك و فعل اختياري لك، و إن كان وصفه و حدّه خارجا عن اختيارك، لأنّه أمر قهري عند عدم لحوق البقية الحاصل من غير اختيارك، فلو كان أثر مترتّبا على صدور ذات أربعين قدما منك بوصف الاختيارية التابعة للاستناد إلى القصد، فلا تتأمّل في ترتيبه مع أنّ القصد كان بنحو الوحدة متعلّقا بكل الخمسين بدون انحلال في البين، هذا في الأقل و الأكثر المتعاقبين، و هكذا الكلام في الدفعيّين، مثاله لو كان لك قالب بمقدار ذراع لتسويد الخط الأبيض، فرفعت هذا القالب و وضعته على الخط المقدر بالذراع بقصد تسويد كله قصدا واحدا مرتبطا فاتفق حصول مانع في نصفه فلا محالة تسودّ نصفه الآخر، و يستند تسويد ذات هذا النصف إلى قدرتك، و يقال إنّه فعل اختياري لك و لا يصحّ القول بكونه فعلا اضطراريا، نعم هو بحد النصفية خارج عن قدرتك.

و حينئذ نقول في تطبيق ذلك على المقام، قصد إنشاء البيع متعلّقا بالكل بنحو الارتباط سبب و علّة بسبب إمضاء الشارع لطرو لون الملكيّة على مجموع الشاتين مثلا، و قد صدر منك بوحدته لبا و إنشاء، و اتفق وجود المانع عن تأثير هذه العلّة في واحدة من الشاتين فلا محالة يتحقّق التأثير في الشاة الأخرى.

فإن قلت: التأثير فرع انطباق الصورة التي وقعت في عالم الذهن تحت القصد على الأمر الخارجي، و إذا فرضنا الصورة بوصف الارتباط، فالجزء موجود فيها بنحو الاندكاك، و قد فرض في الخارج بحد الاستقلال، و الدليل على عدم الانطباق عدم حصول الامتثال للأمر المتعلّق بالكل بإتيان البعض مع طروّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1،

ص: 489

العجز عن الباقي في الأثناء، فلو كان الصورة المتعلّقة للأمر منطبقة لكان حصول هذا الخارج بدعوة الأمر و لا نعني بالامتثال إلّا ذلك، فإذا قلت بعدم الامتثال كشف ذلك عن عدم الانطباق، و أنّ ما يدعو الأمر إليه غير هذا الخارج، و لهذا قلتم في المقدمة الموصلة، بعدم اتصاف كل واحدة من المقدمات في حال الانفراد بالوجوب.

قلت: ارادة الآمر المتعلّقة بالصورة الوحدانية، إنّما توجب اتصاف المجموع في لحاظ الاجتماع بالوجوب و لا انفكاك بينها في الذهن حسب الفرض، نعم هي موجدة خارجا لمتعلّقها من باب تأثيرها في نفس العبد المنقاد، فلو فرض أنّ العبد صار متحرّكا بالأمر نحو مشي الخمسين فاتفق مصادفة المانع القهري عند بلوغ الأربعين لصدق أنّ ذات الأربعين مستندة إلى الإرادة التشريعية المولوية، كما يصدق استنادها إلى الإرادة التكوينية المأمورية، فلو كان أثر لوقوع هذه الذات عن تحريك الأمر لزم ترتيبه، و أمّا عدم اتصاف الجزء المأتي من المركّب و المقدّمة الواحدة لو فرض عدم لحوق البقية لمانع قهري بالوجوب، فلأنّ ارادة المولى متعلّقة بالصورة الوحدانية، و لا توجب وجودا خارجيا و إنّما توجب الوجوب و هو متعلّق بالصورة المشتملة على الكل، و الامتثال عبارة عن إتيان العبد في الخارج شيئا تنطبق عليه تلك الصورة و هي غير منطبقة على غير المشتمل على جميع الأجزاء.

و بالجملة: كلامنا في ما إذا كان لإرادة الكل تأثير خارجي و علّية في الوجود الخارجي، و الإيجاب ليس من هذا القبيل.

فإن قلت: فعلى هذا لا بد أن تقول في المتباينين و المطلق و المقيد أيضا بمثل ذلك، فإذا باع الفرس فطبّقه على البقر لا بد من صحّة البيع بالنسبة إلى أصل الحيوان.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1،

ص: 490

قلت: الفرق أنّ نفس ذوات الأجزاء هنا وقعت تحت الإرادة لا تحت ارادة أخرى، و أمّا هناك فالارادة لم تتعلّق إلّا بهذه الصورة المغايرة لصورة المهملة، و بالجملة المريد للإنسان إذا لاحظ اتّحاد الحيوان مع الإنسان يريده ارادة تبعية، و أما المريد للعشرة فنفس هذه الإرادة موزّعة على ذوات التسعة إذ ليس العشرة إلّا هذه الذوات.

و من هنا يتبيّن الفرق بين المقام و باب تعدّد المطلوب فإنّ المطلوب الواحد هنا ينقسم إلى متعدّد، إلّا أنّ المطلوب من الأوّل أمور متعدّدة، نظير ما يقال من أنّ الغرض الخارجي قابل للقسمة الخارجية باعتبار انقسام المحل، فهنا أيضا ينقسم المحل الواحد و ينقسم غرضه أيضا باعتباره. هذا تقريب الصحّة.

و أمّا تقريب الخيار فهو أنّه قد وقع العقد على المحدود بالتسعيّة و قد قصد المحدود بالعشريّة، و هذا الحد قد حصل بغير اختياره و إن كان الذات حصل باختياره، و وجه حصول الحدّ أنّه لا يحتاج إلى مئونة أخرى، بل يتحصّل بنفس عدم وجود الزائد و يتولد قهرا، و لا يقال: فكيف تحكم بالصحّة في هذا الحد مع أنّه خلاف دليل السلطنة، و الدوران مدار رضا المالك و قد حصل الحد باعترافك بغير سلطنته و رضاه، فإنّه يقال: تأثير الرضا و السلطنة صار بنحو التأثيرات العقلية الخارجية فهذا من لوازم نفس المسببية.

و حينئذ فلو كان مأمورا بالقيام على هذا المحدود الذي لم يقصده بحدّه كان ذلك حرجا عليه فبدليل رفع الحرج يثبت له الخيار.

و أمّا ثبوته للبائع مع قطع النظر عن النص حيث إنّ فيه و قد وجب الشراء من البائع فيما يملك فمع علمه بالحال لا إشكال في عدم الخيار، كما في صورة معلومية جهله أو

اعتقاد مأذونيّة نفسه، و كذا مع الترديد، و لكن أقام البيّنة على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 491

طبق دعواه أو أقرّ المشتري بصدقه، و أمّا مع الترديد و عدم الأمرين فمجرّد دعواه لا تثمر بمحض كونها دعوى لا تعلم إلّا من قبله أو أنّه مدع بلا معارض، إذ لم تعلم كلية لهاتين الكبريين، فالمرجع هو الأصل لو كان، في هذا الباب و باب الغبن عند دعوى المغبون الجهل، و إلّا فلزوم الوفاء جار و الأصل المتوهّم أصالة عدم العلم، و هو لا يثبت عدم كونه مقدما على الضرر و الحرج، و كذلك أصالة عدم الاقدام لا تثبت كون الضرر جائيا من قبل حكم الشرع، و الحاصل المنفي هو الضرر المسند إلى الشرع فكلّما كان طبع العمل مع قطع النظر عن الحكم المرتّب عليه في الشرع ضرريا، فالإقدام عليه مع الالتفات أقدام بالضرر، فلو حكم عليه الشارع باللزوم لا يكون إضرارا مسندا إلى الشرع، و أمّا إذا كان نفس العمل غير ضرري في حدّ ذاته، و إن كان كذلك بالنظر إلى حكم الشرع، كما في الجنابة عمدا في الهواء البارد، أو أكن ضرريا و لم يلتفت المكلّف إلى عنوانه الضرري، فهنا إلزام الشرع ضرري، فالمدار على ضررية حكم الشرع و عدمها و لا أصل يعيّن أحدهما، فالمرجع عمومات الوفاء هذا.

ثمّ قد يتوهّم الإشكال في صحّة البيع المذكور من جهة الجهالة بالمقدار الذي يقسّط من الثمن على حصّة البائع، و ليس بشي ء، فإنّ الغرر منتف، و الجهل بالثمن الذي قام الإجماع لعى إضراره، إنّما هو في الثمن المجعول في عقد المعاوضة ابتداء و لا دليل على لزوم العلم حتى بما يصير بقبال الجزء بعد الانحلال.

هذا تمام

الكلام في مقتضى القاعدة، و أمّا التعبّد، فصحيحة الصفار الواردة في من أراد مكّة و لم يتّسع مجاله لتعيين ما ملكه من القرية التي كانت بمراحل من منزله، و كان مالكا لقطاع من تلك القرية فباع القرية كلا بما لها من الحدود الأربعة، فأجاب- عليه السلام-: «لا يجوز البيع فيما لا يملك، و قد وجب الشراء من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 492

البائع فيما يملك» و الاشكال بأنّه قضية في واقعة فيه ما فيه، و الإنصاف تمامية دلالة الجواب على العموم.

نعم هنا كلام في أنّ ما لا يملك يشمل حتى ما لا يقبل الملك كالخمر و الخنزير أيضا، أو يختص بما يقبله و لا يملكه البائع و يملكه غيره، فيمكن أن يقال: حيث لا عموم في الموصول فمن المحتمل دخالة القابليّة للمملوكيّة في هذا الحكم. و كيف كان فهو خارج عمّا نحن بصدده.

و أمّا الكلام في كيفيّة التقسيط فما يظهر من الجماعة من نسبة قيمة كلّ منفردا إلى قيمتهما مجتمعين، يتوجّه عليه إشكال جامع المقاصد من عدم استقامة ذاك إلّا في صورة عدم تأثير الهيئة الاجتماعية في مقدار القيمة، و أمّا معه فيلزم الظلم على واحد من البائع و المشتري، و لا يكون حال التقسيط عند الردّ كحاله عند الإمضاء، و الحال لزوم ذلك [يعني يجب أن يكون حال التقسيط عند الرّد مشابها للتّقسيط عند الإمضاء]، فلذلك عدل عن هذا شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و اختار أن ينسب قيمة كلّ منفردا إلى مجموع القيمتين و يخرج من ثمن المسمّى بهذه النسبة، و هو أيضا لا يستقيم في صورة تأثير الهيئة في أحدهما بالزيادة، و في الآخر بالنقيصة، أو لم تؤثّر في الآخر أصلا، بل

تساوي قيمته في كلتا الحالتين، مثلا لو قوّمت الأمة في حال الانفراد عن طفله بعشرة و في حال الانضمام بخمسة، و الطفل بالعكس في حال الانضمام بعشرة و في حال الانفراد بخمسة، فعلى مختاره- قدّس سرّه- يلزم أن تضع بإزاء الأمة ثلثا الثمن الذي كان ثمانية عشر مثلا و هو اثنا عشر، و في قبال الطفل الثلث و هو الستّة، و الحال أنّ الأمر بالعكس فكان يجب عند الإمضاء دفع الاثني عشر لصاحب الطفل و دفع الستّة لصاحب الأمة، فالطريق الأسلم أن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 493

يقال: الاعتبار بقيمة كلّ منفردا، و لكن بلحاظ حال الانضمام و ملاحظة نسبتها إلى قيمة المجموع بوصف الانضمام و هذا يطّرد في جميع الموارد.

مسألة: لو باع من له نصف الدار نصف الدار
اشارة

فهنا صور أربع: لأنّه إمّا ليس له التصرّف في نصف الغير، و إمّا يكون، إمّا للمأذونيّة، و إمّا للولاية، و على التقديرين إمّا نعلم المراد و أنّه أراد نصف نفسه أو نصف غيره أو بالإشاعة حتّى يكون المبيع مشاعا في المشاع، أو أراد النصف المطلق بدون التعيين في أحد الأقسام الثلاثة المتقدّمة، و إمّا أن لا نعلم لكن نعلم إجمالا أنّه مريد لما هو المفهوم، و المفاد لهذه القضيّة أعني قوله: بعتك نصف الدار لا كلام في صورة قصد نفسه أو غيره أو الإشاعة.

إنّما الكلام في حكم الصورتين الأخيرين أعني: صورة العلم بأنّه أراد النصف المطلق، و صورة العلم الإجمالي بأنّه أراد مفهوم هذا اللفظ، و على كلّ منهما، تارة نفرض جواز تصرّفه في نصف الغير، و أخرى عدمه فهذه أربع صور.

الصورة الاولى: أن نعلم إجمالا أنّه أراد مفهوم هذا اللفظ مع كونه غير جائز التصرّف في نصف غيره، فلا بدّ من التكلّم

في أنّ مفهوم هذا اللفظ ماذا حتى نعلم أنّ حكمه ماذا؟ فنقول: هنا ثلاثة ظهورات:

الأوّل: ظهور بعت في الأصالة و الاستقلال.

و الثاني: ظهور المقام حيث إنّه مقام التصرّف في أنّ المراد بالنصف في نصفه المختصّ فإنّه هو الذي يكون له أن يتصرّف فيه و الثالث: ظهور لفظ النصف في الكسر المشاع في الحقّين فلازمه كون المبيع مشاعا في المشاع.

أو يقال: إنّ الظاهر منه هو المشاع في ذات الدار، مع قطع النظر عن كونها

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 494

معروضة للملكين فيتردد بين نصف البائع و نصف غيره، و في الحقيقة معنى النصف هو الكسر المشاع على كلّ تقدير، و إنّما الاختلاف في المضاف إليه، فهل الظاهر إضافة الكسر إلى الدار بما هو مملوك لهما أو هي بملاحظة نفسها و ذاتها، فعلى الأوّل: نلاحظ الكسر في مجموع الملكين، و على الثاني: نلاحظ في نفس ما هو مفروض ملكيّة هذا و ذاك، و المفروض أنّ له نصفين: أحدهما لهذا و الآخر لذاك فحيث لم يضفه إلى نفسه و لا ذاك يبقى مردّدا بين النصفين.

ظاهر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّ ظهور «بعت» في الاستقلال المقتضي لتعين النصف في نصف نفسه محكوم لظهور النصف في الإشاعة و إن كان كلّ منهما إطلاقيّا، أمّا الأوّل: فلأنّ نفس البيع الصادر من الإنسان إذا لم يلاحظ كونه لغيره أو لنفسه فهو واقعا مضاف إليه، و إنّما يحتاج صرفه إلى الغير إلى ضم ملاحظة الغير، نظير الصلاة، فإنّ الإنسان لو لم يلاحظ كونها لأبيه مثلا يكفي في كونها صلاة نفسه، و لا نحتاج في صيرورتها كذلك إلى قصد ذلك بل هو حاصل قهرا.

و أمّا الثاني: فإنّ النصف إذا لم نلاحظ قيد كونه

ملك نفسه أو ملك غيره فهو مطلق تحصل إشاعته في كلا الملكين، فالذي يحتاج إلى المؤنة هو الاختصاص، و أمّا الإشاعة فهو من طبع هذا المعنى لو خلّي و نفسه، ثمّ المدّعى أنّ ظهور النصف في الإشاعة في قبال نصف هذا أو ذاك إطلاقيّ وارد على ظهور بعتك في الاستقلال الذي هو أيضا إطلاقيّ.

و وجه ذلك أنّ الإطلاق الثاني: إطلاق المطلق، و الأوّل: إطلاق القيد، مثلا إطلاق الرقبة متقوّم بعدم لحوق القيد، فإذا كان للمؤمنة عند الإطلاق ظهور

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 495

ينافي إطلاق الأوّل نأخذ به، و هنا أيضا البيع مطلق و النصف مقيّد فيجري فيهما ما ذكر.

و استشكل على هذا بأنّه لا بدّ في لا تنقض اليقين، و لا تضرب أحدا أيضا من إجراء ذلك، و قد قلتم فيهما بالعكس في باب الاستصحاب من الأصول.

و يمكن أن يجاب بأنّ الكلام هنا في الظهور الإطلاقي و هناك في الانصرافي و الوضعي، و بعبارة أخرى في المادّي، مع أنّ المرجع في هذه الأمور هو الوجدان و نحن إذا راجعناه نجد الفرق، و قد يستشكل أنّه ما الفرق بين هذا و بين الظهور الانصرافي المقامي و الإطلاقي المنعقدين في لفظ النصف، فإنّ مقتضى إطلاقيّة الثاني و انصرافية الأوّل عدم التوقّف في أنّه يورث انعقاد الظهور من الأوّل متضيّقا غاية الأمر بتعدّد الدال و المدلول.

ألا ترى لو كان قرينة مقاميّة على ارادة قيد المؤمنة من قوله: أعتق رقبة، فهل يبقى محلّ لمزاحمة إطلاق الرقبة لهذه القرينة المقامية؟ كما لو قال: أعتقت الرقبة فإنّه ظاهر بقرينة مقام التصرّف في أنّه من مال نفسه لا أنّه أعتق فضوليّا من مال غيره و على هذا فقياس المقام بقول

بعت غانما إذا كان الاسم مشتركا بين عبده و عبد غيره حيث نرفع إجمال الاسم بظهور المقام في محلّه، فهنا أيضا نرفع اليد عن الإطلاق بسببه، فكما نحكم بتعيّن المبيع في ماله فلا بدّ أن نحكم في المقام بذلك لا بالتوقف و الترديد.

و يمكن الدفع بأنّه إن كان النصف كلّيا له مصداقان، مشاع و مختصّ، كان الحال كما في مثال أعتقت الرقبة، فإنّ الرقبة بالنسبة إلى خصوصيّته الحاليّة لنفسه المعتق و غيره لا ظهور له أصلا بخلاف المقام، فان للنصف ظهورا في أحد الخاصين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 496

و الجزئيّين، أعني النصف الخارجي المشاع في الملكين، و لهذا عند عدم القرينة في مثال الرقبة لا يحمل على واحد من الخصوصيتين، و هنا يحمل على المشاع، كما في ما أقرّ أحد الشريكين بنصف الدار لثالث حيث إنّهم يفتون ظاهرا بالحمل على الإشاعة و النفوذ في نصف نصفه الذي هو ربع الدار.

لا يقال: فإذا تعارض الظهور ان في القيد و هو النصف يبقى المورود أعني:

إطلاق البيع سليما عن الوارد.

لأنّا نقول: كلّا فإنّه من قبيل ذكر ما يصلح للقرينية في الكلام، فإنّه يوجب عدم حمل المطلق على إطلاقه، و يتفرّع على ما ذكرنا و ذكروا من حمل النصف عند الإطلاق و التجرّد عن القرينة على المشاع بلا ترديد، أنّه لو كان البائع للنصف وليّا أو مأذونا من مالك النصف الآخر لا يبقى ترديد في حمل قوله: بعت نصف الدار على المشاع في الملكين، و ذلك لأنّ الظهور المقامي المعارض ليس هنا، فإنّ ظهور مقام التصرّف ليس بأزيد من كون المال المتصرّف فيه جائز التصرّف للمتصرّف، و أمّا كونه ملك نفسه فلا دلالة للمقام المذكور عليه، و

المفروض في المثال حصوله على كلا التقديرين، أعني كون النصف هو المشاع أو المختص فيبقى ظهور النصف في الأوّل سليما عن المعارض هذا.

إلّا أن يمنع من الأصل هذا الظهور للفظ النصف في المشاع حتّى تكون النتيجة في كلا الفرعين هو الحمل على المختصّ بلا ترديد بأن يقال: إنّ الإشاعة في الملكين يحتاج إلى لحاظ الملكين و إضافة النصف إلى المجموع من حيث كونه مجمع الملكين، و الكلّ خلاف مفروض مسألتنا من العلم بعدم إرادة المتكلّم أمرا خارجا عن مدلول لفظ بعتك نصف الدار، فالظاهر من لفظ النصف ليس هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 497

الكلّي كما في قولك: النصف أعظم من الثلث و لا المشاع في المشاع بل المشاع في نفس الدار، و من المعلوم أنّ نفس الدار ليس له أزيد من نصفين خارجيين، و لا امتياز لأحدهما عن الآخر إلّا بصرف أنّ أحدهما نصف و الآخر نصف آخر، فامتياز الثاني بوصف الآخريّة فقط، و المفروض أنّ كلا من هذين النصفين مختصّ بواحد من الشخصين، فيدور الأمر بين إخراج أحدهما رأسا و إدخال الآخر و العكس، و لا يبقى لاحتمال التشريك سبيل، فيحمل في الفرع الأوّل على نصف البائع لأجل قرينة المقام، و في الفرع الثاني أيضا، لأجل أنّه ملّك كليا ملك مصداقه يعني نكرة «1» تملك مصداقا من مصاديقه البدليّة الطوليّة.

و على هذا أعني كون النصف غير ظاهر في المشاع في المشاع بل في المشاع في نفس العين الخارجيّة المنحصر مصداقه في فردين، ينطبق حكمهم في مسألة طلاق الزوجة قبل الدخول و بعد هبة الزوجة نصف صداقها التي كانت عينا خارجيّة، بأنّ النصف المردود بالطلاق من تلك العين إلى الزوج متعين في النصف

الباقي و ليس مشاعا في الباقي و الموهوب.

و مقتضى كلامهم هنا حيث أثبتوا للنصف ظهورا في المشاع في الحقّين، و صار هو منشا لترددهم في المسألة الأولى أن يكون النصف في هذه المسألة أيضا مشاعا في الموجود و التالف عن ملك الزوجة الذي هو الموهوب، فيدفع إلى الزوج نصف ما في يدها و نصف قيمة التالف، و لا يمكن كون مبني كلامهم أنّ الأقرب إلى التالف هو الربع الآخر الموجود في يدها، فإنّه من جميع الجهات متساو معه، بل عرفت أنّ الامتياز بينهما منحصر في أحدهما ربع الدار مثلا و الآخر ربعها الآخر.

______________________________

(1) لأنّ الكسر المشاع ليس من قبيل الكلّي في المعيّن بل من قبيل الفرد المردّد و النكرة كما قرّر في محلّه فراجع- منه- دام ظله.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 498

وجه عدم الإمكان، تعليلهم الحكم بأنّه قد بقي مقدار حقّ الزوج فينطبق على ما ذكرنا من أنّ النصف حصّة شائعة في جنسه فقد ملك الزوج على الزوجة كليا تملك هي مصداقه، و بعبارة أخرى: إذا جعل بمقتضى الآية نصف ما فرضتم للزوجة، فيعود نصف ما فرضتم أيضا إلى الزوج، و يصدق على هذا الذي بقي في يد الزوجة أنّه نصف ما فرضتم.

و بالجملة هذه المسألة مناف لأحد طرفي ترديدهم هنا و هو كون ظهور النصف المضاف إلى الملك المشترك في النصف المشاع في الحقّين أو الحقوق، و هنا مناف آخر للطرف الآخر من ترديدهم و هو ظهور مقام التصرّف في الاختصاص و منشئيته للتوقّف عن حمل النصف على ما هو ظاهره من الإشاعة، و هو حكمهم في مسألة المدعيين للدار على أن يكونا شريكين بالمناصفة و أنّهما قد ورثاها من مورثهما مثلا، فأقرّ

صاحب اليد لواحد منهما بالنصف فصالح المقرّ هذا الواحد على ذلك النصف بعوض، فقالوا إنّ الصلح يقع في نصف ملكيهما فينفذ في ربع المصالح و يقف في ربع شريكه على إجازته، فإنّ حال هذا الصلح بعينه حال البيع في مقامنا، فكما صار في مسألة البيع قرينة المقام الظاهرة في إرادة النصف المختص مانعة عن حملهم النصف على ما هو ظاهره من الإشاعة في الحقّين وجب مثله في مسألة الصلح أيضا، فبين توقفهم في الأولى و جزمهم بأحد الطرفين في الثانية مع كونهما من باب واحد تناف.

لا يقال: كلامنا في مسألة البيع ما إذا قصد النصف المطلق، لأنّا نقول: في مسألة الصلح أيضا لا يخلو إمّا نقصد نصفه المختصّ به أو مطلق النصف، و على كلّ حال لا وجه للحمل على الإشاعة، و دفع المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- هذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 499

الإشكال بأنّ النصف الواقع في كلام المقرّ محمول على الإشاعة بمقتضى طبعه مع عدم الصارف، و الصلح حسب الفرض واقع على ما وقع عليه الإقرار و هو المشاع فيخرج كلامهم عن المنافاة إلى الملائمة.

و يمكن دفعه بأنّ النصف الواقع في كلام المقرّ له حيث يدّعي أنّ له نصف الدار محمول على نصفه المختصّ بلا شكّ، ضرورة أنّه لا يدّعي إلّا نصف نفسه لا النصف المشاع بينه و بين شريكه، فالاقرار أيضا متعلّق بما تعلّق به الادّعاء، فنقول: ما ادّعيته صدق، فيكون الصلح أيضا دائرا بين الاحتمالين اللذين ذكرناهما بلا ثالث لهما، من قصد النصف المختص الذي هو المقرّ به أو مطلق النصف، و ظاهر كلامهم هو الثاني، حيث حكموا بالإشاعة فيكون منافيا لما هنا.

و على كلّ حال لا إشكال في حمل

النصف الواقع في كلام المالك للنصف لولا قرينة صارفة إلى نصف نفسه على النصف المشاع في النصيبين، و لهذا أفتوا ظاهرا بأنّه لو أقرّ أحد المالكين للدار الثابت يد كلّ منهما عليها بالمناصفة بأنّ ثلث الدار لثالث، يحمل على المشاع في النصيبين، فإنّ صدقه شريكه الآخر دفع كلّ سدس ما في يده إلى ذاك الثالث، و أمّا لو كذّبه فالمنكر باعتقاد المقرّ لا يستحقّ إلّا الثلث، فالزائد و هو سدس الدار في يده مغصوب، و نسبة هذا السدس إلى المقرّ و المقرّ له على السواء، فلا وجه لاختصاصه بالمقر له، و إذن فالنصف الذي تحت يد المقرّ لا بدّ من تنصيفه بينه و بين المقرّ له فيكون الناقص عن حقّ كلّ نصف السدس الذي في يد المنكر.

لا يقال: كلّ نصف مشتمل على ثلاث أسداس كلّ سدس حقّ لواحد من المقرّ و المقرّ له و المنكر، فالنصف الذي في يد المقرّ يكون ثلثه الذي هو سدس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 500

المجموع لنفسه و ثلثه للمقرّ له و ثلثه للمنكر، إلّا أنّ له بإزاء ثلث المنكر ثلثا في يد المنكر و قد قسماهما بالمراضاة، فرضي كلّ بتصرف الآخر في ثلثه بإزاء تصرّفه في ثلث ذاك، فيبقى الثلث الآخر الباقي في يد كلّ من المقرّ و المنكر فهو متعيّن ذاتا للمقرّ له، هذا بحسب الواقع، و أمّا بحسب ما حدث بالإنكار فالإذن الشرعي حاصل للمنكر في أن يتصرّف حصّة المقرّ له أعني سدسه.

فالتلف الحادث من قبل هذا الإذن أيضا تعلّق بما تعلّق به الإذن، و المفروض أنّه متعلّق بحقّ المقرّ له فكذلك التلف، فهذا تعيّن ذاتي لا أنّه بتعيين من الشارع في إذنه حتّى يستشكل من

أين يستفاد هذا التعيين من الإذن الشرعي الجائي من قبل يد المنكر.

كما أنّه لا وقع أيضا للاستشكال في أنّ الحكم على طبق اليد حكم ظاهري مسبّب عن أمارة ظاهريّة هي اليد و حجيتها مختصّة بغير العالمين و المقرّ عالم بالواقع فلا معنى بحجيّة الإمارة في حقّه، فإنّ المراد ليس الحكم بمحكوميّته بهذه الأمارة بل المقصود أنّ التلف الناشئ من قبل هذه الأمارة، الحجة في حقّ الشاكين في أيّ موضع ورد، و قد عرفت وروده في حقّ المقرّ له و لعلّه لذا حكم الأكثر في مسألة الإقرار بالنسب بأنّه لو أقرّ أحد الأخوين بأخ ثالث يدفع الزائد عن نصيبه الذي هو الثلث و هو سدس ما في يده إلى المقرّ له دون نصف ما في يده.

و الحاصل فرق بين الغاصب الغير المأذون شرعا و الغاصب المأذون، ففي الأوّل لا بدّ من حساب التالف من قبل الغصب على الشريكين، و أمّا في الثاني فالإذن الشرعي إنّما ورد في ما زاد على ما استحقّه المنكر بالاستحقاق و المراضاة مع المستحق.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 501

و أمّا الغصب فلا يتعلّق بعنوان الزائد فيرد على حقّي الشريكين في عرض واحد إلّا على احتمال مضعّف في محلّه من تصوير غصب المشاع و صحّة تقسيم الشريك مع الغاصب حتّى يتمحض المغصوب في حصّة الشرك الآخر.

لأنّا نقول: إذا فرضنا انحصار ذي اليد على الدار في المنكر و كانت يده على نصفها، كان كأنّ للدار ستّة بيوت فتصرّف في ثلاثة منها، ثمّ أقرّ الشريك الآخر المالك لنصف الدار بأنّ لزيد مثلا ثلث هذه الدار و فرضنا تنزيل هذا الثلث على الإشاعة في النصيبين، فأنكر الآخر الذي ثبتت يده على ثلاثة بيوت ذلك، فهل

يصحّ لك أن تقول بأنّ للمقرّ ترجيح بالنسبة إلى ثلاثة بيوت أخر على المقرّ له، أو أنّه لا محيص من القول بالتساوي و التنصيف فيكون السدس الفاضل في يد المنكر محسوبا عليهما لا محالة؟

و أمّا قولك بعد ثبوت اليد من المقرّ يكون تحت يده ثلاثة أسداس كالمنكر، و هو و إن كان مرتكبا للحرام بالنسبة إلى كلّ التصرّف لكن لا ضمان له إلّا بالنسبة إلى الثلث الذي هو سدس المجموع كالمنكر.

فمدفوع بأنّه بعد ما فرضت من أنّه قبل وضع يده كان النصف بينهما على السواء، فمن أين حدث المعيّن و المرجّح بعد ثبوت اليد؟ إن قلت: مراضاته مع الغاصب. قلت: المراضاة بالنسبة إلى سهم المقرّ له الذي هو النصف من النصف غير نافذة، فالمراضاة بالنسبة إلى السدس و نصف السدس المختصّ به صحيحة، و أمّا بالنسبة إلى السدس و نصف السدس الآخر، ففي حقّ المقرّ له على حسب إقراره، و أمّا قولك: يد المنكر بمقتضى حجيّته بالنسبة إلى اليد الخارجة دون الداخلة معيّنة للسدس للمقرّ له، فمدفوع بأنّ الإقرار يوجب أخذ المقرّ بما هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 502

الواقع على تقدير صدقه، و بعبارة أخرى: مفاد الإقرار نافذ في حقّ المقرّ مقدّما على أمارية اليد و قد فرضنا أنّه لو علم صدقه كان نسبة النصف بينه و بين المقرّ له على السويّة.

و أمّا مسألة الإقرار بالنسب فمقتضى القاعدة فيه ما ذكرنا و لكن ظاهر مرسلة الصدوق- قدّس سرّه- توجب المشي على خلاف القاعدة فيه، فان ظاهر صدرها أعني مسألة الإقرار بالدين حيث نفى استيعاب الدين لكلّ ماله و قدّر الثابت فيه بمقدار حصّته أنّه لو كان حصّته النصف مثلا فعليه النصف و هكذا،

ثمّ بقرينة اتّحاد السياق المستفاد من قوله: كذلك يستفاد أنّ الحكم في الذيل أعني: مسألة الإقرار بالنسب أيضا مثل الأوّل في كون مقدار الخارج من حصّة المقرّ للأخ المقرّ له مقدار حصّته من التركة.

مسألة

لو باع ما يملك و مالا يملك بصفقة واحدة فالكلام فيه حسب القاعدة بعينه هو الكلام في المسألة السابقة أعني بيع مال الغير مع مال نفسه، و الفرق بينهما في أمور:

الأوّل: أنّ النص قاصر عن شمول المقام لا لأجل خصوصيّة المورد بل لأجل عدم العموم في الجواب، نعم خصوصيّة المورد الخاص المفروض للسؤال مقطوع عدم دخلها، فلهذا تعدّينا إلى كلّ ما يشابهه، من بيع مال الغير مع مال النفس، و أمّا بيع المال مع غير المال فلا عموم و لا مشابهة فلو فرض الخدشة في العمومات و الإطلاقات كانت الصحّة بلا دليل.

الثاني: أنّ المشهور قيّدوا الحكم بالصحّة في هذا المقام بعدم علم المشتري

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 503

بالحال و أنّ بعض المبيع غير المال، و لم يعلم وجه لهذا التقييد أوّلا ثمّ لاختصاصه بالمشتري ثانيا، بيان ذلك أنّه إن كان الوجه تصحيح قصد البيع جدّا فأوّلا هذا في البائع أيضا موجود فما وجه التخصيص بالمشتري؟

و ثانيا: أنّ للمسألة صورا: الأولى: أن يكون الضميمة غير المال الشرعي المعدود من جملة الأموال عرفا مثل الخمر و الحرّ كما في الأسير المقهور في يد التركمان، و الثانية: أن يكون غير مال عرفا و شرعا مثل الخنفساء و هذا له صور:

الأولى: أن يشتبه موضوع الخنفساء بموضوع من موضوعات الأموال. الثانية: أن لا يشتبه موضوعه لكن يخيّل أنّ له ماليّة و تموّلا عند العرف إمّا بقدر معيّن و إمّا في الجملة.

و الثالثة: أن نعلم

أنّه خنفساء و نعلم أيضا أنّه لا مال عرفا و شرعا.

فالقسم الذي لا نتصوّر فيه القصد الجدّي هو الأخير فقط و سائر الصور تمشي القصد الجدّي فيها بمكان من الإمكان.

و إن كان الوجه عدم لزوم الغرر، فأوّلا: لا اختصاص لهذا أيضا بالمشتري، و ثانيا: إن أريد الغرر بمعنى الخطر فهو مأمون، و إن أريد الإبهام حيث قام الإجماع ظاهرا على أنّ نفس الإبهام و لو مع عدم الخطر المالي و الأمن منه مبطل، كما لو باع بالقيمة العادلة بدون تشخيصها في حال الصيغة بقصد التشخيص فيما بعد فهو مانع للإجماع، و من المعلوم عدم ثبوته في المقام و إنّما المتيقّن هو الجهل و الإبهام الابتدائي دون ما يحصل بعد التقسيط مضافا إلى أنّه غالبا يكون قيمة كلّ من الضميمتين معلومة.

الأمر الثالث في كيفية التقويم، و أمّا التقسيط بعد التقويم فكيفيّته كما مرّ، فنقول: لا إشكال في ما إذا كانت الضميمة مالا عرفا مع عدم الاشتباه فيرجع إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 1، ص: 504

قيمته عند أهله، و إنّما الإشكال في ثلاث صور:

الأولى: أن يشتبه و تخيّل الخمر خلًّا و يجري هذا في مثل ما إذا تخيّل الجمل فرسا فإنّ البيع بالنسبة إليه لتخلّف العنوان باطل، و في مثل إذا تخيّل الغراب ديكا.

و الثانية: أن يشتبه في حكم الخنفساء فتخيّل أنّ له ماليّة بقدر كذا.

و الثالثة: أن يشتبه أيضا فيه و تخيّل أنّه مال و لكن لم يعلم قدر ماليّته.

ففي الأولى: لا إشكال في عدم اعتبار قيمة الخمر و الجمل بل يفرضان خلا و فرسا بنحو ما تخيّله و يقوّمان.

و في الثانية أيضا لا إشكال في الأخذ بالقيمة المتخيّلة.

و أمّا الثالثة فقد يتوهّم فيها البطلان من

رأس لإبهام الثمن بحسب الواقع، لكنّ الظاهر أنّ البيع لولا الإجماع القائم على مبطليّة الإبهام تامّ الأجزاء و الشرائط، و الإبهام و عدم التعيين [في] الواقع لا يوجب الحكم بالبطلان، كما لو تبايعا على ما تراضيا في ما بعد من الثمن فلا مانع من شمول الإطلاقات، و إنّما المانع الإجماع و قد عرفت أنّه مفقود في المقام.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.